كتب مصطفى إبراهيم: هجوم غير مسبوق وتداعياته خطيرة

أقلام- مصدر الإخبارية

كتب مصطفى إبراهيم: الهجوم الذي نفذته المقاومة حركة حماس صباح اليوم مفاجئ جداً، ووضع المنظومة الامنية والسياسية في مأزق وحرج وشكل صدمة اسرائيلية وعالمية، وسيكون لها تداعيات خطيرة، ويقارن عدد من المحللين العسكريين والامنيين بحرب اكتوبر المجيدة في ذكراها الخمسين.

وفشل او اخفاق بتوقع الهجوم اليوم، كما يقول بعض المحللين الاسرائيليين لشعبة الاستخبارات العسكرية. وفشل شعبة الاستخبارات العسكرية بتوقع هجوم الجيش المصري ولا تزال تداعياته ليومنا هذا.

وستستدعي رد فعل اسرائيلي اجرامي دموي بعد اعلان وزير الامن يؤاف جالانت حالة الحرب وتجنيد الاحتياط.

والانتقادات الاسرائيلية حادة من وسائل الاعلام الاسرائيلية والحديث عن فشل واخفاق المنظومة الامنية بتوقع هجوم المقاومة الفلسطينية بهذه الجراة والاستعداد. خاصة ان الصور والفيديوهات مرعبة وستحدث جرحا اسرائيليا سيغرس في الوعي طويلا.

اي كانت الاهداف التي دفعت حماس للهجوم الاستباقي والتي تحدثت عنه قبل سنوات وعن اقتحام المستوطنات، وهي فعلت ذلك في عدوان 2014. لكن هذه المرة الموضوع مختلف، وياتي في ظل اوضاع ملتهبة في الضفة واقليميا ودوليا، وتسارع الحديث عن التطبيع السعودي الاسرائيلي.

ويحاول المحللين العسكريين وبعض ضباط الجيش السابقين تحليل وفهم خطوة حماس، وهل هي استراتيجية، أو هي مجرد للبدء بمعركة وحدة الساحات، حيث ان حزب الله يبدي استعداده لذلك منذ فترة من الزمن، وان ايران ليست بعيدة عن ما يجري، ويأمل هؤلاء المحللين ان لا يحدث ذلك. واذا ما تاكدت إسرائيل ان هذه العملية قامت بها حماس وحدها فيجب ان يكون الرد قاسي وغير مسبوق.

ومن وجهة نظرهم أن السبب الرئيسي هو أن إسرائيل تحت قيادة بنيامين نتنياهو أنه غير ذي صلة، ويقود حكومة من أشخاص متطرفين وعديمي الشخصية والمسؤولية ولا يمتلكون اي كفاءة، وبعضهم حريديم أصوليبن متطرفين يستمدون مواقفهم من الحاخامات والعهد القديم .

كما ان الاسرائليين لا يثق بقرارات نتنياهو وحكومته.

وعلى المدى القريب ليس هناك خيار سوى وقف الهجوم ومنعه بأي شكل من الأشكال ومنع توسيع العملية العسكرية إلى الجبهة الشمالية، وتثبيت الخطوط. وبعد ذلك مباشرة، وعلى الفور، خلال أيام أو أسابيع، مطلوب استبدال فوري لرئيس الوزراء والحكومة. ويجب ألا يقودوا الرد الإسرائيلي. وهذا الرد يتطلب دراسة وفحصاً منهجياً للبدائل على المستوى الاستراتيجي، وهي أمور لا علاقة لنتنياهو وحكومته بها. فاتخاذ القرارات اها تعرض إسرائيل للخطر .

كما يطالب المحللين بعدم انضمام غانتس للحكومة وهو لن يحل المشكلة. وقد يزيد الأمر سوءاً لأنه سيطيل عمر حكومة نتنياهو كرئيس للحكومة، وجميع المسؤولين هم ضمن هذا الفشل الذريع. على غانتس أن يطالب باستبدال نتنياهو والحكومة، قدر الإمكان من دونها واجراء الانتخابات، وان تكون سريعة.

الاوضاع خطيرة والتوقعات والسيناريوهات مختلفة في انتظار قرارات الكابينيت، وسيدفع المدنيين ثمن العدوان القادم وجرائم الحرب ضد الفلسطينيين.

اقرأ/ي أيضًا: وجهة نظر أولية.. إسرائيل المسؤول عن كل ما يجري

من مفارقات القهر!

مقال- مرزوق الحلبي

عندما يتحدث (أو تتحدث لا فرق) العربية يكون حرف العين على لسانه “عين” واضحة والراء “راء” كاملة والخاء خاء تامّة ـ وعندما ينتقل إلى العبرية تصير اللثغة أشكنازية خالصة، فالعين “غين” والراء “غيش” والحاء “خاء”..

ـ قد يتعلّم في أرقى جامعات البلاد والخارج وينال الشهادات العليا ويبرز في نظريات علم الاجتماع والتاريخ وعلوم السياسة والقانون والجندر ـ ويعود إلى بلده فإذ هو فارس القبيلة، تنطبق النظريات التي بدّع فيها على كل شيء ما عداه!

ـ يتحدّث بالعبرية فيصير دمقراطيا متنوّرا ومُنفتحا وحواريًا ومارتن لوثر كينغ وفولتير ـ وما أن يعود إلى لغة أمّه وأبيه فإذ به مطبوعا على الاستبداد والعنف يستعمل الجواسيس والأعوان في كمّ الأفواه،

ـ عندما يتحدث بالعبرية يشكو التمييز والإقصاء والازدراء وعندما يعود إلى أهله يتعامل معهم بازدراء واستعلاء ويصير طاغية إذا وصل أو مؤيدا لديكتاتو، كما هو حاصل.

ـ عندما يتحدث بالعبرية يصوّر نفسه نصير المرأة مناضلا في مجتمعه ضد قمعها ـ ويعود إلى بلده فيكون شوفينيًا مُستغلّا للمرأة وقضيتها.

قد يشتغل الواحد منهم أو منهن أكثر من نصف عمره في ملاءمة نفسه إلى توقّعات القاهر فلا هو نفسه ولا هو قاهره!

التفكير في تفكيرنا: دعوة إلى تحرير الوعي

مقال- رضا جابر

في مقدمة كتابه “الاستشراق” يرتكز المفكر الفلسطيني إدوارد سعيد بمشروعه النقدي على فكرة غرامشي في دفاتر السجن القائلة “إن نقطة انطلاق الإعداد النقدي هي وعي المرء لما هو عليه حقا مدركًا ذاته كمنتوج للسيرورة التاريخية حتى اللحظة الراهنة، التي تضع فيها آثارًا لا حصر لها، دون أن تترك جردًا بها…لذلك فإنه من الضروري تماما أن يصار إلى وضع هذا الجرد منذ البداية”. انطلاقًا من هذه الفكرة يقول سعيد “فقد كانت دراستي ‘الاستشراق’ محاولة لجرد الآثار التي تركتها علي، أنا الذات الشرقية، تلك الثقافة التي كانت سيطرتها عاملًا بالغ القوة في حياة جميع الشرقيين”.

(إدوارد سعيد, الإسلام والغرب, مقالات ودراسات مختارة, تقديم فيصل دراج, ص 9-10)

إن الفكرة المركزية لمقالتي هي تبني هذا الاتجاه في النقد أي الحاجة الملحة لعملية “الجرد منذ البداية” أو الجرد للآثار التي تركتها علينا وفينا نحن “الذات” الفلسطينية ثقافة إسرائيلية سيطرتها علينا بالغة القوة في تشكلنا. إننا بحاجة لعملية تصفية حساب مع هذه العناصر الثقافية والسياسية التي صاغت ذاتنا كفلسطينيين داخل إسرائيل. وهي فعلت ذلك دون وعي وانتباه منّا، بل بعملية تسرب وتشرب بطيئة وعنيدة. الهدف هو أن نعيد لأنفسنا السيطرة على ذاتنا بالمعني العميق لهذه الذات، وكذلك السيطرة الحقيقية على فهمنا لواقعنا وبالتالي تمكيننا من صوغ تطلعاتنا للمستقبل. وذلك بأن نتمكن من الوقوف على أرضية واثقة، خالية قدر المستطاع، من التشويهات والتمويهات والتحيزات التي زرعت داخل هذه الذات بعملية تاريخية معقدة ومركبة منذ النكبة وآثارها المدمرة مرورًا بالتفاعل بين الضاغط الداخلي (تغيرات وصيرورات اجتماعية وثقافية واقتصادية داخلية لها ارتباط وثيق بمكانتنا داخل إسرائيل) والضاغط الخارجي (إسرائيل كنظام وثقافة مسيطرة، مجتمع الأغلبية وتأثيره وتطورات متجاذبة لمحيط عربي يمر بعمليات تحطم وتكوين مستمرة كلها تتفاعل مع الضاغط الداخلي بعملية جدل لا تكتمل).

أي أنها الحاجة إلى تتبع الآثار التي تركتها علينا وفينا هذه العناصر الثقافية والسياسية والتي تسللت وتشربت إلى وجدان ووعي مجتمعنا وصاغت “ذاته” ورؤيته لنفسه والآخر والعلاقة به. التفكير بالسياسة دون هذه العملية سيبقينا دائمًا نفكّر من داخل الإطار الضيق والمقيد الذي وضعنا داخله والتحرّر منه هو عملية تحرر من سطوة الآخر على وعينا لذاتنا وأيضا إطلاق لإمكانيات كامنة فينا.

إذًا فان هذا الجرد ليس عملية نظرية بحتة، بل إنها عملية كشف وتحييد هي أساسية لتصويب أفكارنا لكي ننطلق أولا، لفهم واقعنا فهما عميقا يؤسس لفعل يتناسب معه وثانيا، لننطلق بعملية مزدوجة من الفعل داخل مجتمعنا وأيضا باتجاه المفاعيل الخارجية، إسرائيليا بالأساس، ولكن أيضا بسياق المحيط الأوسع كجزء من عالم عربي نحن جزء عضوي فيه وان أنكرنا أحيانا هذا البعد، متعمدين وأحيانا متغافلين، غالبا بتسويغ أننا استثناء ذو خصوصية.

ما هي أدواتنا لنفعل ذلك؟

إن الأداة الأهم هي تبني التفكير النقدي كأسلوب أساسي وهذا يعني أولا اخضاع تفكيرنا نفسه وأساليبه لعملية فحص وتشريح حقيقية. فالأمر الغالب هو نقد منتجات هذا التفكير يتسم بالوصف فقط على حساب المحاولة الجادة لكشف المحركات والتفاعلات المنتجة له. والتفكير النقدي الذي أدعو إلى تبنيه يتجاوز الفهم السائد على المستوى العام والذي اتخذ من فكرة إعلان الموقف الحاد في أمور في الشأن العام كسمة طاغية لمثل هذا التفكير. إنما هو التفكير في التفكير نفسه. إن الثقافة العربية مرت بمراحل مهمة في محاولتها تبني هذا التفكير فالجابري وأركون والعروي وآخرون أسهموا إسهاما مهمًا في هذا الحقل. ولكن هذا الجهد وهذا الإسهام تجاوزنا، نحن الفلسطينيون في الداخل، وبقينا نتعامل مع أمورنا من داخل منظومة معرفية ضيقة هي ضيق مواطنتنا في إسرائيل. أننا بحاجة إلى كسر هذا الطوق وإطلاق العنان للتفكير النقدي الحقيقي.

فمثلا إن سؤالا يتعلق بعلاقتنا مع أبناء شعبنا في الضفة الغربية ومشاعر مجتمعنا في الداخل تجاههم هو سؤال مهمّ جدًا (ونحن لا نسأله) ولكن السؤال الأهم هو لماذا اتخذنا هذا الموقف؟ ماذا تسرّب إلى وعينا بحكم علاقتنا مع المجتمع الإسرائيلي ليؤثر على موقفنا ومشاعرنا هذه؟ إن الجواب على هذه الاسئلة لهي في صلب تفكيرنا السياسي وتأثيرها على المواقف السياسية التي نتخذها أو بالأساس المواقف التي لا نتخذها هو تأثير كبير لا نشعر فيه. إن فهم التأثيرات العميقة على هذا الموضوع كمثال واتخاذ الإجراءات لتحييدها أو توظيفها داخل تفكيرنا وفعلنا السياسي سيفتح لنا آفاق جديدة.

مثال إضافي: الأسئلة المتعلقة بموضوع المساواة مهمة، ولكنها تركز على فكرة مقارنة وضع العربي مع اليهودي، فالانشغال هو اجرائي قانوني يعتمد على إحصائيات ومقارنات. لا شك بأن السؤال المتعلق بالفجوة بين العرب واليهود مهمّ، ولكن الأهم نقديًا هو سؤال لماذا الانشغال بالمقارنة نفسها؟ ماذا يحجب عنا؟ ماذا يفعل الانشغال بالمقارنة لدرجة الهوس بقيمة المساواة نفسها؟ كيف يؤثر هذا الانشغال بمبنى علاقات القوة بين العرب واليهود أو الدولة؟ ماذا يعني مجرد وضع اليهودي كنموذج نرغب الوصول إليه؟ ما تبعاته النفسية والهوياتية ومن المستفيد؟ إن التفكير النقدي يكشف لنا بهذه المسالة بواطن ضعف حقيقية في تفكيرنا وتصرفنا السياسي وليس أقل خطورة تسرب هذا الموضوع لتعاملنا التربوي أيضا.

إن هذا الكشف والتحييد يمكننا من التعامل بأكثر فاعلية مع قيمة المساواة كقيمة بحد ذاتها مرتبطة بالمواطنة وليس بالمواطن اليهودي وهذا فارق يتم تسميته بعملية المقارنة. من أجل تحرير وعينا من سيطرة فكرة الارتباط الدائم بالأخر اليهوديّ المتفوق، لا نستطيع أن نفكر بأنفسنا لأنفسنا بدون وجوده المعنوي بكل مسالة وموضوع. الدعوة ليست تحييد الآخر تماما فهذا المستحيل وإنما فهم ديناميكيات وجوده والسيطرة عليها.

إن المشروع النقدي يدعونا، بما يدعو إليه، هو التفكير في تفكيرنا والكشف داخل هذا التفكير عن تلك التشويهات والتحيزات التي تسربت إلى وعينا وأنماط تفكيرنا عبر العناصر الثقافية والسياسية دون وعي بعملية تاريخية فيها هيمنة كلية للآخر علينا. إن هذه التشويهات والتحيزات تتحكم اليوم بتفكيرنا وفعلنا الاجتماعي والسياسي. إن واجبنا أن نتحرر منها لكي نعيد لأنفسنا إمكانية التفكير والفعل على قاعدة سليمة وصحية ذات فاعلية.

عن فارءه معاي

في عصر ترامب المجنون اختار الديمقراطيون ألا يكونوا المغفلين هذه المرة

أقلام- مصدر الإخبارية

كتب ناثانيال شلوموفيتش مقالًا لصحيفة “هآرتس” العبرية ترجمه مصطفى إبراهيم: رئيس مجلس النواب هو رئيس السلطة التشريعية، وهو الثالث في سلسلة الخلافة، بعد رئيس الولايات المتحدة دونالد ترامب ونائبه.

إنه دور جاد ومشرف ومهم – ومجموعة من الصفات الأخرى التي لا تناسب كيفن مكارثي. “لقد حصل على مكانه في كتب التاريخ والاختبارات التافهة كأول متحدث في تاريخ الكونجرس يتم التصويت عليه – ومن قبل أعضاء حزبه. وبعد تسعة أشهر في منصبه، أصبح أيضًا المتحدث لأقصر فترة في حوالي عام 150 سنة.

أنهى مكارثي الدور عند نفس النقطة التي بدأ منها: مهين ومثير للشفقة، وفوق كل شيء رمز للوضاعة التي تدهور إليها الحزب الجمهوري.

انعقد المؤتمر الـ118 للمرة الأولى في شهر يناير/كانون الثاني من هذا العام لانتخاب رئيس، وكانت الكتابة على الحائط في اليوم الأول. تقليديا، يختار الحزبان الرئيسين خلف أبواب مغلقة قبل التصويت في الجلسة العامة، وهي مسألة احتفالية بحتة.

منذ عام 1923، لم تكن هناك حاجة لأكثر من جولة واحدة من التصويت لانتخاب رئيس مجلس النواب، سواء كان جمهوريا أو ديمقراطيا. وقد سجل “إنجاز” مكارثي الأول آنذاك: فقد وجد نفسه معتمدا على عشرين جمهوريا متطرفا رفضوا دعم ترشيحه. لقد أعطوه اصواتهم فقط بعد 15 جولة تصويت مذلة تم بثها على الهواء مباشرة إلى كل أمريكا والعالم، وبعد أن أعطاهم كل ما طلبوه.

وفي أسبوع من جولات التصويت المرهقة، لم يكن بوسع مكارثي إلا أن يبتسم وهو يلوح بالمطرقة التي كانت تحملها نانسي بيلوسي أمامه، والتي كان يحلم بحملها لعقود من الزمن. لكنه كان يعلم أيضاً، لأنه قبل لحظة سلم المتطرفين رأسه على طبق. وطالب هؤلاء المتمردون، وعلى رأسهم مات جيتس من فلوريدا، بعودة القاعدة التي تسمح لأي عضو في الكونجرس بالدعوة للتصويت على حجب الثقة عن الرئيس، وغيتس هو أيضًا من قدم اقتراح حجب الثقة الليلة الماضية.

وصوت سبعة جمهوريين آخرين لصالح عزل مكارثي، وبمساعدة كل كتلة الحزب الديمقراطي، نجحوا في مهمتهم، ويتمتع الجمهوريون بأغلبية ضئيلة تبلغ 222 مقابل 212 ديمقراطيًا، ويطالب البعض بالفعل بطرد جيتس من الكتلة.

صدمة نهاية ولاية مكارثي الأشهر التي سبقتها. لقد حلم مكارثي بالمنصب، ولكن ليس بتشكيلة الكتلة الذي حصل عليه. ويبدو أنه يعاني بشكل أثناء محاولته الموازنة بين متطرفي اليمين الذين يطالبون بإغلاق مكتب التحقيقات الفيدرالي (FBI) ووزارة العدل، وبين المشرعين العقلاء من يمين الوسط الذين يدعون، من ناحية أخرى. لتعزيز الثقة في مثل هذه المؤسسات. كان المتطرفون يتفوقون دائمًا تقريبًا على مكارثي، كما حدث الشهر الماضي، عندما تراجع عن موقفه ضد محاكمة عزل الرئيس جو بايدن، وأعطى هؤلاء المتطرفين لجنة تحقيق.
حزب الفوضى
عقوبة مكارثي هي أن نفس الأشخاص الذين استسلم لهم مرارًا وتكرارًا هم أيضًا الذين أطاحوا به في النهاية. أعلن مكارثي أنه لن يترشح لمنصب الرئاسة مرة أخرى، لكن رد فعله على الإقالة يوضح أنه لا يزال يتطلع إلى المقعد. وقال في بيان صحفي “للأسف، انضم أربعة في المائة من الكتلة إلى جميع الديمقراطيين في محاولة إملاء الأمر على الجمهوريين بشأن من سيكون رئيس مجلس النواب”. ومن خلال قيامه بذلك، اتهم جيتس وأصدقائه بأخطر تهمة يمكن أن يخطر بباله، ألا وهي التصويت مع اليساريين. هذا هو ما يبدو عليه السياسي الذي لا يزال يتحدث إلى القاعدة.

أظهرت كتلة الحزب الديمقراطي، كعادته في عصر ترامب المجنون، وحدة مبهرة. 212 عضو من الكتلة، ناقشوا بقيادة زعيمهم جيفريز، في البداية إمكانية إنقاذ مكارثي. وكان الوسطيون في كلا الحزبين يخشون ظهور رئيس أكثر خطورة من بعده. وكان الوسطيون من كلا الحزبين يتلمسون حلاً في هيئة ائتلاف وسطي في حالة الطوارئ؛ أو إنقاذ مكارثي في ​​مقابل اللجان، أو بعض المكافآت الأخرى. ولكن رفض مكارثي هذا الاقتراح بشكل قاطع، ويعتبر التعاون الرسمي مع الديمقراطيين انتحارا سياسيا، وفي الحزب الجمهوري بقيادة دونالد ترامب، اختار مكارثي تشويه سمعة الديمقراطيين حتى في سقوطه، وهم بدورهم اختاروا ألا يكونوا أغبياء ويسمحوا للجمهوريين بالتقديم. أنفسهم للجمهور تمامًا كما هم في عام 2023 – حزب الفوضى.

ورغم أن مكارثي يعتبر شخصًا متعاطفًا وودودًا، إلا أن الديمقراطيين لا يغفرون له الدور المركزي الذي لعبه في استعادة مكانة ترامب بعد محاولة الانقلاب في 6 يناير 2021. بعد أسبوع من حشد ترامب مؤيديه في الكابيتول لإحباط التصديق على الدستور وبعد نتائج الانتخابات، يبدو أن الحزب الجمهوري بدأ ينأى بنفسه عن هذه الآفة. حتى أن مكارثي ألقى كلمة ذكر فيها أن “ترامب هو المسؤول” عن الهجوم، وقال في مقابلة: “لقد انتهينا أنا وهو”.

لكن استطلاعات الرأي سرعان ما أوضحت للسياسيين الجمهوريين أن الملايين ما زالوا يدعمون ترامب. كان مكارثي، الذي كان مشغولاً فقط بمساعيه للرئاسة، أول سياسي يتم تحديد هويته، فقد أقلع على متن طائرة إلى فلوريدا وقام برحلة حج إلى مارالاغو للانحناء أمام الرئيس السابق وطلب دعمه. مرة أخرى، لعب دورا مهما في تبييض جرائم ترامب ضد الديمقراطية، ومهد الطريق لعودته إلى قمة مؤسسة الحزب.

اوضحت كاثرين كلارك، العضو الثالث في الكتلة الديمقراطية في الكونجرس، بالقول قرار الإطاحة بمكارثي إنه لم يكن مناسبًا أبدًا لهذا المنصب. “لقد كانت مشاكل كيفن مكارثي موجودة دائمًا: انعدام الثقة، وإعطاء مطرقة الرئيس للمتطرفين في كتلته، فضلاً عن فشله في الدفاع عن النظام الديمقراطي”. إن كلارك على حق بالفعل، ومكارثي لا يتمتع بالعمود الفقري للزعيم. بالتأكيد ليس الشخص الذي يستطيع السيطرة على حزب ممزق بين يمين الوسط وأنصار ترامب وغيرهم من وكلاء الفوضى.

والمشكلة بالنسبة للديمقراطيين هي أنه ليس من المؤكد على الإطلاق أن خليفة مكارثي سيكون أفضل من سلفه. ولم تؤدي خلفية عزله إلا إلى زيادة حدة التقييم، لأن الأزمة الحقيقية التي يواجهها الحزب الجمهوري لا تزال أمامنا. فالحزب اليميني يعيش في خضم حرب أهلية داخلية بين جناحين، مع ميزة واضحة لأنصار ترامب. سيؤدي فوز ترامب في الانتخابات التمهيدية للحزب الجمهوري إلى تسريع عملية غزو الحزب من قبل الشعبويين.

الاسمان الرئيسيان اللذان سيخلفان مكارثي هما مثال حي على التحول. أحد الخلفاء المحتملين الذين سبق ذكرهم هو جيم جوردان، وهو من أنصار ترامب العدوانيين بشكل خاص الذي يقود التحقيق في قضية بايدن. الفترة التي قضاها كمصارع وميله إلى الشجار على قناة فوكس نيوز أعطته صورة على أنه “ثور ترامب”. ويعتبر ستيف سكاليز، الرجل الثاني في كتلة الحزب الجمهوري، أيضًا بديلاً مناسبًا وهو المرشح المفضل لأنصار ترامب مثل جيتس.

ومع ذلك، فمن سيحل محل مكارثي سيواجه نفس المشكلة، حتى لو تبين أنه من أشد أنصار ترامب. ويعكس الحزب الجمهوري كتلة يمينية واسعة للغاية ومليئة بالتناقضات الداخلية. وحتى المنتمون إلى يمين الوسط قادرون على إسقاط أي رئيس إذا لم يكونوا راضين عنه. وقد حدثت هذه السابقة بالفعل، وليس هناك من الأسباب ما قد يمنع حدوثها مرة أخرى الآن بسهولة أكبر.

يمكن لمكارثي أن يناسب الحزب الجمهوري في هذه المرحلة من تاريخه. أهل الوسط ومعظم أنصار ترامب ليسوا ضده، على وجه التحديد لأنه ساخر. لسنوات كان يُعتبر جزءاً من التيار المحافظ غير الأيديولوجي، المتخصص في جمع التبرعات من الرأسماليين والتصويت ضد زيادة الميزانية. إنه طموح، لذا تعلم التكيف مع ترامب والموالين له. وأوضحت معارضته للتعاون مع الديمقراطيين أنه يأمل في سيناريو مختلف. وهذا أيضاً هو السيناريو الذي يبني عليه مكارثي، وهو أن الحزب سوف يتوسل إليه أن يعود.

اقرأ/ي أيضًا: لماذا يحب المفترسون الجنسيون المزعومون في هوليود الانتقال إلى إسرائيل؟

مسؤوليتنا لابقاء القضية الفلسطينية حجر زاوية السياسة العربية

أقلام – مصدر الإخبارية 

القضية الأساسية التي تتصدر الأوضاع الشرق الأوسطية باتت تتمركز في الجهود الأمريكية المبذولة لاحتمالات تطبيع العلاقات بين المملكة العربية السعودية واسرائيل، و يأتي ذلك في اطار حاجة ادارة بايدن لإنجازٍ قد يبقيه في البيت الأبيض.

وفي سياق هذه الجهود يعود الحديث عن مكانة القضية الفلسطينية في السياسة السعودية ازاء دورها الاقليمي وشروطها ازاء متطلبات التطبيع التي باتت معلنة .

صحيفة الفاينانشيال تايم كشفت أن السعودية تسعى للحصول على تنازلات من الولايات المتحدة، بما في ذلك ضمانات أمنية ودعم لبرنامج نووي مدني والحصول على أسلحة، مقابل تطبيع العلاقات مع “إسرائيل”.

كما نقلت الصحيفة الأمريكية عن مسؤولين سعوديين أن المملكة ستحتاج أيضاً إلى خطوة إيجابية كبيرة من “إسرائيل” تجاه الفلسطينيين، على الرغم من أنهم لم يوضحوا ما سيترتب على ذلك. وفق ما نقلت BBC عن فايننشال تايمز.

توماس فريدمان، كاتب العمود في صحيفة نيويورك تايمز، كتب بعد اجتماعه مع بايدن، “أن المطالب السعودية من إسرائيل يمكن أن تشمل وقف التوسع الاستيطاني، وتعهداً بعدم ضم الضفة الغربية المحتلة”.

ولي العهد السعودي محمد بن سلمان وفي مقابلته الشهيرة مع فوكس نيوز أكد أن المفاوضات حول هذا الأمر تتقدم يومياً، والسؤال هو ما الذي يتقدم حول مطالب السعودية من الولايات المتحدة لانجاز التطبيع. اسرائيل التي ترى في هذا التطبيع انجازها التاريخي الأهم بعد انشاء اسرائيل والنكبة الفلسطينية عام 1948، أعلنت وعلى لسان مستشار أمنها القومي تساحي هنغبي رداً على سؤال حول التنازلات الإسرائيلية المحتملة، قال هنغبي “إن إسرائيل لن تقبل بأي شيء يقوض أمنها”. لكنه قال: “إن بلاده لن تقلق من احتمال تطوير السعودية قدرات نووية مدنية”.

ذلك في اشارة واضحة إلى أن اسرائيل ليس فقط ماضية في خطة الحسم والضم، وهو الأمر الذي أكده نتانياهو في كلمته أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة بابرازه خارطة فلسطين باعتبارها خارطة اسرائيل الكاملة منذ العام 1948، بل وأيضاً فإن حديث هنغبي يحمل في طياته تحفظات اسرائيلية على تزويد السعودية بأسلحة متطورة تشمل طائرات F35، التي تسعى السعودية لامتلاكها من الولايات المتحدة.

المملكة العربية السعودية هي صاحبة مبادرة السلام العربية، والسؤال هو إلى أي مدى يمكن للقيادة السعودية أن تظل متمسكة بهذه المبادرة ؟ ، والتي جدد التأكيد عليها كل من وزير خارجيتها أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة، وكذلك السفير السعودي عند تقديم أوراق اعتماده للرئيس الفلسطيني في رام الله، وكيف للقيادة الفلسطينية أن تكون عوناً لها في ذلك؟ وهل يمكن للدبلوماسية السعودية تحقيق أي اختراق على هذا الصعيد، سيما في ظل حكومة العنصرية الفاشية بزعامة الثلاثي” نتانياهو – سموترتش – بن غفير ” ؟

ادارة بايدن التي تقود مفاوضات التطبيع تعلن في كل مناسبة رفضها للاستيطان وخطة الضم، إلا أنها حتى اللحظة لم تتمكن من إلزام اسرائيل بوقفهما، بل فهما يتمددان يومياً. صحيح أن الولايات المتحدة هي الدولة الوحيدة القادرة على وضع حد لسياسة التوسع الاستيطاني، الأمر الذي يشير إلى أنها لم تستخدم ثقلها بعد لتحقيق ذلك، أو أنها هي أيضاً لم تعد قادرة على الزام اسرائيل به.

يبقى السؤال الأهم وهو كيف ستتصرف القيادة الفلسطينية في هذه العملية المتدحرجة ؟ فمن الواضح أن مكانة القيادة الفلسطينية على الصعيدين العربي والدولي، وكذلك على الصعيد الداخلي حيث الانقسام والعزلة الشعبية التي تعاني منها، هي أضعف من أن تكون لاعباً مؤثراً في اتجاهات المفاوضات الجارية رغم ما تظهره القيادة السعودية من حرص على تنسيق موقفها ازاء المكون الفلسطيني في مفاوضات التطبيع التي تقودها الولايات المتحدة.

فتسليم القيادة الفلسطينية بأنها لا تتوقع إمكانية الحصول على اعتراف اسرائيلي بدولة فلسطينية في ظل الأوضاع الراهنة يشكل مؤشراً خطيراً يعفي حكومة الضم العنصرية من جوهر التعامل مع مبادرة السلام العربية، والتي باتت مكوناً من قرارات الشرعية الدولية، و تقوم على معادلة الاعتراف والتطبيع مقابل الانسحاب الكامل من الأراضي الفلسطينية والعربية المحتلة، وتمكين الفلسطينيين من إقامة دولتهم المستقلة ذات السيادة على حدود عام 1967وعاصمتها القدس الشرقية، والتوصل لحل عادل لقضية اللاجئين وفقاً للقرار 194.

صحيح أن القيادة الفلسطينية ليست في وضع يمكنها من التعارض مع المصالح السعودية، وهذا غير مطلوب على الأقل في ضوء نتائج سلوكها من اتفاقات التطبيع السابقة، ولكن بالتأكيد أن مبرر بقاء القيادة الفلسطينية ادعاء كونها الممثل الشرعي الوحيد للشعب الفلسطيني وقضيته العادلة يفرض عليها عدم التنازل في علاقاتها مع مختلف دول العالم عن المصالح الوطنية العليا للشعب الفلسطيني وحقوقه المشروعة كما عَرَّفتها الشرعية الدولية، وفي مقدمتها حقه في انهاء الاحتلال وممارسة حقه في تقرير المصير، وأعتقد أن المملكة العربية السعودية ستحترم هذا الموقف من منطلق حرصها على القضية الفلسطينية ومكانتها العربية والاسلامية .

ومن البديهي أن قدرة القيادة الفلسطينية على التمسك بهذا الموقف يفرض عليها استحقاقات باتت معلومة للقاصي والداني، وفي مقدمتها استعادة الوحدة واستنهاض قدرة الشعب الفلسطيني على رفض ومجابهة مخططات اسرائيل لتصفية قضيته وحقوقه الثابتة. وأن أي تأخير في تحقيق ذلك إنما يضع القيادة الفلسطينية في موضع المسؤولية التاريخية عن امكانية نجاح اسرائيل في تحقيق مخططاتها، و فتح شهيتها للتقدم نحو محاولة تصفية الحقوق الفلسطينية .

هذا على الصعيد الاستراتيجي، أما على الصعيد التكتيكي ولكشف نوايا اسرائيل الحقيقية فإن عشرات المطالب الفلسطينية يمكن ابرازها بالاضافة للتمسك الصارم بوقف شامل للاستيطان وتهويد القدس، بما يشمل، وضمن قضايا أخرى، إلزام اسرائيل بحق المقدسيين المشاركة في الانتخابات كما جرت في ثلاث مرات سابقة، واعادة فتح بيت الشرق وباقي المؤسسات الفلسطينية في القدس، وفتح الممر الآمن بين الضفة والقطاع تأكيداً على التمسك بوحدة الكيانية الفلسطينية وباقامة دولة فلسطينية وعاصمتها القدس المحتلة على حدود 1967، والتوقف عن اجتياحات المدن والبلدات الفلسطينية وارتكاب جرائم القتل على يد الجيش والمستوطنين، واطلاق سراح الأسرى والغاء القيود الاسرائيلية على دفع السلطة الوطنية لمستحقاتهم أي نزع محاولات اسرائيل وسم نضالهم بالارهاب، و التوقف عن قرصنة أموال المقاصة تحت هذه الذريعة أو غيرها، واعادة الشرطة الفلسطينية على الجانب الفلسطيني من معبر جسر الملك حسين، واعادة النظر باتفاقية باريس المجحفة، وبما يستجيب لاحتياجات بناء وتطوير الاقتصاد الوطني الفلسطيني، وقبل ذلك قبول اسرائيل والولايات المتحدة بعقد مؤتمر دولي للسلام على أساس الالتزام بقرارات الشرعية الدولية ذات الصلة بالقضية الفلسطينية بهدف تطبيقها، وليس مجرد العودة لمفاوضات عبثية حول ما اذا كان لدينا حقوق وطنية أم لا، أو ربط ذلك بالموافقة الاسرائيلية من عدمها كما جرى خلال العقود الثلاث الماضية.

القضية الفلسطينية ما زالت تسكن في قلوب الشعوب العربية، إلا أن وحدة واستنهاض طاقات الشعب الفلسطيني لمواجهة المخططات العدوانية الاسرائيلية هو الذي يجعل هذه القضية لدى الأشقاء العرب أكثر من مجرد مشاعر ساكنة.

اقرأ/ي أيضاً: الإرهابيون يستعجلون زوالهم.. بقلم عصام شاور

فتى الرواية السورية الجميل.. بقلم: راسم المدهون

أقلام – مصدر الإخبارية 

منتصف التسعينيات، تعرفت على خالد خليفة الكاتب الشاب في تلك الأيام، وصاحب رواية أولى “حارس الخديعة”. كان لافتًا ومهمًا عندي ما قاله لي الروائي الراحل هاني الراهب الذي عرّفني على خليفة: انتبه لخالد.. إنه أمل الرواية السورية القادم بقوة. لاحقًا صرت وخالد خليفة صديقين، وأذكر أن عمق لقاءاتنا وأهمية صداقتنا كانت بعد نشر مقالتي عن روايته الجميلة، والتي أطلقت اسمه بقوة في عالم الرواية، وأعني “دفاتر القرباط”، وهي المقالة التي أشارت للجماليات الفنية والبناء الروائي المتماسك والمشحون بالدراما، والتي لا أزال أعتقد أنها تحتل مكانتها الخاصة بين رواياته جميعًا.

خالد خليفة الصديق والكاتب هو عندي صورة حلب، وهو بمعنى ما ابن العشق الحلبي الفائق للحياة، والذي اعتدنا أن نلمسه في تراث حلب الفني، تمامًا كما عرفناه من عشق أهلها للفنون جميعًا، وبالذات الموسيقى والغناء، ولعل ملامح المدينة التاريخية العريقة قد وجدت طريقها إلى حضور خالد خليفة الشخصي وعشقه العميق للحياة بكل أبعادها، بل حتى في تماهيه مع أصدقائه الكثر، واعتبارهم جزءًا حميمًا من حياته.

في آخر لقاء لي مع خالد، أذكر أننا التقينا فجأة، على ناصية شارع في دمشق، فدعاني لأتناول معه “ساندويشتي” فلافل ساخنة، كنا خلال التهامهما نتحدث عن شيء واحد: كم أننا في تلك اللحظة كنا نتصرف كأننا من “القرباط”، أولئك الذين استدرجتهم مخيلة خالد خليفة إلى صفحات روايته “دفاتر القرباط”.

يغيب، وأغيب، وحين نلتقي بعد ذلك نحس أننا لم نغب، فهو قرأ جيدًا كل ما كتبت، وأنا “التهمت” ما حقق من روايات، وكان ولم يزل لافتًا بعد قراءة كل رواية له أن أقف مع جمالياتها الفنية ومعمارها الروائي الراقي، باعتباره حدثًا “عاديًا”، أي أنه لم يفاجئني أبدًا، وكأنني كنت أمشي خلال ذلك على المقولة الأولى التي كانت مفتتح تعرفي على خالد خليفة، والتي قالها لي الراحل الكبير هاني الراهب: خالد هو أمل الرواية السورية القادم بقوة.

هو، أيضًا، أحد أبرز من كتبوا الرواية، ليس في بلاده سورية وحسب، ولكن أيضًا على المستوى العربي، فذاكرتي تضعه في صورة مستمرة مع كوكبة من الأسماء الروائية العربية البارزة والمرموقة، والتي يقف فيها إلى جانبه من كتاب سورية الروائي الصديق خليل صويلح، أطال الله عمره، وكلاهما من جيل الرواية السورية الجديد الذين يؤكد وجودهم وتألق رواياتهم تجاوز الرواية السورية مكانتها الأولى إلى مقام أعلى وأرفع في الثقافة العربية عمومًا.

لعلّ أهم ما قدمته تجربة خالد خليفة الروائية هو الحفر العميق في “طبقات” المجتمع السوري، وما تحمله من تطورات تاريخية، ومن أحداث ووقائع لا تستقيم قراءتها إلا لكاتب روائي عميق الرؤية وبالغ الصبر يستغرق أعوامًا طويلة لكتابة تلك الحفريات الاجتماعية رواية كما فعل مع روايته “مديح الكراهية”. وأعتقد أنه في تلك الرواية كان الكاتب الذي يتوغل وراء الأحداث والبنى الاجتماعية، ويذهب نحو استنطاق الشخصيات بما هي دلالات كبرى، واضحة ومؤثرة على ظواهر اجتماعية ووجودية. ولم أستغرب أبدًا أن الراحل حين كتب أعمالًا درامية قد نجح أن تكون أعماله منتمية تمامًا، فنيًا وسردًا، إلى ما أسميه عادة “الرواية التلفزيونية”، كما فعل هو بالذات في مسلسله الشهير “سيرة آل الجلالي”، التي برعت في تشريح طبقة التجار وعوالمهم في مدينة حلب، وهي ميزة أعتقد أنه تفرَد بها بين زملائه من كتاب الدراما السوريين، ولفتت الانتباه إلى أعماله، باعتبارها مزجًا للأدب والدراما التلفزيونية على نحو فني جميل. وأهمية هذا يمكن الوقوف عليها من خلال تأمل المكانة الفنية للدراما خلال العقود الأخيرة، وبالذات في مرحلة نهوضها الكبير، وتبوئها مكانة عليا بين الدرامات العربية التي أصبحت حاضرة ومؤثرة في كل البيوت العربية.

الحديث عن الروائي الراحل خالد خليفة لا يستقيم من دون الحديث عن رحلته مع جوائز الرواية، خصوصًا “الجائزة العالمية للرواية العربية البوكر”، التي بدأت مع الدورة الأولى للجائزة، حيث وصل إلى القائمة القصيرة، وفاز يومها الروائي المصري بهاء طاهر بالجائزة، على أن جائزته الأهم في تقديري كانت في اختيار روايته “مديح الكراهية” ضمن قائمة “أهم 100 رواية في العالم في كل العصور”، وهو اختيار نادر لم يشاركه فيه من الروائيين العرب سوى نجيب محفوظ، وإلياس خوري، وإبراهيم عبد المجيد، وهو اختيار لم يكن ليتحقق إلا بعد ترجمة روايته لعدد كبير من اللغات العالمية، ومنها بالطبع اللغات الأوروبية الأبرز، الإنكليزية والفرنسية والإسبانية، ووصولها إلى أوسع دائرة من القراء.

خالد خليفة جاء إلى الأدب والكتابة في “زمن الرواية” وما شهدته الساحة الأدبية من منشورات روائية لا تحصى خلال العقود الثلاثة الماضية، لكنه نجح في تحقيق بصمته الكبرى التي لا تنسى على هذا الجنس الأدبي الجميل والصعب، والذي ظل دائمًا صنوًا ملازمًا للتاريخ والسياسة وعلم النفس كما لعلم الاجتماع، بالنظر لما يحمله الفن الروائي من توغل عميق في تلك الأقانيم كلها بحثًا عن وجوده وأدواته، بل وموضوعاته السردية، كما لا يحدث مع أي جنس أدبي آخر، فاختار أن يحقق تميزه، وأن يقدم براعته ورؤاه العميقة.

رحل خالد خليفة عن عالمنا قبل أن تطأ قدماه الستين من عمره، بعد أزمة قلبية مفاجئة، وقد رحل في ذروة عطائه وتألقه الفني هو المسكون بالأدب والكتابة، وبالرغبة في التعبير عن الحياة بكل أشكالها وتفاصيلها، لأنه خلال حياته الواقعية والروائية، على السواء، ظل ابن الحياة والناطق باسمها.

اقرأ/ي أيضاً: حكومة التطرف الأخطر والأكثر عنصرية

عن مهرجان فلسطين تكتب في بنسلفانيا

بقلم-رائد صالحة:

في مهرجان “فلسطين تكتب” الثاني بنهاية الأسبوع الماضي في مدينة  فيلادلفيا، كان ” إيرفاين هول”، وهو مبنى على شكل مستدير في حرم جامعة بنسلفانيا، مكتظاً  بالباعة الذين يبيعون الكوفية والثياب المطرزة والحقائب والدفاتر والقمصان والمجوهرات وزيت الزيتون من بين أشياء أخرى، وبطبيعة الحال، كانت هناك مجموعة كبيرة من الكتب، باللغتين العربية والإنكليزية، مكدسة على الطاولات ومتاحة للاطلاع والشراء. وتنوعت الاختيارات في النوع الأدبي، من المذكرات والشعر وقصص الأطفال إلى المقالات والروايات والترجمات،  وكانت الردهة الفردية مليئة بالغرف التي كانت مكتظة بالجماهير المنغمسة في صمت وهم يشاهدون، باللغتين العربية والإنكليزية، مناقشات ومقابلات وحلقات نقاش ومحاضرات وقراءات.

على الرغم من أن الحدث قوبل برد فعل صهيوني عنصري مألوف للغاية على شكل اتهامات كاذبة بمعاداة السامية، إلا أن مهرجان “فلسطين تكتب” حقق نجاحًا مؤثرًا بشكل جميل

الموضوعات كانت واسعًة، وكان المتحدثون من جميع أنحاء العالم، إلا أن الشيء الفريد، الذي يربط جميع أعضاء قاعة “إيرفاين هول” ببعضهم البعض هو الحب العميق لفلسطين والالتزام الثابت بحريتها، وفقاً لموقع “موندويز”.

وعلى الرغم من أن الحدث قوبل برد فعل صهيوني عنصري مألوف للغاية على شكل اتهامات كاذبة بمعاداة السامية، إلا أن مهرجان “فلسطين تكتب” حقق نجاحًا مؤثرًا بشكل جميل، وقد  انطلق المهرجان للاحتفال بالمقاومة الثقافية المناهضة للاستعمار، وتاريخ فلسطين الطويل والغني والمتعدد الأوجه، وقدم المنتدى صورة عن  المواجهة، وعلى حد تعبير إدوارد سعيد، “ثقافة القوة بقوة الثقافة”.

وفي كلمتها الافتتاحية، وصفت المديرة التنفيذية، سوزان أبو الهوى، “فلسطين تكتب” بأنها وسيلة “للمساعدة في رؤية وسماع والاستمتاع وتقدير التراث الأصلي لواحد من أكثر الأماكن الأسطورية والعذاب على وجه الأرض”. في الواقع، مع حضور أكثر من 1400 شخص من فلسطين والشتات ومائة متحدث ومنتج ثقافي يعملون في كل الوسائط، رفع المهرجان الذي استمر ثلاثة أيام من المساهمات الثقافية الهائلة القادمة من شريط صغير من الأرض يقع بين نهر الأردن والبحر الأبيض المتوسط.

ولاحظ الكاتب نيكي تاكورا في مقال ” موندويز” أن أحد الجوانب الأكثر لفتًا للانتباه في عطلة نهاية الأسبوع كان الشعور الفوري تقريبًا بالقرابة بين جميع رواد المهرجان:   نقاط التفتيش الإسرائيلية غير القانونية، أو جدار الفصل العنصري الذي يفصل فلسطين التاريخية، أو التهجير القسري العنيف من الوطن، وأضاف “يبدو أن  التجزئة والانفصال أصبحت جزءًا لا يتجزأ من الهوية الفلسطينية. ومع ذلك، وعلى عكس هذه الصدمة المشتركة، اجتمع الحاضرون -معظمهم من الفلسطينيين- وشكلوا روابط عميقة تجعل كل مقدمة تبدو وكأنها لم شمل طال انتظاره”.

وفي وسط قاعة إيرفاين، عرض المنظمون خريطة لفلسطين، يبلغ ارتفاع الخريطة 29 قدمًا وعرضها 10 أقدام، وكانت مملوءة بالأسماء الأصلية للقرى الفلسطينية. ويتجمع حولها الأطفال والكبار، ويشيرون إلى القرية التي ينتمون إليها، وهم يحاولون العثورعلى آخرين من نفس المكان، ويتبادلون الأسماء الأخيرة على أمل أنه ربما كان هناك بعض النسب المشترك أو يتخيلون كيف كانت تبدو الحياة في تلك المجتمعات الصغيرة قبل إسرائيل.

وكتب تاكورا “على النقيض من مقولة ديفيد بن غوريون التي يُستشهد بها كثيرًا والتي افترضت خطأً أن “الكبار سيموتون والصغار سوف ينسون”، كانت “فلسطين تكتب” بمثابة طقس للذكرى والحفاظ على تاريخ جميل غالبًا ما يكون ضحية للمحو الصهيوني”.

تاكورا: “على النقيض من مقولة ديفيد بن غوريون التي يُستشهد بها كثيرًا والتي افترضت أن “الكبار سيموتون والصغار سوف ينسون”، كانت “فلسطين تكتب” بمثابة طقس للذكرى وللحفاظ على تاريخ جميل غالبًا ما يكون ضحية للمحو الصهيوني”

وأضاف “خلال عطلة نهاية الأسبوع، تأثرت بشدة بقدسية جمع هذا العدد الكبير منا في مكان واحد. ليس فقط لأنها كانت المرة الأولى التي أتواجد فيها حول هذا العدد الكبير من الفلسطينيين، باعتباري شخصًا لم يزر فلسطين من قبل، ولكن أيضًا لأنها كانت مكانًا لنا جميعًا لنتشارك مع بعضنا البعض ونواجه السياسات والاستراتيجيات والوسائل من خلال الذي سنحقق فيه تحررنا”.

وإلى جانب الحفاظ على التاريخ السردي للوطن المسروق، مثّلت “فلسطين تكتب” تبادلًا حرًا وعضويًا للأفكار التي انبثقت من الهدف المشترك المتمثل في الحرية الفلسطينية، وقال تاكورا إن ” الطبيعة التوليدية للحدث، المتمثلة في بناء مجتمع فكري حول فلسطين، مثلت عملاً عميقًا من أعمال المقاومة، سواءً كانت حلقة نقاش حول تاريخ وأهمية التطريز الفلسطيني، أو محاضرة عن إنتاج وتوزيع أدب السجون، أو ندوة حول ضرورة التضامن المناهض للاستعمار داخل الجنوب العالمي، أو تأملات في كتابات ومساهمات غسان كنفاني الثورية، كل حدث أخذ على محمل الجد، ليس فقط إمكانية قيام فلسطين حرة، بل أيضاً ضرورة قيامها”.

اقرأ أيضاً: الرئيس الفلسطيني في خطاباته… إذ يقول كل شيء ولا يفعل شيئاً

قنبلة دخان إسرائيلية على غزة ..!

بقلم-أكرم عطا الله:

هي غزة التي لا تكف عن المشاكسة مسكونة بهواجس أكبر كثيراً من مساحتها وأقل كثيراً من إرادتها، تلك المنطقة التي لا تكاد ترى بالعين المجردة على خارطة العالم ولكنها تضع نفسها في الصدارة وتفرض نفسها على طاولة السياسة الدولية، هي المنطقة الغنية بالتاريخ والفقيرة بالجغرافيا مدعاة للفخر حد السماء في لحظة ما ومدعاة للشفقة والعطف في لحظة أخرى، هي كذلك وليدة كل المتناقضات وحاملة لها جميعاً تحاول التوفيق دون أن تشعر بفداحة الثمن … وتستمر.

هذا هو تاريخها بصرف النظر عمن يحكمها، فخصوصية شعبها أبعد كثيراً من أن يؤثر به السياسيون لأن «خصوصية أي شعب هي بصمة الطبيعة على طبعه» فقد كانت تلك المنطقة التي نسي الإسرائيلي وهو يمتد على الشريط الساحلي الفلسطيني كله أن يحتلها ليشاء قدرها أن تنتج الثورة المعاصرة، وربما أن خصوصيتها نبعت من التغير الديمغرافي الهائل الذي نشأ إثر النكبة لتتحول إلى خزان اللاجئين بما يفيض عن طاقتها وأكثر من سكانها الأصليين.

منذ الأمس توقفت الفعاليات على الجدار الفاصل وفتح المعبر الذي يربطها بإسرائيل وعادت المنحة القطرية، فقد «أخرجت إسرائيل البقرة من الغرفة» كما رواية الحاخام واليهودي الذي كان يعيش وزوجته وابنته في غرفة واحدة، وحين طلب الأخير استشارة الحاخام أشار له أن يدخل البقرة بعد المَعِزة إلى الغرفة، وبعد إخراجها تنفس اليهودي الصعداء كأن هذا أقصى ما يريد.

هكذا تلاعبت إسرائيل بها قبيل الأعياد عندما صنعت أزمة خوفاً من أزمة أكبر في القدس ستشعل فتيلها اقتحامات المسجد الأقصى خلال المناسبات فقد حصل ذات مرة ووصلت حرائقه لكل المدن الإسرائيلية.

قبيل الأعياد كان هناك سيل من التحذيرات والإنذارات تعلن عنها أجهزة الأمن في اسرائيل، وكما العادة غزة الحاضرة دوماً في كل المعارك.

كانت هناك خشية من تصعيد يستدعيها لإفساد موسم تلك الأعياد التي تتجمع هذا الشهر «رأس السنة ويوم الغفران وعيد العرش» وكلها تحمل دلالات دينية توجب هذا القدر من إغضاب الفلسطينيين في القدس، وغزة التي تعهدت بعدم السماح بتكرار اقتحام الأقصى قد تفعلها في حال استفزازها فهذا «عهد»، ومن هنا كان التفكير بعملية إزاحة تامة وصناعة أزمة تسحب نظام الحكم ممثلاً بحركة حماس باتجاه آخر.

وقد كان عندما صنعت من المنحة القطرية أم الأزمات ليصبح حلها بوساطات تذهب وأخرى تجيء ومفاوضات تستعصي ثم تتفكك عقدها، وينصب كل التفكير على الحدود والضغط والمناورة والتكتيك لاستعادة المنحة ويصبح حل المسألة «المستعصية» أولوية الأولويات، أي أنها ألقت بقنبلة دخانية يغطي غبارها مسرح الجريمة وقد كان.

هكذا تشاغل إسرائيل الفلسطينيين ولا خيار أمامهم إلا ردود فعل يحددها الذي أحدثه الحصار الخانق على القطاع والمستمر منذ أكثر من عقد ونصف العقد، وتدير العلاقة مع تلك المنطقة بنظرية ليبرمان «الرأس فوق الماء» لا أن تحيا ولا أن تموت.

فحين تحيا تبعث في الروح الوطنية نَفَسا جديداً أكثر صلابة وحين تموت فإن شظايا موتها سيطال كل العواصم وكل بلدات اسرائيل.

وهذا ربما يشكل نقطة انطلاق الفلسطينيين بمعرفتهم للسياسات التي تمارس تجاههم وما هي نقاط القوة والضعف.

فقد أضعفوا أنفسهم منذ وقعوا في مصيدة الحكم فأصبحت استحقاقاته عبئاً ثقيلاً فوق طاقتهم وأعادت قلب أولوياتهم بكل ما يحمله من خسارات وأبرزها خسارة الصمت على تسرب التطبيع مقابل المال واستحقاقات الحكم، كان الفلسطينيون أقوى حتى في مواجهة الإقليم قبل أن يتورطوا في حكم أنفسهم تحت الاحتلال.

أدخل الفلسطينيون أنفسهم في نفق تشهد عليه النتائج القائمة والتراجع الفادح في مشروعهم الذي بات يشرف على الغرق، وتزايد بعد خرقهم لمركبهم إثر الصراعات بينهم على الحكم وجدارته، وما زال التنافس بينهم وخوف كل منهم من الآخر مدعاة لمزيد من الضعف والتنازل، فحين يصبح نجاح التجربة أولوية قصوى تختل المعادلة ويصاب البرنامج بالاضطراب وتتشوه ملامح الكفاح الوطني ويصبح الغرق في التفاصيل أكثر أهمية من القضية المركزية؟، فالفروع هنا تنوب عن الجذور ويصبح التوهان هو الأمر الثابت في المعادلة.

في غزة إرادة عالية وفقر مدقع وفيها قال شاعر الفلسطينيين الكبير من الغزل ما لم يقُل في أي مدينة أخرى، لديها قدرة مدهشة على الصمود رغم بؤسها لكن ما يؤخذ عليها عدم قدرتها على إدارة إرادتها بكفاءة فهي سريعة الغضب، تنفعل بسرعة وبطيبة حين يتم المساس بالمشروع الوطني دون أن تفكر إذا كان ذلك مخططاً لاستدراجها أو لاستنزافها أو لحرفها أو لإزاحة اهتمامها وتضليلها، هكذا هي طيبة ـ بسيطة، ما زالت تمارس السياسة ببراءة بعيداً عن السياسة، هنا تكمن مأساتها المزمنة بلا توقف والتي جعلت من خسائرها ما يفوق مكاسبها.

سيناريو اليهودي والحاخام تكرر كثيراً هادفاً إلى القيام بعملية مسخ دماغ لمنطقة أحدثت كل هذا الصداع الدائم لإسرائيل، أخطأ أبناؤها حين تصارعوا فيها ليسهلوا التنكيل بها بهذا الشكل، لا بد من كسر المعادلة بعد كل تلك التجربة الطويلة وبعد تلك المعاناة الطويلة، ويجب أن تمتد المراجعة لتشمل الضفة أيضاً.

الفلسطينيون أمام استعصاء يهدد بتبدد قضيتهم ومجتمعهم عنوانه «ورطة الحكم» الذي تحول إلى ما يشبه اللعنة التي باتت تغطي بسبب الحاجة للمال لتحقيق استحالة إنجاح تجربته تحت الاحتلال على كل الخطايا بما فيها خطايا الإقليم.

اقرأ أيضاً: لقد تعلمت حماس كيفية انتزاع الإنجازات من إسرائيل

فلسطينيو 48 ودلالة إعادة الارتباط بالقضية الفلسطينية

أقلام- مصدر الإخبارية

كتب أنطوان شلحت: منذ عدّة أعوامٍ؛ يشهد الفلسطينيون في أراضي 1948 تكثيفًا للحراك السياسي والفكري، الهادف إلى تعزيز ارتباطهم بالقضية الفلسطينية، وبالتالي توثيق الرابط بين تحسن مكانتهم، وأوضاعهم الحياتية، وبين حلّ هذه القضية.

يعود أحد أسباب هذا التكثيف إلى حقيقة أنّ الارتباط السالف قد تعرّض إلى الاهتزاز، في أثناء ولاية الحكومة الإسرائيلية السابقة (الحكومة الـ 36 أو حكومة بينت – لبيد، من 13/6/2021 إلى 29/12/2022)، التي كان فيها فصيلٌ سياسيٌ من فلسطيني 48 (الحركة الإسلامية – الجناح الجنوبي)، شريكًا في الائتلاف الحكومي، من خلال القائمة العربية الموحدّة.

كما وتعرّض إلى الوهن أعوامًا طويلةً قبل ذلك، وتحديدًا في إثر اتّفاقية أوسلو، المبرمة عام 1993 بين إسرائيل ومنظّمة التحرير الفلسطينية، التي تمثّلت حصيلتها الأبرز؛ بالنسبة لهم، في ترسيخ شعور الأغلبية الساحقة منهم، بما اصطلح على تسميته بـ “التهميش المزدوج”، أيّ تهميشهم على مستوى الشعب العربي الفلسطيني، ومن طرف قيادته الشرعية، على غرار التهميش الذي كانوا؛ وما زالوا، يخضعون له على مستوى المجتمع الإسرائيلي.

وقد حدا هذا الأمر في حينه بهؤلاء الفلسطينيين إلى التحوّل نحو سيرورة النظر إلى أنفسهم، والبحث عن سبلٍ تتيح إمكان المشاركة الفكرية الفاعلة في تقرير مصيرهم ومستقبلهم.

بمراجعةٍ سريعةٍ؛ في الوسع القول إنّ هذه السيرورة الأخيرة قد مرّت حتّى الآن بعدّة مراحل، وبلغت مرحلةً من النضج خلال عامي 2006- 2007، بالتزامن مع صدور مبادراتٍ فكريةٍ عدّةٍ في شأن الرؤى المستقبلية المنشودة، والتي مثّلت تحوّلًا مهمًا في سياق محاولاتٍ متعددةٍ ترمي إلى النأي عن صيرورة تهميشهم فلسطينيًا، وكذلك داخل وطنهم المغتصب.

الحال التي يجد الفلسطينيون في الداخل أنفسهم في خضمها في الآونة الأخيرة، لا تختلف عن حال سائر أجزاء الشعب الفلسطيني

ترتب على هذه السيرورة استنتاجاتٍ فكريةٍ مهمةٍ عدّةٍ. لعل أهمّها هو ما أشار إليه المفكّر العربيّ عزمي بشارة، في كتابه المرجعي “العرب في إسرائيل: رؤية من الداخل”، وفحواه أنّ العرب في إسرائيل هم سكان البلاد الأصليون، وهم جزءٌ من الأمة العربية، التي تعيش حالة صراعٍ مع إسرائيل، ومن الشعب الفلسطيني الذي تعرّض لعملية سطوٍ مسلّحٍ على أرضه، شملت هدم مشروعه الوطني. وقد نشأت قضيتهم تاريخيًا كجزءٍ من القضية الفلسطينية، فلولا نشوء قضية اللاجئين لما نشأت مسألة “أقلّيةٍ” عربيةٍ في الداخل.

أما الممارسات الإسرائيلية؛ التي تتضمّن مصادرة أراضي العرب في الداخل، ومحاصرتهم وتجميعهم ديموغرافيا، والعمل على إعادة تشكيل هويّتهم الثقافية، بما يتناسب مع احتوائهم كأقلّياتٍ متنافرةٍ متنازلةٍ عن المساواة الكاملة، وعن الشخصية العربية الكاملة في دولةٍ يهودية… فهذه كلّها ليست مجرد مركباتٍ في سياسة تمييزٍ، بل هي جزءٌ من سياسةٍ تمثّل استمرارًا تاريخيًا لقضية فلسطين، وتضع لنفسها أيضًا أهدافًا تاريخيةً. وهي ما زالت تجري، وتنفذ بعقليةٍ كولونياليةٍ استيطانيةٍ إحلاليةٍ، وتتخذ شكلاً كولونياليًا أيضًا.

يعزى إلى بشارة؛ مؤسس حزب “التجمع الوطني الديمقراطي” في أواسط تسعينيات القرن الفائت، أعمق التحليلات النظرية المتعلقة بكينونة الفلسطينيين في أراضي 1948، ومآلها وإحالاتها. وقد بُنيت عليها مواقف، ومثلت مرشدًا لتجربةٍ عمليةٍ انعكست في طرح مشروعٍ وطنيٍ ديمقراطيٍ في ظروف الداخل، قائمٍ على جدلية العلاقة بين الوطني والمدني، وبين الخطاب العروبي الفلسطيني والمواطنة.

ما زال “التجمع”؛ هو الحامل لهذا المشروع، من خلال العمل البرلماني، ومن خلال النشاطات الجماهيرية التي يقوم بها. وكان المنطلق الرئيسي لهذه التحليلات هو أنّه لا يمكن أن نفهم مسألة الفلسطينيين في الداخل بنيويًا فقط، أي بتجرّدٍ عن تاريخ نشوء هذه المسألة، من خلال تحليل بنية دولة إسرائيل، كأنّها دولةٌ وطنيةٌ عاديةٌ؛ هي الدولة اليهودية، تعيش فيها أقلّيةٌ عربيةٌ تتعرّض للتمييز أو الإهمال. كما أنّه لا يمكن أن نفهم قضية عرب الداخل بالنهج التاريخي وحده، إذ لا يكفي فهم تاريخ تشكل القضية الفلسطينية، وكيفية تحوّل الفلسطينيين إلى أقلّيةٍ في بلدهم، لفهم واقعهم الحالي. ولذا لا بُدّ من الدمج بين التاريخي والبنيوي.

في الاستحقاقات المطلوبة
في الوقت ذاته؛ لا بُدّ من أن نشير إلى أنّه لدى تحليل ما جاء في هذه الوثائق المهمة؛ بشأن نظرة الفلسطينيين في الداخل إلى الاستحقاقات المترتبة على تعريفهم لذاتهم، يتبيّن أنّ تلك النظرة لا تعكس مستوى الوضوح الذي تميّز به التعريف نفسه، بل اتّسمت بقدرٍ من الغموض والمساومة، والتأرجح بين ما يجب أن يكون حقّهم، وبين كيفية التعبير عن ذلك، بطريقةٍ تكون مقبولةً من السلطة المهيمنة.

وأدّى ذلك إلى ثغراتٍ كثيرةٍ تحتاج إلى مقارباتٍ جازمةٍ أكثر. ومن هذه الثغرات مثلاً، قبول بعض الطروحات؛ التي تقف وراءها قوىً سياسيةٌ مُحدِّدة مبدأ تجزئة الشعب الفلسطيني، وقبول التسويات المتداولة لكلّ جزءٍ من هذا الشعب.

وفي هذا السياق؛ مثلاً حُصِرَ مفهوم الاحتلال في الأراضي الفلسطينية المحتلة منذ عام 1967، وطُولبَ بحقّ تقرير المصير سياسيًا لهذه المناطق، بموازاة المطالبة بحقّ تقرير المصير ثقافيًا للفلسطينيين في إسرائيل، بما يوحي بأنّ ذلك يتم من منطلق كونهم غير محتلين، وكونهم أقلّية وطنٍ ومجموعةٍ قوميةٍ لها حقوق مواطنةٍ أساسيةٍ، تشمل فيما تشمل إعادة أراضيها المصادرة وأملاكها.

كما طُولبَ بتحقيق حقّ عودة اللاجئين الفلسطينيين، لكن من دون تحديد “العودة إلى أين”؟ وهذا يبقي مفهوم الإقرار بالغبن التاريخي، الذي ورد في هذه الوثائق، كمطلبٍ يتعين على إسرائيل أن تقبل به، منقوصًا.

كما أنّ تعريف الوثائق للفلسطينيين في الداخل، بأنّهم جزءٌ لا يتجزأ من شعبٍ فلسطينيٍ واحدٍ، يسعى إلى الحرية والاستقلال، لم يقترن بطرحٍ يقول بضرورة العمل على الوصول إلى إطارٍ ديمقراطيٍ واحدٍ، يحقق مطالب الشعب الفلسطيني بجميع أجزائه، من دون نفي حقوق الآخرين.

أيّ تهميشهم على مستوى الشعب العربي الفلسطيني، ومن طرف قيادته الشرعية

في واقع الأمر؛ فإن الحال التي يجد الفلسطينيون في الداخل أنفسهم في خضمها في الآونة الأخيرة، لا تختلف عن حال سائر أجزاء الشعب الفلسطيني. وهي ناجمةٌ أساسًا عن افتقار هذا الشعب إلى قيادةٍ سياسيةٍ تحظى بتوافقٍ عامٍّ، ومؤسساتٍ وطنيةٍ جامعةً، وإستراتيجيةٍ عليا، تشرك كلّ مكوّناته في النضال متعدد المستويات.

وتتسبب هذه الحالة بتفتيت الحقل الوطني إلى “حقولٍ محليةٍ”، الأمر الذي يفضي إلى انغلاق مكوّنات الشعب الواحد في جزرٍ معزولةٍ عن بعضها، ومكشوفةٍ لسطوة شرطها الموضوعي.

ولا شكّ في أنّ هذه الحال إذا ما استمرّت، من شأنها أن تنتج (إذا لم تكن قد أنتجت فعلًا) وضعًا من تعددية الإستراتيجيات والسلطات، ومصادر القرار. وبالتالي يمكنها أن تبدّد القدرة على أن يحتكم الكلّ الفلسطيني إلى تعريفٍ جمعيٍ للمصلحة الوطنية العليا، والقدرة على الاتّفاق على ركائز هذه المصلحة، كمرجعيةٍ وإطارٍ عامٍّ لإستراتيجيةٍ وطنيةٍ، يتم التوافق عليها من طرف مكوّنات الشعب الفلسطيني، ونظامه السياسي، ومؤسساته.

عن ملتقى فلسطين

اقرأ/ي أيضًا: دلياني: الاحتلال يسعى لتزوير وسرقة الآثار الفلسطينية التاريخية

مرة أخرى حول التطبيع السعودي الإسرائيلي‎

أقلام- مصدر الإخبارية

كتب هاني المصري: حسمت مقابلة ولي العهد السعودي محمد بن سلمان، مع فضائية فوكس نيوز الأميركية، أن التطبيع السعودي الإسرائيلي ليس مجرد احتمال أو أمرًا قابلًا للنقاش، بل بات أمرًا اتّخذ القرار بشأنه من الرياض، ويتقدم باستمرار من دون الحسم أنه سيُحدث الاختراق قبل الانتخابات الرئاسية الأميركية القادمة، وبات البحث جاريًا عن الثمن والتوقيت، فابن سلمان قال: “إننا كل يوم أقرب إلى التطبيع، وإن القضية الفلسطينية مهمة”.

ولكن من دون أن يقيد يديه بها؛ حيث اقتصر حديثه الملموس على تحسين أحوال الفلسطينيين، وفي العادة يطرح المفاوض الحد الأقصى في بداية المفاوضات، ويستعد للمساومة إذا أبدى الطرف الآخر استعدادًا للمساومة، فما نراه مرونة مفرطة مقابل تشدد إسرائيلي، وهذا لا يبشر بالخير.

صحيح أن وزير الخارجية السعودي فيصل بن فرحان قبل المقابلة وبعدها كرر تمسك الرياض بمبادرة السلام العربية، وأن الحل للصراع في المنطقة لا يحل من دون تحقيق الحقوق الفلسطينية المتضمنة في قرارات الشرعية الدولية، ولكن ما جاء في مقابلة الأمير صاحب القرار هو الأهم، وهو يحدد سقف الموقف السعودي.

تماهي موقف ابن سلمان مع الموقف الأميركي

يتقاطع موقف ابن سلمان مع الموقف الأميركي، الذي يركز فقط على استقرار الوضع، من خلال تعزيز السلطة، وتقديم تسهيلات اقتصادية للفلسطينيين، ومنع الأمور من الانهيار، والحفاظ على أفق سياسي لحل الدولتين، الذي من المفترض الخوض فيه لاحقًا؛ أي بعد القضاء عليه كليًا، كما يظهر ذلك في الموقف الإسرائيلي بصورة أوضح وأوقح، الذي يتحدث فقط عن تقديم تسهيلات ومشاريع اقتصادية لتحسين أحوال الفلسطينيين، قافزًا بالكامل عن الحقوق الفلسطينية، حتى المقرة في قرارات الشرعية الدولية والاتفاقات الفلسطينية الإسرائيلية.

اللافت أن ولي العهد السعودي لم يتطرق في مقابلته إلى التمسك بمبادرة السلام العربية والدولة الفلسطينية، ولا لإنهاء الاحتلال، ولا حتى وقف الاستيطان والاعتداءات على الأقصى ولا اشترط تعديل أو تغيير أو حتى تراجع الحكومة الإسرائيلية الحالية عن مخطط الضم والتهويد والتهجير المنصوص عليه في برنامجها، فهو كما قال مستعد للتعامل مع أي حكومة إسرائيلية!

يوحي الموقف السعودي، وخصوصًا من خلال الابتهاج الإسرائيلي به، كما جاء على لسان بنيامين نتنياهو وأركان حكومته، أن إسرائيل تريد أن تأخذ من واشنطن (معاهدة دفاع مشترك مقابل التي يمكن أن تمنح للسعودية)، ومن الرياض (تطبيع كامل)، ومن فلسطين (المضي في مخطط الضم)، من دون أن تعطي شيئًا. فما ستأخذه الرياض ستحصل عليه من الكيس الأميركي، وهذا إن صح يعني أن الرياض مستعدة لصفقة تحصل فيها على معاهدة دفاع مشترك ومفاعل نووي سلمي متقدم وأسلحة أميركية متقدمة، مقابل تجاوز مبادرة السلام العربية، وليس سهلًا أن تقدّم إدارة بايدن كل هذه المسائل وفق المطالب السعودية، وإذا قدمتها ليس من المضمون تمريرها في الكونغرس الأميركي.

ولا تكمن المفاجأة هنا، فسبق أن وافقت الرياض على صفقة ترامب وغضبت من الرفض الفلسطيني لها، وهي صفقة إذا طبقت كما كان مقررًا لها، من شأنها تصفية القضية الفلسطينية من كل جوانبها مقابل “دولة فلسطينية” على 70% من الأراضي المحتلة العام 1967 المقطعة الأوصال والمعزولة عن بعضها البعض والخاضعة كليًا للسيادة الإسرائيلية، وتتضمن تهجير مئات الآلاف من فلسطينيي 48 وإلحاقهم بالدولة الموعودة، كما أعطت الرياض الضوء الأخضر للاتفاقيات الإبراهيمية، وأقدمت على خطوات تطبيعية متلاحقة تمهد بها للتطبيع الكامل، وهذا سيستمر، وهو خطير حتى لو لم يتم إنجاز الصفقة كاملة قبل الانتخابات الأميركية، فهو يهبط بالسقف الفلسطيني والعربي، وتعدّ التنازلات الحالية مكتسبات يتم الانطلاق منها، إضافة إلى أن مجرد السير المتدرج بالتطبيع يأكل الوقت ويقطع الطريق على بدائل أخرى يجب بناؤها من دون تأخير.

ما دوافع السعودية لعقد الصفقة؟

سؤال المليون دولار: ما دوافع السعودية لعقد هذه الصفقة مع أكثر حكومة متطرفة في إسرائيل؟

لقد حذر توماس فريدمان، الصهيوني والصحافي الأميركي الشهير، من مكافأة هذه الحكومة المتطرفة بدلًا من عقابها، وأضيف إلى ما سبق أن الظروف التي استدعت الموافقة السعودية على صفقة ترامب تغيرت. فقد تراجع التهديد الإيراني للسعودية بعد فتح صفحة جديدة بينهما بعد إعلان بكين، الذي يجري تنفيذه، بدليل تبادل السفراء بين الرياض وطهران والشروع في التفاوض، وتقدمه على طريق إنهاء الحرب اليمنية.

لقد تبيّن بالملموس أن التحالف مع واشنطن لا يوفر الحماية كما ظهر في ردة الفعل الأميركية بعد الهجوم على أرامكو في السعودية في العام 2019، وكان ترامب سيد البيت الأبيض الذي قال ردًا على هذا الهجوم إن السعودية ليست الولايات المتحدة، وتنصل من مسؤولية الدفاع عنها، على الرغم من المليارات الكثيرة التي أغدقت عليه عبر الاستثمارات السعودية وعقود التسليح التي أبرمت وغيرها لصهره وحاشيته.

الرياض وتنويع العلاقات شرقًا وغربًا

كما أن الرياض تعاكس الطريق الذي شقّته في السنوات الأخيرة، من خلال تنويع علاقاتها، واللعب على التناقضات، والتنافس الشرقي الغربي، وفي أساسه الأميركي الصيني، وهذه السياسة لا بديل منها إذا أريد تحقيق المصلحة السعودية ومتطلبات قيام السعودية بدور قيادي عالمي في ظل شبكة العلاقات الصينية السعودية الكبيرة، التي غدت أكبر من العلاقات الأميركية السعودية، كما يدل حجم التبادل التجاري بين البلدين.

وفي هذا السياق، يحاول حاكم الرياض أن يحتفظ بعلاقات جيدة جدًا مع المعسكرين المتنافسين، من خلال الاستثمار في العلاقات العسكرية والأمنية عبر الارتباط بمعاهدة دفاع مشترك مع أميركا، ومشاكستها في منظمة أوبك بلس والعضوية في منظمة بريكس، وشريك في الوقت نفسه في خطة الحزام والطريق الصينية، والممر الاقتصادي الأميركي الذي أعلن عنه في قمة العشرين الأخيرة، والذي هدفه قطع الطريق على الحزام والطريق، والمشاركة السعودية والإماراتية فيه لن يكون مرحبًا بها صينيًا.

لم يعد التطبيع ممرًا إجباريًا

لم يعد التطبيع مع إسرائيل ممرًا إجباريًا لتحسين علاقات الدول بأميركا، فمن جهة أميركا لم تعد القوة المهيمنة انفراديًا على العالم، وهي بحاجة إلى العلاقات والتحالفات مع الآخرين بقدر حاجتهم إليها، وربما أكثر، بدليل تراجع الدور الأميركي في الشرق الأوسط والعالم كله في ظل الصعود الصيني، وهناك عالم متعدد الأقطاب لم يولد بعد، لكنه أخذ يطل برأسه.

ومن جهة أخرى إسرائيل في أسوأ وأضعف حالاتها، في ظل الأزمات التي تواجهها، خصوصًا الأزمة الداخلية، فهي لم تعد البعبع الذي يسيطر ويخيف أعداءه ومنافسيه في منطقة الشرق الأوسط، ولا الشرطي الذي يحمي المصالح الأميركية والغربية، بل هي باتت بحاجة إلى من يحميها، بدليل قدوم القوات الأميركية إلى المنطقة وشن الحرب على العراق، وعجزها – أي إسرائيل – عن التعامل مع القوى الشعبية المسلحة المحيطة بفلسطين، ومع الملف النووي الإيراني، مع أن إيران باتت على عتبة إنتاج قنبلة نووية.

لا أبالغ بالقول إن التطبيع بالشروط المطروحة والمتداولة ينقذ إسرائيل من نفسها، ومحاولة لإعادة طموحها المنهار للقيام بدور مركزي مهيمن في المنطقة يعوض عن تراجع الدورين الأميركي والإسرائيلي.

التطبيع وصفة للحرب وليس وصفة للسلام

يبقى أمر واحد يمكن أن يقدم لتفسير وتبرير الاندفاع السعودي نحو التطبيع، مع أنه غير مقنع، وهو أن حاكم الرياض الشاب لديه رؤية طموحة لقيام السعودية بدور عالمي، وهي بحاجة إلى تصفير المشاكل والأزمات مع كل الدول، بما فيها إسرائيل. وهذا صحيح، لكن لا بد من رؤية خصائص الوضع بعمق ودقة. فالتطبيع من دون إلزام إسرائيل بإنهاء احتلالها وتجسيد الدولة الفلسطينية لن يُصفّر الأزمات معها، ولا يقلل من دورها بوصفها عاملًا مهددًا للأمن والاستقرار والسلام، بل يشجعها على مواصلة وتصعيد سياستها الاستعمارية الاستيطانية العنصرية العدوانية التي لا تستهدف الفلسطينيين، فقط وإنما تهدد الأمن والاستقرار والسلام في المنطقة والعالم، خصوصًا في بلدان الطوق، فدور إسرائيل يبقى العامل الأهم في إحداث التوتر والصراع، لسبب بسيط، لأنه يقفز عن خصائص وقوى المنطقة وعن الحقوق الفلسطينية، وهذا يؤدي إلى استمرار الصراع وتصعيده.

وإلى من لا يصدق ما ذهبنا إليه بأن القضية الفلسطينية مركزية وأن التطبيع من دون انسحاب إسرائيلي سيفاقم عوامل عدم الاستقرار، فليقرأ الأحداث التي جرت في هذه المنطقة منذ مائة عام، ومنذ التطبيع وحتى الآن ثبت أن التطبيع وصفة للحرب أكثر ما هو وصفة للسلام، فبعد التطبيع المصري الإسرائيلي شنت حكومة مناحيم بيغين عدوانًا على لبنان في العام 1982.

كما أن اتفاق أوسلو لم يجلب الأمن والاستقرار، فقدم الشعب الفلسطيني منذ توقيعه أكثر من سبعة آلاف شهيد وأضعافهم من الأسرى والجرحى، وتعمق الاحتلال والاستيطان والعنصرية والعدوان، وسارت إسرائيل نحو المزيد من التطرف، وكان هناك أكثر من 2000 قتيل إسرائيلي، وبعد إقرار مبادرة السلام العربية بيوم واحد شنت قوات الاحتلال عملية السور الواقي ضد السلطة الفلسطينية، التي انتهت بحصار مقر الرئيس ياسر عرفات واغتياله، وكان الرد على اعتدال ومرونة خليفته المزيد من التطرف والعدوان الإسرائيلي وتجاوز اتفاق أوسلو والمفاوضات، وقتل ما سمي “عملية السلام”.

وفي هذا السياق، لم تحفظ معاهدة وادي عربة وحدة الأردن وسلامته؛ لأنها لم تدفن مخطط الوطن البديل؛ أي حل القضية الفلسطينية على حساب الأردن، بل إن أنصار هذا الحل هم الآن في إسرائيل أقوى من أي وقت مضى، والرعاية الهاشمية للمقدسات منتهكة بالاقتحامات والتقسيمَيْن الزماني والمكاني للأقصى تمهيدًا لهدم الأقصى وبناء هيكل سليمان بدلًا منه.

كما أن الاتفاقيات الإبراهيمية لم تشجع إسرائيل على السلام أو تخفيف سياساتها العدوانية، بل تربعت بعدها في إسرائيل حكومة هي باعتراف الجميع وأصدقاء إسرائيل قبل أعدائها الأكثر تطرفًا مقارنة بكل الحكومات الإسرائيلية السابقة، ويكفي أنّها لأول مرة طرحت الضم في البرنامج الذي شكلت على أساسه.

كل ما سبق يوضح أن التطبيع، خصوصًا إذا وصل إلى محطته الأخيرة بالشروط والظروف المطروحة حاليًا، خطوة لن تمكّن السعودية من تحقيق رؤية ولي العهد الطموحة، بل ستحد من فرص نجاحها، فضلًا عن أنها ستصب الزيت على نار الأزمات والحرائق المندلعة في المنطقة، وأهمها الملف النووي الإيراني، والتقدم في دور إيران وحلفائها الذين لن يقفوا مكتوفي اليدين أمام التطبيع الزاحف، الذي وصفه الرئيس الإيراني إبراهيم رئيسي في خطابه الأخير في الأمم المتحدة بالخيانة للقضية الفلسطينية.

هل السعودية في عجلة من أمرها للتطبيع؟

على الرغم من كل ما تقدم، هل التطبيع حتمي وسريع وخلال ستة أشهر، كما قال إيلي كوهين، وزير الخارجية الإسرائيلي. ليس من السهل بلع ذلك، فالسعودية ستفكر أكثر من مرة قبل الإقدام عليه عشية حملة انتخابية أميركية فرص فوز الرئيس جو بايدن فيها ليست قوية كما تشير الاستطلاعات الأميركية، فلماذا منح هذه المكافأة الكبيرة لرئيس راحل، بل يمكن الانتظار ومنحها لرئيس قادم العلاقات معه إذا كان دونالد ترامب أحسن من الحالي، وإذا كان مرشحًا آخر من الحزب الجمهوري فعلاقات السعودية مع الحزب الجمهوري أفضل من الحزب الديمقراطي الذي يشهر في وجهها مسائل عديدة، منها مسألة حقوق الإنسان .

إنّ التطبيع مع أكثر حكومة سوءًا وتطرفًا في إسرائيل لن يزيد من رصيد السعودية الباحثة عن دور عالمي، بل سيأكل من رصيدها ومكانتها؛ لأنها ستبدو أنها باعت القضية الفلسطينية بثمن بخس مقابل مصالح سعودية ضيقة لأفراد وليس للبلد، في الوقت الذي يمكن أن تحصل عليها من دون هذا الثمن الباهظ، فخطر الحرب مع إيران تراجع، ويمكن الحصول على برنامج نووي متقدم من الصين أو روسيا، ويمكن أن تنتظر السعودية إلى حين تشكيل حكومة إسرائيلية أقل تطرفًا يمكن أن توافق على إعطاء شيء ما يحفظ ماء وجه السعودية والقيادة الفلسطينية، من دون الرهان على استجابتها للحقوق الفلسطينية في حدها الأدنى، فلا يوجد شريك إسرائيلي للسلام من هنا وحتى تتغير خريطة القوى داخل إسرائيل.

كما يبدو أن القيادة الفلسطينية أخذت درسًا من موقفها السابق العنيف عند عقد الاتفاقات الإبراهيمية، حين وصفت الاتفاق الإماراتي بالخيانة والطعنة في الظهر، ثم تراجعت عن ذلك من دون إعلان، في حين كان المطلوب ولا يزال لا تخوين ولا مشاركة وتوفير غطاء، بل معارضة واعية.

القيادة الفلسطينية شريك التطبيع في الخفاء

قررت القيادة الفلسطينية على ما يبدو القبول بأن تكون شريكًا بالباطن مع السعودية حتى تحقق أي مكاسب ممكنة، حتى لو كانت ضمن سقف تحسين حياة الفلسطينيين على أساس أن إنقاذ ما يمكن إنقاذه خير من خسارة كل شيء، وهذا يظهر بشكل مباشر من خلال الثقة المعلنة بصورة مبالغ فيها بالموقف السعودي، من دون توضيح نتائج اللقاءات السعودية الفلسطينية، مع تسريبات أن المطالب الفلسطينية أقل من الخطابات الرسمية المعلنة.

كما يظهر ذلك بشكل غير مباشر في خطاب الرئيس في الأمم المتحدة، الذي لم يتطرق إلى التطبيع القادم، مع أنه الترند الأول في كل نشرات الأخبار، فأخباره وصلت كل الأصقاع، ولم يحدد المطالب الفلسطينية ولم يربطها بما يجري التباحث حوله، بل أبقى حبل الأمل بأن تطبق الأمم المتحدة ولو قرارًا واحدًا من قراراتها التي تجاوزت الألف، الذي هو في الحقيقة استمرار للوهم القديم المتجدد بظروف أسوأ، فالمؤسسات الدولية مع أهمية العمل فيها ووضعها أمام مسؤولياتها في مرحلة انهيار النظام العالمي القديم وقبل ولادة النظام الجديد أبعد ما تكون عن تطبيق قرار واحد، فلماذا استمرار الرهان على ما لا يمكن الرهان عليه، إلا إذا كان “وراء الأكمة ما وراءها”؟

هناك فرصة لاستدراك الموقف من خلال بلورة المطالب الفلسطينية وتقديمها إلى المبعوث السعودي السفير نايف بن بندر السديري، الذي من المتوقع أن يصل رام الله اليوم لتقديم أوراق اعتماده.

مطلوب تغيير خطاب الرهانات الخاطئة

كان يمكن توظيف منبر الأمم المتحدة ليس للشكوى وطلب الحماية، وتكرار البدهيات والرهانات الخاطئة والخاسرة، وإنما لطرح رؤية جديدة وطنية واقعية شمولية تراهن أولًا وأساسًا على الشعب وتوحيد قواه، وعلى ممارسة أشكال المقاومة الشاملة، وتضع سدًا عاليًا أمام أي تطبيع سيمكن إسرائيل (لأنه سيفتح الأبواب لتطبيع بلدان عربية وإسلامية أخرى) من مواصلة تطبيق خطة إقامة إسرائيل الكاملة على جثة الحقوق الفلسطينية الكاملة، بما فيها إقامة دولة فلسطينية.

قيل بحق إن السلم يبدأ بفلسطين والحرب تبدأ بفلسطين، ولن يضيع الحق الفلسطيني ما دام الشعب الفلسطيني على أرضه وفي الشتات وأماكن اللجوء متمسكًا به، ويناضل لتحقيقه، وما دامت الشعوب العربية وقطاعات متزايدة من البلدان والأحزاب والنخبة والرأي العام العالمي معه، وذلك من خلال التمسك بالحقوق والأهداف، والنضال لتغيير الحقائق على الأرض، وليس الاستسلام لها، من دون مغامرة ولا تهور، حتى تنعكس لاحقًا على الاتفاقات والقرارات التي ستعقد وستصدرها الأمم المتحدة، وستكون لها القدرة في هذه الحالة على التطبيق.

مبادرة السلام بديل أم غطاء واستكمال للتطبيع

أخيرًا، لا بد من الإشارة إلى أن إطلاق مبادرة السلام التي يرعاها كل من السعودية والاتحاد الأوروبي والجامعة العربية ومصر والأردن، على هامش اجتماعات الأمم المتحدة، في الوقت نفسه الذي تجري فيه مباحثات حثيثة للتطبيع، ستكون عمليًا إذا لم تفصل نفسها كليًا عن التطبيع الذي يدفن السلام، وبغض النظر عن نوايا بعض المشاركين، غطاءً للتطبيع وللتنازلات التي تقدم على طريقه، وليس بديلًا منها، وإنما استكمالًا لها.

اقرأ/ي أيضًا: الرئيس عباس لم يخرج عن النص هذه المرة

Exit mobile version