الاتفاق الفلسطيني السعودي: “من طقطق إلى السلام عليكم‎”

أقلام – مصدر الإخبارية 

أكتب هذا المقال الذي يعرض قصة الاتفاق السعودي الفلسطيني من “طقطق إلى السلام عليكم”، وأنا أتمنى أن المعلومات الواردة فيه، على الرغم من أنها تستند إلى مصادر عدة إعلامية وسياسية مطلعة، غير صحيحة، أو تنقصها الدقة؛ لأنها إذا كانت صحيحة فهي تعني أن التطبيع السعودي قادم قادم، فهو بدأ ويمكن أن يصل إلى محطته الأخيرة سريعًا، أو بعد حين، وأن هناك أكثر من غطاء فلسطيني له، مع أنه لا يتضمن إنهاء الاحتلال ولا دولة فلسطينية.

منذ أشهر عديدة، بدأت مباحثات فلسطينية سعودية شارك فيها الرئيس محمود عباس في الزيارة التي قام بها إلى السعودية في نيسان الماضي، وطلب فيها ولي العهد السعودي محمد بن سلمان من السلطة تقديم تصور للحفاظ على “حل الدولتين” و”الحفاظ على فرص السلام”، من خلال فتح أفق سياسي، إضافة إلى مباحثات أخرى شارك فيها وفد فلسطيني برئاسة حسين الشيخ، الذي التقى بنايف السديري، السفير السعودي في الأردن مرات عدة، قبل وبعد تعيينه سفيرًا لدى فلسطين، وقنصلًا غير مقيم في القدس.

تم تتويج الأمر كله باللقاءات التي عقدها وفد فلسطيني زار السعودية في أوائل أيلول الماضي، على أن يجمل نقاط الاتفاق التي خلصت إليها المباحثات، وتم ذلك واتُّفق على اعتبار الورقة الفلسطينية مرجعية للطرفين.

توقعات عالية وخيبة أمل كبيرة

لقد بدأت القيادة الفلسطينية المباحثات مع القيادة السعودية بسقف عالٍ؛ حيث اعتقدت أن تطبيع بلد عربي بمكانة وأهمية السعودية لا بد من أن يوفر فرصة كبيرة بأن تتضمن الصفقة الجاري التباحث حولها مكونًا فلسطينيًا مهمًا، خصوصًا أن حاكم الرياض اختار أن يشارك الفلسطينيون بما ينوي عمله، وهو يريد تأييدهم؛ نظرًا إلى أهمية ذلك في تسويق الصفقة السعودية الأميركية التي تتم مناقشتها برعاية أميركية.

تأسيسًا على التوقعات العالية، طرح الجانب الفلسطيني ضرورة أن تكون مبادرة السلام العربية هي الأساس للتعامل مع القضية الفلسطينية. ولكن المفاجأة كانت في أن الجانب السعودي كان يبحث عن مصالحه، ويركز على مطالبه الخاصة بالمفاعل النووي المتقدم، ومعاهدة الدفاع المشترك، والأسلحة المتقدمة، ولا يضع القضية الفلسطينية ضمن أولوياته، بدليل أنه وافق على أن تكون المبادرة أساس العملية الجارية، ولكن بإجراء تعديل “بسيط” قلب الموقف رأسًا على عقب؛ إذ اعتبر أنه يجب ألا تكون المبادرة العربية نقطة البداية، بل الهدف النهائي الذي يجري العمل من أجل تحقيقه. وكما قال عبد الرحمن الراشد في مقاله الأخير “التفاوض السعودي الإسرائيلي” المنشور في صحيفة “الشرق الأوسط: “إن المسار السعودي قد لا يحقق دولة فلسطينية، كونه مثل كل الاتفاقات الثنائية سيقوم على المصالح الثنائية مثلما قامت”، ومثله قال محلل شهير مؤيد للموقف السعودي بأنه يمكن للمبادرة العربية أن تتحقق خلال 5 أو 10 أو 15 سنة.

استند السعوديون في موقفهم السابق إلى تقدير فلسطيني ذُكِرَ سابقًا في الورقة الفلسطينية المقدمة إليهم حول صعوبة التوصل إلى حل نهائي، خاصة في مواضيع الدولة والقدس واللاجئين، مشددًا على ضرورة استغلال الفرصة الحالية، من خلال تحسين الموارد والأحوال المعيشية؛ ذلك لأن الحكومة الإسرائيلية الحالية لا يمكن أن توافق على المبادرة العربية ولا حل الدولتين.

نعم، ليس واقعيًا البدء من هنا؛ ولكن هذا لا يمكن تبريره مع أنه إن حدث سينسف المباحثات من أول لقاء بسبب رفض الحكومة الإسرائيلية، فهل هذا السقف هو ما تقبل به الحكومة الكهانية. كما أن القيادة الرسمية موقفها ضعيف جدًا؛ لأنها تتعامل مع الحكومات الإسرائيلية الأخيرة ضمن سقف منخفض، وهو السلام الاقتصادي، من دون بعد سياسي، لدرجة أن مسؤولًا فيها قال إن السلطة مستعدة لوقف خطواتها الأحادية (والمقصود بها التدويل واللجوء إلى المحاكم الدولية وتبني المقاومة السلمية) إذا أوقفت إسرائيل خطواتها الأحادية!!

تسوية انتقالية – أوسلو 2

لذا، كان المخرج البائس – وفق المصادر المطلعة – الذي اتفق عليه الجانبان الفلسطيني والسعودي هو الاتفاق على تقديم “مطالب واقعية مقبولة” قابلة للتحقيق، والمطالبة بالتوصل إلى تسوية انتقالية جديدة لمدة ثلاث سنوات (أوسلو 2)، يتم خلالها خلق الأجواء الإيجابية الضرورية لتطبيق المبادرة العربية، والتركيز على تطبيق 14 التزامًا إسرائيليًا في اتفاق أوسلو لم تنفذ، مثل (النبضة الثالثة: وقف الاستيطان، وعدم بناء بؤر استيطانية جديدة، وعدم شرعنة البؤر القائمة، ونقاط عديدة في بروتوكول باريس الاقتصادي لم تطبق، واحترام هيبة السلطة، خصوصًا بعدم اقتحام المدن المصنفة (أ)، المفترض أنها تحت سيطرتها بالكامل، وإطلاق سراح الأسرى المعتقلين ما قبل أوسلو … إلخ).

واللافت أن الجانب السعودي طالب السلطة أيضًا وفق المصادر بتقديم تنازلات جديدة، من خلال تقديم اقتراحات محددة توضح ما المقصود بوقف الاستيطان، وما يمكن تحويله من مناطق (ج) إلى مناطق (أ)، ورأى أن الآلية المناسبة لتنفيذ ما تم الاتفاق عليه بين الرياض ورام الله هو البناء على اتفاقات شرم الشيخ والعقبة للاتفاق على ترتيبات أمنية وعلى المرحلة الانتقالية الجديدة بوجود جهات دولية ضامنة، وهذا يتطلب عقد اجتماعات جديدة. إنّ خفض السقف منذ البداية يدفع حكومة نتنياهو إلى المزيد من التطرف.

مباحثات أميركية فلسطينية فاشلة

حتى تكتمل الصورة، جرت، إلى جانب المباحثات السعودية الفلسطينية، مباحثات أميركية فلسطينية في رام الله وعمّان، والسعودية نفسها شارك فيها (معلومة بحاجة إلى تأكيد) الوفد الفلسطيني وباربارا ليف، مساعدة وزير الخارجية، في لقاءات عمّان والقاهرة، وبريت ماكغورك، كبير مستشاري الرئيس جو بايدن، في السعودية؛ إذ جاء في الموقف الأميركي ضرورة تقديم مطالب فلسطينية “واقعية” للسعوديين والأميركيين حتى تساهم في التوصل إلى اتفاق سعودي إسرائيلي.

فعلى سبيل المثال، كانت هناك طلبات فلسطينية بضرورة عدم استخدام الفيتو في مجلس الأمن يمنع حصول الدولة على العضوية الكاملة، وفتح مكتب منظمة التحرير في واشنطن، وإزالتها من قائمة الإرهاب، وفتح القنصلية الأميركية في القدس، بما يعني البدء الأميركي بالاعتراف بالدولة الفلسطينية، وتقديم المساعدات مباشرة إلى السلطة، والضغط على إسرائيل لإيقاف العقوبات المالية على السلطة، وغيرها.

كان الرد الأميركي على تلك الطلبات سلبيًا تمامًا، فالاعتراف بالدولة – وفق الأميركيين – خطوة لا بد أن يُتفق عليها بالتفاوض، وهي ليست نقطة بداية، وإنما نقطة نهاية. أما مسألة المساعدات وفتح مكتب المنظمة وإزالتها من قائمة الإرهاب فتحتاج إلى تغيير قوانين أميركية، وهذا يستغرق وقتًا. وحينما التزمت إدارة بايدن بحثّ الدول المانحة على الاستمرار في دعم السلطة الفلسطينية، واستئناف الدعم من تلك الدول التي أوقفته مثل السعودية؛ كان الرد السعودي بأننا لسنا جمعية خيرية، ولن نقدم مساعدات على بياض، وأي مساعدات ستأتي وستكون ضخمة، ولكن في سياق عملية سياسية تبدأ بعد التطبيع.

ولعل الأخبار عن دعم سعودي للسلطة بمبلغ 170 مليون دولار (أقل من المبلغ الذي مُنح للاعب رونالدو)، منها 70 مليون للأمن و100 مليون لميزانية السلطة، أول الغيث، ومكافأة للموقف الإيجابي للسلطة من الجهود المبذولة للتطبيع السعودي. والمطلوب منها ألا تكتفي بعدم الرفض، بل التأييد وحتى المشاركة.

أما النقاط الأخرى فستأتي لاحقًا أو تُطبق، فمثلًا المكتب الفلسطيني الموجود حاليًا في السفارة الأميركية منفصل عنها ويقدم تقاريره إلى الخارجية الأميركية مباشرة.

الخلاصة: أوضح حاكم الرياض موقفة في مقابلته مع فضائية فوكس نيوز، بأن القضية الفلسطينية مهمة، ولكنه حصر الأمر في الحديث عن تحسين أحوال الفلسطينيين، ولم يذكر مبادرة السلام ولا الدولة الفلسطينية ولا أي شيء آخر، وعندما يذكر كل من وزير الخارجية السعودي والسفير السديري المبادرة والدولة فيكون ذلك ضمن الفهم الذي عرضناه آنفًا.

الرياض وافقت على صفقة ترامب

إذا عدنا بالذاكرة إلى الوراء سنوات قليلة، نتذكر أن الرياض وافقت على صفقة ترامب وغضبت من الرئيس الفلسطيني لأنه عارضها، وأوقفت المساعدات التي تقدمها إلى السلطة، وهي صفقة على سوئها الشديد لم تقرها الحكومة الإسرائيلية، وهي أقل سوءًا مما هو مطروح الآن، فهي فيها دولة فلسطينية وحدود ولو شكلًا، بينما المطروح محاولة إحياء أوسلو عبر تسوية انتقالية، وتجاهل أن التسوية الانتقالية القديمة استمرت حتى الآن أكثر من ثلاثين عامًا وكانت المعطيات والظروف أفضل مما هي عليه الآن ولم تؤد إلى الدولة، بل إن إمكانية تحقيقها باتت أبعد وأصعب إن لم تكن انتهت.

كما أن الاتفاقات الإبراهيمية لا يمكن أن تُوقّع من دون ضوء أخضر سعودي، وما يجري من تطبيع تدريجي سعودي يدل بصورة واضحة إلى أين تسير الأمور، مثل: فتح المجال الجوي، واللقاءات السرية، والتعاون العسكري والأمني، وزيارة وزيري السياحة والاتصالات.

كما أن موافقة السعودية على الممر الاقتصادي لا تقل أهمية عن التطبيع، وهو يدل على انحياز سعودي لمشروع يمكن أن يؤثر سلبيًا في مشروع “الحزام والطريق” الصيني، وفي مصر ولبنان وسوريا وتركيا وإيران وروسيا.

لا يعني ما سبق أن الطريق للتطبيع سالكة، بل إن المطالب السعودية، خصوصًا فيما يتعلق بتخصيب اليورانيوم دورة كاملة له صيغ عدة محل نقاش، لضمان عدم إنتاج قنبلة نووية سعودية، وكذلك هناك صيغ عدة لمعاهدة الدفاع ما بين صيغة حلف الناتو إلى معاهدة البحرين، وما بينهما من معاهدتي كوريا واليابان، وأحد المخارج المطروحة التي أشار إليها نتنياهو هي أن يتم التطبيع السعودي بصورة متدرجة؛ إذ يتم الاتفاق أولًا على اتفاق إطار (إعلان مبادئ) حتى تنضج الأوضاع الأميركية والسعودية والإسرائيلية لإبرام معاهدة سلام وتبادل السفراء، وهذا ما يؤكده تصريح جون كيربي، المتحدث باسم مجلس الأمن القومي الأميركي، بأن المباحثات الرامية إلى تطبيع العلاقات بين إسرائيل والسعودية توصلت إلى إطار سياسي لاتفاق مستقبلي؛ إذ وضع الطرفان هيكلية أساسية لما يمكن السير باتجاهه، ويتعين على الجميع تقديم تنازلات؛ لأن الاتفاق معقّد، وهذا ما أشارت إليه وكالة رويترز، التي بيّنت التقدم في المباحثات، وأكدت أن المباحثات باتت مرهونة بالاتفاق الدفاعي.

نفاق الكثير من الكتاب والمحللين

أعرف أن انتقاد السعودية ليس أمرًا هينًا، وله ثمن، لذلك نرى بعض المعلقين الذين كانوا مشهورين بانتقاداتهم اللاذعة لسياسة الرياض يتحلون حاليًا بالموضوعية، ويتحدثون عن احتمالين في تفسير الموقف السعودي: الأول أن مرونة السعودية ما هي إلا مناورة، ولا يمكن لها أن تُقدِم على صفقة تضعف إمكانية قيامها بدور قيادي في المنطقة والعالم، والآخر أن السعودية حسمت أمرها، والبحث جار حول الثمن والتوقيت والتفاصيل، وأن ما قامت به من لعب على المعسكرين الشرقي والغربي ما هو سوى تكتيك لتحقيق أفضل صفقة ممكنة تكرس الاصطفاف التاريخي.

إن الهبوط بالموقف الفلسطيني والسعودي حصل، وحث الرياض الفلسطينيين على انتهاز فرصة ولاية بايدن له مغزى كبير، سواء إذا تمت الصفقة أو لم تتم، وما قدم في المباحثات سيكون نقطة البدء بأي مباحثات قادمة.

أنهي ما بدأت به وأتمنى ألا تُقدم السعودية على التطبيع على حساب دورها المنتظر، وعلى حساب القضية الفلسطينية بادعاء أن الدولة الفلسطينية ستأتي لاحقًا؛ أي لا تعقد الصفقة بهذا الثمن البخس، خصوصًا أن إسرائيل في أضعف حالاتها، ونتنياهو تحديدًا في أضعف لحظات حياته، وأميركا لم تعد سيد الأرض المنفرد، فحتى الحديث عن وقف إصدار قرارات جديدة لتوسيع الاستيطان، حتى لو وافق عليه نتنياهو، لا معنى له. فقد صادقت حكومته على بناء 50 ألف وحدة استيطانية في القدس والضفة، وليست بحاجة إلى إصدار قرارات استيطانية جديدة، وكذلك لا معنى لطلب تحويل جزء من مناطق (ج) إلى (أ) أو من (ب) إلى (أ)؛ لأنه لم يعد هناك فرق بين هذه المناطق المستباحة من قوات الاحتلال منذ عملية السور الواقي وحتى الآن.

من يريد مبادرة السلام على الرغم مما تنطوي عليه من اعتراف بالكيان الاستعماري الاستيطاني على 78% من فلسطين وحل الدولتين، عليه أن يوحد ويقوي الموقف الفلسطيني، من خلال إعطاء الأولوية لإنهاء الانقسام واستعادة الوحدة، واعتماد برنامج واقعيّ، ولكن لا يستسلم للواقع، بل يسعى إلى تغييره، وإقامة حكم رشيد يكافح الفساد، ويعتمد الانتخابات على كل المستويات بشكل دوري ومنتظم، ويجمع أوراق القوة والضغط الفلسطينية والعربية والدولية، ويوظفها لخلق حقائق جديدة على الأرض، وتغيير موازين القوى؛ حيث تفرض الحقوق الفلسطينية نفسها على دولة الاحتلال، سواء عبر المفاوضات أو من دونها.

المستغرب كتابات كتاب ومثقفين وصحفيين يكيلون كل الانتقادات للقيادة الفلسطينية، ويمدحون أو يتجنبون أي انتقاد للموقف السعودي، ولسان حال بعضهم يبرر ذلك بأن كل الحق على القيادة الفلسطينية، وهي تتحمل المسؤولية فعلًا، ولكنها لم تكن لتصل إلى ما وصلت إليه لولا أن النظام العربي منهار وتابع ودوله استبدادية يدفعها دفعًا إلى هذا الطريق؛ حتى يلومها ويتنصل من مسؤولياته، ولما يمكن أن توصل إليه.

قيادة فلسطينية جديدة تتخلى عن الحل السياسي

الآن، بات المطلوب قيادة فلسطينية جديدة أو تطويع القيادة الحالية أكثر وأكثر حتى لا تطرح الحل السياسي ولا تنبس ببنت شفة عن الحقوق الوطنية، بل تتناول فقط القضايا الإنسانية والمعيشية، مثل تصاريح العمل ولم الشمل ومشاريع اقتصادية … إلخ. وهذا نفسه طرحه نتنياهو وأسماه “السلام الاقتصادي”، ويسميه إسرائيليون آخرون “سلامًا مقابل سلام”، وهذا هو الحل الإسرائيلي الذي لا يقود إلى دولة واحدة ديمقراطية، ولا إلى تحقيق الحقوق المدنية، بل إلى دفن الخيار الفلسطيني، والتمهيد إلى الخطوة اللاحقة، وهي تهجير المزيد من الفلسطينيين إلى الأردن وسيناء وبلدان لجوء جديدة.

اقرأ/ي أيضاً: العلمانيون يغارون منا! بقلم: توفيق أبو شومر

مسؤوليتنا لابقاء القضية الفلسطينية حجر زاوية السياسة العربية

أقلام – مصدر الإخبارية 

القضية الأساسية التي تتصدر الأوضاع الشرق الأوسطية باتت تتمركز في الجهود الأمريكية المبذولة لاحتمالات تطبيع العلاقات بين المملكة العربية السعودية واسرائيل، و يأتي ذلك في اطار حاجة ادارة بايدن لإنجازٍ قد يبقيه في البيت الأبيض.

وفي سياق هذه الجهود يعود الحديث عن مكانة القضية الفلسطينية في السياسة السعودية ازاء دورها الاقليمي وشروطها ازاء متطلبات التطبيع التي باتت معلنة .

صحيفة الفاينانشيال تايم كشفت أن السعودية تسعى للحصول على تنازلات من الولايات المتحدة، بما في ذلك ضمانات أمنية ودعم لبرنامج نووي مدني والحصول على أسلحة، مقابل تطبيع العلاقات مع “إسرائيل”.

كما نقلت الصحيفة الأمريكية عن مسؤولين سعوديين أن المملكة ستحتاج أيضاً إلى خطوة إيجابية كبيرة من “إسرائيل” تجاه الفلسطينيين، على الرغم من أنهم لم يوضحوا ما سيترتب على ذلك. وفق ما نقلت BBC عن فايننشال تايمز.

توماس فريدمان، كاتب العمود في صحيفة نيويورك تايمز، كتب بعد اجتماعه مع بايدن، “أن المطالب السعودية من إسرائيل يمكن أن تشمل وقف التوسع الاستيطاني، وتعهداً بعدم ضم الضفة الغربية المحتلة”.

ولي العهد السعودي محمد بن سلمان وفي مقابلته الشهيرة مع فوكس نيوز أكد أن المفاوضات حول هذا الأمر تتقدم يومياً، والسؤال هو ما الذي يتقدم حول مطالب السعودية من الولايات المتحدة لانجاز التطبيع. اسرائيل التي ترى في هذا التطبيع انجازها التاريخي الأهم بعد انشاء اسرائيل والنكبة الفلسطينية عام 1948، أعلنت وعلى لسان مستشار أمنها القومي تساحي هنغبي رداً على سؤال حول التنازلات الإسرائيلية المحتملة، قال هنغبي “إن إسرائيل لن تقبل بأي شيء يقوض أمنها”. لكنه قال: “إن بلاده لن تقلق من احتمال تطوير السعودية قدرات نووية مدنية”.

ذلك في اشارة واضحة إلى أن اسرائيل ليس فقط ماضية في خطة الحسم والضم، وهو الأمر الذي أكده نتانياهو في كلمته أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة بابرازه خارطة فلسطين باعتبارها خارطة اسرائيل الكاملة منذ العام 1948، بل وأيضاً فإن حديث هنغبي يحمل في طياته تحفظات اسرائيلية على تزويد السعودية بأسلحة متطورة تشمل طائرات F35، التي تسعى السعودية لامتلاكها من الولايات المتحدة.

المملكة العربية السعودية هي صاحبة مبادرة السلام العربية، والسؤال هو إلى أي مدى يمكن للقيادة السعودية أن تظل متمسكة بهذه المبادرة ؟ ، والتي جدد التأكيد عليها كل من وزير خارجيتها أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة، وكذلك السفير السعودي عند تقديم أوراق اعتماده للرئيس الفلسطيني في رام الله، وكيف للقيادة الفلسطينية أن تكون عوناً لها في ذلك؟ وهل يمكن للدبلوماسية السعودية تحقيق أي اختراق على هذا الصعيد، سيما في ظل حكومة العنصرية الفاشية بزعامة الثلاثي” نتانياهو – سموترتش – بن غفير ” ؟

ادارة بايدن التي تقود مفاوضات التطبيع تعلن في كل مناسبة رفضها للاستيطان وخطة الضم، إلا أنها حتى اللحظة لم تتمكن من إلزام اسرائيل بوقفهما، بل فهما يتمددان يومياً. صحيح أن الولايات المتحدة هي الدولة الوحيدة القادرة على وضع حد لسياسة التوسع الاستيطاني، الأمر الذي يشير إلى أنها لم تستخدم ثقلها بعد لتحقيق ذلك، أو أنها هي أيضاً لم تعد قادرة على الزام اسرائيل به.

يبقى السؤال الأهم وهو كيف ستتصرف القيادة الفلسطينية في هذه العملية المتدحرجة ؟ فمن الواضح أن مكانة القيادة الفلسطينية على الصعيدين العربي والدولي، وكذلك على الصعيد الداخلي حيث الانقسام والعزلة الشعبية التي تعاني منها، هي أضعف من أن تكون لاعباً مؤثراً في اتجاهات المفاوضات الجارية رغم ما تظهره القيادة السعودية من حرص على تنسيق موقفها ازاء المكون الفلسطيني في مفاوضات التطبيع التي تقودها الولايات المتحدة.

فتسليم القيادة الفلسطينية بأنها لا تتوقع إمكانية الحصول على اعتراف اسرائيلي بدولة فلسطينية في ظل الأوضاع الراهنة يشكل مؤشراً خطيراً يعفي حكومة الضم العنصرية من جوهر التعامل مع مبادرة السلام العربية، والتي باتت مكوناً من قرارات الشرعية الدولية، و تقوم على معادلة الاعتراف والتطبيع مقابل الانسحاب الكامل من الأراضي الفلسطينية والعربية المحتلة، وتمكين الفلسطينيين من إقامة دولتهم المستقلة ذات السيادة على حدود عام 1967وعاصمتها القدس الشرقية، والتوصل لحل عادل لقضية اللاجئين وفقاً للقرار 194.

صحيح أن القيادة الفلسطينية ليست في وضع يمكنها من التعارض مع المصالح السعودية، وهذا غير مطلوب على الأقل في ضوء نتائج سلوكها من اتفاقات التطبيع السابقة، ولكن بالتأكيد أن مبرر بقاء القيادة الفلسطينية ادعاء كونها الممثل الشرعي الوحيد للشعب الفلسطيني وقضيته العادلة يفرض عليها عدم التنازل في علاقاتها مع مختلف دول العالم عن المصالح الوطنية العليا للشعب الفلسطيني وحقوقه المشروعة كما عَرَّفتها الشرعية الدولية، وفي مقدمتها حقه في انهاء الاحتلال وممارسة حقه في تقرير المصير، وأعتقد أن المملكة العربية السعودية ستحترم هذا الموقف من منطلق حرصها على القضية الفلسطينية ومكانتها العربية والاسلامية .

ومن البديهي أن قدرة القيادة الفلسطينية على التمسك بهذا الموقف يفرض عليها استحقاقات باتت معلومة للقاصي والداني، وفي مقدمتها استعادة الوحدة واستنهاض قدرة الشعب الفلسطيني على رفض ومجابهة مخططات اسرائيل لتصفية قضيته وحقوقه الثابتة. وأن أي تأخير في تحقيق ذلك إنما يضع القيادة الفلسطينية في موضع المسؤولية التاريخية عن امكانية نجاح اسرائيل في تحقيق مخططاتها، و فتح شهيتها للتقدم نحو محاولة تصفية الحقوق الفلسطينية .

هذا على الصعيد الاستراتيجي، أما على الصعيد التكتيكي ولكشف نوايا اسرائيل الحقيقية فإن عشرات المطالب الفلسطينية يمكن ابرازها بالاضافة للتمسك الصارم بوقف شامل للاستيطان وتهويد القدس، بما يشمل، وضمن قضايا أخرى، إلزام اسرائيل بحق المقدسيين المشاركة في الانتخابات كما جرت في ثلاث مرات سابقة، واعادة فتح بيت الشرق وباقي المؤسسات الفلسطينية في القدس، وفتح الممر الآمن بين الضفة والقطاع تأكيداً على التمسك بوحدة الكيانية الفلسطينية وباقامة دولة فلسطينية وعاصمتها القدس المحتلة على حدود 1967، والتوقف عن اجتياحات المدن والبلدات الفلسطينية وارتكاب جرائم القتل على يد الجيش والمستوطنين، واطلاق سراح الأسرى والغاء القيود الاسرائيلية على دفع السلطة الوطنية لمستحقاتهم أي نزع محاولات اسرائيل وسم نضالهم بالارهاب، و التوقف عن قرصنة أموال المقاصة تحت هذه الذريعة أو غيرها، واعادة الشرطة الفلسطينية على الجانب الفلسطيني من معبر جسر الملك حسين، واعادة النظر باتفاقية باريس المجحفة، وبما يستجيب لاحتياجات بناء وتطوير الاقتصاد الوطني الفلسطيني، وقبل ذلك قبول اسرائيل والولايات المتحدة بعقد مؤتمر دولي للسلام على أساس الالتزام بقرارات الشرعية الدولية ذات الصلة بالقضية الفلسطينية بهدف تطبيقها، وليس مجرد العودة لمفاوضات عبثية حول ما اذا كان لدينا حقوق وطنية أم لا، أو ربط ذلك بالموافقة الاسرائيلية من عدمها كما جرى خلال العقود الثلاث الماضية.

القضية الفلسطينية ما زالت تسكن في قلوب الشعوب العربية، إلا أن وحدة واستنهاض طاقات الشعب الفلسطيني لمواجهة المخططات العدوانية الاسرائيلية هو الذي يجعل هذه القضية لدى الأشقاء العرب أكثر من مجرد مشاعر ساكنة.

اقرأ/ي أيضاً: الإرهابيون يستعجلون زوالهم.. بقلم عصام شاور

فتى الرواية السورية الجميل.. بقلم: راسم المدهون

أقلام – مصدر الإخبارية 

منتصف التسعينيات، تعرفت على خالد خليفة الكاتب الشاب في تلك الأيام، وصاحب رواية أولى “حارس الخديعة”. كان لافتًا ومهمًا عندي ما قاله لي الروائي الراحل هاني الراهب الذي عرّفني على خليفة: انتبه لخالد.. إنه أمل الرواية السورية القادم بقوة. لاحقًا صرت وخالد خليفة صديقين، وأذكر أن عمق لقاءاتنا وأهمية صداقتنا كانت بعد نشر مقالتي عن روايته الجميلة، والتي أطلقت اسمه بقوة في عالم الرواية، وأعني “دفاتر القرباط”، وهي المقالة التي أشارت للجماليات الفنية والبناء الروائي المتماسك والمشحون بالدراما، والتي لا أزال أعتقد أنها تحتل مكانتها الخاصة بين رواياته جميعًا.

خالد خليفة الصديق والكاتب هو عندي صورة حلب، وهو بمعنى ما ابن العشق الحلبي الفائق للحياة، والذي اعتدنا أن نلمسه في تراث حلب الفني، تمامًا كما عرفناه من عشق أهلها للفنون جميعًا، وبالذات الموسيقى والغناء، ولعل ملامح المدينة التاريخية العريقة قد وجدت طريقها إلى حضور خالد خليفة الشخصي وعشقه العميق للحياة بكل أبعادها، بل حتى في تماهيه مع أصدقائه الكثر، واعتبارهم جزءًا حميمًا من حياته.

في آخر لقاء لي مع خالد، أذكر أننا التقينا فجأة، على ناصية شارع في دمشق، فدعاني لأتناول معه “ساندويشتي” فلافل ساخنة، كنا خلال التهامهما نتحدث عن شيء واحد: كم أننا في تلك اللحظة كنا نتصرف كأننا من “القرباط”، أولئك الذين استدرجتهم مخيلة خالد خليفة إلى صفحات روايته “دفاتر القرباط”.

يغيب، وأغيب، وحين نلتقي بعد ذلك نحس أننا لم نغب، فهو قرأ جيدًا كل ما كتبت، وأنا “التهمت” ما حقق من روايات، وكان ولم يزل لافتًا بعد قراءة كل رواية له أن أقف مع جمالياتها الفنية ومعمارها الروائي الراقي، باعتباره حدثًا “عاديًا”، أي أنه لم يفاجئني أبدًا، وكأنني كنت أمشي خلال ذلك على المقولة الأولى التي كانت مفتتح تعرفي على خالد خليفة، والتي قالها لي الراحل الكبير هاني الراهب: خالد هو أمل الرواية السورية القادم بقوة.

هو، أيضًا، أحد أبرز من كتبوا الرواية، ليس في بلاده سورية وحسب، ولكن أيضًا على المستوى العربي، فذاكرتي تضعه في صورة مستمرة مع كوكبة من الأسماء الروائية العربية البارزة والمرموقة، والتي يقف فيها إلى جانبه من كتاب سورية الروائي الصديق خليل صويلح، أطال الله عمره، وكلاهما من جيل الرواية السورية الجديد الذين يؤكد وجودهم وتألق رواياتهم تجاوز الرواية السورية مكانتها الأولى إلى مقام أعلى وأرفع في الثقافة العربية عمومًا.

لعلّ أهم ما قدمته تجربة خالد خليفة الروائية هو الحفر العميق في “طبقات” المجتمع السوري، وما تحمله من تطورات تاريخية، ومن أحداث ووقائع لا تستقيم قراءتها إلا لكاتب روائي عميق الرؤية وبالغ الصبر يستغرق أعوامًا طويلة لكتابة تلك الحفريات الاجتماعية رواية كما فعل مع روايته “مديح الكراهية”. وأعتقد أنه في تلك الرواية كان الكاتب الذي يتوغل وراء الأحداث والبنى الاجتماعية، ويذهب نحو استنطاق الشخصيات بما هي دلالات كبرى، واضحة ومؤثرة على ظواهر اجتماعية ووجودية. ولم أستغرب أبدًا أن الراحل حين كتب أعمالًا درامية قد نجح أن تكون أعماله منتمية تمامًا، فنيًا وسردًا، إلى ما أسميه عادة “الرواية التلفزيونية”، كما فعل هو بالذات في مسلسله الشهير “سيرة آل الجلالي”، التي برعت في تشريح طبقة التجار وعوالمهم في مدينة حلب، وهي ميزة أعتقد أنه تفرَد بها بين زملائه من كتاب الدراما السوريين، ولفتت الانتباه إلى أعماله، باعتبارها مزجًا للأدب والدراما التلفزيونية على نحو فني جميل. وأهمية هذا يمكن الوقوف عليها من خلال تأمل المكانة الفنية للدراما خلال العقود الأخيرة، وبالذات في مرحلة نهوضها الكبير، وتبوئها مكانة عليا بين الدرامات العربية التي أصبحت حاضرة ومؤثرة في كل البيوت العربية.

الحديث عن الروائي الراحل خالد خليفة لا يستقيم من دون الحديث عن رحلته مع جوائز الرواية، خصوصًا “الجائزة العالمية للرواية العربية البوكر”، التي بدأت مع الدورة الأولى للجائزة، حيث وصل إلى القائمة القصيرة، وفاز يومها الروائي المصري بهاء طاهر بالجائزة، على أن جائزته الأهم في تقديري كانت في اختيار روايته “مديح الكراهية” ضمن قائمة “أهم 100 رواية في العالم في كل العصور”، وهو اختيار نادر لم يشاركه فيه من الروائيين العرب سوى نجيب محفوظ، وإلياس خوري، وإبراهيم عبد المجيد، وهو اختيار لم يكن ليتحقق إلا بعد ترجمة روايته لعدد كبير من اللغات العالمية، ومنها بالطبع اللغات الأوروبية الأبرز، الإنكليزية والفرنسية والإسبانية، ووصولها إلى أوسع دائرة من القراء.

خالد خليفة جاء إلى الأدب والكتابة في “زمن الرواية” وما شهدته الساحة الأدبية من منشورات روائية لا تحصى خلال العقود الثلاثة الماضية، لكنه نجح في تحقيق بصمته الكبرى التي لا تنسى على هذا الجنس الأدبي الجميل والصعب، والذي ظل دائمًا صنوًا ملازمًا للتاريخ والسياسة وعلم النفس كما لعلم الاجتماع، بالنظر لما يحمله الفن الروائي من توغل عميق في تلك الأقانيم كلها بحثًا عن وجوده وأدواته، بل وموضوعاته السردية، كما لا يحدث مع أي جنس أدبي آخر، فاختار أن يحقق تميزه، وأن يقدم براعته ورؤاه العميقة.

رحل خالد خليفة عن عالمنا قبل أن تطأ قدماه الستين من عمره، بعد أزمة قلبية مفاجئة، وقد رحل في ذروة عطائه وتألقه الفني هو المسكون بالأدب والكتابة، وبالرغبة في التعبير عن الحياة بكل أشكالها وتفاصيلها، لأنه خلال حياته الواقعية والروائية، على السواء، ظل ابن الحياة والناطق باسمها.

اقرأ/ي أيضاً: حكومة التطرف الأخطر والأكثر عنصرية

“كمين النمر”.. هل سيؤدّي إلى عملية سورٍ واقٍٍ 2؟

أقلام – مصدر الإخبارية 

تزايد الحديث الإسرائيلي بعد عملية “كمين النمر” الذي استخدمت فيه كتيبة جنين للمرة الأولى العبوات الناسفة لاستهداف رتلٍ من العربات المصفّحة الإسرائيلية المتطوّرة من نوع “نمير”، والذي أسفر عن تدمير مدرّعة بشكل كليّ، وأربع مدرّعات بشكل جزئي، وإصابة سبعة جنود إسرائيليّين.

فهذا الكمين المركّب الذي نفّذته المقاومة الفلسطينية في مخيم جنين، بقيادة كتيبتها، أحدث صدمة حقيقية لكل من المستوى العسكري والأمني في آن واحد، من حيث قدرة الكتيبة على تطوير قدراتها العسكرية والتقنية والاستخباراتية، رغم كل عمليات الاغتيال والملاحقة والاعتقال والاستهداف للكتيبة ضمن استراتيجية كاسر الأمواج الإسرائيلية التي ينتهجها الجيش الإسرائيلي منذ قرابة عامين ضد المقاومة في الضفة الغربية.

أما على المستوى السياسي المتمثل بالحكومة الإسرائيلية فعلى ضوء تلك المتغيّرات باتت تشعر بالقلق على فقدان ثقة نواتها الناخبة بها، وهم المستوطنون واليمين الديني، وباتت تفكّر بأعمال تعيد استرجاع ثقتهم، من خلال دعوة بعض أركان الحكومة الإسرائيلية لعملية عسكرية واسعة في شمال الضفة الغربية على غرار عملية السور الواقي التي نفذها الجيش الإسرائيلي عام 2002 والذي أعاد احتلال المناطق التي كانت تحت سيادة السلطة الفلسطينية. لكنّ عملية عسكرية إسرائيلية في شمال الضفة الغربية تداعياتها الأمنية والسياسية والعسكرية تحتاج إلى حسابات إسرائيلية معقّدة.

واعتبر معهد دراسات الأمن القومي الإسرائيلي أنّ أحد أكبر المخاطر لعملية واسعة النطاق في الضفة الغربية هو تسريع انهيار السلطة الفلسطينية، ومثل هذا الانهيار يتعارض مع مصلحة الأمن القومي الإسرائيلي. رغم أن معهد الأمن القومي الإسرائيلي معروف بارتباطاته الأميركية القوية، وموقفه الداعم لإيجاد حلّ سياسي لإنهاء الصراع من خلال خطة قدّمها المعهد قبل عامين تعتمد على إعادة الانتشار الإسرائيلي في الضفة الغربية، وتسليم بعض المناطق للسلطة الفلسطينية لإنشاء كيانية سياسية للفلسطينيين دون الدولة وأعلى من السلطة.

كلّ ذلك خوفاً من قتل حلّ الدولتين والانتقال الفعلي لحل الدولة الواحدة والتي من وجهة نظرهم ستحوّل “إسرائيل” إلى دولة “أبرتهايد” تفقدها شرعيتها الدولية، لذلك معهد الأمن القومي الإسرائيلي دائماً مع تعزيز دور السلطة الفلسطينية كونها بالنسبة لهم الجسم الفلسطيني الملائم لتحمّل عبء السكان الفلسطينيين وعدم انزلاق “إسرائيل” للدولة الواحدة.

لكن طروحات معهد الأمن القومي تتناقض مع توجّهات الحكومة الإسرائيلية السياسية، فلا رئيس الوزراء الإسرائيلي، بنيامين نتنياهو، مع تقوية السلطة ولا حتى مؤمن بحلّ الدولتين، فمنذ تولّيه الحكم عام 2009 وهو يرفع شعار عقيدة اللا حلّ مع الفلسطيني، وصولاً إلى فكرة التطبيع الإبراهيمي الذي يقفز عن القضة الفلسطينية تجاه التطبيع مع العرب.

والأهم أنّ كلّاً من إيتمار بن غفير، وبتسلئيل سموتريتش، هدفهما المركزي هو تهويد وضم الضفة الغربية، بمعنى آخر إنهاء السلطة بدورها السياسي الطبيعي، وحتى فكرة تحويلها إلى وكيل أمني لخدمة أمن الاحتلال بن غفير وسيموتريتش يرفضانه، وتبقى الجهة التي حتى الآن تحافظ على وجود السلطة الفلسطينية إسرائيلياً جهاز الأمن العام الإسرائيلي (الشاباك) ومجموعة من قادة الجيش الإسرائيلي.

هناك تخوّفات إسرائيلية حقيقية من عملية عسكرية واسعة في شمال الضفة الغربية من أهمها:

الأول، الخوف الإسرائيلي من اتساع عمليات المقاومة العسكرية والشعبية لكل إرجاء الضفة الغربية، وإدخال وسط وجنوب الضفة على خط المواجهة، على أثر تداعيات العملية العسكرية الواسعة بما تحمله من مجازر وضحايا من الجانب الفلسطيني. وهنا تدخل الضفة بكاملها للمواجهة الأمر الذي تعمل “إسرائيل” جاهدة على عدم حدوثه.

ثانياً، دخول ساحات غزة والخارج على خط المواجهة، وتجد “إسرائيل” نفسها أنها تخوض حرباً على جبهات متعددة، السيناريو الذي دوماً تسعى “إسرائيل” لتفاديه، وخاصة أنّ كلّ الجبهات الأخرى تحمل في طياتها عوامل تفجير، سواء الجبهة اللبنانية أو السورية أو حتى الإيرانية، والتي من السهل أن تكون العملية العسكرية الواسعة شرارة التفجير لتلك العوامل الكامنة في الجبهات كافة.

ثالثاً، الخشية من حملة انتقادات دولية على أثر الضحايا الفلسطينيين المتوقّع سقوطهم أثناء العملية الواسعة في شمال الضفة الغربية، وخاصة مع تململ الموقف الأميركي تجاه الحكومة الإسرائيلية الحالية، والنظرة الناقدة للاتحاد الأوروبي للحكومة الإسرائيلية الفاشية الحالية.

لكن رغم كل المخاوف الإسرائيلية، تبقى الحسابات الإسرائيلية تعتمد على معادلة هل الخسائر الإسرائيلية من وراء تلك العملية بشرياً وسياسياً تتناسب مع حجم الإنجاز الذي يمكن لها تحقيقه؟ وهنا الإجابات تختلف داخل مؤسسات صنع القرار الإسرائيلي، فالجيش الإسرائيلي لا يعتقد أن العملية الواسعة ذات جدوى عملياتيّ حقيقيّ.
أما المستوى السياسي فأهم أهدافه من العملية الواسعة استثمارها كورقة انتخابية وأيدلوجية لتعزيز قوته السياسية الانتخابية بين جمهوره اليميني الاستيطاني الفاشي، وجهاز الشاباك الإسرائيلي موقفه متردّد من الذهاب لعملية واسعة، فتدفعه بقوة حجم التحذيرات الأمنية الصادرة من شمال الضفة، ولكن الشاباك يدرك أيضاً التداعيات الكبيرة من جراء تلك العملية على الحالة الأمنية برمّتها في الضفة الغربية بما فيها انهيار السلطة الفلسطينية.

بناء على كل ما تقدّم سابقاً، أعتقد أن “إسرائيل” لن تقدم على عملية واسعة في شمال الضفة الغربية إلا إذا توفّر لها توقيت سياسي مناسب، أو أن تُجبر على تلك العملية على ضوء عمل نوعي كبير يخلط الأوراق صادر من شمال الضفة.

من دون توفّر ذلك، ستذهب “إسرائيل” إلى زيادة وتيرة عملياتها العسكرية المعتادة ضمن استراتيجية كاسر الأمواج التي تستخدمها ضد المقاومة في الضفة، مع إدخال أساليب عسكرية وأمنية جديدة، مثل استخدام الطائرات المروحية في القتال والاشتباكات مع مسلحي المقاومة، والعودة لاستخدام الاغتيال من طائرات مسيّرة أو مروحية من الجو من دون الحاجة للقوات البرية التي باتت تدفع ثمناً باهظاً على ضوء دخول تكتيك العبوات المتفجّرة والكمائن المباغتة على خط المواجهة مع قوات جيش الاحتلال.

فرغم أن ذلك يعتبر فقداناً إسرائيلياً للسيادة على الأرض بشكل غير مباشر، إلا أنه يمنحها السرعة والمرونة والأهم السلامة العملياتية لتنفيذ عمليات اغتيال أو قصف لبيوت أو مخازن للمقاومة، التي نتوقّع ارتفاع وتيرتها خلال الأيام المقبلة.

اقرأ/ي أيضاً: المخدرات دمار شامل فاحذروها.. بقلم مصطفى الصواف

سباق التسلح في الشرق الأوسط: هكذا تبدو خريطة التهديدات الجديدة

أقلام – مصدر الإخبارية

إن سباق التسلح العالمي لا يغيب عن الشرق الأوسط. حيث تبحث إيران، السعودية، سوريا ولبنان وحتى مصر عن تكنولوجيا عسكرية جديدة من أجل تعزيز قدراتها. من جانبها، تستعد إسرائيل للتهديدات الجديدة، مثل الصواريخ فرط صوتية، التي تدعي إيران تطويرها، وأيضًا للتكنولوجيا التي تعتبر تقريبًا “قديمة” – مثل الطائرات بدون طيار والصواريخ الدقيقة.

في الأسبوع الماضي، قدمت أنظمة رفائيل ردها على الصواريخ فرط صوتية التي أعلنت إيران أنها تقوم بتطويرها. في الواقع، نشرت طهران صورة للصاروخ، لكن إسرائيل لا تعتقد أن لديها تلك التكنولوجيا بالفعل، الأمر الذي لا يمنعها من تسليح نفسها بناء على ذلك.

في الوقت نفسه، في منطقة الخليج العربي، تطلب المملكة العربية السعودية من الولايات المتحدة بالالتزام بصفقات السلاح، والسماح لها بتطوير أسلحة نووية مدنية، وكذلك ضمانات أمنية تجاه إيران. إن إظهار إيران لأمر تطوير الصواريخ والطائرات بدون طيار التي يتم تجربتها بالفعل في أوكرانيا، إلى جانب مطالب السعودية، يقود أيضًا قطر، الإمارات العربية المتحدة ومصر إلى التسلح لما يبدو أنه سباق تسلح على قدم وساق في الشرق الأوسط . النجوم هم: إيران وإسرائيل، لكن الدول المحيطة بهم أيضًا يستعدون لذاك اليوم.

إيران تسلح المنطقة:

قال الجنرال يوسي كوبرفاسر، رئيس شعبة البحث في أمان سابقًا وباحث في المركز اليروشلمي للشؤون العامة والدولة، لصحيفة إسرائيل اليوم أن “هناك سباق تسلح كبير في المنطقة، وأبرز من يقوده إيران، التي تنتج بنفسها معدات قتال على أساس التكنولوجيا التي حصلت عليها من جهاد خارجية. إنهم يبذلون جهدًا كبيرًا في مجال التسلح بالصواريخ المتطورة، ولذلك فإن مدى الصواريخ التي يطورونها واسع للغاية، وهناك أيضًا اهتمام روسي بالتسلح بهذه الصواريخ. لقد أظهر الإيرانيون قدرة على إنتاج صواريخ كروز وحسنوا من مستوى الدقة مع الوقت – هذا تهديد لا يجب الاستهانة به”.

إن التسلح الإيراني يمتد حتى حزب الله في الشمال، الذي بحوزته عشرات الآلاف من الصواريخ إيرانية الصنع، وأيضًا هناك محاولة حالية لجعلها أكثر دقة. إن الأنشطة التي تنسبها الجهات الأجنبية إلى إسرائيل في سوريا الهدف منها، من بين جملة أمور، إلى منع جهد التسلح هذا، والذي بحسب كوبرفاسر، يجب أن “يقلق إسرائيل كثيراً”.3

وأشار الباحث إلى أنه إلى جانب سباق التسلح الإيراني (ولم نذكر كلمة واحدة عن السلاح النووي بعد)، فإن الدول التي تعتبر براغماتية تعمل أيضًا في هذا الاتجاه: “السعودية، مصر، الإمارات وقطر”. إنهم يبذلون جهود تسليح متسارعة غير موجهة ضدنا، ولكن بالنظر إلى أفق الاستقرار والتغيير المحتمل، يجدر بإسرائيل في هذه الحالة أن تُبدي قلقًا”.

كما حذر دكتور يهوشع كاليسكي، باحث في معهد دراسات الأمن القومي، من زيادة التسلح من حولنا: حيث قال “السعودية تمتلك اليوم طائرات استطلاع متطورة، وهي تطالب بالمزيد. يمكن لهذه القبائل أن تتشاجر فيما بينها، لكن ما يوحدهم في النهاية هو كراهيتهم لإسرائيل “.

وقد قسّم دكتور كاليسكي جهود التسلح من حولنا إلى عدة مستويات: التقليدية، وشبه التقليدية وغير التقليدية – النووية.
التهديد الذي سرعته تفوق سرعة الصوت: بالنسبة للصواريخ فرط الصوتية، فقال دكتور كاليكسي أن ” أي شخص يراقب ساحة القتال في أوكرانيا يرى أن هذا السلاح فعالًا وأن له ضررًا كبيرًا وإمكانية تخويف كبيرة. هذا في الواقع صاروخ يمكن أن يصل إلى إسرائيل من إيران في 3-4 دقائق، إنه مرعب”. اليوم فقط روسيا والصين لديهما مثل هذا الصاروخ بشكل مؤكد، أما بالنسبة لوجوده في أيدي إيران، فإن الآراء مختلفة.

وذكر كوبرفاسر أنه بالنسبة للصواريخ فرط الصوتية – فإن الكونجرس الأمريكي يحاول فرض قيود دولية أو حتى معاهدة بخصوصها. أما بالنسبة لإيران، فمن الصور التي نُشرت حتى الآن فيبدو أنه هذه ليست صواريخ فرط صوتية، لكن يجب أن نبقى دائمًا متيقظين ولا نستهين بهذا الأمر. حتى لو لم يكن ذلك حقيقيًا، فالعدو لديه قدرات. إيران قوة صاروخية، وحتى إذا لم ينجح هذا الشيء في الوقت الحالي، يجب أن نتعامل مع هذا التهديد بشكل جدّي “.

تسلح أم ردع؟

فيما يتعلق بمسألة الردع الإسرائيلي تجاه حزب الله، يقول كوبرفاسر أنه “في هذه المرحلة حزب الله مردوع عن شن هجوم عسكري واسع النطاق، لكن هل هو مردوع عن الإجراءات المقيدة مثل إمكانية السماح للفلسطينيين بالاستمرار في تسليح أنفسهم؟ نحن ندفع ثمن التردد الذي أظهرناه في اتفاقية الغاز مع لبنان. لقد كانت هذه خطوة عززت شعور حزب الله بالقوة.

وأضاف أن “حزب الله يمتلك ما بين 120 و 150 ألف صاروخ، جزء كبير منها دقيق. هذا احتمال خطير. لبنان هو وكيل إيراني سيكون جاهزاً للتصرف عندما يُطلب منه ذلك. من ناحية أخرى، لا تًشكل سوريا تهديداً كبيراً لأنها مقسمة وجيشها غير مطور ومحدث “.

أما بالنسبة للمعلومات الصاروخية الموجودة في غزة والضفة الغربية أيضًا، قال دكتور كاليسكي أن “المعرفة الصاورخية في قطاع غزة هي معرفة إيرانية وصلت إلى هناك عن طريق التهريب والخبراء، ويتم إنتاجها في داخل مخارط”. قد نرى بالتأكيد اتجاه صواريخ نحو العفولة والمستوطنات في الشمال. لم تكن تحدث مثل هذه الأشياء من قبل.

من أبرز مجالات التسلح مجال الطائرات بدون طيار. فالإيرانيون يطورون أنواعًا متنوعة، تشتريها روسيا من أجل الحرب في أوكرانيا. وبحسب كوبرفارسر، “لقد أثبت الإيرانيون بالفعل قدراتهم في هذا المجال من خلال الهجمات على المنشآت النفطية السعودية في عام 2019. في هذا الموضوع لدينا إجابة جيدة – تطورات الليزر وآليات الاعتراض المتقدمة “.

سيناريو واقعي:

وبحسب أرئيل كارو، نائب مدير التسويق وتطوير الأعمال في رفائيل، فإن التطورات الإسرائيلية مطلوبة من طرف الدول الأوروبية، التي ترى ساحة المعركة قريبة من أراضيها: “إن الحرب الروسية الأوكرانية أكدت أن سيناريو الحرب على الأراضي الأوروبية واقعي، وأن لديهم ثغرات عملياتية. إنهم بحاجة الميزة التكنولوجية التي تتمتع بها إسرائيل، وهناك زيادة كبيرة في الطلب عليها”.

المصدر: “إسرائيل اليوم”

اقرأ/ي أيضاً: المخدرات دمار شامل فاحذروها.. بقلم مصطفى الصواف

تسخين الجبهات “إعلاميًا.. ماذا يريد نتنياهو؟

أقلام – مصدر الإخبارية

طالعتنا وسائل الإعلام المختلفة في الأيام الماضية؛ بأخبار وتصريحات وتقارير، شملت تقريبًا كل الطبقة السياسية والعسكرية في إسرائيل، كلها تتعلق باستعداداتٍ وتحضيراتٍ لها صلة بالمشهد الميداني في الإقليم، وجميعها يحاول أن ينقل للمتابعين أن الجيش الإسرائيلي على أعتاب شن حربٍ هجوميةٍ على إحدى الجبهات أو على جبهاتٍ متعددة، ويتزامن الأمر مع مناوراتٍ عسكريةٍ يجريها أكثر من طرفٍ على جبهةٍ لم تتوقف سخونتها منذ ما يزيد عن ثلاثة أرباع قرن، فهل نحن على أعتاب حربٍ واسعة النطاق قريبًا؟

تناور إسرائيل بأكثر من أداة فعلٍ في جبهاتٍ عدّةٍ خلال السنوات الماضية، وما تزال تُنفّذ أنشطتها العسكرية في أكثر من صعيد، فالضغط السياسي والإعلامي والدبلوماسي منصبٌ على جبهة إيران ومشروعها النووي وبرنامجها التسليحي، خصوصًا في مجال الصواريخ، وتشن غاراتٍ من وقتٍ لآخر في العمق السوري وليس فقط على المناطق الحدودية، وتهدد وتتوعد حزب الله في لبنان، وتراقب حدودها مع كلٍ من مصر والأردن على مدار الساعة، تحسبًا لأي طارئ قد يحدث في أي لحظة.

تتهيأ إسرائيل باستمرار للتعامل مع أي تطوراتٍ تشمل الفلسطينيين في الأراضي المحتلة عام 1948، وتواصل حصارها لقطاع غزة، مصحوبًا بتصعيداتٍ عسكريةٍ واغتيالاتٍ وقصف بالطائرات الحربية من حينٍ لآخر، وتقتحم مدن ومخيمات وقرى الضفة الغربية في نطاقٍ عملياتيٍ يحقق لها الردع الذي تريد دون مساعدةٍ من أحد، وتؤسس لملامح المرحلة القادمة في الضفة الغربية، والتي تشمل ضم الجزء الأكبر من أراضيها، مع الاستمرار في برنامج تهويد القدس، والتعامل معها على أنها عاصمة إسرائيل الأبدية، والشروع في التقسيم الزماني والمكاني في باحات المسجد الأقصى.

تتابع حكومة نتيناهو عن كثبٍ أمرين في غاية الأهمية بالنسبة لها: الأول هو الخطر الاستراتيجي المتمثل في تنامي قوة ونفوذ وتأثير إيران، بما يمثّل طوقًا حولها، من جهة لبنان وسوريا وقطاع غزة، ضمن تحالفاتٍ عميقةٍ عنوانها الأبرز مواجهة إسرائيل عسكريًا، والتطور اللافت في العلاقات السعودية الإيرانية، وهي تطورات قادت إلى إعادة العلاقات الدبلوماسية كاملة بين البلدين، وما يتركه الأمر على شبكة العلاقات الإقليمية المعقّدة أصلًا، إلى جانب التطورات اللافتة في علاقة الإقليم بالعالم، حيث تضارب المصالح، وتبدّل حرائط التحالفات، وإعادة تشكّل النظام الدولي بدخول لاعبين جدد وطامحين إلى تصدّر منظومة العلاقات الدولية التي ظلّت رهينة النفوذ الأميركي لأكثر من ثلاثة عقود.

يرغب نتنياهو، ومنظومة حكومته المعقّدة للغاية، في ظل ارتهانه لرغبات وطموحات اليمين المتطرف، الذي يشكّل عماد حكومته، في استكمال ولاية الحكومة عبر ابقاء التحالف الذي يضمن له أكثرية في الكنيست، ويخضع في هذا لابتزازٍ صارخٍ ومكشوفٍ للكتل اليمينية، ويواصل مشروعه الخاص بالتغييرات العميقة في المنظومة القضائية، بما يسمح له أن يناور لأطول فترةٍ ممكنةٍ بعيدًا عن قاعات المحاكم التي قد يعقبها دخوله السجن، وأن يُجنّد أنصار اليمين بصورةٍ أكبر في الشوارع لتكون المضاد الفعّال في وجه التظاهرات الأسبوعية التي ينظمها اليسار ويمين الوسط رفضًا لأي تغييرات في البنية القضائية في إسرائيل، ومن أجل تحقيق هذه الأهداف؛ يواصل نتنياهو محاولات حرف الأنظار، من خلال تهويل الأخطار المحدقة بإسرائيل من جهة، وافتعال الأزمات من جهةٍ أخرى، وتنفيذ بعض النشاطات الاستخبارية أو العسكرية من جهةٍ ثالثة، لتبقى عناصر المبادرة على الدوام في يده، ويواصل مناوراته دون حدودٍ زمنية، وبعيدًا عن توقعات خصومه الذين يستعدون للانقضاض عليه في كل لحظة.

اقرأ/ي أيضاً: الانتقاد الأوروبي للاحتلال ينطلق من مصالحهم وليس مبادئهم

مسيرة الأعلام والسيناريوهات المحتملة

أقلام – مصدر الإخبارية 

مسيرة الأعلام الإسرائيلية هي تقليد إسرائيلي بدأه الحاخام المتطرف يهودا حاذاني منذ عام 1968م حينما استكملت إسرائيل احتلال القدس. بعد ذلك أشرفت على تنظيم المسيرة سنوياً بلدية القدس، ووزارة التربية والتعليم الإسرائيلية، وسط تمويل من مؤسسات يهودية ورجال أعمال، ومشاركة لليمين المتطرف ازدادت سنوياً لتصل إلى عشرات الآلاف، واللافت أن كل عام تقريباً يتغير مسار المسيرة لتشمل مناطق جديدة.

المقال يطرح تساؤل: ما هي الدوافع السياسية لمسيرة الأعلام وأسباب المخاوف الفلسطينية… ؟ وما هي السيناريوهات المحتمل وقوعها يوم غد الخميس…؟
أولاً: الدوافع السياسية والمخاوف الفلسطينية من مسيرة الأعلام.
تهدف إسرائيل من مسيرة الأعلام التأكيد على هوية القدس عاصمة موحدة لدولة الاحتلال الإسرائيلي، وإظهار السيادة على كامل حدود المدينة المقدسة. كما يريد اليمين تثبيت منفذ مباشر إلى الأماكن المقدسة، وتنفيذ قانون أساس القدس عام 1968م الذي أدى إلى ضم الجزء الشرقي من المدينة.

المخاوف الفلسطينية ناتجة من أن مسيرة الأعلام جزء من استراتيجية كاملة متكاملة لتهويد المدينة المقدسة والسيطرة عليها، وتغيير الوضع القانوني والتاريخي فيها، وكذلك زيادة أعداد المتظاهرين وسلوكهم بالاعتداء على منازل ومحال الفلسطينيين في شرقي المدينة، وهتافهم المستفز للفلسطينيين وتحديهم للمجتمع الدولي وللقانون الدولي، وسط صمت الجميع سوى بعض البيانات الخجولة التي تستنكر وتدعو للحفاظ على الوضع القانوني والتاريخي للقدس.

ثانياً: السيناريوهات المحتملة.
بعد معركة ثأر الأحرار بات تقدير الموقف الإسرائيلي بأن المقاومة في قطاع غزة من الصعب أن تقحم نفسها في مواجهة عسكرية مع الاحتلال في حال تجاوزت المسيرة الخط الأحمر، وهذه فرصة لنتانياهو لكسب رضا اليمين المتطرف، وانتصار له في توظيف معركة ثأر الأحرار إيجاباً لصالحه، وربما هذا التقدير صحيح، ويضع المقاومة أمام تحدي كبير يتمثل في:

1.الانتصار للقدس والدخول بمعركة من أجلها.

2.تغليب تحليل البيئة السياسية لقطاع غزة والتي ترجح عدم الدخول في مواجهة، وعليه البحث عن بدائل وخيارات أخرى.

وعليه يبقى السؤال: ما هي السيناريوهات المحتملة.

الأول: سيناريو البحث عن بدائل غير التصعيد العسكري.
قد يكون هذا السيناريو المرجح لدى المقاومة وهو الأقل تكلفة وجوهره يقوم على:

•مقابلة مسيرة الأعلام الصهيونية بمسيرات أعلام فلسطينية تنطلق في كافة المدن الفلسطينية وعلى وجه الخصوص القدس، وفي الداخل المحتل، والضفة المحتلة، وقطاع غزةً، للتأكيد على عروبة كل فلسطين.

•عمل دبلوماسي رسمي وشعبي من القيادة الفلسطينية والفصائل لتوظيف قمة الرياض والتي ستعقد بعد يوم واحد من مسيرة الأعلام الصهيونية وذلك للضغط على الاحتلال.

•حشد الوسطاء الإقليميين والدوليين للضغط على نتانياهو لضبط المسيرة.

•مواجهة مسيرة الأعلام بالإعلام (المواجهة الإعلامية) في تقديري أن هذا المسار الأقل كلفة والأسهل في التطبيق وواقعي جداً ويتمثل في حث وسائل الإعلام العربية والدولية لتغطية المسيرة ورصد انتهاكاتها وهمجية من فيها وبث ذلك للعالم، وذلك لصناعة وعي جمعي يوضح غوغائية الصهاينة وحقدهم على العرب، وانتهاكهم لقرارات الأمم المتحدة الرافضة للإجراءات الصهيونية في القدس والتي تغير من واقعها التاريخي والقانوني.

الثاني: سيناريو العمل العسكري من غير قطاع غزة.
التحريض إعلاميا لتنفيذ عمل عسكري يستهدف المسيرة ينطلق من الضفة المحتلة أو القدس وهذا من شأنه أن يحرف مسارها ويحقق هدف أن القدس عربية فلسطينية.

الثالث: سيناريو التصعيد العسكري من قطاع غزة.
مزايا هذا السيناريو أنه يؤكد على مركزية ومحورية ملف القدس ومن شأنه أن يخلط أوراق نتانياهو ويفسد تخطيطه، ولكن ضرره يتمثل في رد الفعل الذي قد يؤدي لمواجهة مفتوحة، بعد أيام قليلة من معركة ثأر الأحرار، وفي ظل الواقع الانساني الصعب في قطاع غزة، يكون وزن هذا السيناريو الأقل ترجيحاً، ويزداد وزن هذا السيناريو في الحالات التالية:

•جريمة كبرى ترتكبها إسرائيل في القدس يوم المسيرة.

•توافق بين محور المقاومة للدخول في معركة متعددة الجبهات عنوانها القدس في حالة تجاوزت المسيرة مسارها التقليدي (احتمال ضعيف في هذا التوقيت).

الخلاصة: أرجح السيناريو الأول مع عدم إسقاط دخول سيناريو 2 على خط الأحداث، ولكني أستبعد سيناريو 3 إلا إذا أخطأ نتانياهو التقدير.

إن عنوان المعركة مع إسرائيل هو احتلالها للأرض الفلسطينية، وعليه ينبغي العمل على بناء استراتيجية وطنية لمواجهة الاحتلال، وإجراءاته على الأرض، عبر مقاومة متنوعة مستمرة تحقق الهدف الرئيس وهو إنهاء الاحتلال.

المصدر: شبكة المقدسي للإعلام

اقرأ/ي أيضاً: دلالات تغيير المعادلة الإسرائيلية من العدوان على غزة

لماذا تأخر الرد الفلسطيني؟

أقلام – مصدر الإخبارية 

إنّ تأخر الرد الفلسطيني على عملية اغتيال القادة الثلاثة القادة، أمين سر المجلس العسكري الأعلى لسرايا القدس الذراع العسكرية لحركة الجهاد الإسلامي جهاد الغنام، وعضوي المجلس خليل البهتيني قائد المنطقة الشمالية في سرايا القدس، وطارق عز الدين المسؤول عن العمل العسكري للسرايا في الضفة الغربية المحتلة، له أسباب عدة، من بينها أن إسرائيل استعدت لهذه العملية منذ أيام عدة، وبالتالي أي رد تقليدي ومعتاد لن يكون بحجم الجريمة، لذا تريد المقاومة الفلسطينية، وخصوصا “الجهاد” أن يكون موجعاً ونوعياً.

كما أنّ من أسباب التأخر في الرد محاولة الخروج من حالة الصدمة والمفاجأة التي حققتها العملية الإسرائيلية باغتيال القادة الثلاثة، وحالة الإرباك الفلسطيني التي أعقبتها.

كما تدرس فصائل المقاومة، من خلال الغرفة العسكرية المشتركة، أن يكون الرد مشتركاً، فلسطينياً من خلال الغرفة نفسها في غزة، أو إقليمياً من خلال محور المقاومة، أي بمشاركة من لبنان وهضبة الجولان السورية المحتلة، وربما ساحات أخرى جديدة، فضلا عن أن الرد يجب أن لا يجر فلسطين، بخاصة قطاع غزة، إلى حرب مفتوحة قد يندم الفلسطينيون بعدها.

إنّ المطلوب، فلسطينيا، وفصائليا، عدم تمكين الحكومة الإسرائيلية من استعادة هيبة الردع، التي هشمتها المقاومة الفلسطينية في معارك سابقة، بل وتثبيت وتعزيز قواعد الاشتباك السابقة، وعدم اللجوء إلى سياسة الاغتيالات، وإلا ستُقابل برد فلسطيني قوي وواسع.

ويظل هدف منع إسرائيل من تحقيق “صورة انتصار” تبدو ضربة فجر اليوم قد حققتها هدفا لا يمكن التغاضي عنه فلسطينيا، وفي المقابل “انتقاء صورة نصر” فلسطينية، تعوّض بعضا مما “كسبته”، ولو موقتا، الحكومة الإسرائيلية من اغتيال القادة الثلاثة.

إنّ الفلسطينيين، وللمرة الأولى، لم يردوا فوراً بإطلاق الصواريخ كالمعتاد، وإنما ظلوا صامتين، ولم يفصحوا عن طبيعة الرد أو كيفيته أو توقيته أو أدواته، ما يجعل إسرائيل في حال انتظار صعب وقاتل وأمام السؤال الصعب: متى وأين وكيف سيكون هذا الرد؟.

من الطبيعي أن يدرس الفلسطينيون، الآن، كيفية الرد بمنع مسيرة الأعلام الإسرائيلية من السير في مسارها، الذي خططته الحكومة الإسرائيلية، وكذلك تعزيز المقاومة والعمليات الفردية والجماعية في الضفة المحتلة، وتحقيق إنجاز عسكري ومعنوي على الاحتلال.

يدور في ذهن قادة المقاومة ومرجعياتهم السياسية وحلفائهم في محور المقاومة كل هذه السيناريوهات، وغيرها من الاحتمالات لمآلات وتداعيات أي قرار أو خطوات سيتخذونها خلال الساعات والأيام المقبلة.

إنّ أكثر ما يشغل بالهم وعقولهم الأن، كيف يمكن ردع إسرائيل بأقل الخسائر فلسطينا، وحرمانها من تثبيت قواعد اشتباك جديدة، وإبقاء تفكك الحكومة والمجتمع الإسرائيليين، وفي المقابل استمرار وحدة الساحات الفلسطينية، وربما الإقليمية.

اقرأ/ي أيضاً: 75 عامًا من المخاوف الإسرائيلية دون توقف

سلمى الخضراء الجيوسي تروي سيرتها

أقلام – مصدر الإخبارية 

في مدينة السلط الأردنية، أبصرَت هذه الطفلةُ – التي سيُجمع كثيرون على وصفها بأنّها مجموعة نساء في امرأة واحدة – النورَ في نهاية العشرينيات، لأبٍ فلسطيني وأُمّ لبنانية كان لزواجهما قصّة طريفةٌ سترويها ابنتُهما سلمى الخضراء الجيوسي في إحدى حلقات برنامج “رائدات” (إعداد وإخراج روان الضامن)، بثّتها قناة “الجزيرة” عام 2006.

كان والدُها صبحي الخضراء وخالُها صديقَين جمعهما “الجيش العربي” (1920 – 1956). ثم التحقا بالأمير فيصل (الذي سيُصبح الملك فيصل الأوّل لاحقاً) في دمشق. وفي بيت خالها هناك “رأى والدي أمّي، لأنّ الدرزيات كنّ يجلسن مع الرجال بغطاء الرأس، وأخبر خالي بأنّه يريد أن يتزوّج منها. وجَمَ خالي، وقال له إنّك طلبتَ الشيء الوحيد الذي لا يمكن أن أعطيه لك؛ فأنا زعيمٌ في عشيرتي، والدروز لا يزوّجون بناتهم للخارج أبداً”.

شعر الشاب صبحي بالحزن وانزوى بنفسه، فافتقده الأمير فيصل وأرسل وراءه. وحين علم بما يشغله، طمأنه بأنّ كلّ شيء سيكون على ما يُرام. وبالفعل؛ خلال أحد لقاءاته التي كان يُقيمها في ديوانه كلّ جمعة، قال لخالي إنّه يُريد أن يطلب منه أمراً ويخشى أن يردّه، فأجابه بأنّه سيلبّي طلبه أيّاً كان، ففاجأه بالقول: ‘أريد أن نزوّج ابنتك لابننا صبحي’. أمام الوعد الذي قطعه، لم يكن أمام خالي سوى القبول بالأمر. وحينها أعلن الأمير فيصل أنّ ‘كتْب الكتاب’ سيكون الجمعة التالية في قصر أخيه الأمير زيد في المزّة”.

في مدينة عكّا، عاشت سلمى طفولتها الأُولى، والتي لا تَحتفظ ذاكرتُها بالكثير منها. من بين القليل الذي تتذكّره “جامعُ الجزّار” الذي قالت إنّها كانت تترك مدرستها الابتدائية أحياناً لتذهب إليه. أمّا السبب، فهو أنّ الأذان كان يُرفَع، في بعض الأيّام، خارج أوقاته، للإعلان عن موت أحدهم، وكان حدوثُ ذلك يُثير في نفسها خوفاً من أن يكون من مات هو والدُها الذي تُخبرنا بأنّه كان مُحامياً وأحد مؤسّسي “حزب الاستقلال”، بينما كانت والدتُها، أنيسة يوسف سليم، “شاعرية المزاج، ومثقّفةً تقرأ بالعربية والإنكليزية”. ومن تلك الطفولة البعيدة أيضاً، تستعيد سلمى أوّل قصيدة كتبَتها. كان ذلك بعد اغتيال الملك غازي عام 1939، وكانت في العاشرة من عمرها.

تضعُنا سلمى الخضراء الجيوسي، خلال المقابَلة، في الأجواء السياسية المضطربة في عكّا منتصف الثلاثينيات، والتي كان من بين أبرز محطّاتها الإضرابُ الكبير عام 1936. في هذه الأجواء المحتقنة، سيقتحم جنودُ الانتداب البريطاني المنزل العائلي عند الرابعة صباحاً لاعتقال والدها واقتياده إلى “معتقل المزرعة” قرب عكّا. ولأنّها الابنة البكر (يصغرها أخٌ وأختان)، ستجدُ نفسها أمام مسؤوليات جديدة: “كانت زياراتي القصيرة إليه، مع إخوتي، في السجن، تبدأ دائماً بمجموعةٍ من الأسئلة التي يوجّهها إليّ، ثمّ بقائمة من التعليمات، وتنتهي بحديث ودّي”.

تستعيد الشاعرة والباحثة والمترجمة الفلسطينية الرائدة ذكرى “المظاهرات التي قدتُها وأنا صغيرة؛ في الثامنة والتاسعة من العمري. حين سمعتُ كلمة مظاهرة للمرّة الأُولى سألتُ عمّا تعنيه هذه الكلمة، ثمّ أصبحتُ ملكة المظاهرات في عكّا”.

بسبب غياب ثانوية للبنات في مدينتها، أرسَلها والدُها إلى القدس للدراسة في “كلّية شْمِيتْ للبنات”، ثمّ التحقت بها أُختها بعد سنة من ذلك: “بسبب وجوده في السجن، كان يستدين لنُكمل دراستنا. لذلك كنتُ أشعر أنّني كلّما درست، أفي حقَّ والدَي”. وهنا، تتحدّث الجيوسي عن مدى اهتمام الفلسطينيّين، خصوصاً في نابلس، بتعليم البنات خلال تلك الفترة.

اجتازت سلمى الخضراء الجيوسي المرحلة الثانوية بتفوُّق. وكانت محطّتها المقبلة هي “الجامعة الأميركية” في بيروت لدراسة الأدب العربي والإنكليزي. وبعد تخرُّجها، تزوّجت من زميل لها في الجامعة، انتقلت معه، بحُكم عمله الدبلوماسي، بين عددٍ من البلدان العربية والأجنبية: روما ومدريد وبغداد وبون… وعن ذلك تقول: “لا أجد صعوبةً في الغربة. أتأقلم حالاً مع المكان”.

تتوقّف سلمى عند الفترة البيروتية من حياتها، مُستعيدةً أيّام مجلّة “شعر” وأجواء أماسي الخميس في بيت يوسف الخال، والتي كانت “تُقام في حالةٍ من المرح، بحضور شعراء وكتّاب كبار”. هنا، تُعرّج للحديث عن موقفها من الحداثة والتراث قائلةً: “كنتُ في قلب الحركة الحداثية، لكنّني كنت أحترم التراث، ولا أجد أنّ الانتقال إلى الحداثة يتطلّب نسخ التراث ونسيانه. كنتُ، بشكل حسّاس وغريزي، أفهم استمرارية الأدب وكيف أنه يُجبَل بدم الإنسان وذاكرته، ولم يكن من الممكن الانفصال عن ذلك التراث الغنّي الذي اقتربتُ منه في مكتبة والدي (تلك المكتبة التي نُقلت إلى دمشق قُبَيل النكبة)، لكنّني وقعتُ في حبّه حين كبرت ودرسته”.

في عام 1960، وقد أصبحت أُمّاً لثلاثة أطفال، ستصدُر مجموعتها الشعرية الأُولى “العودة من النبع الحالم”، وتُترجم مجموعةً من الكتب من الإنكليزية إلى العربية. وبينما كان الأبناء على عتبة الجامعة، قرّرَت دراسة الدكتوراه في لندن: “قبل موته، قال لي والدي إنّه يُريدني أن أدرس أكثر. ومن جهتي، أردتُ أن أملأ الثغرات التي لم أدرسها في الجامعة، وهي كثيرة”. ستُتوَّج هذه المرحلة بنيلها شهادة دكتوراه عام 1970 عن أطروحة حول “الاتجاهات والحركات في الشعر العربي الحديث”.

يتذكّر ستيفان سبيرل، أستاذُ الأدب العربي في جامعة لندن، تلك المرحلة بالقول: “قبل ثلاثين سنة، في معهد الدراسات الأفريقية والآسيوية في لندن، حين رأيتُ تلك السيّدة الأنيقة جدّاً والحيوية جدّاً، تحمل كتابَين ضخمين، فهمتُ من لون تجليدهما أنّهما رسالة دكتوراه. لم أكُن قد رأيتُ رسالة دكتوراه بهذه الضخامة من قبل، ولم أتخيّل أنّها ستكون، بعد نشرها، من المصادر الأساسية في تدريسي الأدب العربي”، قبل أن يُضيف: “لا يوجد من حقَّق ما حقّقته الجيوسي لصالح الأدب والثقافة العربيَّين في الغرب”.

بعد ذلك، ستخوض سلمى تجربةَ التدريس في عدد من الجامعات العربية والأجنبية؛ من الخرطوم إلى الجزائر العاصمة وقسنطينة، ثمّ الولايات المتّحدة. لكنَّ حادثة صغيرة في “جامعة تيكساس” عام 1979، ستُحدث تحوُّلاً جذرياً في مسيرتها؛ كان ذلك حين خاطبها طالبٌ أجنبي بالقول: “أنتم لا تملكون ثقافة”، فأجابته: “سأُريك”. تقول عن ذلك: “استعر شيءٌ في داخلي. وحزّ في نفسي أنّ العالَم العربي لا يهتمّ بنقل ثقافته إلى العالَم. وقد اتّفق، بعد فترة وجيزة، أن ألقيتُ المحاضرةَ السنوية في جامعة كولومبيا، وتناولتُ فيها ‘وضْع الكاتب العربي اليوم’، وبعدها، اقترب منّي مدير ‘منشورات جامعة كولومبيا للنشر’ وطلب منّي أن أتعاون معه في تحرير مجموعة كبيرة من كتب الأدب العربي. حينها قرّرتُ ترك التدريس وبداية العمل على المشروع الجديد”.

في هذه المرحلة، ستُصدر أوّل موسوعة للشعر العربي الحديث بالإنكليزية، والتي تطلّبت سبع سنوات من العمل وتضمّنت 93 شاعراً عربياً، قبل أن تُطلق عام 1980، مع عدد من الأكاديميّين في “جامعة ميشيغان”، مشروع “بروتا” الذي هدف، من خلال الترجمة، إلى تصحيح المفاهيم الخاطئة لدى الغرب عن الحضارة العربية. وخلال 26 عاماً (حتى عام 2006)، أُصدرت ضمن المشروع قرابة أربعين مؤلّفاً، من بينها إحدى عشرة موسوعة، وكثيرٌ من الترجمات الشعرية والسردية. أنجزت الجيوسي كلّ ذلك مدفوعةً بشعور لا يفارقها بضرورة العمل وشعور لا يراودها بضرورة الراحة؛ هي التي تعمل ستّ عشرة ساعةً في اليوم، بما فيها أيّام العطل والأعياد.

مُجيبةً عن سؤال عمّا إذا كان ثمّة من حاول إحباطها، تقول: “لم يحاول أحدٌ ذلك. لكنّ الإحباط جاء من عدم تفهُّم المشروع عربيّاً وعدم الاكتراث بأهمّية الدخول بالثقافة العربية إلى العالَم، وهو أمرٌ لا يزال مستمرّاً إلى اليوم للأسف”. لكنّ هذا لا يعني أنّ الباحثة والمترجمة لم تواجه عراقيل في مسيرتها. إحدى تلك المحاولات ما قام به أستاذٌ صهيونيٌّ كان ضمن لجنة النشر في “منشورات جامعة كولومبيا”، اعترض على نشر “موسوعة الأدب الفلسطيني”، بدعوى احتوائها ترجمةً لمذكّرات شخصية “ليست أدبية بما فيه الكفاية”، وهو الأمرُ الذي عرقل صدور الموسوعة، قبل أن ترى النور بعد تدخُّل من إدوارد سعيد.

في عام 1985، ستكلّفها “الأكاديمية السويدية” بإعداد دراسة عن وضْع الأدب العربي الراهن، للاستعانة بها في تقييم عددٍ من الكتّاب العرب المرشّحين لجائزة نوبل، وقد كان لتلك الدراسةُ أثرها الكبير في حصول نجيب محفوظ على الجائزة بعد ثلاث سنوات من ذلك.

وفي عام 1995، شاركت في “مؤتمر أوروبا وفلسطين” في “جامعة بيرزيت”، وعادت إلى بيتها ومدرستها في عكّا والقدس بعد غياب استمرّ لأكثر من خمسين عاماً، وهو ما تكتفي بالتعليق عليه بكلمتَين كرّرتهما مرَّتين: “مؤلمٌ جدّاً”.

ضمّت المقابلة، أيضاً، شهادات لعددٍ من المثّقفين العرب والأجانب، تحدّثوا فيها عن سلمى الخضراء الجيوسي وأهمّية ما قدّمته للثقافة العربية؛ فهذا خير الدين حسيب يقول إنّ الجيوسي “تُقدّم نموذجاً للمفكّر والمثقّف العربي الملتزم بقضايا أمّته”، وهذا نوري الجرّاح يقول: “عندما أفتّش الآن في الأسماء الثقافية العربية، نساءً ورجالاً، لا أجد كفئاً ونظيراً لسلمى في ما قدّمته للثقافة العربية على مفصل علاقة هذه الثقافة بالعالَم”، قبل أن يُضيف: “لم ألتق بها إلّا وكانت تحمل مشروعاً أو تتطلّع إلى مشروع وتُحاول أن تجد له مصادر. كانت مشغولةً، إلى جانب كونها ناقدة ومترجمة وكاتبة، بالبحث عن مصادر. ومن المؤسف أن ينشغل المبدع والناقد وصاحب الفكر بالبحث عن مصادر مالية لإنجاز مشروع طموح”.

أمّا خلدون الشمعة، فيقول: “نشرَت أعمالها في دُور نشر شهيرة وكبيرة ولها توزيع هائل. ولهذا لا أتردّد في القول إنّها استطاعت أن تُقدّم نموذجاً ناصعاً للقارئ الأجنبي عن مستوى الأداء العربي الذي لا يقلّ عن مستوى أداء الباحثين الغربيّين عموماً”، بينما يقول إرنست ماكاروس، زميلُها المؤسّس في مشروع “بروتا”: “لديها عقلٌ ناقدٌ جدّاً وذاكرة فوتوغرافية، وهي لا تتوقّف عن التفكير والعمل من أجل تحقيق هدفها. لديها طاقة هائلة وهي مُخلصة بالكامل لعملها”.

اقرأ/ي أيضاً: أحمد مصطفى جابر.. عذراً مروان عبد العال

أندلس سلمى الخضراء الجيوسي

أقلام – مصدر الإخبارية 

بدأَت فكرةُ كتاب “الحضارة العربية الإسلامية في الأندلس” (1992)، كما تُخبرنا مُحرِّرته سلمى الخضراء الجيوسي في مقدّمته، بينما كانت تجلس على منحدرات طليطلة، مع عدد من أصدقائها في إحدى سنوات الثمانينيات، وقرأ واحدٌ منهم قصيدةً لمحمّد إقبال عن مسجد قرطبة، مترجَمةً إلى اللغة الإنكليزية. لكونها شاعرة مرهفة الحسّ (أصدرَت مجموعتها “العودة من النبع الحالم” سنة 1960)، ستستوقفها في قصيدة الشاعر الباكستاني فلسفةُ العشق التي “مسّت شيئاً عميقاً داخلي، وتحوّلت إلى حكمة أهتدي بها، ومبدأ أؤيّده وأستمدّ منه القوّة عندما تبدو الأشياء مستحيلة التحقّق”.

كلمات محمّد إقبال، التي “لا تكمن روعتُها في قدرتها على استثارة دموع اللوعة والفراق، رغم أنّها كُتبت لاستحضار ذكرى عظمة الماضي، بل في قدرتها على استنهاض الإرادة وتأكيد الحياة والحضّ على البناء”، ستظلُّ تتردّد في أُذنَي سلمى وهي تقف في قاعة الصلاة الشاسعة بمسجد قرطبة، أو تتأمّل الرقش والمقرنصات على حيطان وسقوف “قصر الحمراء” في غرناطة.

في انتظار 1992

في عام 1985، وبينما كانت الأشياء تبدو “مستحيلة التحقُّق”، ستنتبه سلمى، بنباهة الباحث صاحب الحس التاريخي، إلى أنّ سنوات قليلةً تفصل عن عام 1992، الذي سيتزامن مع مرور خمسمئة عام على سقوط الأندلس (1592)، وسيُعيد معه “ذكريات مختلفة لأربعة شعوب”: مشاعر القهر والأسى بالنسبة إلى العرب، ونشوة الانتصار النهائي للإسبان، وفرحة “الاكتشاف” الذي غيّر وجه العاَلم للأميركيّين، وذكريات التهجير والشتات لليهود. تكتب: “كان هذا الإدراك المُفاجئ كافياً ليدفعني إلى مغامرة جديدة، فنهضتُ للعمل”.

شرعَت سلمى الخضراء الجيوسي، مع مجموعة من أصدقائها الباحثين والدارسين والمترجمين في البلاد العربية وبريطانيا والولايات المتّحدة الأميركية، في الإعداد لعمل عن الحضارة الإسلامية في إسبانيا العصر الوسيط الأوروبي، وقد وضعوا نصب أعينهم إنجاز مجلَّد واحد على الأقلّ. لكنَّ عملاً موسوعيّاً بهذا الحجم يتطلّب، قبل كلّ ذلك، توفير دعم لتحقيقه. وهكذا، راحت تتّصل بمؤسَّسة عربية بعد أُخرى، تُفسّر معنى 1992، وتشرح ضرورة إصدار كتاب شامل عن “حضارة عظيمة وصلت في الأندلس إلى قمّة التمدُّن في العصور الوسطى”.

بنبرة أسى، تستعيد سلمى خيبات تلك الرحلة؛ حيث كتبت في مقدّمة عملها: “تفاصيل هذا السعي الطويل تفاصيل أليمة لم تزل ذكراها، حتى بعد أن صدر الكتاب بالإنكليزية ونال نجاحاً لا يُضاهى، تحزّ في نفسي بقسوة ومرارة، لأنّها تُشير إلى أنّ ثمّة شيئاً سادراً، غافلاً، مضطرباً، مشوَّشاً في ثقافتنا العربية الراهنة التي ترضى، بصَمتها على العدوان الثقافي وعلى هيمنة الآخر الحضارية، أن تظلّ منسية مجهولة ‘مطروحة على هامش التاريخ'”. الخبر الجيّد أنّ هذا السعي الطويل انتهى بتبنّي “صندوق الآغا خان للثقافة” للمشروع عام 1990.

لبنةٌ في الدراسات الأندلسية

صدر الكتابُ أخيراً عام 1992، وكانت النتيجةُ عملاً موسوعيّاً يُغطّي الجوانب الأساسية في الحضارة العربية الإسلامية في الأندلس، ويُبرز تراثها العريق، ويُضيء تأثيراتها الكبيرة. وكان مِن العوامل التي أسهمت في إنجاز المشروع (لحسن الحظّ كما تكتب الجيوسي) ظهور عدد كبير من الباحثين في إسبانيا والغرب خلال تلك السنوات “ممّن أدركوا الأهمّية الكبيرة لبروز الإسلام في العصر الوسيط وعلاقته بتواصل الحضارة البشرية”. لقد قطع هؤلاء الباحثون النزيهون مع تجاهُلٍ استمرّ طويلاً لحضور العرب والمسلمين والمعرَّبين في إسبانيا خلال القرون الوسطى؛ تجاهُلٌ لا تتردّد الجيوسي في وصفه بـالجريمة التاريخية.

وهذه “الجريمة التاريخية” كانت مِن بين ما حاولت الجيوسي التصدّي له عبر مشروعٍ مؤسَّساتي بدأ أوّلاً عام 1980 بمؤسّسة “بروتا” التي ركّزت على الترجمة إلى الإنكليزية والتأليف بها، ثمّ رفدته “رابطةُ الشرق والغرب” التي وُلدت عام 1992 مع صدور الكتاب؛ فبالإضافة إلى إشاعة المعرفة الجديدة عن التراث العربي- الإسلامي، هدف المشروع إلى “تغيير المواقف والرؤى العامّة عن هذا التراث الضخم من الإنجاز الإبداعي والمعرفي”، و”التأكيد على وحدة الإبداع الإنساني وعدم قابليّته للتجزئة”.

نُشر الكتاب باللغة الإنكليزية تحت عنوان “The Legacy of Muslim Spain”، ثمّ تُرجم لاحقاً إلى العربية وصدر عن “مركز دراسات الوحدة العربية” في بيروت عام 1998، وهو يتألّف من جزأَين: خُصّص أوّلُهما (قرابة 800 صفحة) لخمسة محاور؛ هي: التاريخ السياسي، والأقلّيات، والمدن الأندلسية، واللغة والشعر والأدب، والموسيقى، وثانيهما (قرابة ألف صفحة) لستّة محاور؛ هي: الفنّ والعمارة، والتاريخ الاجتماعي وأسلوب المعيشة، والتاريخ الاقتصادي، والفلسفة، والدراسات الدينية، والعلم والتكنولوجيا والزراعة. وبهذا، يُقدّم الكتابُ إضاءةً شاملة على فترة الوجود العربي الإسلامي في الأندلس التي استمرّت قرابة ثمانية قرون.

الحضارة العربية الإسلامية في الأندلس – القسم الثقافي
غلاف الجزء الأول من النسخة الأميركية
يبدأ الكتابُ بدراسة شاملة عن تاريخ الأندلس السياسي من 92 إلى 711م، أعدّها الباحث في الدراسات الأندلسية محمود مكّي (1929 – 2013)، مؤرّخاً لتلك الفترة، بدءاً من فتح شمال أفريقيا ثمّ الأندلس وانتهاءً بسقوط غرناطة في كانون الأوّل/ يناير 1592. ليخلص، في نهاية الدراسة (قرابة مئة صفحة) إلى أنّ الثقافة الأندلسية رفدت الثقافة الإسبانية عن طريق الترجمة، وكانت من بين الأُسُس التي قامت عليها النهضة الأوروبية.

مع الشعر الأندلسي

يستمرّ الكتابُ بعدد كبير من الدراسات لباحثين عرب وأجانب (الملاحَظ أنّ الدراسة الواحدة منها تشكّل كتاباً صغير الحجم)؛ تَحضر بينها دراستان لسلمى الخضراء الجيوسي؛ الأُولى بعنوان “الشعر الأندلسي: العصر الذهبي”، رأَت فيها أنّ نقطة الانطلاق الأُولى في دراسة الشعر الأندلسي ينبغي أن تأخذ في الاعتبار أنّه ذو علاقة شديدة الوثوق بالشعر العربي في المشرق، ولكن في الوقت نفسه يجب الحذر من الاعتقاد بأنّ نتاج الشعراء الأندلسيّين لم يكن غير انعكاس لتأثير شعراء المشرق عليه، فـ “الشعر العربي في الغرب لم يكن محض تقليد وإعادة إنتاج واعية لنظيره في المشرق”. وتُدلّل الباحثة على ذلك بالقول: “عندما تنجح تجربة في الشعر (أو في أيّ فنّ من الفنون) وتنتشر على نطاق واسع، فإنّ ذلك، يحدث، أوّلاً، لأنّ ذلك الفنّ نفسَه كان مستعدّاً لذلك، ولأنّ أولئك الذين يتولّونه كانوا قادرين، فنّياً ونفسياً، على تمثُّل التجربة الجديدة، وثانياً، لأنّ تلك التجربة تُناسب المزاج، أو تُرضي التوقّعات والحاجات والذوق لدى جمهور الشعر في ذلك الزمن”.

الحضارة العربية الإسلامية في الأندلس – القسم الثقافي

ولأنّ الشعر الأندلسي كتبه أناس يعيشون على حدود ثقافة مختلفة، تفحص الجيوسي، في دراستها، إمكانية النظر إليه على أنّه يقع في باب “أدب الحدود”: هل يسعنا النظر إلى الشعر الأندلسي الرسمي بوصفه أدباً معزولاً، وُجد في محيط غريب، تتسرّب إليه على الدوام نوازع ثقافة مختلفة ولغة مختلفة، ويشعر بالولاء نحو أكثر من ثقافة؟ تجيب: “يبدو لي أنّ الأدب الأندلسي الرسمي لا يعكس سوى القليل الذي يدلّ على أنّه كان أدب حدود ذا هوية معزولة، بل يبدو أنّه أدبٌ كان كاتبوه يحسّون بالاطمئنان في أوطانهم”.

تستعرض الباحثة عدداً من التجارب الشعرية في الأندلس (يحيى الغزال، وابن عبد ربّه، ويوسف بن هارون الرمادي، وابن هانئ، وابن درّاج القسطلي، وابن شهيد الأندلسي، وابن زيدون، وأبو بكر محمّد بن عمّار، والمعتمد بن عبّاد) متوقّفةً عند مختلف خصائصها الفنّية، ومُسجِّلةً، بين الحين والآخر ملاحظات وآراء نقدية؛ من بينها ملاحَظةٌ لافتة حول شعر الحبّ في الأندلس، مفادُها أنّ “الأندلس لم تُنجب شاعر حُبّ عظيم أشبهَ بشعراء الحُبّ الأمويّين الكبار، تفرَّد بالموضوع وكرّس له جلّ موهبته”، وأُخرى تتعلّق بقصّة حبّ ابن زيدون لولّادة، والتي استهوت كثيراً من دارسي الشعر الأندلسي؛ إذ تعتبرها “واحدةً من أبسط قصص الحُبّ في الأدب العربي”.

وتخلص الدراسة (قرابة ستّين صفحة) إلى أنّه ينبغي النظر إلى الشعر الأندلسي على أنّه “ذو مسارب عديدة، تظلّ فيه التيارات الفنّية المختلفة مفتوحةً تنشط معاً، فالميل نحو العبارة المبسَّطة والتوجّه الأكثر مباشرةً سوف يظهر في الشعر اللاحق، عند ابن سهل مثلاً، والأمير يوسف الغرناطي (القرن الخامس عشر الميلادي) وغيره، والميل نحو الصناعة والوصف الدقيق والمنمَّق سوف يستمرّ ويعرف تطوّراً مبدعاً حتى يبلغ ذروة جديدة عند ابن خفاجة”.

إضاءةً شاملة على فترة الوجود العربي الإسلامي في الأندلس
ويُمثّل ابن خفاجة موضوع الدراسة الثانية التي تحمل عنوان “شعر الطبيعة في الأندلس وظهور ابن خفاجة”؛ وتستهلُّها بإضاءة على شعر الطبيعة في الأندلس منذ البداية وظهور أنواع ضمن هذا النمط الشعري (مثل النَّوْريات والرَّوْضيات والرَّبِيعيات)، وصولاً إلى ابن خفاجة الذي أحدث تجاوُزاً في هذا النوع الشعري؛ حيث ترى أنّ ظهوره مثّل انعطافةً جديدة في الشعر الأندلسي، على مستويات اللغة والأسلوب والمفردات وبنية الجملة، وهو ما يشكّل “تطوُّراً لغوياً مهمّاً وشديد الوضوح”. هذا على صعيد اللغة، أمّا على صعيد المضمون، فتكتب: “في شعر ابن خفاجة ثمّةَ إدراكٌ حسّي لا للتجربة وحدها، بل للفكرة كذلك، لأنّ بعض أشعاره هي نتيجة لموقف تأمُّلي، لفكرة نشأت عن تجربة مستقاة وُلدت من حالته الذهنية، فتبنّاها وتفاعَل معها. في مثل هذه الأوضاع تتحوّل الأفكار عنده إلى تجربة وجودية، ويتمّ إدراكها شعرياً والتعبير عنها بلغة وصُور حسيّة. ومع ذلك، تتحكّم في هذا كلّه صرامةٌ فنّية تُحافظ على فضاء القصيدة المكتفي بذاته، وتذبّ عنه الميوعة العاطفية والمشاعر الفجّة”.

وتخلص الجيوسي، في دراستها (قرابة أربعين صفحة) إلى أنّ شعر ابن خفاجة “إنْ لم يكُن دينيّاً بشكل مباشر، فإنّه في أفضل أمثلته ميتافيزيقيٌّ أحياناً، ذو حساسية بالغة العمق والحدّة بالعالم، بالمجهول، بِسِرّ عناصر الكون، بسلطان الأجرام السماوية، بأسرار الفصول، وجلال الطبيعة المُرعب”. تعكس هذه الكلمات انحيازاً واضحاً لابن خفاجة، لكنّه قد يُمثّل ردّاً على آراء نقدية ترى أنّ الشعر الأندلسي بعامّة فقيرٌ جدّاً من الناحية الفكرية؛ وهي الآراء التي تعتبر سلمى الخضراء الجيوسي أنّها تُصوِّر سوء الفهم السائد حيال هذا الجزءِ من الشعر العربي.

اقرأ/ي أيضاً: عودة الاغتيالات.. الأهداف والدلالات

Exit mobile version