مرة أخرى حول التطبيع السعودي الإسرائيلي‎

أقلام- مصدر الإخبارية

كتب هاني المصري: حسمت مقابلة ولي العهد السعودي محمد بن سلمان، مع فضائية فوكس نيوز الأميركية، أن التطبيع السعودي الإسرائيلي ليس مجرد احتمال أو أمرًا قابلًا للنقاش، بل بات أمرًا اتّخذ القرار بشأنه من الرياض، ويتقدم باستمرار من دون الحسم أنه سيُحدث الاختراق قبل الانتخابات الرئاسية الأميركية القادمة، وبات البحث جاريًا عن الثمن والتوقيت، فابن سلمان قال: “إننا كل يوم أقرب إلى التطبيع، وإن القضية الفلسطينية مهمة”.

ولكن من دون أن يقيد يديه بها؛ حيث اقتصر حديثه الملموس على تحسين أحوال الفلسطينيين، وفي العادة يطرح المفاوض الحد الأقصى في بداية المفاوضات، ويستعد للمساومة إذا أبدى الطرف الآخر استعدادًا للمساومة، فما نراه مرونة مفرطة مقابل تشدد إسرائيلي، وهذا لا يبشر بالخير.

صحيح أن وزير الخارجية السعودي فيصل بن فرحان قبل المقابلة وبعدها كرر تمسك الرياض بمبادرة السلام العربية، وأن الحل للصراع في المنطقة لا يحل من دون تحقيق الحقوق الفلسطينية المتضمنة في قرارات الشرعية الدولية، ولكن ما جاء في مقابلة الأمير صاحب القرار هو الأهم، وهو يحدد سقف الموقف السعودي.

تماهي موقف ابن سلمان مع الموقف الأميركي

يتقاطع موقف ابن سلمان مع الموقف الأميركي، الذي يركز فقط على استقرار الوضع، من خلال تعزيز السلطة، وتقديم تسهيلات اقتصادية للفلسطينيين، ومنع الأمور من الانهيار، والحفاظ على أفق سياسي لحل الدولتين، الذي من المفترض الخوض فيه لاحقًا؛ أي بعد القضاء عليه كليًا، كما يظهر ذلك في الموقف الإسرائيلي بصورة أوضح وأوقح، الذي يتحدث فقط عن تقديم تسهيلات ومشاريع اقتصادية لتحسين أحوال الفلسطينيين، قافزًا بالكامل عن الحقوق الفلسطينية، حتى المقرة في قرارات الشرعية الدولية والاتفاقات الفلسطينية الإسرائيلية.

اللافت أن ولي العهد السعودي لم يتطرق في مقابلته إلى التمسك بمبادرة السلام العربية والدولة الفلسطينية، ولا لإنهاء الاحتلال، ولا حتى وقف الاستيطان والاعتداءات على الأقصى ولا اشترط تعديل أو تغيير أو حتى تراجع الحكومة الإسرائيلية الحالية عن مخطط الضم والتهويد والتهجير المنصوص عليه في برنامجها، فهو كما قال مستعد للتعامل مع أي حكومة إسرائيلية!

يوحي الموقف السعودي، وخصوصًا من خلال الابتهاج الإسرائيلي به، كما جاء على لسان بنيامين نتنياهو وأركان حكومته، أن إسرائيل تريد أن تأخذ من واشنطن (معاهدة دفاع مشترك مقابل التي يمكن أن تمنح للسعودية)، ومن الرياض (تطبيع كامل)، ومن فلسطين (المضي في مخطط الضم)، من دون أن تعطي شيئًا. فما ستأخذه الرياض ستحصل عليه من الكيس الأميركي، وهذا إن صح يعني أن الرياض مستعدة لصفقة تحصل فيها على معاهدة دفاع مشترك ومفاعل نووي سلمي متقدم وأسلحة أميركية متقدمة، مقابل تجاوز مبادرة السلام العربية، وليس سهلًا أن تقدّم إدارة بايدن كل هذه المسائل وفق المطالب السعودية، وإذا قدمتها ليس من المضمون تمريرها في الكونغرس الأميركي.

ولا تكمن المفاجأة هنا، فسبق أن وافقت الرياض على صفقة ترامب وغضبت من الرفض الفلسطيني لها، وهي صفقة إذا طبقت كما كان مقررًا لها، من شأنها تصفية القضية الفلسطينية من كل جوانبها مقابل “دولة فلسطينية” على 70% من الأراضي المحتلة العام 1967 المقطعة الأوصال والمعزولة عن بعضها البعض والخاضعة كليًا للسيادة الإسرائيلية، وتتضمن تهجير مئات الآلاف من فلسطينيي 48 وإلحاقهم بالدولة الموعودة، كما أعطت الرياض الضوء الأخضر للاتفاقيات الإبراهيمية، وأقدمت على خطوات تطبيعية متلاحقة تمهد بها للتطبيع الكامل، وهذا سيستمر، وهو خطير حتى لو لم يتم إنجاز الصفقة كاملة قبل الانتخابات الأميركية، فهو يهبط بالسقف الفلسطيني والعربي، وتعدّ التنازلات الحالية مكتسبات يتم الانطلاق منها، إضافة إلى أن مجرد السير المتدرج بالتطبيع يأكل الوقت ويقطع الطريق على بدائل أخرى يجب بناؤها من دون تأخير.

ما دوافع السعودية لعقد الصفقة؟

سؤال المليون دولار: ما دوافع السعودية لعقد هذه الصفقة مع أكثر حكومة متطرفة في إسرائيل؟

لقد حذر توماس فريدمان، الصهيوني والصحافي الأميركي الشهير، من مكافأة هذه الحكومة المتطرفة بدلًا من عقابها، وأضيف إلى ما سبق أن الظروف التي استدعت الموافقة السعودية على صفقة ترامب تغيرت. فقد تراجع التهديد الإيراني للسعودية بعد فتح صفحة جديدة بينهما بعد إعلان بكين، الذي يجري تنفيذه، بدليل تبادل السفراء بين الرياض وطهران والشروع في التفاوض، وتقدمه على طريق إنهاء الحرب اليمنية.

لقد تبيّن بالملموس أن التحالف مع واشنطن لا يوفر الحماية كما ظهر في ردة الفعل الأميركية بعد الهجوم على أرامكو في السعودية في العام 2019، وكان ترامب سيد البيت الأبيض الذي قال ردًا على هذا الهجوم إن السعودية ليست الولايات المتحدة، وتنصل من مسؤولية الدفاع عنها، على الرغم من المليارات الكثيرة التي أغدقت عليه عبر الاستثمارات السعودية وعقود التسليح التي أبرمت وغيرها لصهره وحاشيته.

الرياض وتنويع العلاقات شرقًا وغربًا

كما أن الرياض تعاكس الطريق الذي شقّته في السنوات الأخيرة، من خلال تنويع علاقاتها، واللعب على التناقضات، والتنافس الشرقي الغربي، وفي أساسه الأميركي الصيني، وهذه السياسة لا بديل منها إذا أريد تحقيق المصلحة السعودية ومتطلبات قيام السعودية بدور قيادي عالمي في ظل شبكة العلاقات الصينية السعودية الكبيرة، التي غدت أكبر من العلاقات الأميركية السعودية، كما يدل حجم التبادل التجاري بين البلدين.

وفي هذا السياق، يحاول حاكم الرياض أن يحتفظ بعلاقات جيدة جدًا مع المعسكرين المتنافسين، من خلال الاستثمار في العلاقات العسكرية والأمنية عبر الارتباط بمعاهدة دفاع مشترك مع أميركا، ومشاكستها في منظمة أوبك بلس والعضوية في منظمة بريكس، وشريك في الوقت نفسه في خطة الحزام والطريق الصينية، والممر الاقتصادي الأميركي الذي أعلن عنه في قمة العشرين الأخيرة، والذي هدفه قطع الطريق على الحزام والطريق، والمشاركة السعودية والإماراتية فيه لن يكون مرحبًا بها صينيًا.

لم يعد التطبيع ممرًا إجباريًا

لم يعد التطبيع مع إسرائيل ممرًا إجباريًا لتحسين علاقات الدول بأميركا، فمن جهة أميركا لم تعد القوة المهيمنة انفراديًا على العالم، وهي بحاجة إلى العلاقات والتحالفات مع الآخرين بقدر حاجتهم إليها، وربما أكثر، بدليل تراجع الدور الأميركي في الشرق الأوسط والعالم كله في ظل الصعود الصيني، وهناك عالم متعدد الأقطاب لم يولد بعد، لكنه أخذ يطل برأسه.

ومن جهة أخرى إسرائيل في أسوأ وأضعف حالاتها، في ظل الأزمات التي تواجهها، خصوصًا الأزمة الداخلية، فهي لم تعد البعبع الذي يسيطر ويخيف أعداءه ومنافسيه في منطقة الشرق الأوسط، ولا الشرطي الذي يحمي المصالح الأميركية والغربية، بل هي باتت بحاجة إلى من يحميها، بدليل قدوم القوات الأميركية إلى المنطقة وشن الحرب على العراق، وعجزها – أي إسرائيل – عن التعامل مع القوى الشعبية المسلحة المحيطة بفلسطين، ومع الملف النووي الإيراني، مع أن إيران باتت على عتبة إنتاج قنبلة نووية.

لا أبالغ بالقول إن التطبيع بالشروط المطروحة والمتداولة ينقذ إسرائيل من نفسها، ومحاولة لإعادة طموحها المنهار للقيام بدور مركزي مهيمن في المنطقة يعوض عن تراجع الدورين الأميركي والإسرائيلي.

التطبيع وصفة للحرب وليس وصفة للسلام

يبقى أمر واحد يمكن أن يقدم لتفسير وتبرير الاندفاع السعودي نحو التطبيع، مع أنه غير مقنع، وهو أن حاكم الرياض الشاب لديه رؤية طموحة لقيام السعودية بدور عالمي، وهي بحاجة إلى تصفير المشاكل والأزمات مع كل الدول، بما فيها إسرائيل. وهذا صحيح، لكن لا بد من رؤية خصائص الوضع بعمق ودقة. فالتطبيع من دون إلزام إسرائيل بإنهاء احتلالها وتجسيد الدولة الفلسطينية لن يُصفّر الأزمات معها، ولا يقلل من دورها بوصفها عاملًا مهددًا للأمن والاستقرار والسلام، بل يشجعها على مواصلة وتصعيد سياستها الاستعمارية الاستيطانية العنصرية العدوانية التي لا تستهدف الفلسطينيين، فقط وإنما تهدد الأمن والاستقرار والسلام في المنطقة والعالم، خصوصًا في بلدان الطوق، فدور إسرائيل يبقى العامل الأهم في إحداث التوتر والصراع، لسبب بسيط، لأنه يقفز عن خصائص وقوى المنطقة وعن الحقوق الفلسطينية، وهذا يؤدي إلى استمرار الصراع وتصعيده.

وإلى من لا يصدق ما ذهبنا إليه بأن القضية الفلسطينية مركزية وأن التطبيع من دون انسحاب إسرائيلي سيفاقم عوامل عدم الاستقرار، فليقرأ الأحداث التي جرت في هذه المنطقة منذ مائة عام، ومنذ التطبيع وحتى الآن ثبت أن التطبيع وصفة للحرب أكثر ما هو وصفة للسلام، فبعد التطبيع المصري الإسرائيلي شنت حكومة مناحيم بيغين عدوانًا على لبنان في العام 1982.

كما أن اتفاق أوسلو لم يجلب الأمن والاستقرار، فقدم الشعب الفلسطيني منذ توقيعه أكثر من سبعة آلاف شهيد وأضعافهم من الأسرى والجرحى، وتعمق الاحتلال والاستيطان والعنصرية والعدوان، وسارت إسرائيل نحو المزيد من التطرف، وكان هناك أكثر من 2000 قتيل إسرائيلي، وبعد إقرار مبادرة السلام العربية بيوم واحد شنت قوات الاحتلال عملية السور الواقي ضد السلطة الفلسطينية، التي انتهت بحصار مقر الرئيس ياسر عرفات واغتياله، وكان الرد على اعتدال ومرونة خليفته المزيد من التطرف والعدوان الإسرائيلي وتجاوز اتفاق أوسلو والمفاوضات، وقتل ما سمي “عملية السلام”.

وفي هذا السياق، لم تحفظ معاهدة وادي عربة وحدة الأردن وسلامته؛ لأنها لم تدفن مخطط الوطن البديل؛ أي حل القضية الفلسطينية على حساب الأردن، بل إن أنصار هذا الحل هم الآن في إسرائيل أقوى من أي وقت مضى، والرعاية الهاشمية للمقدسات منتهكة بالاقتحامات والتقسيمَيْن الزماني والمكاني للأقصى تمهيدًا لهدم الأقصى وبناء هيكل سليمان بدلًا منه.

كما أن الاتفاقيات الإبراهيمية لم تشجع إسرائيل على السلام أو تخفيف سياساتها العدوانية، بل تربعت بعدها في إسرائيل حكومة هي باعتراف الجميع وأصدقاء إسرائيل قبل أعدائها الأكثر تطرفًا مقارنة بكل الحكومات الإسرائيلية السابقة، ويكفي أنّها لأول مرة طرحت الضم في البرنامج الذي شكلت على أساسه.

كل ما سبق يوضح أن التطبيع، خصوصًا إذا وصل إلى محطته الأخيرة بالشروط والظروف المطروحة حاليًا، خطوة لن تمكّن السعودية من تحقيق رؤية ولي العهد الطموحة، بل ستحد من فرص نجاحها، فضلًا عن أنها ستصب الزيت على نار الأزمات والحرائق المندلعة في المنطقة، وأهمها الملف النووي الإيراني، والتقدم في دور إيران وحلفائها الذين لن يقفوا مكتوفي اليدين أمام التطبيع الزاحف، الذي وصفه الرئيس الإيراني إبراهيم رئيسي في خطابه الأخير في الأمم المتحدة بالخيانة للقضية الفلسطينية.

هل السعودية في عجلة من أمرها للتطبيع؟

على الرغم من كل ما تقدم، هل التطبيع حتمي وسريع وخلال ستة أشهر، كما قال إيلي كوهين، وزير الخارجية الإسرائيلي. ليس من السهل بلع ذلك، فالسعودية ستفكر أكثر من مرة قبل الإقدام عليه عشية حملة انتخابية أميركية فرص فوز الرئيس جو بايدن فيها ليست قوية كما تشير الاستطلاعات الأميركية، فلماذا منح هذه المكافأة الكبيرة لرئيس راحل، بل يمكن الانتظار ومنحها لرئيس قادم العلاقات معه إذا كان دونالد ترامب أحسن من الحالي، وإذا كان مرشحًا آخر من الحزب الجمهوري فعلاقات السعودية مع الحزب الجمهوري أفضل من الحزب الديمقراطي الذي يشهر في وجهها مسائل عديدة، منها مسألة حقوق الإنسان .

إنّ التطبيع مع أكثر حكومة سوءًا وتطرفًا في إسرائيل لن يزيد من رصيد السعودية الباحثة عن دور عالمي، بل سيأكل من رصيدها ومكانتها؛ لأنها ستبدو أنها باعت القضية الفلسطينية بثمن بخس مقابل مصالح سعودية ضيقة لأفراد وليس للبلد، في الوقت الذي يمكن أن تحصل عليها من دون هذا الثمن الباهظ، فخطر الحرب مع إيران تراجع، ويمكن الحصول على برنامج نووي متقدم من الصين أو روسيا، ويمكن أن تنتظر السعودية إلى حين تشكيل حكومة إسرائيلية أقل تطرفًا يمكن أن توافق على إعطاء شيء ما يحفظ ماء وجه السعودية والقيادة الفلسطينية، من دون الرهان على استجابتها للحقوق الفلسطينية في حدها الأدنى، فلا يوجد شريك إسرائيلي للسلام من هنا وحتى تتغير خريطة القوى داخل إسرائيل.

كما يبدو أن القيادة الفلسطينية أخذت درسًا من موقفها السابق العنيف عند عقد الاتفاقات الإبراهيمية، حين وصفت الاتفاق الإماراتي بالخيانة والطعنة في الظهر، ثم تراجعت عن ذلك من دون إعلان، في حين كان المطلوب ولا يزال لا تخوين ولا مشاركة وتوفير غطاء، بل معارضة واعية.

القيادة الفلسطينية شريك التطبيع في الخفاء

قررت القيادة الفلسطينية على ما يبدو القبول بأن تكون شريكًا بالباطن مع السعودية حتى تحقق أي مكاسب ممكنة، حتى لو كانت ضمن سقف تحسين حياة الفلسطينيين على أساس أن إنقاذ ما يمكن إنقاذه خير من خسارة كل شيء، وهذا يظهر بشكل مباشر من خلال الثقة المعلنة بصورة مبالغ فيها بالموقف السعودي، من دون توضيح نتائج اللقاءات السعودية الفلسطينية، مع تسريبات أن المطالب الفلسطينية أقل من الخطابات الرسمية المعلنة.

كما يظهر ذلك بشكل غير مباشر في خطاب الرئيس في الأمم المتحدة، الذي لم يتطرق إلى التطبيع القادم، مع أنه الترند الأول في كل نشرات الأخبار، فأخباره وصلت كل الأصقاع، ولم يحدد المطالب الفلسطينية ولم يربطها بما يجري التباحث حوله، بل أبقى حبل الأمل بأن تطبق الأمم المتحدة ولو قرارًا واحدًا من قراراتها التي تجاوزت الألف، الذي هو في الحقيقة استمرار للوهم القديم المتجدد بظروف أسوأ، فالمؤسسات الدولية مع أهمية العمل فيها ووضعها أمام مسؤولياتها في مرحلة انهيار النظام العالمي القديم وقبل ولادة النظام الجديد أبعد ما تكون عن تطبيق قرار واحد، فلماذا استمرار الرهان على ما لا يمكن الرهان عليه، إلا إذا كان “وراء الأكمة ما وراءها”؟

هناك فرصة لاستدراك الموقف من خلال بلورة المطالب الفلسطينية وتقديمها إلى المبعوث السعودي السفير نايف بن بندر السديري، الذي من المتوقع أن يصل رام الله اليوم لتقديم أوراق اعتماده.

مطلوب تغيير خطاب الرهانات الخاطئة

كان يمكن توظيف منبر الأمم المتحدة ليس للشكوى وطلب الحماية، وتكرار البدهيات والرهانات الخاطئة والخاسرة، وإنما لطرح رؤية جديدة وطنية واقعية شمولية تراهن أولًا وأساسًا على الشعب وتوحيد قواه، وعلى ممارسة أشكال المقاومة الشاملة، وتضع سدًا عاليًا أمام أي تطبيع سيمكن إسرائيل (لأنه سيفتح الأبواب لتطبيع بلدان عربية وإسلامية أخرى) من مواصلة تطبيق خطة إقامة إسرائيل الكاملة على جثة الحقوق الفلسطينية الكاملة، بما فيها إقامة دولة فلسطينية.

قيل بحق إن السلم يبدأ بفلسطين والحرب تبدأ بفلسطين، ولن يضيع الحق الفلسطيني ما دام الشعب الفلسطيني على أرضه وفي الشتات وأماكن اللجوء متمسكًا به، ويناضل لتحقيقه، وما دامت الشعوب العربية وقطاعات متزايدة من البلدان والأحزاب والنخبة والرأي العام العالمي معه، وذلك من خلال التمسك بالحقوق والأهداف، والنضال لتغيير الحقائق على الأرض، وليس الاستسلام لها، من دون مغامرة ولا تهور، حتى تنعكس لاحقًا على الاتفاقات والقرارات التي ستعقد وستصدرها الأمم المتحدة، وستكون لها القدرة في هذه الحالة على التطبيق.

مبادرة السلام بديل أم غطاء واستكمال للتطبيع

أخيرًا، لا بد من الإشارة إلى أن إطلاق مبادرة السلام التي يرعاها كل من السعودية والاتحاد الأوروبي والجامعة العربية ومصر والأردن، على هامش اجتماعات الأمم المتحدة، في الوقت نفسه الذي تجري فيه مباحثات حثيثة للتطبيع، ستكون عمليًا إذا لم تفصل نفسها كليًا عن التطبيع الذي يدفن السلام، وبغض النظر عن نوايا بعض المشاركين، غطاءً للتطبيع وللتنازلات التي تقدم على طريقه، وليس بديلًا منها، وإنما استكمالًا لها.

اقرأ/ي أيضًا: الرئيس عباس لم يخرج عن النص هذه المرة

لماذا لم تنجح المحاولات لبلورة قطب أو تيار ثالث؟.. بقلم هاني المصري

أقلام-مصدر الإخبارية

على الرغم من كثرة المحاولات التي جرت منذ توقيع اتفاق أوسلو حتى الآن، لبلورة قطب أو تيار ثالث وطني ديمقراطي يساري أو ليبرالي، فإنها لم تنجح.

محاولات لم يُكتب لها النجاح

لم تنجح حركة البناء الديمقراطي التي أسسها الدكتور حيدر عبد الشافي، على الرغم من الكاريزما التي يتمتع بها، ومع أنها لم تفقد السبل للحصول على دعم مالي غير مشروط، كما لم تنجح حركة المبادرة الفلسطينية التي أسسها الدكتور مصطفى البرغوثي، على الرغم من الحضور السياسي والإعلامي والميداني الكبير للبرغوثي، وحصوله على الترتيب الثاني في الانتخابات الرئاسية في العام 2005، حين خاضها بالتحالف مع الجبهة الشعبية، وحصل على أكثر من 20% من الأصوات، في حين لم يحصل كل من تيسير خالد وبسام الصالحي على نسبة تذكر.

كما فشلت كل المحاولات لتوحيد اليسار على خلفية خوض الانتخابات بصورة مشتركة أو من دون انتخابات. ولم تنجح قائمة الطريق الثالث التي خاضت الانتخابات التشريعية الأخيرة وحصلت على مقعدين فقط، على الرغم من الدعم السياسي والمالي الكبير، فسرعان ما انتهت التجربة بعيد الانتخابات، مع أنها تضم نخبة بقيادة سلام فياض وحنان عشراوي. كما لم تنجح قائمة مصطفى البرغوثي وراوية الشوا التي انتهت بعد إعلان نتائج الانتخابات. وكذلك لم تنجح حراكات ومحاولات كثيرة وطنية ويسارية وليبرالية؛ لأنها تعيد إنتاج التجارب السابقة، أو لم تستطع طرح بديل متكامل وتجسيده على الأرض وتتنافس فيما بينها، ولا دمج دماء وأفكار جديدة، خصوصًا الشباب من الجنسين، بما فيها معظم القوائم الست والثلاثين التي سُجلت لخوض الانتخابات، ولكنها سرعان ما تبخرت بعد قرار إلغاء الانتخابات.

أعرف أن هذا الموضوع بحاجة إلى بحث طويل وعميق، يغوص في الأسباب والجذور، ويرى هل يمكن النجاح فيما فشل بالأمس، أم أن الحاجة ماسة لحركات وأحزاب من طراز جديد تستطيع أن تكون بمستوى التحديات والمخاطر والتضحيات، وقادرة على استيعاب دروس وعبر تجارب الماضي، والسير بثقة وثبات لتحقيق النصر في المستقبل.

لذا، سأكتفي في هذا المقال بطرح بعض الأسئلة والأفكار والفرضيات علها تساعد على تمهيد الطريق للإجابة عن السؤال الأساسي الذي يطرحه المقال.

أولًا: المقاومة مصدر شعبية التنظيمات

كل تنظيم فلسطيني حصل على شعبية كبيرة، وأدى دورًا قياديًا، كان في الأساس تنظيمًا مقاومًا، اعتمد المقاومة الشاملة بشكل عام، والمقاومة المسلحة بشكل خاص، وهذا يعود إلى طبيعة الصراع وخصائصه المستمدة من المشروع الصهيوني، الذي يطرح طرحًا جذريًا، ولا يقبل التسويات والحلول الوسط، ويستخدم العنف والمجازر والتهجير والفصل العنصري، وإنكار وجود الشعب، وتزوير التاريخ، ومصادرة الحاضر تمهيدًا لمصادرة المستقبل.

قد يطعن أحد في هذا القول بالإشارة إلى أن اليسار، وخصوصًا الجبهة الشعبية كانت تؤدي دورًا فاعلًا ومقاومًا، والحزب الشيوعي الذي بات “حزب الشعب” كان حزبًا فاعلًا، مع أنه لم يتبن المقاومة المسلحة، كما أن الجبهة الديمقراطية قامت بدور مهم، لكن يغلب عليه الطابع السياسي والإعلامي، وهذا الرأي صحيح بما يتعلق بفعالية فصائل اليسار، ولكن المضمون المشار إليه آنفًا يتعلق تحديدًا بالقيام بدور قيادي أول، مثلما فعلت حركة فتح منذ دخول فصائل الثورة الفلسطينية في العام 1969، أو نافست على القيام بالدور القيادي الأول، مثلما أدت “حماس” هذا الدور منذ الانتخابات البلدية والتشريعية في العامين 2005 و2006 وحتى الآن.

الحقيقة العارية أن الخريطة السياسية الفلسطينية تشهد استقطابًا حادًا بين حركتي فتح وحماس في العقدين الأخيرين، كما تدل عمليات المقاومة وعدد الأسرى والشهداء ونتائج الانتخابات الطلابية والنقابية والتشريعية، وكما يظهر في انقسام السلطة بعد الانقلاب/ الحسم في العام 2007، إلى سلطتين متنازعتين تحت الاحتلال تقود الأولى “فتح” ولو بالاسم، وتقود الأخرى “حماس”.

كما يشير مختلف الاستطلاعات الجادة إلى أن حركتي فتح وحماس تحصلان على 70% من الأصوات في أي انتخابات قادمة، بينما تحصل الأحزاب الأخرى مجتمعة على 10% من الأصوات، والبقية غير حاسمة إلى من تصوت، وسيكون تصويتها سلبيًا بعدم الذهاب إلى الانتخابات، أو عدم انتخاب أي قائمة، أو التصويت لقوائم جديدة، أو تتوزع أصواتها على حركتي فتح وحماس إذا لم تكن هناك قوائم منافسة جدية.

ثانيًا: الدور القيادي مترافق مع تغييرات وروافع عربية وإقليمية ودولية

إن قيادة حركة ما للشعب الفلسطيني، أو قيامها بدور قيادي، ترافق مع تغييرات في البيئة العربية والإقليمية والدولية؛ أي إنّ حركة فتح ما كانت لتتبوأ الدور الذي قامت به لولا أولًا دعم الأنظمة العربية، وخصوصًا النظام الناصري، الذي انتقل من التشكيك بحركة فتح قبل هزيمة 67 إلى اعتبارها أنبل ظاهرة أوجدها التاريخ، وثانيًا دعم حركات التحرر والقوى والأحزاب التقدمية في العالم والمنظومة الاشتراكية، وعلى رأسها الاتحاد السوفييتي.

كما أن حركة حماس لم تنهض وتقوم بدور قيادي لولا نهوض الإسلام السياسي وجماعة الإخوان المسلمين، ولولا أن الولايات المتحدة والغرب عمومًا باتا يراهنان على “الإسلام المعتدل” في مواجهة “الإسلام المتطرف” والدول الديكتاتورية العسكرية والدينية.

وفي هذا السياق، طالب الرئيس الأميركي باراك أوباما الرئيس المصري حسني مبارك بعد ثورة يناير في العام 2011 بالتنحي، وشجعت إدارته الإخوان المسلمين على التقدم بمرشح منهم للانتخابات الرئاسية المصرية، مع أن مجلس الشورى اتخذ قرارًا سابقًا بعدم خوض الانتخابات الرئاسية، وفصل عبد المنعم أبو الفتوح؛ لأنه قرر خوض الانتخابات متمردًا على قرار جماعته.

ثالثًا: التنظيم القيادي يطرح رؤية تميّزه

التنظيم القيادي أو الذي يقوم بدور قيادي يطرح رؤية أو فكرة مركزية قيادية تميزه عن غيره من التنظيمات، فحركة فتح تميزت عن الحركات والأحزاب الأخرى القومية والدينية واليسارية، أنها طرحت أهمية الدور المركزي الخاص للشعب الفلسطيني في إنجاز تحرره الوطني والديمقراطي، من دون انتظار نهوض المارد القومي الوحدوي أو المارد الإسلامي أو الأممي، بل تبنت فكرة إطلاق مبادرة قوامها أن اضطلاع الشعب الفلسطيني بدوره الوطني هو الذي سيحرك الأبعاد الأخرى القومية والدينية والإنسانية، وفيما بعد انجرفت وغلبت استقلالية القرار الفلسطيني وذهبت به أكثر بكثير مما ينبغي بوصفه ردة فعل على تخلي النظام الرسمي العربي رويدًا رويدًا عن القضية الفلسطينية، وحتى تكون القيادة الرسمية حرة اليدين؛ أي غير مقيدة من الأبعاد العربية والدولية، وهذا أوصلها إلى أوسلو وما بعده.

وفي هذا السياق، طرحت حركة فتح مركزية القضية الوطنية على القضايا الأخرى الديمقراطية والاجتماعية والأيديولوجية، وتصرفت على أنها حركة الشعب الفلسطيني، وتبنت الكفاح المسلح إلى درجة اعتبرت أن “هويتي بندقيتي” وأنه الخيار الوحيد في البداية، والرئيسي فيما بعد، قبل أن تنتقل إلى اعتبار المفاوضات “حياة” وأسلوبًا وحيدًا ثم رئيسيًا لتحقيق الأهداف.

أما حركة حماس، فتبنت المقاومة المسلحة ومارستها بوصفها طريقًا للقيادة والتمثيل، وأدركت بعد سنوات على تأسيسها أهمية البعد الوطني الذي بات يتقدم إلى جانب البعد الديني، وعلى كونها جزءًا من مشروع وحركة إسلامية، فتبنت البرنامج المرحلي بوصفه خطوة على طريق التحرير والعودة، وهذا جعل منها لاعبًا سياسيًا يعطي أهمية كبيرة للاعتراف العربي والدولي بها على حساب الاعتراف بالحقوق؛ أي وقعت في الخطأ نفسه الذي وقعت فيه المنظمة، وساهم في إيصالها إلى ما وصلت إليه؛ إذ أصبحت “حماس” تنافس على الشرعية وفي التصدي للمهمات المباشرة، ولا تكتفي بالتنظير للأهداف البعيدة.

وتبنت “حماس” كذلك خيار الدخول إلى السلطة والمنظمة من دون اشتراط تغييرهما أولًا، بعد أن كانت تطرح حتى العام 2005، ضرورة إقامة منظمة تحرير جديدة موازية للمنظمة، ورفضت الانخراط في سلطة أوسلو.

كما تبنت شعار التغيير والإصلاح بعد أن وصلت السلطة التي ولدت من رحم اتفاق أوسلو إلى كارثة، من حيث انعدام الحكم الرشيد والتعدي على الحقوق والحريات وانتشار الفساد، والأهم من حيث عدم تحقيق برنامج حق تقرير المصير والاستقلال الوطني وإنهاء الاحتلال وتجسيد الدولة الفلسطينية، على الرغم من تقديم القيادة الفلسطينية تنازلات كبرى، أخطرها الاعتراف بحق إسرائيل في الوجود والعيش بأمن وسلام.

رابعًا: صعود الحركة الوطنية وهبوطها مرتبط بصعود “عملية السلام” وهبوطها

بيّنت التجربة التاريخية أن صعود الحركة الوطنية الفلسطينية وهبوطها، بجناحيها الوطني والديني، مرتبط بصعود وهبوط ما يسمى “عملية السلام” والمفاوضات؛ حيث سرعان ما تبنت حركة فتح خط المفاوضات والتسوية؛ ما أدى إلى هبوطها، كما سرعان ما فوضت “حماس” الرئيس محمود عباس بالتفاوض، كما جاء في وثيقة الوفاق الوطني (وثيقة الأسرى) في العام 2006، ووقعت في حبائل السلطة وامتيازاتها.

لذلك، وصلت إستراتيجيتا المفاوضات والمقاومة إلى طريق مسدود، على الرغم من اختلاف الظروف والنيات والدوافع والخصائص والتحالفات الإقليمية والدولية، وأكبر دليل أن معادلة “هدوء مقابل تسهيلات ومشاريع اقتصادية” باتت تحكم إلى حد كبير علاقة السلطتين المتنازعتين بالاحتلال بغض النظر عن المسائل الأخرى التي تميز فيما بينهما.

خامسًا: اليسار من الفاعلية إلى التلاشي

أدى اليسار الفلسطيني مع انطلاقة الثورة حتى توقيع اتفاق أوسلو دورًا مهمًا، إلا أن دوره تراجع إلى حد يقترب من التلاشي، ويدل على ذلك أن اليسار بمختلف ألوانه حصل في الانتخابات التشريعية في العام 2006 على 5 مقاعد من أصل 132 مقعدًا. كما تشير الاستطلاعات إلى أنه لن يتجاوز هذه النسبة في أي انتخابات قادمة.

إن الجذر الأساسي لعدم استمرار تبوء اليسار لدوره السابق، وعدم التقدم لإمساك زمام القيادة، ليس عدم تمكنه من الحصول على الدعم المالي ولا انهيار الاتحاد السوفييتي ومنظومته الاشتراكية، ولا دور الاحتلال، ولا عدم وحدة فصائل اليسار؛ لأن وحدة ما يقارب الأصفار لا تولد تنظيمًا جماهيريًا، بل تولد صفرًا أكبر، على أهمية هذه الأسباب، وإنما عدم قدرته على تجسيد فلسطيني عربي للنظرية الماركسية اللينينية التي تبناها في نظرية ثورية تشخص الواقع الملموس، وتقدم تحليلات، طبقيًا ووطنيًا، تستند إلى خصائص الوضع الفلسطيني، وتضع السياسات وطرق العمل للتغيير، وغير معروف الآن هل لا يزال يتبنى الماركسية أم لا، وهل هي أداة للتفكير والتحليل والعمل أم صنم نعبده؟

لم يبلور اليسار بديلًا نظريًا، سياسيًا واجتماعيًا ووطنيًا وطبقيًا واقتصاديًا وديمقراطيًا وعمليًا متكاملًا، عن الخيارات التي تطرحها “فتح” أولًا و”فتح” و”حماس” ثانيًا، بل اكتفى في الغالب بتشخيص الواقع بشكل مجزوء وانتقاد الممارسات السائدة، واكتفى في العديد من اللحظات التاريخية بالاكتفاء بتسجيل موقف للتاريخ، وعدم طرح وممارسة دوره بوصفه بديلًا ليس من المنظمة ومؤسساتها، وإنما من سياسات وخيارات وممارسات قيادتها، وتذبذبت فصائل اليسار ونخبه بين قطبي الانقسام، وبين المعارضة اللفظية والموالاة والتنافس فيما بينها على من الفصيل الثاني، ثم على دور الفصيل الثالث بعد تقدم “حماس” على طريق المنافسة على القيادة، مع العلم أن الجهاد الإسلامي تَقدّم، خصوصًا في الفترة الأخيرة، وبات يحتل موقع التنظيم الثالث.

مأزق شامل ينذر القضية بالتصفية

إن المأزق العميق والشامل الذي وصلت إليه القيادة الفلسطينية والفصائل والنخب على اختلاف أنواعها، هو أولًا وأساسًا مأزق المشروع الوطني والمؤسسة الوطنية الجامعة والإستراتيجيات، وغياب الجبهة الوطنية الواسعة التي تتطلبها مرحلة التحرر الوطني، والانقسام الأفقي والعمودي، الذي ينذر بالتعميم والانتشار أكثر ما ينبئ بقرب الوحدة، بدليل وصول القضية الفلسطينية إلى مرحلة تنذر بتصفيتها من كل أبعادها، على الرغم من كل مظاهر الصمود والمقاومة والتضحية التي يظهرها الشعب والفصائل في أحيان كثيرة بشكل عفوي وتلقائي، من دون رؤية شاملة ولا إستراتيجيات واحدة وبلا قيادة ومؤسسة وطنية واحدة، ولا تزال تبقي القضية حية حتى الآن.

هناك فراغ ينتظر من يملؤه

تأسيسًا على ما سبق، هناك فراغ ينتظر من يملؤه، وهو إما يملؤه قيام القوى القائمة بتجديد وتغيير وإصلاح نفسها، وهذا يبدو بعيد المنال، فالعوائق التي تمنع التغيير كبيرة وثقيلة جدًا، أو ميلاد قوى وحراكات جديدة تستوعب تجارب المراحل السابقة، وتكون بمستوى المخاطر والتحديات المحدقة والفرص المتاحة، وتواكب المستجدات والخبرات والحقائق الجديدة، وتعيد صياغة المشروع الوطني بما يحفظ الحقوق والأهداف الأساسية والرواية التاريخية؛ أي ينطلق من وحدة القضية والأرض والشعب، ويتمتع بالقدرة على رؤية المهمات والأهداف البعيدة والمتوسطة والقريبة؛ أي يدرك أهمية المرحلية في ظل توازن القوى ومرور العالم بمرحلة انتقالية لا نعرف متى وكيف ستنتهي، والعمل لتحقيق أقصى ما يمكن في كل مرحلة، من دون فقدان البوصلة التي تحدد ما يجب العمل لتحقيقه لاحقًا، وبما يجمع ما بين الوطني والديمقراطي ومختلف أشكال النضال من دون التعامل معها بوصفها أصنامًا مقدسة، وإنما وسائل لتحقيق الأهداف.

أو تملأ الفراغ الخيارات والبدائل الإسرائيلية والأميركية والدولية والعربية إلى حين نهوض الشعب في النهاية، الذي سيمسك بزمام المبادرة.

اقرا/ي أيضا: لابيد يتعهد بمنع التنظيمات الفلسطينية من تهديد مواطني دولته

فلسطين وصفقة التطبيع بين السعودية وإسرائيل ‎

مقال- هاني المصري

منذ أشهر عدة تقود إدارة الرئيس الأميركي جو بايدن حراكًا سياسيًا؛ بهدف التوصل إلى اتفاق بين السعودية وإسرائيل حول تطبيع العلاقات بينهما، لدرجة تعيين مبعوث خاص لهذه المهمة، وعدّت واشنطن هذه القضية هي المهمة المركزية التي تسعى إلى تحقيقها حتى شهر آذار القادم، عند بدء الحملة الانتخابية الرئاسية، التي لا تبدو فرص بايدن فيها كبيرة.

تزعم إدارة البيت الأبيض في الكواليس أنها تحركت بهذا الاتجاه بعد طلب من ولي العهد السعودي محمد بن سلمان، الذي أخبرها أن بلاده اتخذت قرارًا إستراتيجيًا بالسلام مع إسرائيل، وأن البحث والتفاوض يجري حول شروط هذا السلام وتفاصيله.

وتناولت مصادر إعلامية وسياسية أميركية وإسرائيلية وغيرها هذا الموضوع وتطوراته باستمرار، وكانت أحيانًا تصور أنه تم التوصل إلى إطار عام للاتفاق، كما نشرت صحيفة وول ستريت جورنال الأميركية أخيرًا، وأحيانًا يتم تصوير أن الأمر معقد وسيحتاج إلى وقت، لدرجة صرح بنيامين نتنياهو رئيس الحكومة في لقائه مع بلومبيرغ الأميركية أن الأمر قد يأخذ مسارًا تدريجيًا؛ أي يتم تطوير العلاقات من تحت وفوق الطاولة في المجالات الاقتصادية، خصوصًا الطاقة والبنية التحتية والتكنولوجية والأمنية والعسكرية، قبل الوصول إلى تطبيع العلاقات الديبلوماسية وتبادل السفراء.

مطالب السعودية من واشنطن وتل أبيب

إذا كانت المطالب السعودية من واشنطن باتت معروفة، وهي مفاعل نووي سلمي متقدم، والحصول على أسلحة أميركية متقدمة، وتوفير شبكة أمان من خلال تعهد الإدارة الأميركية بالتعامل مع أي هجوم معاد على السعودية مثلما تتعامل مع هجوم مماثل على دولة عضو في حلف الناتو، ويقال إن هناك تقدمًا في التفاوض حول هذه المطالب كما أشار بايدن بنفسه.

أما المطالب السعودية بخصوص القضية الفلسطينية، فهناك غموض بشأنها، فمن جهة هناك الموقف الرسمي التقليدي السعودي، الذي جوهره لا تطبيع قبل قبول إسرائيل بمبادرة السلام العربية، التي تتضمن قيام دولة فلسطينية.

ومن جهة أخرى، لا تفصح السعودية للقيادة الفلسطينية حول ما الموقف بخصوص الشق الفلسطيني، مع تطمينها بأن القضية الفلسطينية حاضرة، وهناك ما كتبه توماس فريدمان بعد لقائه بالرئيس الأميركي بأن السعودية يمكن أن تقبل بأقل من المعلن، وحدد معالم ما يمكن أن يحدث بمطالبة إسرائيل الموافقة على عدم ضم الضفة الغربية، وتحديدًا مناطق (ج)، وتجميد الاستيطان من خلال عدم إقامة بؤر ومستوطنات جديدة، وعدم شرعنة البؤر الاستيطانية القائمة، والحفاظ على إمكانية قيام دولة فلسطينية، والحفاظ أيضًا على السلطة ومنع انهيارها، والاستعداد لتقديم دعم مالي سعودي سخي لها.

صفقة جديدة أخطر من صفقة ترامب

إن التوصل إلى اتفاق سيكون بمنزلة صفقة كبرى لا تقل أهمية، بل أخطر من اتفاقية كامب ديفيد المصرية، كونها تعقد مع دولة عربية مهمة لا تقع على حدود فلسطين، ولا توجد لها أرض محتلة، وتتم بعد اتضاح أن دولة الاستعمار والاحتلال أفشلت كل المحاولات للوصول إلى تسوية، وتريد خصوصًا في ظل الحكومة الحالية حسم الصراع بتصفية القضية الفلسطينية من مختلف أبعادها، وأخطر من صفقة ترامب كونها إن تمت ستتم بمشاركة كاملة من بلد عربي بأهمية السعودية.

عقبات كبرى في طريق الصفقة الكبرى

إن إنجاز هذه الصفقة ليس أمرًا سهلًا على الإطلاق، ولكنه ليس مستحيلًا، فهناك ضغوط لإنجازها وعقبات كبرى أمامها، ومنها:

العقبة الأولى: حكومة إسرائيل المتطرفة والعنصرية، فهي ليست مستعدة لتقديم أي شيء للفلسطينيين، حتى لو كان الأمر تجميدًا للاستيطان، كما صرح أكثر من مسؤول فيها، والسعودية لا يمكن أن تنجز الصفقة من دون أي شيء للفلسطينيين. لذا، من دون تغيير أو تعديل الحكومة الإسرائيلية الحالية بخروج الوزراء الأكثر تطرفًا ودخول بيني غانتس وحزبه إلى الحكومة، سيكون من المستبعد، بل من المستبعد جدًا، إبرام الصفقة.

كما أن يائير لابيد، زعيم المعارضة الإسرائيلية، عارض أي اتفاق يمنح السعودية أسلحة متقدمة وقدرة على تخصيب اليورانيوم، ولو في المجال السلمي، فالمقاربة الإسرائيلية التاريخية ضد تسليح أي بلد عربي بأسلحة متقدمة، حتى لو كان صديقًا وحليفًا لواشنطن وتل أبيب؛ نظرًا إلى أن الأنظمة العربية تقف على رمال متحركة، ويمكن أن تسقط وتحل محلها أنظمة معادية.

العقبة الثانية: من الصعب أن تمر الصفقة في الكونغرس الأميركي، خصوصًا في مجلس الشيوخ من دون دعم قوي لها من إسرائيل، لا سيما إذا وافقت الإدارة الأميركية على المطالب السعودية، فهناك سياسات وقوانين أميركية تمنع حصول أي دولة في المنطقة على قدرات نووية أو تسليحية متطورة، حتى لو كانت حليفة الآن للولايات المتحدة، لأنها يمكن أن تمس بالالتزام الأميركي بضمان تفوق إسرائيل على الدول العربية.

كما أن سيناتورات الحزب الجمهوري ونوابه لن يكونوا متحمسين للتصويت لصالح الصفقة عشية الانتخابات وضمان فرص مرشح الحزب الديمقراطي على حساب مرشح حزبهم، خصوصًا أن الاستطلاعات تشير إلى تراجع شعبية بايدن بشكل كبير.

ويضاف إلى ذلك أن سيناتورات التيار اليساري ونوابه في الحزب الديمقراطي لن يصوتوا لصالحها إذا لم تتضمن أمورًا جوهرية لصالح الفلسطينيين.

العقبة الثالثة: أشارت أنباء إلى وجود عقبة سعودية أمام الصفقة؛ نظرًا إلى وجود خلافات داخل العائلة السعودية حول التطبيع مع إسرائيل الآن، وما سبق أن ألتزم به العاهل السعودي سلمان بن عبد العزيز بأن لا تطبيع مع إسرائيل في عهده.

كما أن الصفقة يمكن أن تمس بالمشروع السعودي الذي يطمح إلى دور عالمي للسعودية بحاجة إلى علاقات حسنة وتصفير أزمات في المنطقة، خصوصًا حرب اليمن، وهذا يقتضي علاقات حسنة مع دول المنطقة والإقليم، لا سيما إيران.

وفي هذا السياق، جاء الاتفاق الإيراني السعودي الذي رعته بكين، وكل الخطوات التي أخذتها الرياض منذ اندلاع الحرب الأوكرانية، وتحدّت فيها الإدارة الأميركية، وحافظت فيها على هامش من الاستقلال يمكنها من اللعب على المعسكرين الشرقي والغربي، وما يوفره لها ذلك من مزايا اللعب على التناقضات الدولية، والبقاء على علاقات جيدة مع المعسكرين، خصوصًا بعد توسع وتنوع العلاقات السعودية مع الصين كمًا ونوعًا، في وقت ينهار فيه النظام العالمي القديم ويطل برأسه عالم جديد يمكن أن يكون متعدد الأقطاب. ومن العقبات كذلك أن السعودية قد تفضل عقد الصفقة مع رئيس جمهوري كونها كانت على علاقات أفضل بالرؤساء الجمهوريين.

ما وراء اهتمام إدارة بايدن بالتطبيع الإسرائيلي السعودي؟

ما سبق يقودنا إلى تحديد الأسباب التي تدفع الإدارة الأميركية إلى بذل كل هذه الجهود لعقد الصفقة، التي تظهر بلقاءات مستمرة أميركية سعودية؛ ما يدل على جدية وحرص أميركي على التوصل إلى اتفاق.

السبب الأول زيادة فرص بايدن بالفوز بولاية ثانية، بل السعي إلى ضمان الفوز، أما السبب الثاني، فلا يقل أهمية عن الأول، وهو وقف التراجع الأميركي في المنطقة، واستعادة زمام المبادرة، وقطع الطريق على تحسين العلاقات السعودية مع الصين وروسيا وإيران، وأما السبب الثالث فهو منع انهيار السلطة وما يسمى “حل الدولتين”، وأما السبب الرابع فهو إنقاذ إسرائيل من نفسها في ظل الأزمة العميقة التي تشهدها والمفتوحة على كل السيناريوهات، فنجاح هذه الصفقة يجمد الأزمة الداخلية الإسرائيلية، ويمنعها من التدهور، ويفتح الطريق أمام إسرائيل لتطبيع علاقاتها مع ما تبقى من الدول العربية ومع دول إسلامية مهمة، مثل باكستان وإندونيسيا وغيرهما، من دون أن تقدم شيئًا جوهريًا في المقابل.

وفي حال إتمام الصفقة سيحل الضم الزاحف والمتدرج محل الضم السريع والقانوني، وهو لا يمثل فرقًا كبيرًا، فبعد توفير مقومات الضم الواقعي من خلال خلق الحقائق الاحتلالية والاستيطانية والعنصرية، سيكون من السهل اختيار التوقيت المناسب للقيام بالضم القانوني والرسمي.

إن من المؤكد أن تمرير الصفقة لن يقود إلى الأمن والاستقرار والسلام؛ لأنها تكرر ما جرب منذ أكثر من مائة عام وحتى الآن من محاولات لإحراز السلام على حساب الحقوق والمصالح والتطلعات الفلسطينية، وهذا ما لا يقبله الشعب الفلسطيني، وسيواصل صموده ومقاومته وإبقاء قضيته حية حتى تحقيق الانتصار مهما غلت التضحيات وطال الزمن.

حذار حذار من الوقوع مجددًا في أوهام التسوية

تأسيسًا على ما سبق، على القيادة الفلسطينية الرسمية عدم الوقوع في الأوهام مجددًا عن إمكانية التوصل إلى تسوية، خصوصًا مع الحكومة الإسرائيلية الأكثر تطرفًا، أو بعد تعديلها، أو حتى تشكيل حكومة جديدة، فيكفي عشرات السنوات من البحث عن تسوية في ظل الاختلال في ميزان القوى عبر المفاوضات والتنازلات، التي أدت إلى تعميق الاحتلال، وتوسيع الاستيطان والعدوان بكل أشكاله، وظهور الوجه العنصري البشع لإسرائيل كما لم يظهر من قبل، في ظل أن التيار الحاسم والكاسح في إسرائيل بمختلف مكوناته يرفض إنهاء الاحتلال للأرض الفلسطينية، كما يرفض قيام دولة فلسطينية، وعليها ألا تراهن على عدم إتمامها، ولا تخشى من عدم قدرتها على إفشالها، بل يجب الاستعداد لكل الاحتمالات.

وبناء على ذلك، على القيادة الفلسطينية ومعها كل القوى الحية الفاعلة بدلًا من الانتظار لمعرفة هل ستنجح الصفقة أم ستفشل، وما مضمونها وتفاصيلها وما تعرضه للفلسطينيين، عليها الإصرار لمعرفة مضمونها فلسطينيًا، مع أن أي عاقل يدرك أنها من الصعب أن تمر مثل هذة الصفقة مرة واحدة، بل من المحتمل أكثر أن تمر على دفعات، ولعل تعيين سفير سعودي فوق العادة وقنصل غير مقيم في القدس بداية الغيث، ولن تتضمن إذا رأت النور أي حق من الحقوق الفلسطينية، بما في ذلك دولة فلسطينية على حدود 67، بل في أقصى الحالات الحفاظ على إمكانية قيامها في الوقت الذي تُقوّض فيه هذه الإمكانية كل يوم.

قد يقول قائل من أصحاب مقولة ليس بالإمكان أفضل مما كان وإنقاذ ما يمكن إنقاذه، ويروج، إن عدم الضم وتجميد الاستيطان والدعم السخي أفضل من الوضع الحالي ومن لا شيء، ولا يوجد لدى الفلسطينيين بديل من قبول الصفقة إذا مرت، وردًا على ذلك يكفي أن نذكر أن كل الحكومات الإسرائيلية، حتى التي كانت تسمى “حكومات سلام” لم تجمد الاستيطان، كما أن التجربة علمتنا أن تضمين التجميد وعدم الضم إذا تحقق يهدف إلى التغطية على الصفقة وليس إلى التنفيذ؛ لأنها تقوي إسرائيل من دون إلزامها بشيء، تحقيقًا لمقولة نتنياهو القديمة الجديدة بأولوية السلام مع العرب، وبعد ذلك فرضه على الفلسطينيين الذين سيكونون في أضعف حالاتهم ومعزولين عن عمقهم العربي، وهذا يشجعها على المضي في مخططاتها الاستعمارية والعنصرية والعدوانية؛ أي سيبقى من الصفقة الدعم السخي، وتكون القيادة الرسمية الفلسطينية إذا وافقت عليها قد باعت القضية ببضعة دراهم.

لا عرس بلا عروس والقضية الفلسطينية هي العروس

هنا، لا يمكن إتمام الزفاف من دون العروس والقضية الفلسطينية هي العروس، ويجب أن نرى أن الصفقة إذا تمت يمكن أن تؤدي إلى إضرار بقناة السويس إذا تم بناء القطار من السعودية إلى فلسطين المحتلة كما روج نتنياهو، وكذلك يمكن أن تضر بالرعاية الأردنية الهاشمية للأقصى.

ترتيب البيت الفلسطيني مفتاح إجهاض الصفقة

إن منع عقد صفقة على حساب الفلسطينيين يقتضي ترتيب البيت الفلسطيني، وإنهاء الانقسام على أساس برنامج القواسم المشتركة وشراكة حقيقية وتوازن المبادئ والمصالح والقوى، وتغيير السلطة لكي توفر مقومات الصمود، ولتكون مجاورة للمقاومة، إضافة إلى إعادة بناء مؤسسات منظمة التحرير لتكون مؤسسات وطنية جامعة للكل الوطني، والاحتكام إلى الشعب عبر الانتخابات، وهذه أهداف بعيدة كما تأكد فشل اجتماع العلمين، وبحاجة إلى وقت وتغيير خريطة وموازين القوى الفلسطينية؛ ما يعني أن مقاومة التطبيع ستكون واجبًا حتى في ظل الضعف والانقسام، وستقع على عاتق الشعب ومبادراته الفردية والجماعية، فالتطبيع السعودي الإسرائيلي إذا تحقق سيكون نكبة ثانية ستؤدي بالضرورة إلى نهضة فلسطينية جديدة.

يوفر إنجاز الأهداف السابقة أساسًا صلبًا يمكّن من اتخاذ موقف قوي وإرسال رسالة واضحة إلى السعودية وكل من يهمه الأمر؛ مفادها أن أي تطبيع على حساب القضية الفلسطينية، خصوصًا من دون إنهاء الاحتلال وتجسيد استقلال دولة فلسطين وعاصمتها القدس على الأرض المحتلة العام 67، لن يحصل على الغطاء الفلسطيني، ويعني تمكين إسرائيل من الاستفراد بالفلسطينيين بغطاء عربي، وإعادة القضية إلى نقطة البداية بعد النكبة بتحويل القضية إلى إنسانية، تحتاج إلى حل “للسكان” الفلسطينيين وليست مسألة تحرر وطني تحل بتقرير المصير للشعب الفلسطيني، وهذا يعبد الطريق أمام التهويد والضم والتهجير، وتغيير مكانة الأقصى عبر التقسيم الزماني والمكاني، وإقامة “إسرائيل الكبرى” من النهر إلى البحر.

اجتماع العلمين: قراءة في الدروس والدلالات ‎

أقلام – مصدر الإخبارية

كتب هاني المصري: لا نبالغ في القول إن ما انتهى إليه اجتماع العلمين أقل من معظم التوقعات المنخفضة؛ حيث انتهى بإعلان الرئيس محمود عباس عن تشكيل لجنة للمتابعة من دون بيان يتضمن ما تم الاتفاق عليه، ولو من قبيل المجاملة للبلد المضيف والادعاء بالإنجاز أمام الشعب، وهذا حدث لسببين:

أولًا: أن الرئيس كان نجم الحدث من أوله إلى آخره، فهو جدد شرعيته حتى من الفصائل المعارضة له، وهو الذي بادر إلى الدعوة للاجتماع، وحدد الوقت والمكان والمدعوين ومدة الاجتماع، وهو الذي افتتحه واختتمه، وكان فوق الجميع، فقد حضر على رأس وفد، ولم يرأس وفد حركة فتح الذي كان برئاسة نائبه محمود العالول، والشيء بالشيء يذكر، فقد كان الرئيس طلب من عزام الأحمد عدم الموافقة على إعلان الجزائر أثناء الاجتماع في العاصمة الجزائرية في حينه، على الرغم من شطب بند الحكومة، بعد رفض العديد من الفصائل الإشارة إلى التزامها بالشرعية الدولية من دون تحديدها بالقرارات التي تنصف الحقوق الفلسطينية، وقد وقع الأحمد باسم فتح وأقنع الرئيس بعد ذلك تجنبًا لعواقب عدم التوقيع على العلاقات الفلسطينية الجزائرية.

ثانيًا: أن مصر لم تقم بدور الراعي، كما كانت تفعل في اجتماعات المصالحة التي عقدت فيها، بل اكتفت بدور المضيف، وهذا أبقاها على مسافة من الاجتماع، فإذا نجح باركت النتائج، وإذا فشل لا تتحمل المسؤولية.

وحتى نتعرف إلى مغزى ذلك، نشير إلى أن كل اللقاءات التي رعتها مصر عقدت في مبنى المخابرات المصرية، وكان وفد منها هو الذي يدير الجلسات، ومعظمها خرج باتفاقات عبرت عن نفسها ببيانات مشتركة نفذت جزئيًا وبعد ذلك انهارت، من إعلان القاهرة في آذار 2005، مرورًا باتفاق أيار 2011، واتفاق القاهرة (اتفاق التمكين) تشرين الأول 2017.

الرئيس نجم اجتماع العلمين

لوحظ أن الرئيس كان مبادرًا حادًّا، وعرض موقفه بوضوح وحزم من دون استعداد للمساومة من لحظة إطلاق الدعوة لاجتماع الأمناء العامين، مرورًا بالخطاب الذي ألقاه في مخيم جنين، وانتهاء برفضه لكل الدعوات والوساطات لإطلاق سراح المعتقلين السياسيين، خصوصًا بعد إعلان حركة الجهاد الإسلامي أنها لن تحضر الاجتماع إذا لم يتم الإفراج عنهم، ووافقت على الإفراج عن قسم منهم قبل الاجتماع، والقسم الآخر بعده، ولم يغيّر الرئيس موقفه.

وإذا أردنا التعرف إلى السبب علينا أن نرى ماذا قال عباس لإسماعيل هنية ووفد حركة حماس في تركيا قبل اجتماع العلمين بأيام عدة؛ إذ قال: “لن نسمح بالطخطخة ولا بالمسلحين في الضفة الغربية الذين يراد من وراء عملياتهم زعزعة السلطة والانقلاب عليها، وأنه لن يرضى بأن تَعْقِدَ “حماس” تفاهمات مع الاحتلال تؤدي إلى الهدوء في قطاع غزة وتقوم بالتصعيد في الضفة، فإما تصعيد هنا وهناك، أو وهذا هو المطلوب، تهدئة في الضفة والقطاع”.

ودافع عن موقفه بأن عمليات المقاومة تخدم حكومة المتطرفين في تل أبيب، وتعطيها ذريعة للاستمرار في العدوان ضد الفلسطينيين، وقال: “إن الطريقة الوحيدة المفيدة للتعامل مع حكومة الاحتلال هي المقاومة السلمية، والاستمرار في السعي لإقناع الإدارة الأميركية للضغط عليها”.

وأكد الرئيس في تركيا ومصر أنه لن يوافق على مشاركة حركتي حماس والجهاد في منظمة التحرير من دون موافقتهما على الشرعية الدولية والتزامات المنظمة؛ لأنه إن فعل سيعرض الاعتراف الدولي بالمنظمة للخطر، كما أنه للسبب نفسه لن يستبدل حكومة معترفًا بها بأخرى يقاطعها العالم.

لماذا كل هذه المرونة المفرطة من “حماس”؟

طبعًا، نفى هنية أن المقاومة في الضفة تستهدف السلطة، وإنما الاحتلال، ودعا إلى المقاومة الشاملة والاتفاق على إستراتيجية في مواجهة الاحتلال، إضافة إلى إطلاق سراح المعتقلين لدى السلطة.

وعلى ذمة الراوي، فإن وفد “حماس” اقترح أثناء اللقاء في تركيا الدعوة إلى إجراء انتخابات وفق تفاهمات إسطنبول 2020؛ أي تشكيل قائمة مشتركة تتمتع بأغلبية فتحاوية والتوافق على الرئيس محمود عباس مرشحًا توافقيًا للانتخابات الرئاسية، ولكن الرئيس لم يكترث بالاقتراح.

قد يقول حمساوي أو نصير لحماس للتبرير إن اقتراح “حماس”، مرونة ومناورة، وهي تعرف أن الرئيس سيرفضها، ولكنها مناورة تعكس مرونة مفرطة؛ كونها تتغاضى عن الخلافات الجوهرية، وعن موقفها من سياسات وممارسات الرئيس والسلطة، لدرجة التذبذب بين تقديم الاتهامات بالتفريط والخيانة، وتلبية دعوته باللقاء، واقتراح ترشيحه مرشحًا توافقيًا للرئاسة، وإن هذا التذبذب بين للموقفين يدعو إلى التساؤل.

وإذا حاولنا تفسير هذا الأمر، نراه ينسجم مع موقف قديم لحماس بأنها لم تشترط منذ البداية العمل على إنجاز الوحدة بإنهاء الانقسام، أو بالاتفاق على إستراتيجية مشتركة، فتفاهمات إسطنبول انطلقت من أن الانقسام واقع، على أن يجري العمل على إنهائه بعد الانتخابات؛ ما يعني التعايش مع الانقسام، والسعي إلى إدارته.

كما أن الاتفاقات السابقة المختلفة، بما في ذلك الانخراط في السلطة، لم تكن تتضمن الاتفاق على برنامج سياسي، أو على كيفية التعامل مع أوسلو والتزاماته، وهذا مؤشر قوي على أن “حماس” فضلت الاشتراك في السلطة أولًا، ثم أصبحت أولويتها بعد الانقلاب/ الحسم المحافظة على السلطة في القطاع، لذلك تأخذ نصائح حلفائها وداعميها في قطر وتركيا، وموقف مصر الشقيقة الكبرى وجارة القطاع الوحيدة والممسكة بملف المصالحة، وهو الذي يفسر لماذا بدت “حماس” ضعيفة في كل ما يتعلق بالاجتماع منذ البداية وحتى النهاية، وهي تقبل عقد اجتماع من دون تحضير جاد ولا توفير أجواء إيجابية، بل على العكس كانت الأجواء سلبية.

حتى إدارة الانقسام لم تتحقق

قد يقول قائل إن الاتفاق على إدارة الانقسام، أو على تشكيل لجنة متابعة، أفضل من استمرار التكاذب والتواطؤ المتبادل، وإصدار بيانات تَبْقَى حبرًا على ورق، ومن استمرار فصول مسرحية المصالحة التي أشبه بمسلسل تركي لا ينتهي، فهي تشهد صعودًا وهبوطًا وقصص نجاح، ثم سرعان ما يتبين أنها مجرد فشل جديد انتظارًا لفصل آخر.

من قال إن هناك اتفاقًا على إدارة الانقسام ولم يظهر ذلك؟ فلم يتم الاتفاق على شيء، ومن قال إن لجنة المتابعة ستمارس عملها، بل يمكن أن يكون مصيرها كمصير الإطار القيادي المؤقت المحدد الصلاحيات الواسعة في اتفاق القاهرة، الذي تقزّم وتحوّل إلى بند انتظام عقد الأمناء العامين، وأخذت “حماس” والفصائل الأخرى تطالب به “وكأنه خشبة الخلاص، وكذلك مصير الانتخابات التي ألغيت في اللحظات الأخيرة واللجان، بل الحكومات التي شكلت بعد اتفاقات المصالحة وانهارت قبل أو بعد أن رأت النور، كل ذلك مفترض أن يكون شاهدًا يردع أن يُلدغ المشاركون من الحجر نفسه مرات ومرات، فكل اللجان والحكومات سرعان ما تنهار. فأي لجنة أو اتفاق أو تشكيل مهما كان نوعه بحاجة إلى أرضية ومرجعية مشتركة.

هل سترى لجنة المتابعة النور، وإذا رأته ما مصيرها؟

لو سلمنا جدلًا أن لجنة المتابعة ستجتمع، وكذلك صيغة الأمناء العامين، فهي ستعطي شرعية للسلطة وللرئيس، وتعزز سياسته وخياره، بما في ذلك تعزيز هيبة السلطة في المدن الفلسطينية، وما يعنيه ذلك من احتواء أو قمع للكتائب ومجموعات المقاومة، خصوصًا في جنين ونابلس، من دون مقابل، لا سيما أن في رأس الرئيس موال جديد ورهان قديم جديد عن إمكانية إطلاق أفق سياسي يهدف إلى إحياء ما يسمى “حل الدولتين”، فالرئيس قال في الجلسات المختلفة “إن علينا الاستعداد لما هو قادم، فهناك تحولات وتغييرات حصلت وستحصل في المنطقة والعالم وإسرائيل، وعلينا الاستعداد لها”.

صفقة كبرى تسعى إدارة بايدن إلى إنجازها

إذا وضعنا ما سبق في سياق المعلومات عن صفقة كبرى تسعى الإدارة الأميركية إلى عقدها للتطبيع بين السعودية وإسرائيل، ومن ضمنها نقاط تتعلق بالقضية الفلسطينية. فقد أجاب مسؤول أميركي ردًا على سؤال في لقاء خاص: لماذا تهمل الإدارة الأميركية القضية الفلسطينية والفلسطينيين، وتعطي الأولوية للتطبيع السعودي الإسرائيلي؟ بالقول: إن هذا حدث بعد أن أبلغ ولي العهد السعودي واشنطن بأنه اتخذ قرارًا إستراتيجيًا بالسلام مع إسرائيل، وحدد المطلوب من أميركا مقابل هذه الخطوة، لكنه طلب وقتًا لبلورة ما يريده فلسطينيًا.

ومن معالم الصفقة إبعاد السعودية عن الصين، ووقف الضم الرسمي للضفة، وإيجاد أفق سياسي، ولكن من دون دولة فلسطينية تملك مقومات الدولة، المرفوضة من كل من الحكومة والمعارضة الإسرائيلية، إضافة إلى دعم سخي للسلطة لمنع انهيارها، وضمان سلاسة انتقال السلطة، وتفعيل حقل مارين، فضلًا عن مشاريع كبرى في معبر بيت حانون وسيناء، وتشغيل مطار وميناء العريش “لصالح” أهل القطاع.

ولكن، ستصطدم الصفقة على الأغلب برفض الحكومة الإسرائيلية الحالية، لذا لا بد من العمل على إسقاطها أو إعادة تشكيلها؛ حيث يخرج منها الوزراء المتطرفون جدًا ويدخل يائير لابيد وبيني غانتس الأقل تطرفًا.

سجلت السلطة ورئيسها هدفًا، بل أهدافًا في مرمى حركة حماس والفصائل الأخرى التي بدت مختلفة مع بعضها، التي تبرر خيبتها بأن مجرد عقد الاجتماع جيد، متناسية أنه عُقد بعد سلسلة طويلة من الاجتماعات والاتفاقات الفاشلة، وتقول إن عدم صدور بيان أفضل، متناسية أن هذا يطلق يد القيادة الرسمية لتفعل كل ما تريد، وأصبح تشكيل لجنة متابعة مقبولًا من الفصائل بسبب عدم وجود تحضير، وكأن المهم الاعتراف بها وتمثيلها، وليس مدى تأثيرها ولخدمة أي برنامج.

وهنا، لماذا لم تتم المطالبة بالتحضير قبل عقد الاجتماع ليس بوصف ذلك شرطًا تعجيزيًا، وإنما متطلب للنجاح؛ إذ شارك معظم الفصائل من دون شروط ولا توفير أجواء إيجابية وتحضير جدي للاجتماع، وهناك فصائل قاطعت، وهذا يدل على شرخ بين الفصائل وله علاقة بالخلاف الأكبر الذي تجلى بخوض الجهاد لثلاث معارك من دون “حماس” (2019 و2022 و2023)؛ ما يعكس خلافًا حول إستراتيجية المقاومة، فهناك من يوافق على معادلة هدنة مقابل تسهيلات وتخفيف الحصار، وهذا ضمن تفاهمات تدل عليها المنحة القطرية، والسماح لنحو 20 ألف عامل غزي بالعمل في إسرائيل، وزيادة التبادل التجاري بين مصر والقطاع ليصل إلى 43% من حجم التبادل الكلي، فضلًا عن محاولات لتطوير التفاهمات إلى هدنة طويلة مقابل رفع الحصار وتنفيذ مشاريع كبيرة، ولكن لم يتم الاتفاق على ذلك حتى الآن.

لماذا تمكّن الرئيس من استعادة زمام المبادرة؟

إن عجز “حماس” وحدها، أو بالاشتراك مع فصائل أخرى، عن الاتفاق على برنامج واحد وإستراتيجية سياسية ونضالية واحدة، وتقديم بديل نظري وعملي من خيار القيادة الرسمية وليس من المنظمة أو المؤسسات، هو الذي يفسر ما جرى ويمكن أن يجري، وهو الذي مكّن الرئيس من إمساك زمام المبادرة مجددًا، على الرغم من الضعف الكبير الذي تمر به السلطة، خصوصًا بعد تصاعد المقاومة في الضفة، وفي ظل فقدان أي أفق سياسي، والنتائج الكارثية لمسيرة أوسلو، خصوصًا في السنوات الأخيرة التي سقفها أقل من أوسلو بكثير، إضافة إلى ضعف وخلافات حركة فتح على خلفية التنافس على الخليفة أو الخلفاء، بدليل عدم عقد المؤتمر الثامن، والكف عن تحديد مواعيد لعقده.

كل ما سبق نقاط ضعف يمكن أن يستفيد منها كل من يملك الوعي والجرأة والمبادرة لشق طريق جديد، شرط ألا يقدس السلطة؛ حيث باتت هي الغاية وليست الدولة، ولا يقدم نموذج سلطة يتشبه بالسلطة الأخرى ويتذبذب بين السلطة والمقاومة وينحاز غالبًا للسلطة، ولا يكتفي من أصحاب الخيار الثالث تبني المقاومة من دون مشروع سياسي وكأن المقاومة صنمًا نعبده، وليست وسيلة لتحقيق أهداف الشعب الفلسطيني ومصالحه القريبة والبعيدة.

من يعلق الجرس؟ من يملك زمام المبادرة؟

هناك خطر وجودي يهدد القضية والشعب والأرض، وهو يوفر قاسمًا مشتركًا أعظم لتوحيد الفلسطينيين إذا توفرت الإرادة اللازمة، ولن يختفي هذا الخطر إذا سقطت حكومة نتنياهو الحالية، حكومة الحسم والضم السريع للضفة وتصفية القضية، وحلت محلها حكومة برنامجها الضم والقضم المتدرج، وتسعى أيضًا بشكل آخر إلى تصفية القضية الفلسطينية من مختلف أبعادها، لمجرد أنها تتحدث عن انفصال سياسي عن الفلسطينيين ضمن صيغة حكم ذاتي مع استمرار التحكم فيهم فوق الأرض وتحت الأرض وعلى الحدود وفي كل شيء.

اقرأ أيضاً:مجدلاني: اجتماع الأمناء العامين جاء ثمرة لاتصالات مكثفة من الرئيس

اجتماع القاهرة: المكتوب يقرأ من عنوانه‎.. بقلم هاني المصري

أقلام-مصدر الإخبارية

أثناء عودتي يوم الجمعة الماضي من زيارتي المهمة والمثيرة إلى قطاع غزة، عقدت العزم على الكتابة عما شاهدته هناك من صمود وإصرار على الحياة والمعاناة الشديدة من الحصار والفقر والبطالة، لدرجة أن موجة الإحباط والتشاؤم وفقدان الأفق والأمل بالمستقبل بدت عالية أكثر من سابقاتها، وهذا بحكم تجمع عناصر عدة للأزمة في وقت واحد: تأخر صرف المنحة القطرية، وتأخر صرف رواتب الموظفين، وتفاقم أزمة الكهرباء، وموجة الحر الشديد، وفقدان الأمل بالمستقبل، بما في ذلك باجتماع القاهرة، الذي حسمت أمري بالكتابة مرة أخرى عنه، وليس عن زيارتي؛ لأنه على الرغم من انخفاض سقف التوقعات حوله فهو بحاجة إلى المزيد من التفكير والبحث والتحليل.

كما هو معروف أن الرئيس محمود عباس هو صاحب الدعوة التي أطلقت في ذروة ملحمة مخيم جنين الجديدة، وما أثارته من اهتمام وردود أفعال، أما المصريون فرحبوا بأن تكون القاهرة مقر الاجتماع ورعايته فقط، وهم وزعوا دعوات الرئيس، وهذا يختلف عن السابق حين كانت المبادرة للاجتماع مصرية، وتقوم القاهرة بتوجيه الدعوات والتحضير للاجتماع لضمان نجاحه، خصوصًا من خلال الحث على التوصل إلى اتفاق ثنائي فتحاوي حمساوي يجري دائمًا تسويقه على المشاركين الآخرين من الفصائل الأخرى، لدرجة أن المرحوم أحمد جبريل قال (وفي رواية أخرى كتب) عند توقيعه على اتفاق القاهرة أيار 2011 “شاهد ما شافش حاجة”.

اجتماع فصائلي فقط ليوم واحد

اجتماع القاهرة وفق الدعوة بلا جدول أعمال، وسيكون ليوم واحد، وهذا أمر جديد؛ إذ كانت الاجتماعات السابقة تستمر على الأقل يومين وأحيانًا وصلت إلى تسعة وعشرة أيام، البعض يُفسر ذلك بأن الأمر لا يحتمل حوارات واتفاقات جديدة، مع أن هناك تطورات نوعية حاسمة تحتاج إلى حوار جاد وعميق، أهمها برنامج حكومة الضم والحسم الإسرائيلية الكهانية، والأزمة الداخلية الإسرائيلية وتداعياتها، والتغييرات في الإقليم والعالم. والجديد أيضًا أن الرئيس صاحب الدعوة سيحضر الاجتماع هذه المرة، ولكن كما أفاد مصدر مطلع بأنه سيلقي خطابه ويغادر.

تغييب المستقلين

من الأشياء الجديدة أن الدعوة مقتصرة هذه المرة على الفصائل من دون مشاركة من المستقلين، مع أن الحاجة ماسة لتوسيع المشاركين ليشارك ممثلون عن المرأة والشباب والفاعلين والحراكات والقوائم الانتخابية والشخصيات الاعتبارية المميزة من مختلف التجمعات داخل فلسطين وخارجها، وهذا – أي استبعاد المستقلين – يتجاوز تقليدًا مكرسًا في منظمة التحرير منذ تأسيسها؛ حيث أسسها المستقلون، وعندما دخلت إليها الفصائل وقادتها أفردت مكانًا مميزًا للمستقلين الذين حصلوا على تمثيل بنسبة الثلث في اللجنة التنفيذية، وتمثيل كبير في مختلف مؤسسات المنظمة، وهنا لا نتحدث عن فاعلية وتأثير مشاركة المستقلين، وكيفية اختيارهم، فهذا يتفاوت من مرحلة إلى أخرى، ومن شخصيات مستقلة إلى أخرى، ويختلف عن هل هناك معايير موضوعية أم لا؛ حيث في الغالب يتم اختيار المستقلين وفق نظام المحاصصة، وبما يناسب حاجة القيادة السياسية التي تختار معظمهم والفصائل التي تختار البقية؛ أي يغلب عليهم أهل الولاء والثقة، ولكن لا يمكن نسيان دور مستقلين مثل: شفيق الحوت، وأحمد صدقي الدجاني، وإدوارد سعيد، ومحمود درويش، وإبراهيم أبو لغد، وعصام عبد الهادي، وعبد المحسن القطّان.

اجتماع مثل سابقيه، وربما أسوأ

السؤال الذي يطرح نفسه: لماذا عقد الاجتماع ما دامت المقدمات والمؤشرات لا تبشر بأنه سيحمل جديدًا، بل سيعيد إنتاج الحوارات والاتفاقات السابقة التي انتهت إلى الفشل، وربما بشكل أسوأ؟

هذا سؤال صعب، ولا أزعم أن لدي إجابة شافية وافية عنه، ولكن اجتهادي أن الرئيس والقيادة الرسمية يتعرضان في هذه المرحلة لضغوط داخلية وخارجية كبيرة لتحقيق أهداف متناقضة عدة، منها ما يطالب بتغيير المسار والسلطة وتبني برنامج وطني سياسي كفاحي، ومنها ما يهدف إلى بقاء السلطة كما هي، ومنها ما يسعى إلى تغييرها نحو الأسوأ، لدرجة أصبح الحديث عن انهيار السلطة وإفلاسها المالي وعن ضرورة حلها ليس من أوساط شعبية أو المعارضين أو الخصوم أو الأعداء فقط، وإنما يتردد على لسان قادة السلطة ومناصريها أيضًا، يضاف إلى ذلك صدور دعوات في إسرائيل ومن داخل الحكومة لحل السلطة، ودعوات أخرى من داخل الحكومة الكهانية أيضًا بضرورة التزام السلطة بشروط إسرائيلية، إذا التزمت بها السلطة تتحول من سلطة وكيلة إلى سلطة عميلة للاحتلال، وهناك فرق بين الأمرين مع بؤس كليهما.

إذًا، السلطة بحاجة إلى ضمان بقائها، وهذا هو الهدف المركزي من الاجتماع، وهي لا تريد التحول إلى سلطة عميلة وتجديد شرعيتها الفلسطينية وتقوية نفسها عبر التلويح بالوحدة الفلسطينية في وجه الحكومة الإسرائيلية وشروطها لتقوية السلطة، كما تريد تقديم أوراق اعتماد جديدة للمجتمع الدولي والأطراف الإقليمية والدولية الفاعلة، وتحديدًا الإدارة الأميركية المهتمة ببقاء السلطة واستقرارها ودعمها في مواجهة معارضيها الداخليين والخارجيين، ولذلك لديها خطة لفرض سيطرتها على المدن، خصوصًا جنين ومخيمها؛ لأنها تخشى على نفسها من الانهيار إذا استمرت الاعتداءات والاقتحامات والاغتيالات الإسرائيلية، بما في ذلك في المدن الفلسطينية المفترض أنها تحت سيطرة السلطة، وحالة المقاومة الخارجة على السلطة، خصوصًا في مخيم جنين.

الكل في مأزق

يزيد من دوافع الرئيس للدعوة إلى الاجتماع أنه من جهة يدرك أن لا عملية سياسية ولا مفاوضات على الأبواب ولا في الأفق القريب، وهمه بقاء السلطة لا أكثر، ومن جهة أخرى يعرف أن الفصائل المعارضة، وخصوصًا حركة حماس في مأزق كبير داخلي وخارجي، وبالتالي هناك أمل بأن تلتحق بقيادته أو تبدي بعض المرونة؛ لأنها تخشى إذا رفضت الدعوة للاجتماع أن يقود هذا إلى تحميلها مسؤولية عدم إنجاز الوحدة وتصعيد داخلي فلسطيني يوفر غطاء لعدوان إسرائيلي واسع على قطاع غزة، لذلك أرسل الرئيس رسائل واضحة بعد الدعوة إلى الاجتماع بأنه ليس بوارد تغيير مساره، والآخرون مطلوب منهم ذلك، ويدل على ذلك زيارته إلى جنين ومخيمها، وما قاله أثناءها عن السلطة الواحدة وعن قطع اليد من جذورها التي تهدد الأمن والوحدة، وما قامت به الأجهزة الأمنية قبل الزيارة وبعدها من اعتقالات لمقاومين، والشروع في تنفيذ خطة لاستعادة هيبة السلطة في جنين وبقية المناطق، وما صرح به عزام الأحمد بأن هدف اجتماع القاهرة تشكيل حكومة وحدة وطنية تلتزم بمنظمة التحرير، وهذا يعني الشرعية الدولية بكل مكوناتها والتزاماتها والاتفاقيات التي عقدتها أو ستعقدها.

لا أعتقد أن من السهل أو الممكن أن يرضا الرئيس بغير ذلك؛ لأنه يخشى من ردة فعل حكومة نتنياهو أكثر ما يخشى من ردة فعل الفصائل، فنتنياهو سيستغل غضب إدارة بايدن على أي خطوة رسمية فلسطينية تقترب فيها القيادة الرسمية من الفصائل الأخرى التي تطرح خيار المقاومة للتصدي للعدوان بكل أشكاله، بما في ذلك السعي إلى تغيير السلطة وحلها إذا لم تقبل.

تباين في موقف الفصائل من الاجتماع

نجد تنوعًا كبيرًا في موقف الفصائل الأخرى وداخلها من الاجتماع بين من يرى عدم وجود أي فائدة من المشاركة في اجتماع القاهرة، الذي سيعطي الرئيس الشرعية من دون الحصول على شيء، لدرجة أن هناك أصواتًا في الفصائل المشاركة دعت إلى مقاطعة الاجتماع، وضمت صوتها إلى أصوات حراك وشخصيات ذهبت في الاتجاه نفسه، وطالبت بالتخلص من أوسلو وزمرته أولًا، وتنفيذ القرارات السابقة الصادرة عن المجلسين المركزي والوطني بخصوص العلاقة مع الاحتلال بوصفها شروطًا للمشاركة في الاجتماع، ورفضت الدعوات إلى تشكيل حكومة وحدة وطنية تحت الاحتلال، ودعت إلى حل السلطة والتركيز على الصمود والمقاومة.

وهددت حركة الجهاد الإسلامي على لسان أمينها العام زياد النخالة بمقاطعة الاجتماع إذا لم يتم إطلاق سراح المعتقلين، بينما ترى حركة حماس على لسان خليل الحية أن الاجتماع فرصة كبيرة، مركزًا على ضرورة تشكيل مجلس وطني بالانتخاب أو بالتوافق الوطني، وبعد ذلك يتم تشكيل حكومة وحدة وطنية؛ أي تضمن حماس تحقيق مكاسب أخرى من دون المساس بسلطتها الانفرادية.

وهناك في المعارضة من يرى أن الانتخابات الرئاسية والتشريعية والمجلس الوطني وفق ما كان متفقًا عليه، ومن يرى أن الانتخابات فقط للمجلس الوطني داخل فلسطين وخارجها، بما في ذلك في داخل أراضي 48، وأن هذا هو الحل والمدخل للخروج من المأزق الراهن.

وعندما يقال لأصحاب هذه الفكرة إن هذه دعوة خيالية غير واقعية يردون ردًا خياليا أكثر وغير جدي بأن الانتخابات يمكن أن تُجرى إلكترونيًا، وكأنها مسألة فنية وليست سياسية، مع العلم أن إسرائيل تدخلت إلكترونيًا وأثرت في انتخابات ثلاثين دولة مستقلة وذات سيادة كما أشارت تقارير لها مصداقية، فكيف في انتخابات تجري في حديقتها الخلفية.

إن انتخابات للمجلس الوطني بحاجة إلى نضال فلسطيني شاق وطويل، وتغيير في موازين القوى، وفي البيئة العربية والإقليمية والدولية.

غاز غزة ومشاريع سيناء ومطار العريش

مع ذلك، هناك ما يجب أن يؤخذ بالحسبان ونحن نناقش اجتماع القاهرة، وهو غاز غزة ونفطها، الذي شُرع في خطوات على طريق استخراجه بتوقيع اتفاقات بمشاركة مصر والسلطة وإسرائيل، ولا بد من أن تكتمل الموافقات بأن تكون حصة لسلطة الأمر الواقع في غزة، وإلا ستهدم المعبد على من فيه ،كما أرسلت رسائل بهذا المعنى إلى من يعنيه الأمر.

وهناك المشاريع الكبيرة المنتظرة في سيناء لحل أزمة قطاع غزة المتفاقمة، وما يرافقها من استخدام مطار وميناء العريش، والأمر بات جاهزًا للتنفيذ بانتظار القرار السياسي في الوقت المناسب.

إدارة الانقسام

في ضوء ذلك، هناك هامش واحتمال للاتفاق في اجتماع القاهرة أو بعد ذلك على نوع من إدارة الانقسام، يمكن أن يأخذ أو لا يأخذ شكل تشكيل حكومة تبقي الانقسام على حاله، ولكن تدير بعض الأمور والمصالح المشتركة، خصوصًا النفط والغاز.

أزمة إسرائيل وتداعياتها حاضرة

يجب عدم إغفال تأثير الأزمة الداخلية العاصفة التي تشهدها إسرائيل، والتي تجعلها مشغولة بأمورها الداخلية، وليست جاهزة لإصدار قرارات تؤدي إلى تغييرات كبيرة، خصوصًا علاقتها بغزة التي أرادت الحكومات السابقة أن تبقيها بين الموت والحياة، بينما تلك المشاريع الكبيرة في سيناء والغاز من البحر إذا نفذت ستجعلها تعيش في بحبوحة؛ وهذا ما يجعل إسرائيل تريد حتى توافق مقابلًا لذلك، مثل هدنة طويلة الأمد. فهل تقبل حماس وبقية الفصائل؟

إستراتيجية واحدة هي المفتاح

هناك من يبرر تفاؤله بالاجتماع بأن دعوة الرئيس تضمنت ضرورة الاتفاق على إستراتيجية واحدة في مواجهة الحكومة الإسرائيلية، ويقفز هؤلاء المتفائلون عن أن الإستراتيجيات المعتمدة من مختلف الأطراف التي ستجتمع في القاهرة بعيدة جدًا عن بعضها، وإذا اتفقوا على إستراتيجية واحدة، فهذا سيفتح كل الأبواب المغلقة، وينهي الانقسام، ويعيد بناء المنظمة، ويغير السلطة، ويجعل الانتخابات مكونًا أساسيًا لأي اتفاق.

أكدنا سابقًا ونؤكد حاليًا أن إنهاء الانقسام يمكن من خلال حل الرزمة الشاملة التي تحيي المشروع الوطني وتطبق بالتوازي والتزامن، وأن هذا الحل بحاجة إلى تغيير في موازين القوى ومواقف القوى وإلى ضغط سياسي وشعبي قوي، وفي الوقت الذي يجب العمل على ذلك يجب عدم تفويت أي فرصة لتقليل آثار الانقسام ومنع تعميقه، من خلال التنسيق على بعض القضايا، أو الوحدة الميدانية، أو العمل من أسفل إلى أعلى، والتعاون في مجالات ومستويات مختلفة، بما فيها إجراء انتخابات محلية وطلابية وغيرها، إلى أن تحين لحظة الوحدة التي من دونها لا يمكن تحقيق الانتصار. فلنتعلم من العالم وكل الدول التي تتعاون في ملفات وتتحارب في ملفات أخرى.

تفويت الفرصة وإضاعة وقت ثمين

أضاعت فصائل المقاومة، خصوصًا “حماس”، وقتًا ثمينًا بدأ منذ قرار إلغاء الانتخابات العام 2021، مرورًا بهبة الكرامة وسيف القدس في أيار من العام نفسه وقوة الدفع التي خلقتها وحتى الآن؛ حيث كان عليها أن تقدم نموذجًا وبديلًا سياسيًا تشاركيًا ديمقراطيًا مؤسسيًا مقاومًا، ليس من المنظمة ولا مؤسساتها، وإنما من القيادة ونهجها وسياساتها؛ حيث تشكل جبهة واسعة فاعلة وطنية لا تسعى فيها “حماس” إلى الهيمنة والاحتواء، وإنما للشراكة، وتضع الجميع، بمن فيهم القيادة الرسمية، أمام الالتحاق أو العزلة أو الانهيار.

ولكنها لم تفعل ذلك، واكتفت بتوجيه اللوم للفصائل الأخرى التي لم تتجاوب، وكأن الأصغر وليس الأكبر والأقوى هو من يتحمل المسؤولية الكبرى، وحاصرتها أزماتها وخلافاتها الداخلية والخارجية وتحالفاتها المتعارضة، ووضعتها مرة أخرى أمام سؤال: هل يمكن الجمع بين السلطة والمقاومة المسلحة في الوضع الفلسطيني بخصائصه وتشابكاته، أم أن هذا الجمع يقود بقصد أو من دون قصد إلى تغليب مصالح السلطة على حاجات المقاومة؟

كتب هاني المصري: مستقبل السلطة والخليفة والخلفاء

مقالات – مصدر

كتب هاني المصري:

تدور في الساحة الفلسطينية والدوائر المهتمة بما يجري في فلسطين حوارات تستهدف مصير السلطة ومستقبلها، في ظل فشل برنامجها السياسي، والصراع الدائر على الخليفة والخلفاء، وبعد تبوء الحكومة الكهانية سدة الحكم في إسرائيل، خصوصًا بعد طرح عدد من وزرائها عدم صحة استمرار السلطة، حتى لو كانت تمثل سلطة حكم ذاتي محدود تحت السيادة الإسرائيلية؛ لأن وجود سلطة واحدة تمثل الهوية الوطنية الفلسطينية الواحدة مرفوض من قبلهم، ويطرحون ضرورة تفكيك السلطة إلى إدارات محلية، واحدة في الخليل، وثانية في نابلس، وثالثة في رام الله.. وهكذا؛ حيث تتنافس مع بعضها، وتكون كلها مرتهنة للاحتلال.

في المقابل، ترى أغلبية فلسطينية (63%)، وفق الاستطلاع الأخير للمركز الفلسطيني للبحوث السياسية والمسحية، الذي صدر في آذار 2023، أن السلطة الفلسطينية أصبحت عبئًا على الشعب الفلسطيني، بينما قالت نسبة 57% أن بقاء السلطة مصلحة إسرائيلية، فيما يعتقد ما نسبته 52% أن مصلحة الشعب حل السلطة أو انهيارها.

في هذا المقال، نحاول أن ندرس هذا الموضوع من جوانب عدة، مركزين على مستقبل السلطة، وهل ستنهار، أم تُحل، أم تتحول إلى دولة، أم يتم تغيير وظائفها لتستجيب للمصلحة الوطنية الفلسطينية؟

برنامج النقاط العشر وفكرة السلطة

بدأت فكرة السلطة في برنامج النقاط العشر، الذي أقره المجلس الوطني في العام 1974؛ إذ جاء في النقطة الثانية منها “تناضل منظمة التحرير بكافة الوسائل، وعلى رأسها الكفاح المسلح، لتحرير الأرض الفلسطينية، وإقامة سلطة الشعب الوطنية المستقلة المقاتلة على كل جزء من الأرض الفلسطينية التي يتم تحريرها”، وهي أخذت شكل سلطة حكم ذاتي كما جاء في معاهدة كامب ديفيد بين مصر وإسرائيل في العام 1979، بعد مسيرة بدأت بزيارة أنور السادات إلى القدس وإلقائه خطابًا أمام الكنيست الإسرائيلي.

وتطورت فكرة السلطة الوطنية المقاتلة على كل شبر يتم تحريره إلى إقامة دولة فلسطينية على حدود 1967، على أساس إنهاء الاحتلال بانسحاب القوات الإسرائيلية، بوصف الدولة شكلًا من أشكال تجسيد حق تقرير المصير للشعب الفلسطيني، ووصلت الفكرة إلى إقرار وثيقة الاستقلال لدولة فلسطين في العام 1988.

ساعد بقوة على ميلاد فكرة الدولة الفلسطينية في الضفة الغربية، بما فيها القدس، وقطاع غزة، بدء مسيرة سياسية بعد حرب تشرين الأول/ أكتوبر 1973، وتصور إمكانية أن تقود إلى معاهدات سلام عربية مع إسرائيل تشمل انسحاب إسرائيل من الأراضي العربية المحتلة العام 1967.

استندت فكرة الدولة الفلسطينية إلى قرار التقسيم 181 الصادر عن الأمم المتحدة في العام 1947، وينص على قيام دولة عربية على نحو 44% من أرض فلسطين، ودولة يهودية على نحو 55%، على أن تبقى القدس تحت حكم دولي خاص على 1% من أرض فلسطين.

حكومات إسرائيل لم توافق أبدًا على قيام دولة فلسطينية

لا بد من التأكيد بشكل قاطع أن الحكومات الإسرائيلية لم توافق حتى في العصر الذهبي لعملية السلام على هدف إقامة دولة فلسطينية، وهذا يفسر لماذا لم يتضمن اتفاق أوسلو حتى ولو مجرد إشارة أو تلميح إلى الدولة الفلسطينية، بل كان هناك تقدير فلسطيني عربي ومن بعض الأوساط الدولية (تبين بعد النتائج الحاصلة أنه مجرد وهم) بأن مفاوضات الوضع النهائي المنصوص عليها في الاتفاقيات الفلسطينية الإسرائيلية التي كان من المفترض أن تنتهي بعد خمس سنوات من المرحلة الانتقالية، وتحديدًا في أيار 1999، ستتوصل إلى اتفاق نهائي يشمل القضايا الأساسية: القدس، والحدود، والأمن، والمستوطنات، واللاجئين، ولم تشمل إقامة دولة فلسطينية، وكان من المتوقع والطبيعي أن يؤدي انتهاء الفترة الانتقالية إلى وقف هذا المسار وبناء مسار جديد.

بل إن إسحاق رابين الذي كان رئيسًا للحكومة الإسرائيلية، والحاصل على جائزة نوبل للسلام، قال في آخر خطاب ألقاه في الكنيست قبل اغتياله، إن اتفاق الوضع النهائي سيتضمن كما يرى صيغة أكثر من حكم ذاتي وأقل من دولة، وكان قد أوضح أن الكيان الفلسطيني الذي سيقام بعد الاتفاق النهائي سيكون على 50% من مساحة الأراضي الفلسطينية المحتلة العام 1967، وعندما قيل له إن هذا لن يوافق عليه الفلسطينيون، قال: “حينها فليحتفظ كل طرف بما لديه”.

وافقت القيادة الفلسطينية على إقامة السلطة الفلسطينية ضمن صيغة الحكم الذاتي على أمل بأنها ستتحول إلى دولة بعد مضي الفترة الانتقالية، والتوقيع على الاتفاق النهائي؛ لأن في هذا وفق تقديرها يحقق مصلحة إسرائيلية كون إقامة الدولة الفلسطينية ستكون الجسر الذي ستعبر عليه إسرائيل لتطبيع علاقاتها بالدول العربية، وما حصل أن الدولة الفلسطينية لم تقم فعليًا على الأرض، بل هي حق طبيعي للفلسطينيين، واعترفت الأمم المتحدة بها بوصفها عضوًا مراقبا، بينما استغلت الحكومات الإسرائيلية المتعاقبة المفاوضات ومسيرة السلام، ليس من أجل صنع السلام وإقامة دولة فلسطينية إلى جانب دولة إسرائيل، وإنما من أجل مواصلة خلق الحقائق الاحتلالية والاستيطانية والعنصرية التي تقضي على إمكانية قيام دولة فلسطينية، وتجعل الحل الإسرائيلي هو الحل الوحيد المطروح والممكن عمليًا، وأنجزت التطبيع مع عدد لا بأس به من الدول العربية من دون انسحاب إسرائيلي من الأراضي الفلسطينية والسورية المحتلة.

حل الدولتين ولد ميتًا

الاستنتاج الرئيسي مما حصل أن إقامة الدولة الفلسطينية وما اصطلح خطأ على تسميته “حل الدولتين” لم يكن مطروحًا على طاولة الحكومات الإسرائيلية والإدارات الأميركية، بل ولد مثل هذا الحل ميتًا، ولم يمت بعد فشل عملية السلام كما يقال.

حتى إدارة الرئيس بيل كلينتون لم توافق على إقامة دولة فلسطينية، في حين جاءت موافقة الرئيس جورج بوش الابن على مبدأ الدولة الفلسطينية، كما جاء في خارطة الطريق الدولية العام 2003، التي نصت على إقامة دولة فلسطينية ذات حدود مؤقتة وانتقالية، وعندما اعترفت الأمم المتحدة بالدولة الفلسطينية لم تعترف الإدارة الأميركية في عهد باراك أوباما ومعظم الدول الأوروبية بها، ولا في عهد دونالد ترامب الذي وافق على دولة فلسطينية في صفقة العصر، التي طرحها ضمن صيغة تؤدي إلى تصفية القضية الفلسطينية من مختلف جوانبها، مع تسمية الحكم الذاتي الواقع تحت الاحتلال دولة فلسطينية، وهي لا تملك من مقومات الدول سوى الاسم.

لقد استغلت عملية السلام والحديث عن حل الدولتين لقتل أي إمكانية لإقامة دولة فلسطينية، لدرجة وصلنا إلى وضع ترفض فيه الحكومات الإسرائيلية المتعاقبة، خصوصًا التي رأسها بنيامين نتنياهو، وهي استغرقت معظم العقدين الماضيين، مجرد عقد مفاوضات؛ لأنها تعتقد بعدم وجود شريك فلسطيني، وأنها باتت في وضع قادرة فيه على فرض السيادة الإسرائيلية على كامل الأرض الفلسطينية التي هي حق حصري لليهود، وعندما كان مسؤول إسرائيلي يتحدث عن حل الدولتين كان يفعل ذلك من قبيل الخداع وبما هو نوع من المناورة، أو يعد بشي لا ينوي أو لا يقدر على تحقيقه.

مصادر شرعية السلطة

إذا انتقلنا مرة أخرى إلى السلطة الفلسطينية، نرى أنها استمدت مصادر شرعيتها عند قيامها مما يأتي:

أولًا: من اتفاق أوسلو وعملية السلام الذي بات اتفاقًا دوليًا مقرًا في الأمم المتحدة، مع أنه ينتهك المبادئ الحاكمة في القانون الدولي وقرارات الأمم المتحدة.

ثانيًا: من مصادقة المجلس المركزي الفلسطيني على اتفاق أوسلو، مع ملاحظة أن إقرار مثل هذه الاتفاقيات مفترض أن يكون من المجلس الوطني، المرجعية العليا الفلسطينية لمنظمة التحرير، ولكن الاستعجال من جهة والخشية من وجود معارضة قوية في المجلس الوطني من جهة أخرى، لم تجعل المجلس الوطني يعقد ليقر أو يرفض الاتفاق، ليصار إلى عقده بعد ذلك لإقرار تعديلات أساسية مع الميثاق الوطني تنسفه نسفًا لكي ينسجم مع اتفاق أوسلو، مع أن هذه التعديلات لم تستكمل إجراءاتها القانونية.

ثالثًا: حصل اتفاق أوسلو والسلطة الفلسطينية المنبثقة منه على شرعية شعبية، من خلال إجراء انتخابات رئاسية وتشريعية في العام 1996، وتجديد هذه الشرعية بإجراء الانتخابات الرئاسية في العام 2005، والتشريعية في العام 2006، وخالفت نتائجها التوقعات؛ مم أدى إلى الانقلاب عليها، من خلال اعتقال عشرات النواب وبعض الوزراء، ومقاطعة حكومة “حماس” التي رأسها إسماعيل هنية، وحكومة الوحدة الوطنية التي شكلها أيضًا هنية، وصولًا إلى الانقسام الفلسطيني الذي وقع في حزيران 2007، وما زال يتعمق باستمرار، وأدى إلى قيام سلطتين متنازعتين تحت الاحتلال المباشر وغير المباشر، وأولوية القائمين عليهما مصالح السلطتين التي تطغى على أي شيء آخر، ترتبط إحداهما بالتزامات محددة وتلتزم الأخرى بتفاهمات، ولكن الصيغة الحاكمة لعلاقة كل منهما بالاحتلال هدوء مقابل أمن وتسهيلات، وكل خروج عن هذه الصيغة يعرض صاحبه للعدوان والعقاب.

وإذا نظرنا إلى مصادر الشرعية للسلطة، نجد أنها تبخرت في معظمها؛ حيث إن خيار المفاوضات واتفاق أوسلو وعملية السلام وصل إلى طريق مسدود. أما خيار المقاومة فمعطل بالتهدئة التي تتعارض مع المقاومة المفتوحة، ويظهر ذلك في الكارثة التي نعيشها منذ سنوات من دون رؤية وإستراتيجيات فاعلة ومستمرة، وبلا عملية سلام، مع ترديد المقولة البائسة عن التمسك بحل الدولتين التي لا تعني شيئًا سوى التغطية على ما تقوم به إسرائيل من فرض للحل الإسرائيلي من دون مفاوضات، وتكرار أن المقاومة هي الخيار، وهي مجرد وسيلة وليست هدفًا.

إسرائيل قتلت اتفاق أوسلو و”حل الدولتين”

قتلت إسرائيل اتفاق أوسلو كما قتلت ما يسمى “حل الدولتين”، وتريد تعميم الانقسام وتعميقه وإضعاف السلطتين لإخضاعهما للشروط والإملاءات الإسرائيلية، وبدلًا من أن يؤدي كل ذلك إلى تحميل إسرائيل المسؤولية عن هذه الجرائم، وإلى تخلٍ فلسطيني مماثل عن هذا الاتفاق والتزاماته، وتبني خيار أو برنامج جديد التزامًا بقرارات الإجماع الوطني والمجلسين المركزي والوطني المقرة منذ آذار 2015، جرى استمرار التمسك باتفاق أوسلو والتزاماته السياسية والاقتصادية والأمنية من جانب واحد؛ الأمر الذي أدخل السلطة في مرحلة أكثر خطورة من المرحلة السابقة.

كما أدى إلى الانقسام، وقيام سلطة في القطاع تخوض جولة مواجهة ثم تهدئة، وهكذا دواليك، من دون القدرة على كسر الدوامة الجهنمية التي تعيش فيها المقاومة، فالانقسام ليس مجرد كلمة تقال، بل خنجر في ظهر القضية الفلسطينية.

على الرغم من كل ما كان على اتفاق أوسلو من ملاحظات جوهرية تجعل توقيعه خطوة خاطئة وخطيرة منذ البداية، فإنه أنتج عملية سياسية فيها التزامات متبادلة، قامت الحكومات الإسرائيلية باختراقها، ولكنها وافقت على عودة قيادات وكوادر وأفراد وعائلات أعضاء منظمة التحرير والفصائل المنتمية إليها، وأعادت انتشار قواتها من مناطق (أ) و(ب)، ونقلت صلاحيات الإدارة المدنية (العسكرية) إلى السلطة، وكان من المفترض تطبيق النبضة الثالثة التي تشمل إعادة انتشار القوات المحتلة من معظم المناطق المصنفة (ج)، ولكن هذا لم يحدث، وبدلًا من المراجعة الفلسطينية للمسار بشكل جدي وبناء وحدة على أسس صلبة وتعددية وشراكة حقيقية، تم الاستمرار في تطبيق الالتزامات الفلسطينية من جانب واحد، وهذا أوصل السلطة في رام الله إلى التكيّف مع الواقع الجديد بدلًا من رفضه؛ ما جعلها تصبح أكثر وأكثر جزءًا من المنظومة الأمنية الإسرائيلية، وهذا يفقدها ما تبقى لها من شرعية. كما أوصل السلطة في غزة إلى الارتهان إلى الأموال القطرية التي تمر بموافقة إسرائيلية، وتخفيف الحصار عن قطاع غزة حينًا وتشديده حينًا آخر وفق رغبات ومصالح حكام تل أبيب.

شرعية مؤسسات المنظمة المجوفة وهمية

هنا، لا ينفع التغطي بالشرعية التي تمنحها مؤسسات منظمة التحرير للسلطة أو لعملية الانتقال القادمة لا محالة عاجلًا أم آجلًا؛ لأن عملية تجويف هذه المؤسسات وتقزيمها وإعادة هندستها جرت على قدم وساق، من خلال انتهاكات لا حدود لها للنظام الأساسي للمنظمة، الذي ينص على أنها تمثل الشعب الفلسطيني كله، وعلى ضرورة تشكيل مجلس وطني جديد؛ لأن مدة المجلس القديم انتهت، إضافة إلى تفويض المجلس الوطني لصلاحياته للمجلس المركزي بصورة مطلقة وغير محددة بمواضيع أو بوقت، وحل المجلس التشريعي بشكل غير قانوني وتفويض صلاحياته للمجلس المركزي، وعقد جلسة غير قانونية للمجلس المركزي لتمرير تعيينات غير قانونية، وفي ظل عدم دعوة قوى أساسية، ومقاطعة قوى مؤسسة للمنظمة، والمضي في هذا الطريق من دون إجماع أو توافق وطني.

الشرعية الشعبية مفقودة

أما الشرعية الشعبية، فهي لم تعد موجودة، بدليل عدم عقد الانتخابات الرئاسية منذ العام 2005، والانتخابات التشريعية منذ العام 2006، والأهم أن ما نسبته 77% من الشعب تريد من الرئيس الاستقالة، وفق الاستطلاع المذكور، كما أن نسبة 68% من المستطلعين يؤيدون تشكيل مجموعات مسلحة، و68% مع إجراء انتخابات عامة. إضافة إلى ذلك، هناك الانقسام البغيض الذي يسحب الشرعية من كل من ساهم فيه ويقاوم إنهاءه واستعادة الوحدة الوطنية، ولا يوجد توافق وطني للحصول على شرعية وطنية توافقية، فالانقسام يتعمق ويسير نحو الانفصال؛ إذ بين الاستطلاع أن 75% غير متفائلين بإنجاح المصالحة.

مستقبل السلطة بين الانهيار والحل وقيام سلطات متعددة وتغيير وظائفها

تأسيسًا على ما سبق، نستطيع أن نفهم ونفسر حالة الضعف المتزايد الذي تمر بها السلطة، وتزايد احتمال حلها أو انهيارها في ظل أن إسرائيل تقوم بكل ما من شأنه إضعاف السلطة، من خلال الاقتحامات اليومية للمدن الفلسطينية، واغتيال واعتقال من تريد، وإضعاف صلاحيات السلطة، وخصم الأموال الفلسطينية تحت ذرائع مختلفة، فهي لم تعد حريصة على استمرار السلطة كما كانت من قبل، فإسرائيل كانت ولا تزال بحاجة إلى السلطة أولًا وأساسًا؛ لأنها تجسد جسمًا سياسيًا قانونيًا يعفي الاحتلال من مسؤولياته عن الاحتلال وعن التوصل إلى حل، وثانيًا بسبب الالتزامات التي تقوم بها السلطة، لا سيما الالتزامات الأمنية، ومن دون أن تكون شريكًا ولا مرحلة على طريق قيام دولة فلسطينية.

آراء إسرائيلية عدة حول مصير السلطة

هناك في إسرائيل آراء عدة حول مستقبل السلطة، مثل الرأي الذي عبر عنه رئيس أركان جيش الاحتلال أخيرًا، وهو يمثل الجيش والدولة العميقة؛ إذ قال إن قيام السلطة بإدارة شؤون السكان أفضل من الفوضى أو من سيطرة “حماس”، وهذا يعني أن صاحب القرار حتى الآن يريد بقاء السلطة، ولكن ضعيفة وتحت إمرته.

وهناك رأي آخر عبر عنه كل من الوزيرين بتسلئيل سموتريتش وإيتمار بن غفير، الذي لا يرى ضرورة لاستمرار السلطة؛ لأن استمرارها بوصفها سلطة واحدة يعطي أملًا للفلسطينيين بإقامة دولة فلسطينية، ويعرض إسرائيل لمطالبات وضغوط دولية لتحقيق حل الدولتين، وهذا مرفوض منهما ومن قطاع يتزايد من المسؤولين من الجناحين القومي المتطرف والديني المتطرف الحاكمين حاليًا، حتى لو قامت الدولة الفلسطينية على جزء من الأرض المحتلة بلا سيادة، ومن دون القدس وعلى حساب قضية اللاجئين.

الصراع على الخلافة

أما العامل الآخر الذي يمكن أن يقوض السلطة، ويساهم في انهيارها، إذا لم يجد حلًا، وهو عدم حل مسألة الخلافة والخلفاء، والصراع الدائر حولها الذي قد يصل إلى تحقق سيناريو الفوضى والاقتتال؛ إذ لا توجد آلية قانونية معترف بها ومتوافق عليها وطنيًا لنقل السلطة في حال حدوث شغور في منصب الرئيس، وهناك رفض من المجموعة الحاكمة لإجراء انتخابات مدعوم من الإدارة الأميركية والحكومة الإسرائيلية وأطراف عربية، وهناك مرشحون عدة لا يملك أحدهم قوة كافية تجعل القبول به من المؤسسة، والأهم من الشعب وقواه ونخبه سهلًا أو ممكنًا.

أما سيناريو توزيع وظائف الرئيس على أشخاص عدة، كما يدور في الكواليس، وليس على شخص واحد، سيكون وصفة للفوضى؛ لعدم وجود برنامج وطني، ولا توافق وطني، ولا مؤسسات قوية، فمؤسسات المنظمة معتلة ومهمشة وغير معترف بها من أوساط وطنية واسعة، ولا يوجد مجلس تشريعي حتى يحل رئيسه محل الرئيس في حال شغور المنصب لمدة ستين يومًا تجرى فيها انتخابات رئاسية.

كما لا توجد نية لإجراء الانتخابات؛ ما يعني أن احتمال تنصيب رئيس من الخارج بالاتفاق مع بعض الأشخاص ومراكز القوى سيناريو مطروح، ولكنه لن يقبل به الشعب، وحتى العديد من القوى ستعارضه؛ ما يفتح بوابة جهنم للصراع الداخلي، وهذا يمكن أن يحقق سيناريو الفوضى والاقتتال، وسيناريو تحول السلطة بالكامل إلى وكيل أمني للاحتلال.

تجدر الإشارة إلى أن السلطة في عهد الرئيس محمود عباس تحولت عمليًا مرة أخرى إلى النظام الرئاسي؛ إذ يمسك الرئيس بكل السلطات والصلاحيات، وجعل الحكومة في الكثير من القضايا والأحيان آخر من يعلم.

هناك سيناريوهات عدة، أضعفها سيناريو استمرار السلطة، كما هي الآن، بل مُطَالَبة حتى تدعمها حكومة الاحتلال أن تكون “سلطة لحد”، من دون زيادة ولا نقصان، بل إن سيناريو الفوضى وانهيار السلطة وتفككها إلى سلطات عدة ومراكز قوى تتصارع سيناريو لا يمكن تجاهله.

الخيار الوطني (تغيير وظائف السلطة وإعادة بناء مؤسسات المنظمة) مستبعد

طبعًا، هناك خيار آخر إذا أوقفت السلطة المسار البائس الذي تسير فيه (هذا مستبعد بحكم الوقائع والمصالح)، وقامت بتغيير وظائفها لتكون سلطة خدمية إدارية، وأداة لخدمة البرنامج الوطني وتعزيز مقومات الصمود والبقاء، ونقل مهماتها السياسية إلى المنظمة، التي تحتاج إلى إعادة بناء مؤسساتها لتضم مختلف الألوان السياسية والاجتماعية، ومن ثم التوجه إلى الانتخابات على مختلف المجالات والقطاعات، خصوصًا الانتخابات السياسية الوطنية، وهذا الخيار سيؤدي إلى تصعيد المواجهة مع الاحتلال الذي قد يعمل في هذه الحالة على حل السلطة، ولكن سيبنى في سياق المواجهة الوطنية بديل منها متمثل في منظمة التحرير الموحدة، وبناء أشكال ومستويات من السلطة من أسفل إلى أعلى، ومنن أعلى إلى أسفل؛ حيث تفرض على الاحتلال فرضًا واقعًا تولد فيه سلطة جديدة تكون هذه المرة جنين الدولة الفلسطينية العتيدة، أو مرحلة على طريق فرض شكل من الحل الذي ينسجم مضمونه مع شكله.

القيادة رهينة سياسة البقاء والانتظار

بدلًا من تغيير المسار، تستمر القيادة الرسمية بالتمسك بسياسة البقاء والانتظار من دون أمل كبير ولا طموح حتى باستئناف المفاوضات وعملية السلام؛ ما يجعل مسار التغيير مستبعد مع أنه يفتح طريق الإنقاذ الوطني، وهذا يقود إلى مزيد من التدهور باستمرار، وإلى صعوبة انطلاق عملية سياسية جادة الآن، وهذا ما يدركه الجميع، فمن دون نضال متعدد الأشكال بما في ذلك الكفاح من أجل الحقوق، وإدراك أن المرحلة ليست مرحلة حلول، بل صراع يهدف إلى خلق حقائق جديدة على الأرض وتغيير موازين القوى؛ لا يمكن إطلاق عملية سياسية جادة، وإذا جرت مفاوضات سيكون هدفها تكريس الحل الإسرائيلي وشرعنته، الجاري فرضه منذ عقود، ويتسارع فرضه في ظل تبوء حكومة في إسرائيل تظن أنها قادرة على حسم الصراع بسرعة، عبر الضم والتهويد والتهجير والعدوان بكل أشكاله.

اقرأ أيضاً: هل نشهد نهاية السلطة الفلسطينية؟

حول ماذا أكتب ولماذا أكتب‎‎؟

أقلام – مصدر الإخبارية

حول ماذا أكتب ولماذا أكتب‎‎؟، بقلم الكاتب الفلسطيني هاني المصري، وفيما يلي نص المقال كاملًا كما وصل موقعنا:

أمر بحالة تدهمني ما بين مدة زمنية وأخرى يدور فيها في ذهني أسئلة من نوع حول ماذا أكتب، فهناك الكثير الكثير الكثير من المواضيع المهمة، وكيف أختار الأكثر أهمية الذي له أولوية؟.

في العادة، أقوم أو أحاول جهدي المزاوجة ما بين الموضوع الذي سأكتبه، ومدى أهميته مع مدى قدرتي على الكتابة عنه، فأنا لست خبيرًا في كل شيء، وحتى في المواضيع القليلة التي أعدّ فيها خبيرًا علي مواكبة المستجدات والكتابات حولها، حتى أحافظ على خبرتي في عصر الذكاء الصناعي، الذي أصبح يوفر أدوات تجعل من يستخدمها كاتبًا متميزًا، مع أن لا علاقة له بالثقافة والكتابة، وأخشى في فلسطين والبلدان التي تسمى “نامية” وهي في الحقيقة متخلفة، إذا لم يحدث التوازن في استخدام هذه الأدوات، أن يتم القضاء على ما بقي من ثقافة ومهارات شخصية.

كما يدور في ذهني سؤال “لماذا أكتب؟” جراء الأثر الذي تحدثه الكتابة، مع أنني لا أشكو على الإطلاق من قلة القراء، فأنا وبكل تواضع مقالاتي مقروءة، أو الأصح يطلع عليها عدد كبير، فهي تنشر في حوالي عشرين موقعًا، من ضمنها موقع مركز مسارات، وتوزع إلى آلاف الإيميلات، وتتم ترجمة العديد منها إلى اللغة الإنجليزية، وتتم استضافتي في مقابلات إذاعية وتلفزيونية وفضائية بالاستناد إليها، وأسمع من أشخاص ليس لهم مصلحة بأنهم يعدّون مقالاتي مادة لا يمكن الاستغناء عنها لمعرفة التطورات الخاصة بالقضية الفلسطينية.

على الرغم من كل ذلك، لا يزال السؤال مطروحًا مع إدراكي أن الكاتب والمثقف على وجه العموم حتى إذا كان مثقفًا عضويًا لا يحدث بمقالاته وثقافته الثورة والتغيير ، وليس مطلوبًا منه ولا هو قادر على ذلك، بل أقصى ما يمكن أن يفعله المساهمة في توفير البنية التحتية الفكرية والسياساتية اللازمة للثورة والتغيير. طبعًا، يمكن أن يكون المثقف فاعلًا، أو الأصح مناضلًا سياسيًا مباشرًا، وهذا يجعله من أدوات الثورة وصانعيها المباشرين.

وتثار دائمًا تساؤلات وأحيانًا انتقادات تتعلق بطول مقالاتي، وإجابتي عنها بأن مقالي ليس في الغالب مقالًا بالمعنى الحرفي للكلمة، فهو يتناول موضوعًا من مجالات وجوانب عدة، ويواكب المستجدات حوله، وهو يكون تقدير موقف حينًا وتقديرًا استراتيجييًا حينًا وتحليل وضع سياسي حينًا ثالثًا، أو يتناول مواضيع عدة، وأحاول أن أسهل على القارئ بتقسيمه إلى أقسام ووضع عناوين جاذبة.

الأمر الذي يحز في نفسي كثيرًا وأعتقد في نفس الكتاب الجادين الذين لديهم ما يقولونه غير صف الكلام أو التسحيج لهذا الطرف أو ذاك، هو عدم وجود فضاء سياسي يستقبل ويتفاعل مع ما يكتبه الكتاب. فلا علاقة لصانع القرار بما يكتب وما تنتجه مراكز الأبحاث ومجموعات التفكير ، كما أن هناك غيابًا للمؤسسات، خصوصًا التمثيلية، فالمؤسسات إما تم حلها مثل المجلس التشريعي، وتحويل صلاحياته للمجلس المركزي لمنظمة التحرير، وهو غير منتخب ولا متوافق عليه وطنيًا، وهناك معارضة سياسية جماهيرية كبيرة لجلسته الأخيرة التي تعدّ غير قانونية ولا معترف بها، ولا أقول إن المجلس المركزي غير قانوني ولا شرعي، وإنما جلسته الأخيرة وتفويضه كذلك بصلاحيات المجلس الوطني بصورة انفرادية وغير قانونية، وتقضي عمليًا عليه، وهو المرجعية العليا للمنظمة التي هي الممثل الشرعي الوحيد، ولكنها قزمت وغيبت منذ أوسلو، ويتم القضاء عليها عمليًا منذ تحويل صلاحيات الوطني للمركزي؛ ما يعكس نوايا لكي يكون هو الذي يتولى الفترة الانتقالية في حالة حدوث فراغ في منصب الرئيس لأسباب تتعلق بالوفاة، أو بعدم القدرة على ممارسة العمل بسبب المرض، وذلك من خلال تعيين رئيس للسلطة من دون انتخابات، بحجة عدم سماح الاحتلال للانتخابات في القدس، وأنه سيكون مؤقتًا، وخشية من الفراغ وأضراره، وسيتم اختيار رئيس للجنة التنفيذية من لجنة تنفيذية لا تمثل في الحقيقة خريطة القوى الفعلية، ولا تقوم سوى بدور استشاري متراجع هو الآخر، ولعل الجدال الأخير بين أعضائها حول إقرار أو عدم إقرار المشاركة بلقاء العقبة الأمني الزاحف والبائس والمغطى بغطاء سياسي لدليل حي على ذلك.

إن الإقدام على مثل هذه الخطوات الفورية غير الديمقراطية ولا الموافقة عليها في حالة حدوث فراغ بالرئاسة هو الذي ينذر بتقدم سيناريو الفوضى والاقتتال وتعددية القيادات والمرجعيات والسلطات وضياع كل شيء.

ما قالته رئيسة المفوضية الأوروبية ليس جهلًا وإنما عداء وانحياز

أخيرًا، كلمة بخصوص ما تحدثت به أورسولا فون دير لاين، رئيسة المفوضية الأوروبية، بمناسبة ذكرى تأسيس إسرائيل، متناسية أنها ذكرى النكبة بالنسبة إلى الفلسطينيين، أصحاب الأرض والحقوق الأصليين، فالأمر لا يعود إلى الجهل وقلة المعرفة بالتاريخ والجغرافيا، وإنما بالانحياز الأيديولوجي والسياسي لطرف مستعمر استيطاني عنصري إحلالي إجلائي احتلالي، يدخل الآن في أخطر مراحل تطرفه وإجرامه عندما تتصور حكومته الحالية أنها قادرة على حسم الصراع مع الفلسطينيين بشكل فوري وعنيف، وليس متدرجًا مثلما كانت تعتقد وفعلت الحكومات الإسرائيلية السابقة، وهذا أدى إلى أزمة عميقة وغير مسبوقة في إسرائيل، ولم تجد رئيسة المفوضية الأوروبية ما يستحق التوقف عنده.

إن ما قالته، إذا لم تتم استقالتها أو إقالتها أو الاعتذار عنه على الأقل، يستوجب ردًا فلسطينيًا وعربيًا بمستوى الانحدار السياسي والأخلاقي الذي انحدرت إليه، وكذلك ردًا دوليًا وأوروبيًا، (فهناك الكثير من الأوروبيين لم يعجبهم ما قالته ولا يعبر عنهم).

أقرأ أيضًا: كتب هاني المصري: بعد التصعيد الأخير … تهدئة أم تصعيد أكبر؟

أمام الفلسطينيين فرصة تاريخية، فليسارعوا إلى اغتنامها قبل ضياعها

أقلام – مصدر الإخبارية

أمام الفلسطينيين فرصة تاريخية، فليسارعوا إلى اغتنامها قبل ضياعها‎‎، بقلم الكاتب الفلسطيني هاني المصري، وفيما يلي نص المقال كاملًا كما وصل موقعنا:

أزعم أن أمام الفلسطينيين فرصة تاريخية ذهبية، يمكن أن تتسع مساحتها، ويمكن أن تغلق، والمدة الزمنية اللازمة للحكم على أنها هل ستوظف لصالح الشعب الفلسطيني أم لا، تستمر من الآن وحتى نهاية العام القادم، وذلك بناء على النقاط الأربع الواردة أدناه.

أولًا: العالم القديم ينهار وعالم جديد يطل برأسه

لا بد من الانطلاق من أن الفرصة التاريخية بدأت تلوح في الأفق بعد الحرب الأوكرانية، واتضاح المعايير الدولية المزدوجة في التعامل مع الشعب الفلسطيني المحتل منذ 75 عامًا، وخاضع لاستعمار استيطاني عنصري ارتكب كل أنواع الجرائم ضد الإنسانية، ولم يحاسب، بل يتم التعامل معه جراء الحماية الأميركية والغربية بوصفه دولة فوق القانون الدولي، وبعيدًا عن المحاسبة والعقوبات والعزل، فهو لم ينفذ أي قرار ضدها، على الرغم من صدور مئات القرارات من مجلس الأمن والجمعية العامة والوكالات الأممية التابعة للأمم المتحدة.

ولكن بحكم الانحياز للجلاد على حساب الضحية، لم تظهر بوادر هذه الفرصة التاريخية بوضوح؛ أي لم يُمكن توظيفها إلا بعد أن ساهمت الحرب الأوكرانية وتداعياتها في وضع نهاية للنظام الدولي الأحادي القطبية، وبداية ظهور نظام عالمي جديد لم تتضح وتتبلور معالمه بشكل واضح وكامل حتى الآن؛ حيث يمكن أن يكون ثنائي القطبية أو متعدد الأقطاب أو نظامًا جديدًا، نعرف على الأقل أنه لن تتحكم فيه دولة واحدة، وسيكون أفضل أو أرحم أو أقل سوءًا من النظام الأحادي القديم، الذي مارست فيه الولايات المتحدة كل أنواع الظلم والتمييز والهيمنة والاستغلال والحروب والتجزئة، خصوصًا في منطقة الشرق الأوسط، التي احتلت مكانة واسعة ضمن المخططات الأميركية.

ثانيًا : الأزمة الإسرائيلية البنيوية العميقة المستمرة

تمر إسرائيل منذ بداية هذا العام بأزمة بنيوية عميقة غير مسبوقة، ومرشحة للاستمرار – حتى لو تم التوصل إلى تسوية – لمدة طويلة، إن لم يكن إلى الأبد. وبدأت هذه الأزمة مع تشكيل حكومة إسرائيلية هي الأكثر تطرفًا منذ تأسيس الكيان الاحتلالي وحتى الآن، وهي أزمة عمقت نقاط الضعف الإسرائيلية، وجعلت إسرائيل أضعف من أي وقت مضى، من دون نسيان أنها دولة نووية ومتفوقة عسكريًا واقتصاديًا وأمنيًا وتكنولوجيًا، وترتبط بعلاقات عضوية مع أقوى دولة في العالم؛ حيث بات الصراع مفتوحًا بين التيار والأحزاب المؤسسة لإسرائيل والعلمانية والليبرالية الإشكنازية، وبين الأحزاب القومية والدينية الأكثر تطرفًا، التي تريد إقامة دولة الشريعة على أنقاض الدولة الليبرالية اليهودية التي مثلتها إسرائيل حتى الآن.

ومن لا يصدق ما ذهبنا إليه، فلينظر إلى المظاهرات التي تشهدها المدن الإسرائيلية منذ بداية هذا العام، التي وصلت يوم 27 آذار الماضي إلى حافة العصيان المدني، وربما الحرب الأهلية، لولا التراجع المؤقت للحكومة بعد التدخل الأميركي غير المسبوق عن إقرار القوانين التي تحكم سيطرتها على سلطة القضاء بعد أن سيطرت على السلطتين التشريعية والتنفيذية. وخلال الفترة القادمة التي لن تزيد من الآن وحتى نهاية العام القادم، كحد أقصى، سيتضح هل ستتوصل الأحزاب المختلفة داخل الحكومة والمعارضة إلى تسوية تهدئ الوضع الداخلي والخارجي المتفجر إلى حين تفجرها مرة أخرى أم لا؟

في هذه المرحلة، سيتضح هل ستصمد الحكومة أم تنهار وتشكل حكومة واسعة، وربما وحدة وطنية، خصوصًا إذا اختارت الحكومة الحالية تصدير أزمتها إلى عدو خارجي يتفق الطرفان على عداوته، وضرورة محاربته؟ وفي ظل هذا السيناريو يجب الاستعداد لعدوان عسكري على الفلسطينيين، وبصورة أقل لحرب مع حزب الله، وربما بصورة أقل بكثير لحرب إقليمية.

وفي هذه المرحلة المشار إليها، التي ستمتد حتى نهاية العام القادم، ستظهر نهاية أو امتداد الحرب الأوكرانية، ولصالح من، وانعكاساتها الكاملة على النظام الدولي، وإلى أين ستصل المنافسة الصينية الأميركية التي عنوانها تايوان، ولكن في جوهرها الصراع على من سيقود العالم الجديد، وعلى أي أسس وقواعد؟

كما ستشهد هذه المرحلة الانتخابات الرئاسية الأميركية في تشرين الثاني 2024، التي إذا نجح فيها الحزب الجمهوري برئاسة دونالد ترامب أو مرشح جمهوري آخر شبيه به، فهذا سيعطي دعمًا كبيرًا وإكسير الحياة للحكومة الكهانية، وهذا ينذر إذا لم يتم التقاط الفرصة التاريخية بنهايتها؛ إذ ستكون بدلًا منها مخاطر أكبر، تتمثل في تطبيق مخطط الضم والتهويد والتهجير والفصل العنصري والعدوان العسكري.

ثالثًا: التغيرات الإستراتيجية التي يشهدها الإقليم

يشهد الإقليم تغيرات إستراتيجية بين الدول العربية، والخليجية تحديدًا، وبين إيران وتركيا؛ حيث أصبح الأعداء أصدقاء وحلفاء، وأصبحت الدول الخليجية، وبشكل خاص السعودية، تتبنى سياسة جديدة، تنوع فيها في علاقاتها بين الشرق بزعامة الصين وروسيا، وبين الغرب بزعامة أميركا، وتسعى إلى تصفير الأزمات من الحرب اليمنية، مرورًا بلبنان وعودة سوريا إلى الجامعة العربية، وليس انتهاء بلبنان وفلسطين.

أظن وليس كل الظن إثمًا، أن العام الحالي، وفي الحد الأقصى العام القادم، سيتضح هل تستطيع الدول العربية أن تشق مسارًا جديدًا تستعيد فيه المكانة لبلدانها وللدور العربي؛ حيث تأخذ مكانها اللائق بها في خريطة العالم الجديد، أم ستستطيع أميركا وإسرائيل والأطراف الأخرى الداخلية والخارجية المنزعجة والمتضررة من المسار العربي الجديد إعادة الوضع إلى ما كان عليه، وأسوأ، أو مع بعض التغييرات الشكلية والتكتيكية؟ وليس من السهل إعادة التغييرات الحاصلة في المنطقة إلى الوراء، خصوصًا أن دوافعها كثيرة، ولدى مختلف الأطراف، وبدأت منذ سنين عديدة.

رابعًا: الهبات والموجات الانتفاضية التي تشهدها فلسطين

تشهد فلسطين منذ العام 2015 هبات وموجات انتفاضية متلاحقة شعبية ومسلحة، أبرزها هبة الكرامة وسيف القدس في أيار 2021، وانطلاق موجة انتفاضية منذ آذار 2022، أكبر من سابقاتها خلّفت أكثر من 50 قتيلًا إسرائيليًا ومئات الجرحى، جراء عمليات مقاومة معظمها فردية يعترف الاحتلال أن من المستحيل منعها، إضافة إلى تشكيل كتائب مقاومة مسلحة في جنين ونابلس وغيرهما من المناطق.

لقد عجزت الأجهزة الأمنية الإسرائيلية أمام هذه الظاهرة، وعلى الرغم مما تعانيه من ثغرات وأخطاء وعدم وجود حاضنة فكرية وسياسية وتنظيمية وقيادية وبرنامجية، فإنها تدل على أن الشعب الفلسطيني، كالعادة، يأخذ أكثر وأكثر بزمام المبادرة للدفاع عن قضيته وحقوقه ووجوده، لا سيما بعد نشوء فراغ ناجم عن وصول الإستراتيجيات المعتمدة سابقًا إلى طريق مسدود، وبعد وقوع الانقسام الفلسطيني السياسي والجغرافي والمؤسسي، الذي يعبر عن نفسه بأسوأ صورة من خلال وجود سلطتين متنازعتين، يطغى التنافس والصراع بينهما على أي شيء آخر.

واستمرت هذه الموجة، وأخذت أشكالًا جديدة، وصلت إلى حد ما شهدته المقاومة الشعبية والمسلحة في رمضان الجاري، خصوصًا تنفيذ عمليات إطلاق صواريخ من لبنان وقطاع غزة وسوريا، في مناورة بالذخيرة الحية، لاختبار مدى الضرر الحادث في الردع الإسرائيلي جراء الأزمة البنيوية التي تشهدها إسرائيل؛ حيث أظهرت ضعفها، وأنه ضرر جسيم، من دون أن يعني أبدًا فقدانها القدرة على العدوان لترميم الردع الإسرائيلي.

ولندرك مدى الضرر الحادث، نشير إلى أن نظرية الردع الإسرائيلية كانت تقوم على أركان عدة، أبرزها: الاحتفاظ بزمام المبادرة بالهجوم، وحصر المعركة في الجبهة الداخلية للعدو بعيدًا عن جبهته الداخلية، وحسم المعركة بسرعة لصالحه، والاحتفاظ بالكلمة الأخيرة في ميدان المعركة، فكم تبقى من هذه النظرية في ضوء قراءة ما يحدث في المعارك السابقة؟

رسالة إلى الرئيس وقطبَيْ الانقسام (فتح وحماس)

حتى تستطيع فلسطين استثمار الفرصة التاريخية قبل ضياعها، أو استنفادها، لا بد من إجراء تغيير بنيوي شامل في المؤسسة، والرؤية، والخطاب السياسي، وآلية اتخاذ القرار، والمتحكمين فيه؛ حيث تعتمد أسس الشراكة الحقيقية لمختلف ألوان الطيف السياسي والاجتماعي، على أسس وطنية وديمقراطية، وبما يحقق إعادة بناء مؤسسات منظمة التحرير الكيان الوطني وتوحيدها وتفعيلها، لتصبح قولًا وفعلًا الممثل الشرعي للشعب الفلسطيني؛ لأن استمرار الانقسام، وتعمقه، ووصوله إلى انفصال، وإلى المزيد من الشرذمة والانقسام؛ لا يمكن أن يوظف الفرصة المتاحة، بل ستتضاعف المخاطر والتحديات التي يمكن أن تأخذ في طريقها ما تبقى من مكاسب فلسطينية، بما فيها وحدانية التمثيل الفلسطيني؛ حيث سيتقدم الخيار الإسرائيلي والخيارات والبدائل العربية والدولية لتحل محله في محاولة لإنقاذ ما يمكن إنقاذه.

وهذا التغيير يمكن أن يُفرض من الشعب والقوى المؤمنة بضرورة حدوثه، أو يبادر إليه أو على الأقل يشارك فيه الرئيس محمود عباس وحركة فتح، من خلال اعتبار ما تبقى له من عمر في الحكم فترة انتقالية، يتم فيها ترتيب البيت الفلسطيني بشكل شامل قبل أن يطل سيناريو الفوضى برأسه ويأكل في طريقه كل شيء؛ حيث ينهي عهده بتوفير شروط انتقال سلمي وديمقراطي للسلطة بعده، خصوصًا في ظل تجويف المؤسسات وتعطيلها، وإلغاء الانتخابات، وعدم عقد مؤتمر فتح الثامن على أسس تعيد لفتح ألقها ووحدتها وفاعليتها، وما يتطلبه ذلك من السعي الجاد إلى إنهاء الانقسام، واستعادة الوحدة على أساس برنامج وطني يجسد القواسم المشتركة، وما أكثرها في ظل وجود حكومة في إسرائيل برنامجها سحق القضية الفلسطينية وتصفيتها من مختلف جوانبها وأطرافها، بما يشمل السلطة، فإما أن تكون وكيلًا كاملًا للاحتلال وجزءًا من منظومة الأمن الإسرائيلية، أو حلها، أو وضعها في حالة لا يمكن فيها أن تستمر، بل ستنهار وستحل محلها إدارات محلية وبلدية لا يربطها رابط جامع، تجسيدًا لمقولة عدم وجود شعب فلسطيني، وهذا ليس رأي أقلية في الحكومة الكهانية، بل رأي أغلبية في النخبة الإسرائيلية.

ولا يجب انتظار دعوة من دول عربية أو أجنبية لتحقيق المصالحة، مثلما أثارت دعوة السعودية لوفد برئاسة الرئيس محمود عباس، من آمال قد تكون زائفة، التي ترافقت مع أنباء عن توجيه دعوة مماثلة، ثم التراجع عنها، لوفد من حركة حماس برئاسة إسماعيل هنية، وسط تكهنات بإمكانية وجود مبادرة سعودية فلسطينية تستكمل بها جملة المبادرات التي بدأتها بعد اتفاق بكين الثلاثي للتوصل إلى حل الحرب اليمنية، وإعادة العلاقات السعودية السورية، وحل أزمة انتخاباب رئيس لبنان؛ لأنها لن تنجح إلا إذا كانت موجودة فعلًا، وإذا وجدت استعدادًا وتجاوبًا فلسطينيًا مع الدعوة، ومتطلبات نجاحها، والقمة العربية التي ستعقد في الرياض في أيار القادم فرصة ذهبية لإحياء ملف الوحدة الوطنية بشكل مختلف عن السابق.

هناك منطقة جديدة، فما بعد الحرب الأوكرانية يختلف عما قبلها، وعودة العلاقات الإيرانية السعودية مجرد مثال؛ حيث عقدت اجتماعات ثنائية وإقليمية وجهوية، وما يجري فيها من تغيرات، بكل أسف، القضية الفلسطينية ليست في قلبها، “فالغائب ما له نايب”،على الرغم من مكانتها المركزية؛ ذلك بسبب تراجع أولويتها، وغياب القيادة الفلسطينية التي لا يسيطر عليها سوى بقاء السلطة، وتنتظر الخلاص من المجهول، بدلًا من المبادرة للتواجد في كل مكان تقتضيه المصلحة الفلسطينية، واعتبار ما يجري فرصة جديدة وجدية وتاريخية لن تستمر إلى الأبد لإنهاء الانقسام وتوحيد السلطتين، ضمن حل الرزمة الشاملة التي تطبق بالتوازي والتزامن قدر الإمكان، وفق خريطة طريق تفصيلية لا تقفز عن أي شيء جوهري؛ لأن ذلك سيكون بمنزلة اللغم الذي سينفجر في أي محطة قادمة، خصوصًا أن الاحتلال أدى وسيؤدي دورًا رئيسيًا في إفشال أي مبادرة لتحقيق الوحدة الفلسطينية، الذي يقوم على المبادئ والمصالح وتوازن القوى المحلى والإقليمي والدولي.

وحتى تنجح السعودية في إنجاز الوحدة، أو أي دولة أخرى، يجب أن تشرك الدول والأطراف الأخرى المعنية، وخصوصًا مصر، وتستفيد من تجاربها، ولا بد من وضع الحلول للعراقيل والعقبات الضخمة أمام الوحدة، التي حالت دون تحقيقها في السابق، وستحول دونها الآن وفي المستقبل إذا لم تقدم الحلول المناسبة. وهذا يتطلب إدراك أن الوحدة لن تتحقق بقرار وبسرعة ومن الأعلى فقط، وإنما من الأسفل إلى الأعلى وبالعكس، وضمن عملية تاريخية مثابرة تعرف متى تبدأ، والنقطة التي تقف عليها القضية الفلسطينية، والأطراف التي تمثلها، والهدف الذي ستسعى إلى تحقيقه وكيف يمكن تحقيقه.

وهنا، لا بد من أن يتضمن أي حل الاتفاق على تشكيل حكومة وحدة وطنية، وهيئة انتقالية توافقية مؤقتة، تقود المرحلة الانتقالية، بما لا يمس بصلاحيات المنظمة وشرعيتها، وعلى الاحتكام إلى الشعب عبر الانتخابات، وبالتوافق الوطني إذا تعذر إجراء الانتخابات، وأن يأخذ البرنامج السياسي الأهمية التي يستحقها، وأن يكون اتفاق الوحدة، وخصوصًا الحكومة التي تشكل، قادرة على الإقلاع والتحليق والوصول إلى المحطة المنشودة، بالاستناد إلى المصالح والحقوق والأهداف الفلسطينية، بعيدًا عن إعادة إنتاج عملية التسوية الفاشلة من دون تجاهل القانون الدولي وقرارات الأمم المتحدة، وشق الطريق لمفاوضات لتطبيق الشرعية الدولية لا التفاوض حولها، وبعيدًا عن شروط اللجنة الرباعية الظالمة، وخصوصًا بعد أن ماتت الرباعية، وبعد أن قتلت الحكومات الإسرائيلية المتعاقبة ما يسمى “عملية السلام”.

إن الأوضاع كانت ولا تزال تسير قبل التغييرات الإسرائيلية والإقليمية والدولية الأخيرة نحو الانفجار أكثر مما تسير في اتجاه الانتفاضة الشعبية، ولكن إذا تحققت أو بدأت مسيرة تحقيق الوحدة على أساس تغيير المسار، واعتماد مسار وطني ديمقراطي تشاركي، فستسير نحو انتفاضة قادرة على الانتصار؛ انتفاضة لها قيادة واحدة، تستوعب عبر ودروس الانتفاضات السابقة، وذات هدف وطني واقعي قابل للتحقيق، ولا بد أن يكون إنهاء الاحتلال وتجسيد الدولة على حدود 1967، في الوقت نفسه مواصلة النضال من أجل حق العودة والمساواة على طريق الحل الجذري الديمقراطي التاريخي.

انقلب السحر على الساحر… نتنياهو فاقد للسيطرة

أقلام – مصدر الإخبارية

انقلب السحر على الساحر… نتنياهو فاقد للسيطرة، بقلم الكاتب الفلسطيني هاني المصري، وفيما يلي نص المقال كاملًا كما وصل موقعنا:

تعيش إسرائيل فوضى عارمة وأزمة غير مسبوقة مفتوحة على مختلف السيناريوهات، بما فيها أسوؤها. فقد أعلن الاتحاد العام لنقابات العمال الإسرائيلية (الهستدروت) الإضراب بدءًا من الأمس، وكذلك الجامعات والمدارس والأطباء والمطار والجمارك وعدد من المحلات التجارية والشركات، بينما بلغ عدد المتظاهرين ليلة الأحد الماضي أكثر من 600 ألف متظاهر.

وما فاقم الأزمة إقالة يوآف غالانت، وزير الحرب، (هناك أنباء عن إمكانية عودته إلى منصبه) بعد مطالبته بتأجيل “الإصلاحات”؛ لأنها اعتبرت رسالة إلى الائتلاف والمعارضين في الليكود بأن مصيرهم الفصل إذا عارضوا الخطة، وهذه الإقالة زادت الهوة بين الحكومة وقادة الجيش والأجهزة الأمنية، الذي عبر غالانت عن مطالبهم ومخاوفهم عندما طالب بتأجيل الانقلاب، وهذا يمكن أن يزيد من التمرد في صفوف الاحتياط، وخصوصًا الضباط والطيارين ومساعديهم، ومرشح هذا التمرد للاتساع إلى داخل القوات العاملة، هذا إذا واصلت الحكومة انقلابها على “ديمقراطية” اليهود، وتحويل إسرائيل إلى دولة دكتاتورية يحكمها شخص واحد مسيطر مع ائتلافه الحاكم على مختلف السلطات التنفيذية والتشريعية والقضائية.

في المقابل، دعا اليمين أنصاره إلى التظاهر مساء الأمس (الإثنين)، وسط ترقب لخطاب رئيس الحكومة بنيامين نتنياهو الذي تأجل منذ صباح الأمس إلى المساء، والذي أشارت مصادر إعلامية إلى أنه سيتضمن تأجيل إقرار التشريعات القضائية إلى ما بعد الأعياد، مع استمرار التمسك بها، مع الحرص على السعي إلى إقرارها بعد حوار، والتوصل إلى توافق وطني حولها.

نتنياهو يريد إغراق المعارضة بمفاوضات مرهقة وإفقادها الزخم الشعبي

نقطة ضعف نتنياهو أنه بات “فاقدًا للسيطرة” كما صرح بذلك مسؤول في الليكود، وهو لا تثق به المعارضة كونه معروفًا عنه المراوغة والكذب والخداع، لذا ليس من السهل أن تبتلع المعارضة هذا الطعم، وهي تريد وقف وليس تأجيل إقرار التشريعات القضائية، وخصوصًا أن أصواتًا متزايدة من المعارضة غيرت هدفها من المظاهرات والإضراب الذي يمكن أن يتحول إلى العصيان المدني، من إسقاط الإصلاحات القضائية/الانقلاب إلى إسقاط نتنياهو، الذي بات خطرًا على أمن دولة إسرائيل، كما جاء في مانشيت صحيفة “يديعوت أحرونوت” وعدد من وسائل الإعلام والمقالات الإسرائيلية.

لقد فقد الساحر نتنياهو سحره، وهو الذي لقبه أنصاره بملك إسرائيل؛ لما تميز به من قدرات وذكاء مكنه من أن يكون أطول رؤساء الحكومات حكمًا منذ تأسيس إسرائيل، وسيطر على أكبر حزب لأكثر من عشرين عامًا من دون منافس، والآن يجد نفسه في وضع لا يعرف ماذا يفعل؟ وهو محاصر بالنيران من كل جانب.

مواصلة “الإصلاحات” يؤدي إلى أزمة دستورية

فإذا واصل نتنياهو تطبيق انقلابه فستحدث أزمة دستورية؛ لأن المحكمة العليا سترفض أن يكون القانون خاضعًا للحكومة، وبذلك تصبح إسرائيل برأسين، وهذا سيفاقم الفوضى، وسيصل إلى صدام، وربما إلى حرب أهلية، فالجيش الذي له دولة وليس مثل بقية بلدان العالم الدولة لها جيش، والذي يعدّ البقرة المقدسة معرض للانقسام، فهناك نحو 20% من المصوتين في الانتخابات الأخيرة من الجنود والضباط صوتوا لحزب الصهيونية الدينية و40% من الضباط. كما أشارت استطلاعات إلى أنهم يدعمون أفكار هذا الحزب والتطرف الديني والسياسي، ولا يعرف أحد إلى أين يمكن أن يصل الوضع إذا أصرت الحكومة على تشريعاتها القضائية التي ستقضي فيها على القضاء، وبذلك تكف إسرائيل عن كونها دولة ديمقراطية خاضعة لسيادة القانون، وإنما دولة تخضع القانون لخدمة ائتلاف حاكم، والأصح لخدمة أشخاص مجرمين وملاحقين قضائيًا، وعلى رأسهم نتنياهو.

إذا تراجع نتنياهو لا يضمن الحفاظ على رأسه وحكومته

وإذا تراجع نتنياهو عن انقلابه فلن يضمن إنقاذ رأسه وبقاء حكومته؛ لأن حزب الصهيونية الدينية من الصعب أن يبقى في حكومة أو أن يدعمها من الخارج إذا لم تعد تتبنى برنامجه، بما فيها إقرار “الإصلاحات”، فموافقة بتسلئيل سموتريتش على التأجيل وليس على التخلي عن التشريعات، وتهديد بن غفير بالخروج من الحكومة إذا تأجلت مع بقائه في الائتلاف ليس مضمونا بعد التخلي عن التشريعات.

سيناريو بقاء الحكومة ضعيف، ولكنه ممكن

سيناريو بقاء الحكومة مع أنه ضعيف لا يجب إسقاطه من الحساب كليًا؛ لأن حزب الصهيونية الدينية يعرف أنه إذا غادر الحكومة فإنه لن يعود إليها خلال فترة قصيرة، كما أن الاستطلاعات تدل أن مقاعده ستنخفض بقوة، وأن المعارضة هي التي ستفوز في أغلبية المقاعد إذا جرت الانتخابات الآن، لذلك السيناريو المفضل عند المعارضة هو اللجوء إلى الانتخابات، ولكن هذا السيناريو لن يحدث إلا إذا سقطت الحكومة عبر الكنيست، وهذا لن يحدث إلا إذا تخلى عنها حزب أو أحزاب عدة من المشاركين في الحكومة.

في هذا السياق، لا يبقى أمام نتنياهو سوى الاستجابة للمطالبين بتأجيل تنفيذ الخطة/ الانقلاب إلى ما بعد عطلة الأعياد، لمنع تصاعد المعارضة للحكومة التي كفت عن كونها معارضة سياسية، وإنما غدت معارضة شعبية واسعة مرشحة للتصاعد، وهذا الاتجاه للتأجيل بات لا مفر منه بعد بدء تصدع عند بعض قادة الليكود، وحث الأحزاب الدينية في الحكومة على تأجيل “الإصلاحات”، وسيحاول نتنياهو أن يدخل المعارضة في حوار طويل مرهق لإعطاء إكسير حياة لحكومته، ولكسب وقت يمكن أن يفقد المعارضة زخمها الشعبي ووحدتها، وهذا يفتح الباب لسيناريوهات أخرى، مثل تشكيل حكومة وحدة وطنية، أو حكومة ينضم إليها بيني غانتس.

في كل الأحوال، يبدو أن سيناريو وصول نتنياهو إلى نهاية حياته السياسية يقترب بشدة، وهو يحاول البقاء بشكل قسري عبر العناية المشددة، وهو يمكن عند بلوغه لحظة اليأس أن يوافق على ضم يائير لابيد وغانتس، أو الأخير إذا كانوا مستعدين لذلك، مقابل اتفاق على طي صفحة الملاحقات القضائية ضده.

هناك سيناريو جيد لليكود، وهو تنحي نتنياهو بما يسمح بضم أحزاب من المعارضة لحكومة يشكلها الليكود من دون الحاجة إلى اليمين المتطرف الديني والقومي، ولكنه مستبعد لاستمرار تحكم نتنياهو في الليكود؛ ولأن جزءًا من الليكود بات ينافس حزب الصهيونية الدينية على التطرف.

ما يجري نتيجة طبيعية لوجود كيان استعماري يجمع المتناقضات ما بين اليهودية والديمقراطية

إن ما جرى ويجري في إسرائيل نتيجة طبيعية؛ كونها كيانًا استعماريًا استيطانيًا احتلاليًا إحلاليًا عنصريًا، فلا يمكن أن تجمع بين كونها يهودية وديمقراطية واليهودية هي الأعلى؛ أي تكون إسرائيل ديمقراطية لليهود فقط، وهي تضطهد شعبًا آخر فلسطينيًا موجودًا وصامدًا ويقاوم، على الرغم من إنكار وجوده علنًا من سموتريتش، وسرًا وفعلًا من الغالبية الساحقة من النخبة السياسية والشعبية في إسرائيل، في ظل عدم وجود حزب واحد له وزن يعترف بحق تقرير المصير للشعب الفلسطيني، الذي يشمل حقه في إقامة دولة فلسطينية على الأرض المحتلة العام 1967، بما في ذلك القدس.

وما يحدث يثبت مرة أخرى أنه لا يكفي أن تكون قويًا وحاصلًا على الأغلبية حتى تنفرد بالحكم، بل تحتاج إلى قدر من الحكمة والعقلانية، فمع التطرف والغباء يمكن أن تخسر كل شيء مهما كنت قويًا، فالصهيونية الدينية أرادت أن تحسم الصراع مع الفلسطينيين فأوصلت إسرائيل إلى حافة الهاوية؛ إذ أصبح الحسم داخل الإسرائيليين، وهذا يقودها إلى مصير أحسن ما يمكن وصفه بأنه مجهول، وكيفية حسم الأزمة الراهنة سيحدد مصير إسرائيل التي ستخرج أضعف في مختلف السيناريوهات والأحوال.

واشنطن مع إسرائيل وضد حكومتها وتحاول إنقاذها من نفسها

كلمة أخيرة حول الغرب بصورة عامة، والولايات المتحدة بصورة خاصة، الذي يحاول أن ينقذ دولة إسرائيل من حكومتها، ولكن بالقفز عن معالجة جذور وأسباب الأزمة وثيقة الصلة بأن إسرائيل قامت على حساب شعب آخر، وتستمر بالسيطرة عليه والتحكم فيه، ولعب دورها الوظيفي ضمن مشروع استعماري يريد إبقاء المنطقة العربية أسيرة التخلف والتبعية والتجزئة والفقر، وهو نجح في ذلك بعض الوقت، ولكنه لن ينجح طوال الوقت، بل لا بد من أن تنهض شعوب وبلدان المنطقة والإمساك بمصيرها، عاجلًا أم آجلًا، ولعل التغييرات التي تشهدها المنطقة مؤخرًا، خصوصًا بعد اتفاق بكين الثلاثي، تمثل أحد تداعيات الحرب الأوكرانية، وتكاثر الإرهاصات والمؤشرات على موت النظام العالمي، وبدء ولادة نظام عالمي جديد.

قد تنقذ إسرائيل من خوض حرب أهلية والزوال حاليًا عوامل داخلية، خصوصًا أنها دولة قانون، وتقاتل أوساط كبيرة من أجل بقائها تضم أحزاب المعارضة والدولة العميقة والنخب الاقتصادية والليبرالية كذلك، وخارجية نتيجة ارتباطها العضوي مع الغرب، وخصوصًا الولايات المتحدة، الذين لن يسمحوا بانهيار إسرائيل، وضعف الفلسطينيين والعرب وتفتتهم، وعدم قدرتهم على توظيف المأزق الإسرائيلي الذي يوفر لهم فرصة ذهبية تاريخية، ولكن هذا المصير محتوم ما لم يتغير جوهر إسرائيل بوصفها كيانًا استعماريًا استيطانيًا عنصريًا احتلاليًا إحلاليًا، وكذلك ما لم يتغير دورها الوظيفي في خدمة مشروع استعماري عالمي.

الإضراب حق، وكرامة المعلم من كرامة الوطن

لا تزال الحكومة تركب رأسها، وترفض الالتزام بتطبيق الاتفاق الذي وقعته مع المعلمين، وبدلًا من الالتزام الواضح والقاطع تسعى إلى شيطنة حراك المعلمين، والتهديد بمعاقبة المضربين واستبدالهم، على الرغم من أن الإضراب يعبر عن إرادة غالبية المعلمين وعن مصالحهم جميعًا، وهذا لن يقود إلى فرض السيطرة والهيبة، حتى لو استطاعت الحكومة كسر الإضراب؛ لأن المعلم إذا فقد كرامته وكسرت إرادته فلا يمكن أن يقوم بواجبه، وسيكون ضعيفًا أمام طلابه الذين يجب أن نعلمهم أن كرامة المعلم من كرامة الوطن.

وإلى الذين يسحجون للحكومة ويرددون معها أن الإضراب مسيس وخاضع لأجندات خارجية وداخلية تصب في محاولات إخضاع السلطة، أو حتى التخلص منها، نقول لهم على من تضرب مزاميرك يا داود، فأعضاء حركة فتح وأنصارها هم الذين يشكلون أكبر مؤيدي الإضراب، كما أن السلطة خصوصًا بعد مشاركتها في لقاءي العقبة وشرم الشيخ وتقديمها طوق النجاة لحكومة متطرفة شرعت في تطبيق برنامج الضم والتصفية للقضية الفلسطينية، على الرغم من أنها تغرق نتيجة تطرفها وعنصريتها، وتندمج أكثر وأكثر في منظومة الأمن الإسرائيلية، وليس غريبًا هذا الموقف، فهي أي السلطة، سبقت حكومة نتنياهو بما تفعله؛ حيث تسيطر سلطة واحدة، والأحرى شخص واحد على كل السلطات، فلا يوجد فصل ولا استقلال للسلطات، فكلها تحت قرار الرئيس مع أن المعارضة الفلسطينية لم تشكل معارضة وازنة مثلما يحصل في إسرائيل، على الرغم من أنها تضم معظم الفصائل، ويؤيدها في المعارضة معظم الشعب، كما تدل العديد من المؤشرات والاستطلاعات.

لقد وصل البعض إلى تحريم الإضراب تحت الاحتلال، وذكرني بالقائد الفتحاوي الشهير الذي تحدث مرارًا وتكرارًا عن خطأ إجراء الانتخابات تحت الاحتلال، على الرغم من أنه كان نائبًا ووزيرًا لسنوات عديدة، قافزًا عن أنه إذا كانت الانتخابات خطيئة تحت الاحتلال، فأن تكون وزيرًا ومتمتعًا بامتيازات الـ”في آي بي”(Vip) خطيئة أكبر.

نعم، لا انتخابات حرة ونزيهة وتحترم نتائجها تحت الاحتلال، ولكن الأصل ألا تكون هناك سلطة تحت الاحتلال، فهذه بدعة من بدع أوسلو الكثيرة، وما دامت هناك سلطة يجب أن تكون مساءلة ومحاسبة ومنتخبة، وإذا تعذر ذلك، وهو متعذر، فلا معنى لوجود السلطة، (التي غدت بعد الانقسام سلطتين متنازعتين تفتقدان للشرعية الانتخابية)، بل المصلحة الوطنية تقتضي توحيد السلطتين وإيجاد سلطة واحدة من نوع مختلف، تراعي الاختلاف في الظروف، وتنسجم تمامًا مع مرحلة التحرر الوطني، وتكون في خدمة البرنامج الوطني المشترك، وأداة بيد منظمة التحرير الموحدة.

وفي هذه الحالة، ستتعرض السلطة للاستهداف من الاحتلال، ولكنها ستكون سلطة عادلة، وعندها لن يكون هناك داعٍ في الغالب للإضراب ضدها، ولكن عندما تكون الموازنة مختلة فيها، ويحتل الأمن 20-30% من دون أن يكون لديها جيش، ومن دون أن تقوم بواجبها بالدفاع عن شعبها (ولا أقول الهجوم أو تكون سلطة مقاومة) في وجه اعتداءات قوات الاحتلال وقطعان المستوطنين، وعندما تكون سلطة فاسدة وخاضعة بشكل متزايد للاحتلال من خلال استمرار التزامها بقيوده والتزاماته، حتى بعد موت ما سميت “عملية السلام”، والتعايش والتعاطي مع خططه التي سقفها أمني واقتصادي، وبعد تنصل الحكومات الإسرائيلية من التزاماتها منذ حكومة نتنياهو الأولى العام 1996 وحتى الآن، فلا طريق لتحصيل الحقوق إلا النضال السلمي الديمقراطي القانوني، وعلى رأسه الإضراب والتظاهر … إلخ.

أقرأ أيضًا: كتب هاني المصري: هناك أمل رغم الأوضاع المأساوية والإحباط

اتفاق بكين الثلاثي… نقطة تحول أم هدنة موقتة؟

أقلام – مصدر الإخبارية

اتفاق بكين الثلاثي… نقطة تحول أم هدنة موقتة؟، بقلم الكاتب الفلسطيني هاني المصري، وفيما يلي نص المقال كاملًا كما وصل موقعنا:

بادئ ذي بدء، لا بد من التوقف أمام الاتفاق الثلاثي (السعودي الإيراني الصيني)، الذي يعدّ تطورًا نوعيًا، يمكن أن يشكل – إذا تم تطبيقه وتجاوز مرحلة الخطوبة التي حددت بشهرين وتم عقد الزواج – بداية مرحلة جديدة، وهذا السيناريو الأكثر احتمالًا بسبب الضمانة الصينية للاتفاق، أو مجرد تكتيك مؤقت يقود إلى هدنة موقتة، وسرعان ما تعود ريما إلى عادتها القديمة.

ويتوقف الأمر على كيفية تعامل الأطراف مع الاتفاق، وهل سينجح المتضررون منه في تخريبه، وخصوصًا حكام واشنطن وتل أبيب، أم سيتم تطبيقه، بما يتجاوز إعادة العلاقات الديبلوماسية خلال شهرين، إلى الاتفاق على نهج جديد وسياسات جديدة، من خلال التوصل إلى اتفاق لإنهاء الحرب اليمنية، وهذا هو الاختبار الأول والأهم، ويمكن أن يساعد في التوصل إلى اتفاق “طائف جديد” يتم فيه حل مسألة انتخاب رئيس الجمهورية اللبنانية، وفي عودة العلاقات السعودية السورية، بما قد يفتح الطريق لقيام تكتل عربي يسعى إلى أخذ مكانه في العالم الجديد الذي يتشكل، ويفتح الاتفاق الباب لوقوف سوريا على قدميها، وأخذ مقعدها في الجامعة العربية، بما يمكنها من حضور القمة العربية القادمة في السعودية؟

إذا طبّق هذا الاتفاق، فهذا يعني تغييرًا جوهريًا في السياسات والأساليب، لا في الأهداف، فكل طرف سيستمر في السعي إلى تحقيق أهدافه، ولكن بأشكال ناعمة وليس مرة واحدة.

كما يوقف اتفاق بكين المحاولات لإقامة حلف أميركي عربي إسرائيلي، سياسي وعسكري، ضد إيران، وهذا سيقلل من احتمالات اندلاع حرب إقليمية بين إسرائيل وإيران، خصوصًا أنه ترافق مع تحرك نحو استئناف المفاوضات حول الملف النووي، على خلفية قرب تمكن إيران، إن أرادت، من إنتاج قنبلتها النووية الأولى.

وسيوقف الاتفاق – إذا طبق – قطار التطبيع الذي في الحد الأدنى ستنتفي احتمالات انضمام السعودية إلى الاتفاقات الإبراهيمية، خصوصًا إذا استمرت الحكومة الإسرائيلية الكهانية، وسيحدث على الأغلب تجميد أو تبريد للعلاقات بين دول الاتفاقات الإبراهيمية مع إسرائيل، وسيكون لهذا الاتفاق تأثير في الحرب الأوكرانية، وهو من تداعياتها، وعلى تشكل نظام عالمي جديد؛ لأن أطرافه الثلاثة أصدقاء بدرجات متفاوتة مع روسيا، واثنان منهما عضوان في منظمة أوبك بلس، ذات التأثير على إنتاج الطاقة وأسعارها.

فرص تطبيق الاتفاق جيدة

هناك ما يشير إلى أن فرص تطبيق الاتفاق جيدة؛ لأنه جاء بعد تراجع (وليس نهاية) الدور الأميركي في المنطقة، بعد توفر إمكانية لواشنطن للاستغناء عن النفط والغاز العربي، والحاجة إلى تركيز الجهود في آسيا لوقف تقدم العملاق الصيني الزاحف، وهذا فتح الباب مؤقتًا لزيادة الدور الإسرائيلي للتعويض عن الدور الأميركي، وبعد أن لمست دول الخليج، وخاصة السعودية أن عمق العلاقات الأميركية الخليجية والمزايا الضخمة للغرب وأميركا لم تشفع لها، للحصول على موافقة أميركية لإنشاء مفاعل نووي سلمي متقدم، وتقديم أسلحة متقدمة، وتوفير شبكة حماية أمنية تشبه تلك المتوفرة لأعضاء حلف الناتو، بل عندما تعرضت السعودية للقصف الصاروخي أكثر من مرة، وفي منطقة حساسة (أرامكو)، لم تهب الإدارة الأميركية في عهدي باراك أوباما ودونالد ترامب لنجدتها، بل بدلًا من ذلك طالبها ترامب بالمزيد من الأموال والمشاريع والاستثمارات.

ومن الأسباب التي تزيد من فرص نجاح الاتفاق حاجة الأطراف الثلاثة الموقعة عليه إليه، في ظل تخييم شبح الحرب العالمية في أجواء الحرب الأوكرانية، على الرغم من كل عوامل الصراع والتنافس وعدم الثقة، التي لن تزول بسرعة، فإيران تمر بأزمة حادة جراء العقوبات والحصار والاحتجاجات الداخلية، وهي بحاجة إلى تحسين علاقاتها مع جيرانها العرب وإبعادهم عن حكومة الاحتلال، والصين تريد أن تضطلع بدور سياسي وعسكري وأمني يتناسب مع تزايد دورها الاقتصادي والتجاري الكبير، ويلبي متطلبات تطبيق مشروع “الحزام والطريق”، الذي يحتاج إلى التهدئة. أما السعودية فهي في أزمة عميقة نتيجة استمرار الحرب اليمنية، وتخشى من أن تكون ميدانًا للحرب الإقليمية إذا اندلعت بين إيران وإسرائيل، أو ميدانًا للحرب الباردة المندلعة بين المعسكر الشرقي والمعسكر الغربي، كما أنها بحاجة إلى التهدئة لتمرير مشاريعها للقيام بدور مهم يتناسب مع “السعودية الجديدة “التي ولدت بعد تولي محمد بن سلمان ولاية العهد.

ومن الملاحظ أن الدول الخليجية، وخصوصًا السعودية، والدول العربية المحسوبة على المعسكر الأميركي والغربي، عانت من الإدارات الأميركية الديمقراطية التي رفعت مسألة حقوق الإنسان في وجهها لأغراض سياسية، كما عانت من الدور الأميركي الذي شجع اندلاع “الربيع العربي” بذريعة تغيير الأنظمة الديكتاتورية العسكرية، وتلك الحاضنة للإسلام المتطرف، الذي أدى إلى عدم الاستقرار في المنطقة، واستبدالها بأنظمة يحميها الإسلام المعتدل، ووجدت أن هناك إمكانية لتنويع علاقاتها مع انهيار النظام العالمي القديم، وتزايد دور الصين، مع حرصها على الحفاظ على مسافة متساوية بين واشنطن وبكين.

ظاهرة تعاون الخصوم وتنافسهم

شهدت علاقات الدول العربية، خصوصًا الخليجية، تنوعًا خلال السنوات الأخيرة في علاقاتها مع دول العالم؛ إذ أخذت منذ فترة بتنويع علاقاتها السياسية والاقتصادية والعسكرية والأمنية؛ حيث توسعت العلاقات بينها وبين الصين وروسيا، والاتفاق الأخير الذي وقع في بكين يعمق هذا الاتجاه، من دون أن يعني ذلك انتقالها، كما ذهب البعض، من معسكر إلى معسكر، فحجم الارتباط والتعاون والتبادل بين هذه الدول وبين أميركا ودول المعسكر الغربي عميقة وكبيرة جدًا، وإلى حد لا يمكن الاستغناء عنها أو استبدالها بسهولة وسرعة حتى لو أرادت، لذلك أعلن بعد الاتفاق عن صفقة بوينغ بعشرات المليارات ، وتحذو بذلك حذو تركيا والصين والكثير من البلدان التي تقيم علاقات متنوعة مع أطراف عديدة تحارب أو تنافس بعضها؛ حيث يتم تغليب المصالح على الاعتبارات الأيديولوجية والقيمية والسياسية.

نرى حدوث تغييرات كبيرة في العلاقات في العالم بين دول المنطقة، وأكبر مثال تركيا، التي قطعت شوطًا كبيرًا في تصفير مشاكلها مع مختلف بلدان العالم، خصوصًا مع الدول العربية؛ حيث من الملاحظ أن هناك ظاهرة عالمية نجد فيها أن الدول المتخاصمة والمتعادية والمتنافسة تتعاون فيما بينها؛ إذ نراها تتعاون في ملف أو ملفات، وتتنافس وأحيان تتصارع في ملفات أخرى، وقليلة هي البلدان التي لا تقوم بذلك نتيجة محاربتها ومقاطعتها من أميركا والمعسكر الغربي، مثل إيران، التي يمارسون عليها الحصار، ويفرضون العقوبات.

ويمكن أن يؤدي دورًا في مدى قرب أو بعد السعودية عن الصين وروسيا وإيران، ومدى إمكانية تطبيق اتفاق بكين، ردة الفعل الغربية على سياستها الجديدة، وخصوصًا ردة الفعل الأميركية، لا سيما إذا تصرفت إدارة بايدن على طريقة إما معي أو ضدي، وحاولت تخريب الاتفاق من خلال اللعب حتى في الأوضاع الداخلية السعودية، مثلما حاولت الإدارة الأميركية في الخمسينيات مع الرئيس جمال عبد الناصر، الذي حاول أن يحصل على السلاح من أميركا، فرفضت؛ ما اضطره إلى عقد صفقة السلاح مع تشيكوسلوفاكيا، التي كانت عضوًا في الحلف الذي يقوده الاتحاد السوفييتي، وكان ذلك إيذانًا ببدء مرحلة جديدة في المنطقة والعالم انتهت بتشكيل ما عرف بمجموعة دول عدم الانحياز، الذي دفع الصلف الأميركي العديد من الدول المنتمية إليها إلى الانحياز للمعسكر الشرقي أو الاقتراب منه.

أزمة إسرائيل تطور وعامل مهم

هناك عامل مهم آخر يؤدي دورًا ملموسًا في التأثير في مسار الأحداث وتسريعها، وهو اندلاع الأزمة غير المسبوقة في إسرائيل، والمفتوحة على سيناريوهات عدة، بما فيها السيناريو الأسوأ، وهو الصدام الداخلي والتدمير الذاتي.

هذا السيناريو محتمل ولكنه مستبعد؛ لأن هناك أطرافًا داخلية في إسرائيل تشمل الأحزاب السياسية والمجتمع المدني، التي تشكل المعارضة، وهي واسعة وقوية، وتقف إلى جانبها الدولة العميقة الممثلة في الجيش وأجهزة الأمن والمحكمة العليا … إلخ، (وواقع أن تياري الصهيونية الدينية والقومية المتطرفين لم يحصلا على أغلبية ثابتة ومستقرة حتى الآن)، التي لا يمكن أن تسمح بأن تأكل إسرائيل ذاتها، خصوصًا أن هناك أطرافًا ودولًا خارجية، على رأسها الولايات المتحدة، والغرب عمومًا، لا يمكن أن يسمحوا بانهيار إسرائيل وزوالها، على الأقل ما داموا أقوياء، وعلى المدى المباشر، مع العلم أن الأزمة مهما كان المسار الذي ستسير فيه ستترك، على المديين المتوسط والبعيد، آثارًا كبيرة على إسرائيل، وستطرح أسئلة كبيرة حول مصيرها ومستقبلها في المنطقة.

في ضوء ما سبق، من المحتمل بقاء الحكومة وتفاقم الأزمة، أو التوصل إلى تسوية بين الحكومة والمعارضة، أو سقوط الحكومة نتيجة تفاقم الأزمة والذهاب إلى انتخابات جديدة، أو تشكيل حكومة بين الليكود والأحزاب الدينية وحزب بيني غانتس والقائمة الموحدة.

توقف قطار التطبيع في ظل الحكومة الكهانية

دفع تشكيل حكومة إسرائيلية متطرفة جدًا السعودية ودول الاتفاقات الإبراهيمية إلى التروي، وإعادة النظر في سياساتها وأولوياتها، ومن دون أن تسقط هذه الحكومة من الصعب تطبيع العلاقات السعودية معها، ولا يمكن أن يستمر التطبيع الساخن في العلاقات بين كل الدول التي تربطها علاقات مع إسرائيل، سواء مصر والأردن أو دول الاتفاقات الإبراهيمية، لذلك لمسنا تغيرًا؛ حيث رفضت الإمارات – حتى الآن – زيارة نتنياهو، وتم تأجيل الاجتماع المقرر لمنتدى النقب، ورفضت السعودية مشاركة وفد إسرائيلي في مؤتمر دولي حول السياحة الدولية، وقامت الإمارات وغيرها من دول الخليج بتوجيه انتقادات للسياسة الإسرائيلية، سواء عند اقتحام الوزير إيتمار بن غفير للأقصى، أو ردًا على الجرائم وخصوصا محرقة حوارة.

ومع أهمية فرض العزلة على الحكومة الإسرائيلية والمطالبة بفرض العقوبات عليها وإسقاطها كونها الأخطر، لا بد من التحذير مبكرًا من الترويج لحكومة يشكلها الليكود والأحزاب الدينية مع حزب بيني غانتس؛ لأنها يمكن أن تكون أقل خطرًا وتطرفًا، ولكنها ستسير لتحقيق الهدف نفسه، ولكن عبر السير بطرق مختلفة، وتصب في المصب نفسه الذي انتهت إليه الحكومات السابقة على الحكومة الحالية التي تعدّ أكثر تطرفًا وتسرعًا، وخصوصًا حكومة يائير لابيد التي أوغلت في الدم الفلسطيني، وحصرت العلاقات بالسلطة في البعدين الأمني والاقتصادي، وسمحت لنحو 50 ألف مستعمر مستوطن باقتحام الأقصى، وممارسة الرقص والغناء وممارسة الطقوس الدينية. كما شنت عدوانًا عسكريًا ضد قطاع غزة، واستمرت في سياسات الضم والقضم التدريجي للأرض والفصل العنصري، فضلًا عن توسيع الاستيطان بمعدلات كبيرة.

وإذا سقطت حكومة نتنياهو وجاءت حكومة أقل تطرفًا سيحدث هجوم أميركي وأوروبي ودولي معاكس لترويجها وكأنها المنقذ وحمامة سلام، وسيسعى إلى إيقاف المفاعيل التي يمكن أن يحدثها اتفاق بكين الثلاثي، خصوصًا إذا فاز ترامب أو مرشح جمهوري شبيه فيه؛ إذ سيدعم مثل هذا التطور – إن حدث – الحكومة الإسرائيلية في كل الأحوال، مع أنه يفضل إذا كانت متطرفة جدًا.

نظام عالمي جديد يتقدم ببطء

يظهر أكثر وأكثر أن النظام العالمي القديم ينهار، وأن هناك نظامًا عالميًا جديدًا يتقدم بوصفه أحد تداعيات الحرب الأوكرانية، وإن ببطء، وأن هناك تحديات خطيرة تهدد القضية الفلسطينية والشعب. ولكن، هناك فرص تاريخية تولد، أهمها أن إسرائيل الآن أضعف، وستكون منشغلة بأزمتها الداخلية، ولو أدى ذلك إلى استمرار وتصعيد العدوان ضد الفلسطينيين، مع استبعاد أو تراجع احتمال الحرب الإقليمية مع إيران وحزب الله، وأن هناك إقليمًا يتغير، ويمكن أن يحمل معه تهدئة بين شعوب المنطقة وبلدانها، وهذا يصب في صالح القضية الفلسطينية.

وفي هذا السياق، يمكن أن يتم إحياء التضامن العربي بعودة سوريا إلى الجامعة العربية، وعندها سيعود هذا بالفائدة على الفلسطينيين؛ لأن العرب عندما يتفقون ستكون القضية الفلسطينية حاضرة، وعندما ينقسمون تتراجع، فهذا يمكن أن يفعل مبادرة السلام العربية، ويحيي مبدأ الأرض مقابل السلام، ويقف عائقًا أمام برنامج الضم والتهجير والتهويد والفصل العنصري والعدوان العسكري.

وإذا صمدت الحكومة الحالية حتى الانتخابات الأميركية، ونجح ترامب أو مرشح جمهوري شبيه به، فهذا كما أسلفنا سيعطي إكسير الحياة لبرنامج الضم ويقوي السيناريو الأسوأ.

الفلسطينيون غائبون، وتدشين المسار الأمني سير في طريق جهنم

ما سبق يوضح مدى بعد القيادة الفلسطينية، ومعظم النخب الفلسطينية، عن إدراك أهمية تغيير المسار، بما يتناسب ويستجيب للمتغيرات الإقليمية والدولية، حتى يأخذ الفلسطينيون والعرب مكانهم اللائق في خريطة العالم الجديد، وعدم الاستجابة السليمة تظهر في المشاركة من السلطة ومصر والأردن في لقاءي العقبة وشرم الشيخ، اللذين يشكلان ربحًا صافيًا لإسرائيل، وخسارة صافية للفلسطينيين.

ولعل النتائج المترتبة عن لقاء شرم الشيخ تنذر بالأسوأ؛ حيث تم الاتفاق مع أخطر حكومة – بدلًا من مقاطعتها والمطالبة بفرض العقوبات عليها وإسقاطها، من دون التزامها بوقف العدوان والاقتحامات والاغتيالات وهدم المنازل، ولا بوقف الحملة المسعورة على الأقصى والأسرى، ولا وقف سيل القوانين العنصرية – على مسار دائم أمني يغطى بالحديث عن العودة إلى الاتفاقات السابقة، وفتح أفق سياسي، يعلم الجميع بأنه مستحيل، وكذلك تضمن بيان شرم الشيخ شرعنة الاستيطان، من خلال غض النظر عن قيام الحكومة الإسرائيلية بتطبيق مخططاتها وقراراتها لبناء 10 آلاف وحدة استيطانية جديدة، وشرعنة 13 استيطانية، والنص على عدم “مناقشة “إقرار وحدات وبؤر استيطانية جديدة “لفترة موقتة”، والمساواة بين الضحية والجلاد بالحديث عن وقف العنف، والخطوات الأحادية، وعمل ترتيبات بتشكيل لجان أمنية؛ ما يعني إدخال السلطة أكثر في منظومة الأمن الإسرائيلية، على الرغم من أن السلطة والكثير من الأطراف العربية تتحدث عن التغيير المطلوب، فهناك قرارات فلسطينية من المجلسين المركزي والوطني بإعادة النظر في الاتفاقات؛ لأن الحكومات الإسرائيلية تجاوزتها، وخلقت واقعًا على الأرض صفت فيه كل قضايا الوضع النهائي، ولكن من دون تبني القيادة الرسمية السياسات والأدوات المناسبة للتفاعل مع المستجدات والتأثير فيها، بل أمعنت في السير في طريق جهنم، وهذا يجعل التهديدات والمخاطر تتقدم والفرص تبتعد، واكتفاء المعارضة الفلسطينية على الرغم من اتساعها بالشجب والإدانة والاستنكار، وتنظيم الاحتجاجات الشعبية الرمزية من دون تقديم بديل حقيقي قادر على الإقلاع.

أقرأ أيضًا: كتب هاني المصري: هناك أمل رغم الأوضاع المأساوية والإحباط

Exit mobile version