ما زال حنظلة يُـديـر ظـهـره

مقال- وليد القططي

وصف مصطفى لطفي المنفلوطي “العظمة” في كتابه “النظرات” بقوله: “العظمة قوة روحية موهوبة غير مكتسبة، تملأ نفس صاحبها شعوراً بأنّه رجل غريب في نفسه ومزاج عقله ونزعات أفكاره وأساليب تفكيره… لا ينظر إلى شيء من الأشياء بعين غير عينه، ولا يسمع بأُذن غير أذنه، ولا يمشي في طريق غير الطريق التي مهدها بيده لنفسه، ولا يجعل لعقل من العقول… سلطاناً عليه… فترى جميع أعماله وآثاره غريبة بين الناس وأعمالهم: تُبهر العيون، وتُدهش الأنظار، وتملأ القلوب هيبةً وروعةً…”. وكأنَّ المنفلوطي يصف بهذه الكلمات ناجي العلي ورسوماته الكاريكاتورية.

ناجي العلي، رسام الكاريكاتور الفلسطيني الأكثر شهرة في الوطن العربي، مرت ذكرى اغتياله السنوية قبل أيام، وقد سبقت قتله سلسلة من التهديدات على خلفية رسوماته الساخرة الناقدة للانحراف في الواقع السياسي العربي المسؤول عن ضياع فلسطين وشرعنة الكيان الصهيوني، وفي الثورة الفلسطينية التي بدأت آنذاك تنحرف في اتجاه التخلّي عن هدف التحرير الكامل لأرض فلسطين ووسيلة الكفاح المُسلّح كطريق وحيد لتحرير فلسطين، فانتقد ناجي العلي برسوماته الكاريكاتورية الساخرة هذا الانحراف لدى الأنظمة العربية ومنظمة التحرير الفلسطينية، وابتدع شخصية “حنظلة” ليكون شاهداً على ذلك، وجعله توقيعاً دائماً في كل رسوماته، ليكون ثورة داخل الثورة.

“حنظلة” صورة طفل حافي القدمين رث الملابس، في العاشرة من عمره، رسمه ناجي العلي على صورته وقتما هاجر طفلاً مع أسرته من قريته الشجرة شمال فلسطين إلى لبنان، وُلد – كما يقول ناجي – يوم النكسة عام 1967، وأمه النكبة عام 1948، وظهر في رسوماته عام 1969 بشكله الطبيعي ووجهه للأمام، وبعد حرب تشرين الأول/أكتوبر عام 1973 أدار ناجي ظهر “حنظلة” للناس ووجهه للخلف، وكتّف يديه خلف ظهره احتجاجاً على النتائج السياسية للحرب التي فتحت الطريق إلى التسوية السلمية لمصر والعرب مع الكيان الصهيوني وبدأت في اتفاقية “كامب ديفيد” عام 1978، والطريق الذي سلكته منظمة التحرير الفلسطينية بعد أن رقصت على أنغام “الشرعية الدولية”، وفتحت مزاد التنازلات ببرنامج النقاط العشر، فكانت تلك “الحنجلة الثورية” بداية سقوط الثوار في مستنقع أوسلو.

ابتكر ناجي العلي اسم “حنظلة” من نبات الحنظل الصحراوي المُر ليرمز إلى مرارة واقع الشعب الفلسطيني المأساوي بعد النكبتين في مخيمات اللجوء وتحت الاحتلال، وجعله ينتمي نضالياً إلى الشعب الفلسطيني كله من دون تصنيفه فصائلياً؛ ليكون: صوت الشعب، وضمير الوطن، ونبض الفقراء، وبوصلة الثورة، وأيقونة الصمود والتحدي، ورمز الهوية الفلسطينية. وجعله ينتمي طبقياً إلى الكادحين والفقراء الذين انحاز لهم ناجي في كل الوطن العربي، فقال: “أنا لست مُحايداً، أنا منحاز لمن هم تحت… لمن ينامون في مصر بين قبور الموتى.. لمن يخرجون من حواري الخرطوم ليمزقوا بأيديهم سلاسلهم…”.

وجعله ينتمي قومياً إلى العروبة، فقال على لسان حنظلة: “أنا مش فلسطيني، ومش أردني، ومش كويتي… ومش حدا، محسوبك عربي وبس”.

“حنظلة” البائس الفقير، أصبح توقيعاً دائماً وشاهداً ثابتاً في كل رسومات ناجي العلي الكاريكاتورية، الرسومات التي حوّل فيها الأحداث والمواقف المأساوية الجادة إلى هزلية مضحكة، كمخرج ساخر ينسجم مع المثل الشعبي “شر البلية ما يُضحك”؛ كطريقةٍ تعتمد على النقد الذاتي للثورة لتطهيرها وتصويبها، ولتجاوز حالة العجز والإخفاق فيها، فأعاد ناجي التعبير الفني بالرسم والتعليق على الواقع لإعادة تشكيله وفق فكره الثوري، وعاطفته الوطنية، فجاءت رسوماته: عميقة الفكرة، متقدة العاطفة، ساخرة المضمون، قوية التأثير، غنية الرموز، سريعة الفهم… فكان “حنظلة” فيها بمنزلة الضمير الشعبي وبوصلة الثورة، وليس “شاعر البلاط” أو “رسام القبيلة”.

ولأنَّ ناجي العلي رفض دور “رسام القبيلة” المرتزق الموالي لأصحاب القرار وأولي الأمر، كانت شخصية “حنظلة” على صورته يُدير ظهره للناس رفضاً واحتجاجاً، ليظل ثورة “داخل الثورة”، محاولاً تحذيرها لوقف انحرافها السياسي وهرولتها نحو سراب التسوية السلمية، ووهم الدولة المستقلة قبل التحرير، رافضاً قبول فكرة تقاسم فلسطين مع مغتصبها بحجة الواقعية السياسية، ومتهماً قيادة المنظمة بالاعتراف بـ “الشرعية الدولية” لتسافر كل البلاد باستثناء فلسطين، ولتسكن الفنادق بدلاً من الخنادق، ولتخفي كفي الاستسلام خلف أصبعي النصر.

وظل “حنظلة” يدير ظهره لنا رفضاً واحتجاجاً على الفساد المالي في صفوف الثورة، فانتقد برسوماته الساخرة حالة الترف التي بدأت تظهر على بعض قادة الثورة، وظاهرة الاستزلام وشراء الذمم التي تمارسها قيادة المنظمة لترويض الانتهازيين المتسللين داخل صفوف الثورة، ورسم المسؤولين الفاسدين في صورة رجال قبيحين متكرشين همهم ملء بطونهم وقضاء لذاتهم وإنجاز مصالحهم على حساب الثورة ومن قوت البؤساء.

أدار “حنظلة” ظهره ليكون شاهداً على خطيئة التطبيع الثقافي للثورة، مُعتبراً التخلّي عن ثقافة المقاومة كسراً لحاجز الرفض الشعبي للكيان الصهيوني وعاراً على الثورة الفلسطينية، فهاجم التطبيع الثقافي مع العدو والذي بدأته المنظمة تحت عنوان الحوار مع “اليسار الإسرائيلي”، وخاض معركة قاسية مع الشاعر محمود درويش لمشاركته في هذا الحوار العقيم، واتهم أشباه الرجال وأنصاف الثوار من مثقفي منتصف الطريق بأنهم “بصيمة” مسلوبي الإرادة والرجولة.

أدار “حنظلة” ظهره رفضاً لحالة التشرذم عند الفصائل الفلسطينية، منتقداً حالة الاشتباك السياسي المستمر بين الفصائل الفلسطينية، التي تصل أحياناً إلى درجة التخوين الوطني والقتال المُسلّح، وانتقد كثرة الانشقاقات داخلها، والتوالد المستمر في صفوفها، وغياب البرنامج النضالي الموحّد، وسرعة تبدل الولاءات وإعادة التموضع، وممارسات الاستبداد والإقصاء وتكميم الأفواه داخلها وبينها… ولذلك، ظهرت تعليقات مثل: “لا لكاتم الصوت”. “لا لكاتم الصورة”.

قُتل ناجي العلي وغُيّب عن الوجود؛ لأنَّ “حنظلة” شاهده على الانحراف وضميره الحي الحاضر في كل رسوماته قد أدار ظهره احتجاجاً على الانحراف السياسي، والفساد المالي، والتطبيع الثقافي، والتشرذم الفصائلي، والاستبداد الحزبي… في الثورة الفلسطينية آنذاك… فمات ناجي العلي شهيداً وعاش “حنظلة” شاهداً؛ ما زال يدير ظهره لنا حتى تعود الثورة إلى طهارتها لتعود فلسطين إلى شعبها.

ورحمَ اللهُ “شاعر الغلابة” عبد الرحمن الأبنودي عندما رثى “رسام الغلابة” في قصيدة “يا قبر ناجي العلي” واصفاً “حنظلة” بقوله:

رسم الكفوف زي الصبار

“حنظل” بمرار

صبي قصير واقف محتار

قدام الرسمة

رسمة لا تعرف تتحاذق ولا بتنافق

عيب ناجي أنه عاش صادقاً.. عاش للرسمة..

تركيا وصراع الهوية بين أتاتورك وأردوغان

أقلام – مصدر الإخبارية

تركيا وصراع الهوية بين أتاتورك وأردوغان، بقلم الكاتب الفلسطيني وليد القططي وفيما يلي نص المقال كاملًا كما وصل موقعنا:

قال رسول الله (صلّ الله عليه وسلم) مُبشِراً بفتح القسطنطينية عاصمة الدولة البيزنطية: “لتُفتحن القسطنطينية، ولنعمَ الأميرُ أميرها، ولنعمَ الجيشُ ذلك الجيش”. ظلت هذه النبوءة على مدار 8 قرون دافعاً للخلفاء الراشدين والأمويين والعباسيين والعثمانيين المتعاقبين لتوجيه الجيوش الإسلامية الجرارة نحو فتح القسطنطينية مُنذ عهد الخليفة الراشد الثالث عثمان بن عفان –رضي الله عنه– ثم 10 محاولات إسلامية كبيرة لفتحها، حتى فاز بهذا الشرف الخليفة العثماني محمد الثاني عام 1453م، فسُمي بعد فتحها “محمد الفاتح” تكريماً له.

وكان أول أعماله في المدينة تحويل كاتدرائية “آيا صوفيا” من كنيسة إلى مسجد، بعدما اشترى المبنى من القساوسة استناداً إلى وثائق تاريخية تركية، وصلّى أول صلاة جمعة فيه بعد دخوله المدينة، فأصبح المسجدُ والصلاةُ فيه رمزاً للهوية الإسلامية للمدينة والدولة.

دار الزمن دورته، فأكل قوة دولة الخلافة العثمانية، حتى أُطلق عليها لقب “الرجل المريض”، وتكالبت عليها الدول الأوروبية وهزمتها في الحرب العالمية الأولى عام 1918 لتستكمل اقتسام ولاياتها البعيدة، وغزت الجيوش الأوروبية أراضيها، فقاوم الجيش التركي العثماني هذا الغزو والاحتلال، وصعد أثناء حرب التحرير ضابط شاب اسمه مصطفى علي رضا، تحوّل في ما بعد إلى بطل قومي باسم مصطفى كمال أتاتورك كمُحرر وموحد لتركيا، ثم وصل بعد الجيش إلى السلطة، فاستولى عليها مُعلناً إلغاء الخلافة العثمانية وإقامة الجمهورية التركية الجديدة عام 1923.

وخلال 15 عاماً من حكمه، استبدل هوية تركيا العثمانية الإسلامية بهوية قومية طورانية وغربية علمانية، وأكد ذلك بالدستور العلماني، وجعل الجيش التركي حارساً لها، فيما جعل حزب الشعب الجمهوري مُنظِراً لها. ولأن مسجد آيا صوفيا رمز لهوية تركيا الإسلامية، فقد منع الصلاة فيه عام 1931، ثم حوله إلى متحف عام 1938، إيذاناً ببدء هوية تركيا العلمانية.

ظلّ مبنى آيا صوفيا متحفاً حتى عام 2020، عندما أعاد الرئيس التركي رجب طيب إردوغان افتتاحه مسجداً من جديد، وصلى فيه أول صلاة جمعة بعد الافتتاح، واعتبر ذلك “بداية جديدة للمسلمين في أنحاء العالم كافة”، و”بعثاً جديداً تأخر”.

كانت خطوة إعادة افتتاح مسجد آيا صوفيا والصلاة فيه رمزاً لهوية المبنى والمدينة والدولة الإسلامية، وكان الصراع الذي سبقها ما بين المتحف والمسجد دليلاً على الصراع بين الهويتين –العلمانية والإسلامية– في تركيا، سبق للمفكر الشهيد فتحي الشقاقي أن تناوله عام 1980 في دراسة جاء فيها: “إن تركيا في القلب، تسكن وتشتعل من جديد، وتعود إلى وجهها الحقيقي. وعندما ظن الغرب أن إيقاف رجله أتاتورك صوت الأذان على مئذنة آيا صوفيا… وأن قوانينه العلمانية ستُدخل تركيا إلى النسيان، كان القلب الإسلامي واثقاً تماماً بقيام الإسلام مرة أخرى”.

الإسلام هو الوجه الحقيقي لتركيا الذي تحدث عنه المفكر الشهيد فتحي الشقاقي. وقد ظل وجهها منذ الفتح العربي الإسلامي لآسيا الصغرى البيزنطية، وطوال عهد الخلافة العثمانية التي أسسها عثمان أرطغرل في بداية القرن الـ14 الميلادي وحتى سقوطها بداية القرن الـ20.

أما العلمانية كوجه طارئ على تركيا، فقد تسللت إليها في النصف الثاني للقرن الـ19، محمولةً على كتف الحركة القومية التركية (الطورانية)، فارتبطت العلمانية بالقومية كتيار فكري تجديدي ومشروع سياسي إصلاحي اقترنا بالحداثة على النمط الغربي، وحملته النخب التركية المتغربة والحركات القومية المتعلمنة.

وعندما نجح هذا التيار والمشروع في الوصول إلى الحكم بواسطة مصطفى كمال أتاتورك، ألغى الخلافة العثمانية وهويتها الإسلامية، وفرض الجمهورية التركية بهويتها العلمانية، ولكن الشعب التركي تشتّت بين الهوية العلمانية الغربية المفروضة والهوية العثمانية الإسلامية المكبوتة، من دون أن يُحسم الجدال نظرياً وعملياً لمصلحة أي هوية.

ما بين الهوية العلمانية المفروضة والهوية الإسلامية المكبوتة، حاول الرئيس التركي رجب طيب إردوغان مطلع الألفية الثالثة التوفيق بين الهويتين، مستنِداً إلى رؤيته الخاصة للعلمانية المُحايدة تجاه الدين في مُقابل العلمانية الكمالية المعادية له، فقال موضحاً رؤيته: “إن مفهوم العلمانية الذي نؤمن به هو علمانية الدولة عبر التسامح مع المعتقدات كافة، وأنْ تضمن الحريات لكل المعتقدات”.

هذه الرؤية سمحت له بإبداء رغبته في “تشكيل جيل مُتدين يؤمن بالثقافة الإسلامية العثمانية، ويتغلب على الأفكار الغربية”، وسمحت لحزبه -العدالة والتنمية- بتغيير بعض القوانين العلمانية الصارمة المخالفة للشريعة الإسلامية، المرتبطة بالحجاب والزواج والتعليم وغيره، ليُعلن رغبته في “صياغة دستور جديد لتركيا يكون نتاجاً للإرادة الوطنية”، في إشارة إلى الإسلام كدين لغالبية الشعب التركي.

هذه الرؤية تنسجم مع الروافد الإسلامية التي استقى حزب العدالة والتنمية فكره، وهي: الطرق الصوفية، وخصوصاً النقشبندية والنورسية، والإسلام الحركي (السياسي) من مدرستي نجم الدين أربكان وعبد الله غول، والمدرسة الإخوانية بنسختها التركية المعدلة، والخلافة العثمانية بالنكهة الطورانية.

الصراع بين أنصار الهويتين -الإسلامية والعلمانية- ظهر في التنافس على رئاسة تركيا في الانتخابات الأخيرة، لا سيما في جولتها الثانية التي انحصر فيها التنافس بين رجب طيب إردوغان رئيس حزب العدالة والتنمية كامتداد لتيار الهوية الإسلامية المكبوتة، وكمال كليجدار أوغلو رئيس حزب الشعب الجمهوري كامتداد لتيار الهوية العلمانية المفروضة.

وعلى الرغم من أن الصراع ما زال يبدو ظاهرياً بين العلمانية اللادينية الصلبة المتعصبة والعلمانية المحايدة المرنة المتسامحة، فإنه يخفي في باطنه صراعاً حقيقياً على هوية تركيا وحاضرها ومستقبلها في مكانٍ من العالم وضع فيه الإسلام جذوراً عميقة ودعائم راسخة في تركيا الإنسان والأرض، وفي التاريخ والجغرافيا، وفي القلوب والعقول، وفي مكانٍ كان وما زال الصراع فيه عنيفاً بين الحضارتين الإسلامية والغربية؛ مكان شهد غروب العالمية الإسلامية الأولى وأفولها، وقد يكونُ جزءاً من شروق العالمية الإسلامية الثانية وصعودها، ولكن هذا لن يحدث قبل أن تُعيد تركيا تموضعها بعيداً من الارتباط بالغرب والعلمانية المتطرفة وحلف الناتو والكيان الصهيوني، وقريباً من الأمة الإسلامية وقضاياها المصيرية ومن الإسلام الحضاري وفلسطين الشعب والقضية والمقاومة.

أقرأ أيضًا: ليس بالأرض وحدها يحيا الوطن.. بقلم/ د. وليد القططي

الواجب فوق الإمكان.. ثأر الأحرار نموذجًا

أقلام – مصدر الإخبارية

الواجب فوق الإمكان.. ثأر الأحرار نموذجًا، بقلم الكاتب الفلسطيني وليد القططي، وفيما يلي نص المقال كاملًا كما وصل موقعنا:

انتهت معركة “ثأر الأحرار” ولم تنتهِ الحرب ولن تنتهي حتى تشرق شمس فلسطين، وتوقفت جولة من صراع الأحرار مع الطغاة، ولم يتوقف الصراع ولن يتوقف مع الكيان الصهيوني حتى تغيب شمسه الحارقة.

ذهب القادة الكبار الشهداء: جهاد غنام وخليل البهتيني وطارق عز الدين وإياد الحسني وعلي غالي وأحمد أبو دقة وغيرهم إلى ربهم، ولم تذهب أرواحهم وستبقى حاضرةً في قلوب الأحرار وبندقيات الثوار حتى اندثار الأشرار، وخاضت حركة الجهاد الإسلامي في فلسطين، ومعها حركات المقاومة، ملحمةً بطولية جديدة، مقدمةً فيها “الواجب فوق الإمكان”؛ المبدأ الذي انطلق منه مشروعها الجهادي المقاوم، مستندةً إلى الجانب المشرق من تاريخ الأمة وتراثها الإنساني ومخزونها الثوري.

من هذا المخزون الثوري ما صوره المفكر والأديب المصري عبد الرحمن الشرقاوي في كتاب “الحسين ثائراً والحسين شهيداً” المليء بالقيم الثورية والمضامين الإنسانية، وأهمها الصراع بين الواجب والإمكان، وتقديم الواجب على الإمكان؛ واجب الثورة على الباطل رغم قلة الإمكان.

وقد مثل صوت الواجب في الرواية الإمام الشهيد الحسين بن علي بقوله وفعله في كل مشاهد الرواية وحواراتها، ومنها قوله لأنصاره: “أنا مدعو لتلك الشهادة. إن موتاً في سبيل الله أزكى عند رب العرش من كل عبادة. سيروا بنا لننقذ الدنيا من الفوضى ومن هذا الخراب. سيروا لنعيد إلى العصر رونقه القديم وننتصر للحق العظيم”.

ومثّل صوت الإمكان المبرِر لعدم القيام بالواجب في الرواية عبد الله بن جعفر، ناصحاً ابن عمه الحسين بقوله: “فلنهادنه قليلاً يا ابن عمي، فالسياسات حيل، وأنا أدعوك إلى شيء من الحكمة والتريث لتدبير الأمور، لِنْ قليلاً يا أخي كي لا ننكسر، انحنِ الآن لإعصار النذير، واستقم ما شئت بعده. هكذا تنجو بنفسك. هكذا تسلم رأسك. هكذا تحفظ ما تنهض له”.

هذا هو المنطق نفسه الذي رفضه الشاعر المصري الثائر أمل دنقل في قصيدته “لا تصالح”، عندما نقل على لسان فلاسفة الهزيمة والإمكان قولهم: “سيقولون.. ها أنت تطلب ثأراً يطول.. فخذ الآن ما تستطيع.. قليلاً من الحق.. في هذه السنوات القليلة”.

فكرة الواجب فوق الإمكان ناقشها الباحث والأكاديمي الفلسطيني الراحل سميح حمودة، أحد خريجي جامعة المفكر الشهيد فتحي الشقاقي، في كتابه “الوعي والثورة” الذي وثق فيه ثورة الشيخ الشهيد عز الدين القسام ضد الاحتلال البريطاني والمشروع الصهيوني.

كتب حمودة تعزيزاً لهذه الفكرة: “إن القسام استطاع أن يكرس الحق كقيمة خالدة في الفكر والممارسة الإسلامية، وهو يتجاوز بالواجب حدود الإمكان، وجوب الثورة في أشد الظروف صعوبة وحرجاً”، فرأى أن القسام بتجربته وثورته يمثل الثلة المؤمنة القليلة في مواجهة جيش الباطل البريطاني الكبير من دون أمل في انتصار الفئة القليلة، ولكن هؤلاء قدموا الواجب المقدس على قلة الإمكانيات، فخرجوا من صراع الواجب والإمكان إلى طمأنينة الخيار والمصير.

التقاء ثورتي الحسين والقسام على فكرة الواجب فوق الإمكان التقطه المفكر الشهيد فتحي الشقاقي، فكتب: “ما أعجب هذا اللقاء بين القسام والحسين! قلة مؤمنة قليلة في مواجهة جيوش جرارة، ولكنه انتصار الواجب المقدس في صراع الواجب والإمكان، روح واعية مسؤولة في وسط بحر من اللامبالاة والتقاعس. وكما كان الحسين في فجر الحركة الأول، كان القسام في العشرينيات والثلاثينيات من هذا القرن رمزاً للإيمان والوعي والثورة والإصرار على عدم المساومة ورفض رشوة المستقبل الآمن”.

فكرة الواجب فوق الإمكان التي التقطها الشقاقي من ثورتي الحسين والقسام وكل ثورات المستضعفين ضد المستكبرين هي التي دفعته إلى إبداع مشروع “الجهاد الإسلامي” من الصفر إلى معركة “ثأر الأحرار”، مروراً بكل مراحل المشروع الثوري المقاتل، مؤكداً “أن الثورة عملٌ غير مؤجل، وأن الوجوب فوق الإمكان، وأن مهادنة العدو والهروب من مواجهته حتى تكتمل ما تسمى بالقدرة المكافئة هما وهم يشل الحركة ويقتلها ويسمح للعدو بالنمو والتعاظم ويجعله في الوضع الأفضل للانقضاض”.

قدم “الجهاد الإسلامي” الواجب فوق الإمكان، فرفض فكرة تأجيل الثورة على الاحتلال تحت مبرر محدودية الإمكانيات، واستبدل فقه الانتظار بفقه الثورة، فقدم أطروحة “التربية من خلال المواجهة” تجاوزاً لنظرية التربية في مرحلة الاستضعاف، وقدم إستراتيجية “مشاغلة العدو” تجاوزاً لنظرية انتظار التوازن الإستراتيجي أو التكافؤ العسكري أو مراكمة القوة، وقدم رؤية إنجاز وعد الآخرة بأيدي المؤمنين المقاومين: {عِبَادًا لَنَا أولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ} تجاوزاً لرؤية المنتظرين على هامش التاريخ حتى يتحقق وعد الآخرة من دون فعل بشري، وقدم فكرة العلاقة التبادلية بين تحرير فلسطين ونهضة الأمة تجاوزاً لفكرة انتظار الخلافة أو الوحدة.

بهذا الفكر الجهادي التحرري والفقه الإسلامي الثوري والرؤية الوطنية المقاومة، استطاعت حركة الجهاد الإسلامي والمقاومة الفلسطينية جمعاء بعد عقودٍ من الثورة والمقاومة تثبيت حالة الاشتباك المسلح مع الاحتلال، وترسيخ إستراتيجية مشاغلة العدو بالنار، والوصول إلى نوع من توازن الرعب مع العدو (وليس توازن القوة)، والتفوق في صراع الإرادة ضد الكيان الصهيوني (وليس صراع السلاح).

وبهذا الفكر والفقه، تجاوز “الجهاد الإسلامي” فكرة الواجب فوق الإمكان إلى فكرة الواجب يبدع الإمكان، فأبدعت سلاحها من الحجر والسكين إلى القنبلة والصاروخ، وأبدعت نهجها الجهادي والثوري المقاوم المتميز الذي قادها إلى هذا التاريخ الطويل على درب المقاومة في كل مرة يتطلب الواجب الديني والوطني منها ذلك، وهذا ما كرسته في معركة “ثأر الأحرار” كنموذج تطبيقي لفكرة الواجب فوق الإمكان على طريق المقاومة حتى تحرير فلسطين كل فلسطين.

أقرأ أيضًا: ليس بالأرض وحدها يحيا الوطن.. بقلم/ د. وليد القططي

أوروبا وإسرائيل وأكذوبة الصحراء التي ازدهرت

أقلام – مصدر الإخبارية

أوروبا وإسرائيل وأكذوبة الصحراء التي ازدهرت، بقلم الكاتب الفلسطيني وليد القططي، وفيما يلي نص المقال كاملًا كما وصل موقعنا:

أرسلت رئيسة المفوضية الأوروبية أورسولا فون دير لاين رسالة تهنئة إلى الكيان الصهيوني مُسجلة عبر “تويتر” في ذكرى مرور 75 عاماً على نشأته. ومما جاء فيها: “إن إسرائيل هي الديمقراطية النابضة بالحياة في قلب الشرق الأوسط. وقد جعلت الصحراء تزدهر”.

وتحدثت رسالة التهنئة المكتوبة باللغة العبرية عن “المأساة اليهودية والوطن القومي وأرض الميعاد”، وأشادت بالقيم الموحدة والثقافة المشتركة و”الحضارة الراقية” التي تجمع أوروبا و”إسرائيل”، وختمت بقولها لرئيس الكيان الصهيوني ومستوطنيه: “يوم استقلال سعيد”.

الرسالة التي تزخر بالمغالطات النابعة من تبني الرواية الصهيونية والإسرائيلية للصراع بالكامل وتجاهل الرواية العربية والفلسطينية بالكامل، لا يمكن مناقشتها كلها في هذا المقال الذي يتناول رواية واحدة مضمونها أن فلسطين كانت صحراء خالية من البشر والشجر عمّرها المستوطنون اليهود الصهاينة، كما جاء في رسالة فون دير لاين عن “إسرائيل” التي “جعلت الصحراء تزدهر”.

الرواية الصهيونية التي تبنتها رئيسة المفوضية الأوروبية عن فلسطين الصحراء التي عمّرها “الرواد المتحضرون” الآتون من “أوروبا المتحضرة”، جزء من أساطير خداع وسرديات مُضللة كثيرة روجت لها الحركة الصهيونية ودمجتها أوروبا في منظومتها الفكرية الاستعمارية، وفي مركزها فكرة “فلسطين الصحراء” ذات الجذور الاستعمارية الأوروبية.

أوروبا تنظر إلى العالم خارج القارة البيضاء وامتداداتها البشرية الاستعمارية بوصفه صحراء قاحلة أو غابة مُظلمة، وهو ما أكده في الأمس القريب جوزيب بوريل، ممثل الاتحاد الأوروبي للشؤون الخارجية، بقوله: “إن أوروبا عبارة عن حديقة… لكن بقية العالم ليست حديقة تماماً… أغلب بقية العالم هو غابة”.

الاستثناء الذي تركه جوزيب بوريل خارج الغالبية التي تحدث عنها هو المستعمرات التي بنتها أوروبا خارج القارة البيضاء بالغزو والدم والتهجير والإبادة، وأهمها: الولايات المتحدة الأميركية، وكندا، وأستراليا، وجنوب أفريقيا سابقاً، وروديسيا سابقاً، و”إسرائيل” حالياً.

ترى أوروبا نفسها وامتداداتها الاستعمارية مركز العالم ومنبع الحضارة وحديقة الأرض، فيما بقية العالم هامش مُتخلف ما بين صحراء قاحلة وغابة مظلمة، عليه أن يتبع المركز، ويخضع للحضارة، ويسمح لأصحاب الحديقة بأن يحولوا الصحراء إلى جنة مزدهرة، ويحولوا الغابة إلى بستان جميل.

الصحراء في المفهوم الاستعماري الغربي والصهيوني تعني أن فلسطين عندما غزاها الصهاينة كانت خالية من البشر والشجر، وهذا ما تم تأكيده في الرواية الصهيونية القائمة على أكذوبتين، الأولى أن “فلسطين أرض صحراء بلا شعب”، فالصحراء تكون خالية من السكان، وإنْ وجدوا فهم جموع بشرية أو شبه بشرية من الرحالة غير المتحضرين وغير المنتجين، الذين يحتاجون إلى من يروضهم حضارياً أو يُعيد تأهيلهم إنسانياً ليجعلهم خدماً للجنس الأوروبي الأبيض ومشروعه الاستعماري، وإن أبوا ذلك فالتهجير أو الإبادة مصيرهم، وهذا ما حدث مع كل شعوب البلاد التي غزاها واستوطنها الأوروبيون من أميركا الشمالية غرباً، إلى أستراليا شرقاً، مروراً بفلسطين في وسط العالم.

هذه الرواية ما انفك قادة الكيان الصهيوني يرددونها، ومنهم غولدا مائير، التي نفت وجود الشعب الفلسطيني بقولها: “ليس هناك شعب فلسطيني، ولم يكن الأمر أننا جئنا وأخرجناهم من ديارهم واغتصبنا أرضهم، فلا وجود لهم أصلاً”.

الأكذوبة الثانية للرواية الصهيونية هي أن “فلسطين أرض صحراء بلا شجر”، فالصحراء تكون خالية من الشجر، إضافة إلى خلوها من البشر، وإن وُجد الشجر، فهي أحراج نباتية أو شبه نباتية من الأشجار المتناثرة غير المثمرة وغير المنتجة، حوّلها المستوطنون اليهود الصهاينة الآتون من أوروبا إلى حديقة مزدهرة ملأى بالأشجار المُثمرة والنباتات المُنتجة، بعدما استصلحوا الأرض البور والصحراء القاحلة والأحراج المتناثرة بعلمهم وجهدهم وإبداعهم، بحسب الرواية الصهيونية.

هذه الرواية تتجاهل الحياة النباتية المزدهرة في فلسطين قبل النكبة ، وتستغل مشاريع التشجير الإسرائيلية، وخصوصاً في النقب، كمدخل لنزع ملكيتها من فلسطينيي النقب، وذلك ضمن جزء من مشروع استيطان النقب وفلسطين، وهي الرواية نفسها التي روّج لها الغزاة الأوروبيون في كل البلاد التي استوطنوها فيما سموه العالم الجديد.

التطابق بين الروايتين الاستعماريتين -الأوروبية والصهيونية- وتبني رئيسة المفوضية الأوروبية الرواية الصهيونية في أكذوبة الصحراء التي ازدهرت يعودان إلى حقيقة أن “إسرائيل” أُنشئت كمستعمرة في إطار المشروع الاستعماري الغربي الأوروبي الذي خرج من رحمه المشروع الاستعماري الصهيوني، بناءً على خلفية مسيحية بروتستانتية تربط عودة المسيح المنتظر وبدء الألفية المسيحية السعيدة بإقامة دولة لليهود في فلسطين وبناء الهيكل الثالث وحدوث معركة “هارمجدون”.

يأتي ذلك بناء على خلفية وظيفية استعمارية، لتكون “الدولة” اليهودية كياناً وظيفياً يضمن إبقاء حالة الهيمنة الغربية على المنطقة العربية والإسلامية، ويُكرس حالة التبعية والإلحاق العربية والإسلامية للمشروع الاستعماري الغربي، ويُعوق مشاريع الوحدة والنهضة والاستقلال بين الدول العربية والإسلامية وداخلها، ويجعل الكيان الصهيوني رأس حربة المشروع الغربي ضد الأمة، وهذا ما قاله مؤسس الحركة الصهيونية ثيودور هيرتزل في كتابه “الدولة اليهودية” عام 1896، مُحدداً وظيفة “دولته”: “سوف تُشكل سوراً لأوروبا في وجه آسيا. سوف نكون المدافعين عن الثقافة والحضارة ضد المتوحشين”.

هكذا، يتضح أن الموقف الغربي في قضية فلسطين ينبع من مركزية الكيان الصهيوني في سياسة الغرب ومنظومته الفكرية وثقافته الاستعمارية، وخصوصاً الدول الراعية للكيان، ابتداءً من بريطانيا، وانتهاءً بأميركا، مروراً بفرنسا وألمانيا.

هذه الرعاية هي الضامن لوجوده وأمنه واستمراراه وتفوقه، ما يتطلب أن تكون قضية فلسطين هي القضية المركزية للأمة العربية والإسلامية، بحيث ترتبط ارتباطاً مصيرياً بكل قضايا العرب والمسلمين، لأن العرب والمسلمين لن يتحرروا من واقع التخلف والتبعية والتجزئة وكل مشكلاتهم ما لم تتحرر فلسطين.

إن تغيير حال الأمة وتحرير فلسطين أمران متكاملان، فنهضة الأمة واستقلالها وتوحدها هو طريق تحرير فلسطين، والعمل على تحرير فلسطين هو السبيل لتحرير الأمة من التخلف والتبعية والتجزئة.

حينئذٍ، ستنتهي أكذوبة “الصحراء التي ازدهرت” أو فلسطين الخالية من البشر والشجر و”إسرائيل” المزدهرة بالبشر والشجر، لتحل مكانها حقيقة خراب كيان العلو والإفساد الإسرائيلي بأيديهم وأيدي المؤمنين، كما قال تعالى عن طبعهم المتكرر: {يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ}، وهي الحقيقة نفسها التي ستؤدي إلى خراب “الهيكل الثالث” المزعوم أسوةً بالهيكلين الأول والثاني، ولتحل مكانها كذلك حقيقة عمار فلسطين بالبشر والشجر بعد تحقق وعد الآخرة الذي سيؤدي إلى تحرير فلسطين من الاحتلال وعودة شعبها من الشتات وتوحد الأمة ضد الكيان الصهيوني وحلفائه ضد المشروع الاستعماري الغربي وطليعتها في محور المقاومة.

أقرأ أيضًا: ليس بالأرض وحدها يحيا الوطن.. بقلم/ د. وليد القططي

السودان.. صراع السلطة والدم الحرام

أقلام – مصدر الإخبارية

السودان.. صراع السلطة والدم الحرام، بقلم الكاتب الفلسطيني وليد القططي، وفيما يلي نص المقال كاملًا كما وصل موقعنا:

سأل أحدُ الصحافيين المشيرَ عبد الرحمن سوار الذهب عن مدى التزامه وعده للشعب السوداني بتسليم السلطة إلى حكومة مدنية منتخبة بعد عام من استيلائه على السلطة، فرد عليه قائلاً: “أضفت فوق تلك المدة عشرين يوماً فقط حتى تكتمل الانتخابات الديمقراطية، واكتملت، فسلّمت مقاليد السلطة إلى الحكومة المنتخبة الجديدة ممثلة برئيس الوزراء الصادق المهدي ثم انسحبت”.

انسحب المشير السوداني عبد الرحمن سوار الذهب من السلطة بهدوء وبإرادته بعد عام وعشرين يوماً من قيادته انقلاباً عسكرياً أوصله إلى قمة السلطة، استجابةً لثورة شعبية ضد نظام حكم العقيد جعفر النميري عام 1985م سُميت انتفاضة أبريل/نيسان، وتجربة سوار الذهب غير مُكررة في تاريخ السودان والدول العربية في مرحلة الدول الوطنية، التي أعقبت أفول الاستعمار الغربي المباشر، فضباط الجيش لا يقومون بانقلاب عسكري على السلطة كي يحكم الدولة غيرهم، على الرغم من إعلانهم، في البيان العسكري الأول عبر الإذاعة الرسمية، أنَّ استيلاءهم على السلطة موقّت واضطراري من أجل إنقاذ البلاد والعباد، وإيصالها إلى طريق الرشاد.

هذه الحقيقة أكدتها أغلبية تجارب الانقلابات العسكرية التي قامت بها الجيوش العربية المتعطشة إلى السلطة، وما السودان عنها ببعيد. وهو ما حدث في أول تجربة انقلاب عسكري عام 1958م قام به الجيش السوداني على حكومة مدنية بعد الاستقلال عن بريطانيا، بقيادة الفريق إبراهيم عبود، الذي احتفظ بالسلطة إلى أنْ أطاحته ثورة شعبية عام 1964م جاءت بحكومة مدنية برئاسة رئيس حزب الأمة الصادق المهدي عام 1966م، لم تعمر طويلاً بسبب قيام الجيش السوداني بقيادة العقيد جعفر النميري بانقلاب عسكري عام 1969م أوصله إلى قمة السلطة في السودان.

ظلّ النميري يقف على قمة نظام حكم فاسد ومُستبد، متورط في تهريب يهود الفلاشا من إثيوبيا إلى الكيان الصهيوني، وإدخال بلاده بيتَ الطاعة الأميركي المُحاط بجدران التبعية والمهانة، حتى انفجرت ضده ثورة شعبية عام 1985م، انحاز إليها الجيش السوداني بقيادة الفريق عبد الرحمن سوار الذهب وحسم الأمر في انقلاب عسكري لمصلحة الشعب، وسلّم السلطة إلى حكومة ائتلاف مدني برئاسة الصادق المهدي أفرزتها انتخابات ديمقراطية عام 1986م، استمرت في الحكم حتى أطاحها انقلاب عسكري آخر برئاسة العميد عمر البشير عام 1989م، وهذه المرة بالشراكة مع طرف مدني منحه الشرعية الدينية هو حزب “الجبهة الإسلامية القومية” المنبثقة من جماعة الإخوان المسلمين برئاسة الدكتور حسن الترابي.

أطلق البشير على انقلابه العسكري اسم ثورة، وشكّل “مجلس قيادة الثورة”، وزعم أنّه موقّت هدفه تسليم السلطة إلى المدنيين. وبدلاً من القيام بذلك، خلع ملابسه العسكرية وارتدى الملابس المدنية، وأعلن نفسه رئيساً مدنياً للجمهورية السودانية، لكنه لم يستطع تغيير جوهره الاستبدادي، كما استطاع تغيير ملابسه، فتخلّص من شركائه المدنيين في الحكم، وهم حزب “الجبهة الإسلامية القومية”، وألقى رئيسها الدكتور حسن الترابي في السجن عام 1999م. ومع كل خطوة يتقدّم فيها البشير ونخبته الحاكمة في مسار الاستبداد والاستئثار بالسلطة والثروة، كانت أوضاع السودان تزداد سوءاً في مختلف المجالات.

ومن أهم هذه المجالات الأمن في السودان، ولا سيما في جنوبي البلاد وغربيّها، بعد تمدّد حركات التمرد في جنوبي السودان وإقليم دارفور. أمّا الجنوب فانتهى بانفصاله في دولة مستقلة، عام 2011م، وأمّا إقليم دارفور غرباً فكانت حال البشير معه كالهارب من الرمضاء إلى النار، فلقد كان ثمن القضاء على تمرد القبائل فيها هو إنشاء ميليشيا “قوات الدعم السريع” عام 2013م برئاسة أحد زعماء ميليشيا “الجنجويد” محمد حمدان دقلو، المعروف بلقب “حميدتي”، وأصبحت قوة شبه عسكرية موازية للجيش السوداني كلفها البشير بقمع التمرد، ومنحها صلاحيات واسعة، استطاع حميدتي بفضلها من السيطرة على مناجم الذهب في إقليم دارفور والتحكم في تجارته الخارجية التي تشكل 40% من صادرات السودان، الأمر الذي منحه مورداً مالياً مستقلاً استطاع بواسطته تطوير “قوات الدعم السريع”، كماً ونوعاً وتسليحاً، والتحوّل بالتدريج إلى قوة موازية للجيش السوداني، والأحزاب السياسية المدنية، عسكرياً واقتصادياً وسياسياً.

القوة المتنامية لميليشيا “قوات الدعم السريع” صاحبها ضعف متزايد في الحياة الاقتصادية والحياة المعيشية في السودان، ودفعت الشعب السوداني إلى القيام بثورة كانون الأول/ديسمبر الشعبية عام 2018م، ضد نظام حكم عمر البشير، أدت بكل من الجيش السوداني وقوات الدعم السريع بسرعة إلى القفز من سفينة النظام الحاكم قبل غرقها، والركوب على ظهر الثورة الشعبية، بالقيام بانقلاب عسكري مشترك في نيسان/أبريل عام 2019م أطاح رأس النظام عمر البشير من دون أن يُغيّر جوهر النظام العسكري. وعندما آلت مقاليد السلطة إلى الفريق أول عبد الفتاح البرهان ، حل “المجلس العسكري الانتقالي”، وأنشأ مكانه “مجلس السيادة الانتقالي السوداني”، ونصّب نفسه رئيساً له، ونصّب حميدتي نائباً له، كآلية لتقاسم السلطة بين الجيش السوداني وقوات الدعم السريع، بمشاركة “ائتلاف قوى الحرية والتغيير” التي شكلّت الحكومة المدنية برئاسة الدكتور عبد الله حمدوك لإدارة المرحلة الانتقالية التي حُددت بعامين.

هذه التركيبة الحاكمة ما كان لها أن تنجح في نقل السودان إلى بر الأمان، في ظل وجود البرهان وحميدتي، اللذين قادا السودان إلى مسارَي التطبيع والاستبداد، وفي ظل غياب أي مشروع حقيقي لإنقاذ السودان وإصلاح أحوالها المتدهورة، فمسار التطبيع انتهى بانضمام السودان إلى “اتفاقيات ابراهام” رغبةً منهما في أنْ يجُبَّ التطبيع عند أميركا والغرب ما قبله وما بعده من فساد واستبداد، وأملاً منهما أنْ يُلغي التطبيع عند أميركا والغرب ما مضى وحضر من حصار وعقوبات.

أمّا الاستبداد فتجلّى في إقصاء المكوّن المدني في السلطة، ممثَّلاً بـ”ائتلاف قوى الحرية والتغيير” وحكومة عبد الله حمدوك المدنية. ومهّد لهذا الإقصاء البرهان باتهام الحكومة المدنية بالفشل في إدارة الدولة، وحسم حميدتي التوّجه نحو الإقصاء، بقوله: “ما بنقعد معهم على ترابيزة واحدة”، قاصداً المدنيين. والمبرر عند شريكَي السلطة المتشاكسين – البرهان وحميدتي –، كما جاء في بيان الانقلاب الثاني، نهاية عام 2021م، هو: “المحافظة على ثورة ديسمبر المجيدة، وتصحيح مسار الثورة”، أسوةً بكل حركات التصحيح الوهمية التي يقودها كثير من الجيوش العربية.

لم ينتهِ الصراع على السلطة بعد تخلّص شركاء السلطة المتشاكسين – البرهان وحميدتي – من الشريك الثالث المدني، بل ازداد حدةً وقسوةً، وظاهر الصراع هو الخلاف بشأن دمج “قوات الدعم السريع” غير الرسمية، في “القوات المسلحة السودانية”، أي الجيش السوداني بصفته المؤسسة العسكرية الرسمية للدولة، بهدف إنهاء وجود قوة عسكرية موازية للجيش، ومُهدِّدة احتكاره للقوة الشرعية في الدولة. أمّا باطن الصراع فهو الخلاف على تقاسم السلطة في بلدٍ يزداد شعبه فقراً وبؤساً، وتزداد نخبته الحاكمة وطرفا الصراع فيه ترفاً واحتكاراً للسلطة والثروة.

طرفا الصراع على السلطة في السودان، ورأساها، البرهان وحميدتي، اشتركا في إجهاض أهداف ثورة كانون الأول/ديسمبر عام 2018م ضد نظام عمر البشير، ومصادرة الإرادة الشعبية فيما يتعلق بالحرية والتغيير، وتقاسما قتل فرصة تطبيق الديمقراطية وحكم الشعب المدني وتداول السلطة سلمياً، وأغرقا السودان في بركة التطبيع الآسنة مع الكيان الصهيوني، ولعبا دور البطولة في إرسال السودانيين إلى الحرب في اليمن دعماً للعدوان السعودي عليها، وساهما في تسارع انهيار الاقتصاد السوداني ونهبه وتدهور الأحوال المعيشية للشعب السوداني، وصولاً إلى إحراق السودان في نار الحرب الأهلية وسفك الدم الحرام على مذبح أطماعها في الصراع على السلطة وامتيازاتها المادية والمعنوية.

وبناءً على هذه الحقائق، لا خلاص للسودان إلاّ في خضوع البرهان وحميدتي لإرادة الشعب السوداني، أو خروجهما من المشهد السوداني، سياسياً وعسكرياً، وإجراء حوار وطني شامل يضم كل القوى المدنية والعسكرية يكون هدفه تحقيق الإرادة الشعبية في التخلّص من الاستبداد والفساد، واستعادة حكم الشعب المدني الديمقراطي، والمحافظة على الجيش السوداني مؤسسةً وطنية موحدة ضامنة لوجود السودان واستقلاله ووحدته وأمنه واستقراره، وبناء السودان الجديد والقوي والمزدهر، والمحافظة على هوية السودان، وطنياً وقومياً وإسلامياً، بعيداً عن قيود التطبيع مع الكيان الصهيوني والتبعية للولايات المتحدة الأميركية، كي يعود السودان إلى دوره الطبيعي فاعلاً ومؤثراً لمصلحة قضايا الأمتين العربية والإسلامية، وفي مقدمتها القضية الفلسطينية.

أقرأ أيضًا: السودان: كلفة لعبة التنميط الخطرة! بقلم أكرم عطا الله

إشكالية الترف في الدين والثورة

مقال- وليد القططي

 

جاء في (نهج البلاغة) من خطبة للإمام علي بن أبي طالب – رضي الله عنه – موجِهاً كلامه إلى المُترفين في المجتمع المسلم قائلاً: “أُيّها الناس، ألا يقولن رجال منكم غداً قد غمرتهم الدنيا، فامتلكوا العقار، وفجروا الأنهار، وركبوا الخيل، واتخذوا الوصائف المرققة، إذا ما منعتهم ما كانوا يخوضون فيه، وأصرتهم إلى حقوقهم التي يعلمون: حرمنا ابن أبي طالب حقوقنا! ، ألا وأيما رجل من المهاجرين والأنصار من أصحاب رسول الله يرى أنَّ الفضل له على سواه بصحبته، فإنَّ الفضل غداً عند الله، فأنتم عباد الله، والمال مال الله، يقسم بينكم بالسوية، ولا فضل فيه لأحد على أحد”.

وتعليقاً على خطبة الإمام علي – رضي الله عنه – كتب المفكر الإسلامي سيد قطب في كتابه (العدالة الاجتماعية في الإسلام) يقول: “كان من الطبيعي ألاّ يرضى المستنفعون عن علي، وألاّ يقنع بشرعة المساواة من اعتادوا التفضيل، ومن مردوا على الاستئثار، فانحاز هؤلاء إلى المعسكر الآخر… حيث يجدون فيه تحقيقاً لأطماعهم، على حساب العدل والحق، اللذين يصر عليهما علي – رضي الله عنه – هذا الإصرار… لقد كان واجب علي الأول والأخير، أن يردَّ للتقاليد الإسلامية قوتها، وأن يردٌ إلى الدين روحه”.

أدرك الإمام علي – رضي الله عنه – ببصيرته أنَّ توزيع المال العام وفق معيار السبق في الإسلام أحد الأسباب التي تؤدي إلى وجود ظاهرة الترف في المجتمع المسلم، فأراد تصويب هذا الوضع، وتصحيح اعتقاد المسلمين بردهم إلى أنَّ السبق في الإسلام أجره عند الله تعالى في الحياة الآخرة وليس في الحياة الدنيا، وأنَّ الفقراء أولى بالمال العام من أولي السبق في الإسلام منعاً لتكدس الثراء في جانب والحرمان في جانبٍ آخر تطبيقاً لمبدأ التكافل الاجتماعي، وهذا ينسحب على السبق في الدعوة والثورة فيمن يرْون أنفسهم أحق بالمال العام من غيرهم، وهو أصل من أصول الترف الذي يُفسد الدعوة والثورة في الحياة المعاصرة.

الترف الذي يُفسد الدعوة والثورة هو بالمعنى اللغوي والاصطلاحي ضد الزهد وترك ملذات الدنيا، وتجاوز لحد الاعتدال في مُتع الحياة، وتخطي لحد الوسط في التعامل مع النعم، وزيادة على الثراء إسراف وبذخ، وإفراط في الرفاهية لدرجة الخُيلاء والاستعلاء، وشطط في الرخاء وصولاً إلى الزهو والتطاول. والترف في سنن التاريخ مرتبط بانحراف الجماعات، وفساد المجتمعات، وهلاك الأمم، وخراب العمران، وسقوط الدول، وهذا ما سجّلهُ العلاّمة العربي عبدالرحمن بن خلدون في مقدمته موضِحاً أنَّ ترف النخبة الحاكمة ورفاهيتها الزائدة أولى علامات هلاك الأمم وسقوط الدول، ومما ذكره: “ويبلغ فيهم الترف غايته بما تقلّبوا فيه من النعيم ونضارة العيش، فيصيرون عالة على الدولة، ويفقدون العصبية بالجملة، وينسوْن الحماية والمدافعة والمطالبة”.

سُنّة الهلاك بعد الترف؛ ذكرها القرآن الكريم في قوله تعالى: ” وَإِذَا أَرَدْنَا أَن نُّهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيرًا”. فالترف يؤدي إلى: سقوط الهمة، وضعف الإرادة، وفتور الحماسة، وفقدان الرجولة. وتقدم صفات: الجزع، والجبن، والخور، والخنوع، والحرص، بدل صفات: الصبر، والشجاعة، والحميّة، والمروءة، والعطاء. وهذا ما حذّر منه رسول الله – صلى الله عليه وسلم – بقوله: ” فَوَاللَّهِ ما الفَقْرَ أخْشَى علَيْكُم، ولَكِنِّي أخْشَى أنْ تُبْسَطَ عَلَيْكُمُ الدُّنْيَا كما بُسِطَتْ علَى مَن كانَ قَبْلَكُمْ، فَتَنَافَسُوهَا كما تَنَافَسُوهَا، وتُهْلِكَكُمْ كما أهْلَكَتْهُمْ. “. والهلاك يُصبح قدراً محتوماً عندما تصمت الجماعة ويسكت المجتمع عن آفة الترف ولم يزل أسبابه، وترك المترفين يُفسدون دون الأخذ على أيديهم، فتتفشى آفة الترف في جسم الجماعة والمجتمع حتى يُهلكه ويُرديه.

هلاك الجماعات والمجتمعات بسبب الترف لارتباطه بالتخاذل والتقاعس عن الجهاد في سبيل الله والقتال من أجل الوطن، وهو ما أكده القرآن الكريم في صفات المُترفين الذين سمّاهم “أولي الطول” الذين أقعدتهم أموالهم وأملاكهم ومُتعهم عن القتال، كما قال تعالى: “إِذَآ أُنزِلَتْ سُورَةٌ أَنْ ءَامِنُواْ بِٱللَّهِ وَجَٰهِدُواْ مَعَ رَسُولِهِ ٱسْتَـْٔذَنَكَ أُوْلُواْ ٱلطَّوْلِ مِنْهُمْ وَقَالُواْ ذَرْنَا نَكُن مَّعَ ٱلْقَٰعِدِينَ”. فالترف يؤدي بالمُترفين إلى التعلّق بملذات الحياة ومُتعها، والخلود إلى الأرض وملذاتها، والركون إلى الدعة والراحة، والرضى بالذلة والدنيّة، وتفضيل الموادعة على المنازلة، وتقديم المسالمة على المقاومة، والنزوع نحو السكينة المصحوبة بالأمان والمعرة، بدلاً من الثورة المصحوبة بالمخاطرة والإباء.

وكما يؤدي الترف إلى فساد الدين، وهلاك المجتمع، وسقوط الدول… فإنَّهُ يؤدي إلى نفس النتيجة في الثورات إذا ما ضربتها آفة الترف، وبالتحديد ثورات الكفاح الوطني في مرحلة التحرر الوطني، مثل الثورة الفلسطينية المعاصرة، وفي مثل هذه الحالات يكونُ الترفُ أسرع إِفساداً، وأشدُّ إِهلاكاً، وأعمقُ إِسقاطاً. وهذا الترف من بين الأسباب التي قادت بعض الثوار القُدامى إلى القعود عن القتال، والتخاذل عن المقاومة، وأوصلتهم إلى التخلّي عن مشروع الثورة كُلَّهُ، والتراجع عن هدف التحرير جُلَّهُ، والارتكاس في قاع التنسيق الأمني مع الاحتلال… حفاظاً على استمرار حالة الترف لدى النخبة المُترفة من الثوار والقادة المُروّضين.

حالة الترف لدى النخبة المُترفة في أي ثورة، كآفة موجودة في أي زمانٍ ومكان، تكون أكثرُ سوءاً وأبعدُ هزلية، عندما تطفو على سطح الثورة شخصيات كاريكاتورية يُناقضُ قولها عملها ويُبايبنُ كلامها فعلها، منها عندما: يخطبُ شيخٌ مترفٌ عن فضيلة الزهد، ويتحدثُ واعظٌ متنعمٌ عن ضرورة التقشّف، ويتكلمُ ثائرٌ متمرغٌ بالأموال والعقارات والأسهم عن خُلق الصبر، ويُحاضُر قائدٌ فاسدٌ عن قيمة النزاهة، ويُعطي مسؤولٌ مرتشٍ درساً عن أهمية الشفافية، ويكتبُ زعيمٌ هاربٌ خارج الوطن بمحضِ إرادته وما نهبه من المال العام عن حق العودة… عند ذلك الحد من الكوميديا السوداء التي أبدعها تناقض الشخصيات المُترفة لا مفر سوى استدعاء خيار أبي ذر الغفاري.

خيار أبي ذر الغفاري هو الثورة، فقال: “عجبتُ لمنْ لا يجدُ القوتَ في بيتهِ كيفَ لا يخرجُ على الناسِ شاهراً سيفه”. وكأنّهُ فهم الحديث النبوي: “ما آمَنَ بي مَن باتَ شَبعانَ وجارُه جائعٌ بجَنبِه وهو يَعلَمُ به ” فترجمهُ ثورةً، ولو اتبع الناس منهج التكافل الاجتماعي في الإسلام كما حدده رسول الله – صلى الله عليه وسلم – ومُلّخصهُ: ” مَن كان معه فضلُ ظَهرٍ فلْيعُدْ به على مَن لا ظهرَ له ومَن كان معه فضلُ زادٍ فلْيعُدْ به على مَن لا زادَ له “، لما حدث الترف الناتج عن التفاوت الاقتصادي بين أقلية مُترفة وأكثرية محرومة… وبالتالي لما كان لنا حاجة باستحضار خيار أبي ذر الغفاري… فالحل في محاربة الترف في المنهج الاقتصادي الإسلامي الذي يحقق التوازن الاقتصادي والتكافل الاجتماعي، ويضع ضوابط أخلاقية وقانونية، تمنع تكدّس المال، واحتكار الثروة، ونهب الفقراء، واستغلال المال العام.

نمـوت كمـا نريـد لنحيـا كمـا نريـد.. بقلم د. وليد القططي

أقلام-مصدر الإخبارية

معتز الخواجا شاب فلسطيني في ربيع العمر، من بلدة نعلين غرب مدينة رام الله وسط الضفة في فلسطين المحتلة، أدى صلاة المغرب في مسجد البلدة بقلب معلق بحب الله وعشق الوطن، وخرج منه لينظر ملياً في وجوه أهل بلدته، ويودعهم بصمتٍ يشوبه الحزن والحنين.

انطلق بعزمٍ أكيد نحو هدفه “تل أبيب”، قلب الكيان الصهيوني وبقرته المقدسة، المُقامة على أرض مدينة يافا وجوارها، وكان محط رحاله ومهراق دمه في شارع “ديزنجوف”، أطول وأجمل شوارع المستوطنة الكبرى “تل أبيب”.

في هذا الشارع، أشهر معتز الخواجا ثأره وسلاحه، وأطلق غضبه ورصاصه، مصوباً نحو وجوه الغزاة القتلة واللصوص القبيحة، وهو يصرخ قائلاً: ألا شاهت الوجوه. الله أكبر. الله أكبر. لقد جئتكم بالنار والثأر. نار تحرق أحلامكم وأوهامكم. وثأر يدمر مشروعكم وكيانكم. جئتكم مُمثلاً شعبي. كي نموتَ كما نريد مقاومين شهداء، لنحيا كما نريدُ أحراراً أعزاء.

هكذا يكون الموت كما نريد مقاومين شهداء، إذا عجزنا عن أن نحيا في وطننا كما نريد أحراراً أعزاء، لننزع الأمل من اليأس، ولنخرج الحياة من الموت. هذا ما أراد المقاوم الشهيد معتز الخواجا أن يقوله بدمه، متشرباً روح الشعب الفلسطيني كله، وكأنه أصبح شعباً في رجل أو رجلاً يسكنه شعب.

لهذا، قاتل معتز فقتَلَ وقُتِل، في أفضل تجلٍ لمعادلة القتال القرآنية: “يَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ”، فارتقى إلى العلا مجاهداً شهيداً في ميدان المعركة، وهو يطارد الغزاة المستوطنين وهم متلبسون بالجريمة، وفي مكانها، في الأرض الفلسطينية السليبة، فتحول دمه وقوداً – كما دماء كل الشهداء – يدفع قطار الكيان الصهيوني المشؤوم إلى محطته الأخيرة نحو الزوال، وزيتاً يضيء طريق الحرية للشعب الفلسطيني نحو وعد الآخرة وبشرى التحرير والعودة.

اقرأ/ي أيضا: مدد اعتقال نجله.. الاحتلال يفرج عن والد الشهيد معتز الخواجا

معادلة القتال القرآنية التي أدركها وطبقها المقاوم الشهيد معتز الخواجا وكل مقاومي الوطن وشهدائه نابعة من فلسفة الشهادة التي تشربها كل الأحرار الأبطال الذين اختاروا الموت، كما يريدون، مقاومين شهداء منذ سمية بنت خياط، وحمزة بن عبد المطلب، وزيد بن حارثة، والحسين بن علي… مروراً بعز الدين القسام، وفتحي الشقاقي، وأحمد ياسين، وقاسم سليماني، وحتى آخر الشهداء من مقاومي كتيبة جنين، وعرين نابلس، وغيرهما.

هي فلسفة قائمة على ركني الاختيار البشري والاصطفاء الإلهي، فاختيار المقاوم للقتال بإرادته الحرة يعني أنه يختار طريقة موته من دون توقيت موته المحدد بأجل لا مفر منه، فإن كان لا مفر من الموت ولا هروب من الأجل، فمن الأفضل أن نموت كما نريد كمقاومين لنحيا كشعب كما يريد.

وفي ركن الاصطفاء الإلهي للشهداء في فلسفة الشهادة، تكتمل المعادلة في إطار سنتي الابتلاء والتداول، لقوله تعالى: {إِن يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَس الْقَوْمَ قَرْحٌ مثْلُهُ ۚ وَتِلْكَ الْأَيامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ الناسِ وَلِيَعْلَمَ اللهُ الذِينَ آمَنُوا وَيَتخِذَ مِنكُمْ شُهَدَاءَ ۗ وَاللهُ لَا يُحِب الظالِمِينَ}.

وبعدما علم الله تعالى صدق إرادتهم واختيارهم للقتال والدفاع عن الحق، اصطفاهم وكرمهم وقربهم إلى جواره واختصهم بفضله، فاتخذ من هؤلاء المجاهدين والمقاومين شهداء أحياء، ففازوا باختيار الخالق وتكريمه للمخلوق الذي انحاز إلى قيمه وشعبه وأمته، واختار الموت الجميل الكريم الذي يفتح أبواب الحياة الجميلة الكريمة لشعبه ليعيش حراً عزيزاً سيداً في وطنه السليب بعد تحريره والعودة إليه.

الموت الذي تكون بعده حياة الشهيد في الجنة وحياة الشعب في الدنيا هو سلاح الاستشهاد كطريقةٍ للموت التي اختارها الشعب الفلسطيني طلباً للحياة، وهو الرد الفلسطيني المُعجز على آلة الحرب الصهيونية المدمرة منذ استشهاد عز الدين القسام وصحبه في أحراج يعبد قرب جنين، الذين كان دمهم هو الذي فجَّر الثورة الفلسطينية الكبرى عام 1936م، ومنذ استشهاد مصباح الصوري وصحبه في مخيمات وأحياء غزة، الذين كان دمهم هو الذي فجَّر انتفاضة الحجارة الفلسطينية الأولى عام 1987.

وفي العمليات الاستشهادية في قلب الكيان الصهيوني أثناء انتفاضة الأقصى الفلسطينية الثانية بعد عام 2000، كانت دماء الاستشهاديين هي الردّ الفلسطيني المبدع على آلة القتل والتدمير العسكرية الإسرائيلية، مُحققة توازن الرعب ومعادلة الردع تعويضاً عن الخلل الهائل في ميزان القوى العسكري لمصلحة العدو.

بهذا الفهم لفلسفة الشهادة ومعادلة القتال في فلسطين، يُصبح القتال حتى الشهادة نهجاً يسير عليه عُشاق الحياة وهم يركبون سفينة الموت؛ الموت الذي تولد من رحمه الحياة، فدم الشهداء شريان الحياة لشجرة الحرية، والشهداء لا يذهبون إلى الموت، بل إلى الاشتباك المستمر بأيدي إخوانهم ورفاقهم، والرصاص الذي يُصيب قلوبهم لا يُنهي حياتهم، بل يهبهم الحياة الخالدة الجديدة، ويهب الحياة لشعبهم وأمتهم بما توقد في نفوسهم من روح الجهاد والمقاومة وتحررهم من الوهن والوهم، والشهداء يعيدون تشكيل الحياة بزخمٍ أكبر وإبداع أعظم؛ الحياة التي ترسم معالم المستقبل الزاخر بالحرية والشموخ والإباء.

المقاومون الشهداء هم الذين سيقررون مصير فلسطين والشعب والأرض بالحياة والبقاء، ومصير “إسرائيل” والمشروع الصهيوني بالموت والزوال. المقاومون الشهداء هم الَّذين يمثّلون الشعب والأمة قائلين: إن كان لا مفر من الموت، فليكن الموت شهادة. لنمت مقاومين شهداء كما نريد، لا مساومين أذلاء، كما يريد الأعداء. ليكن موتنا شهادة تظهر وجه عدونا القبيح، وتبعث الحياة في شعبنا وأمتنا؛ حياة تقتلع الموت من أرضنا، كما قال الشاعر الفلسطيني الثائر معين بسيسو في قصيدته: “نعم لن نموت ولكننا سنقتلع الموت من أرضنا. نعم، لن نموت. نعم سوف نحيا. ولو أكل القيد من عظمنا. ولو فرقتنا سياط الطغاة. ولو أشعلوا النار في جسمنا. نعم لن نموت، ولكننا سنقتلع الموت من أرضنا”.

د. وليد القططي يكتب: نمـوت كمـا نريـد لنحيـا كمـا نريـد

مقال- وليد القططي

معتز الخواجا شاب فلسطيني في ربيع العمر، من بلدة نعلين غرب مدينة رام الله وسط الضفة في فلسطين المحتلة، أدى صلاة المغرب في مسجد البلدة بقلب معلق بحب الله وعشق الوطن، وخرج منه لينظر ملياً في وجوه أهل بلدته، ويودعهم بصمتٍ يشوبه الحزن والحنين.

انطلق بعزمٍ أكيد نحو هدفه “تل أبيب”، قلب الكيان الصهيوني وبقرته المقدسة، المُقامة على أرض مدينة يافا وجوارها، وكان محط رحاله ومهراق دمه في شارع “ديزنجوف”، أطول وأجمل شوارع المستوطنة الكبرى “تل أبيب”.

في هذا الشارع، أشهر معتز الخواجا ثأره وسلاحه، وأطلق غضبه ورصاصه، مصوباً نحو وجوه الغزاة القتلة واللصوص القبيحة، وهو يصرخ قائلاً: ألا شاهت الوجوه. الله أكبر. الله أكبر. لقد جئتكم بالنار والثأر. نار تحرق أحلامكم وأوهامكم. وثأر يدمر مشروعكم وكيانكم. جئتكم مُمثلاً شعبي. كي نموتَ كما نريد مقاومين شهداء، لنحيا كما نريدُ أحراراً أعزاء.

هكذا يكون الموت كما نريد مقاومين شهداء، إذا عجزنا عن أن نحيا في وطننا كما نريد أحراراً أعزاء، لننزع الأمل من اليأس، ولنخرج الحياة من الموت. هذا ما أراد المقاوم الشهيد معتز الخواجا أن يقوله بدمه، متشرباً روح الشعب الفلسطيني كله، وكأنه أصبح شعباً في رجل أو رجلاً يسكنه شعب.

لهذا، قاتل معتز فقتَلَ وقُتِل، في أفضل تجلٍ لمعادلة القتال القرآنية: “يَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ”، فارتقى إلى العلا مجاهداً شهيداً في ميدان المعركة، وهو يطارد الغزاة المستوطنين وهم متلبسون بالجريمة، وفي مكانها، في الأرض الفلسطينية السليبة، فتحول دمه وقوداً – كما دماء كل الشهداء – يدفع قطار الكيان الصهيوني المشؤوم إلى محطته الأخيرة نحو الزوال، وزيتاً يضيء طريق الحرية للشعب الفلسطيني نحو وعد الآخرة وبشرى التحرير والعودة.

معادلة القتال القرآنية التي أدركها وطبقها المقاوم الشهيد معتز الخواجا وكل مقاومي الوطن وشهدائه نابعة من فلسفة الشهادة التي تشربها كل الأحرار الأبطال الذين اختاروا الموت، كما يريدون، مقاومين شهداء منذ سمية بنت خياط، وحمزة بن عبد المطلب، وزيد بن حارثة، والحسين بن علي… مروراً بعز الدين القسام، وفتحي الشقاقي، وأحمد ياسين، وقاسم سليماني، وحتى آخر الشهداء من مقاومي كتيبة جنين، وعرين نابلس، وغيرهما.

هي فلسفة قائمة على ركني الاختيار البشري والاصطفاء الإلهي، فاختيار المقاوم للقتال بإرادته الحرة يعني أنه يختار طريقة موته من دون توقيت موته المحدد بأجل لا مفر منه، فإن كان لا مفر من الموت ولا هروب من الأجل، فمن الأفضل أن نموت كما نريد كمقاومين لنحيا كشعب كما يريد.

وفي ركن الاصطفاء الإلهي للشهداء في فلسفة الشهادة، تكتمل المعادلة في إطار سنتي الابتلاء والتداول، لقوله تعالى: {إِن يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَس الْقَوْمَ قَرْحٌ مثْلُهُ ۚ وَتِلْكَ الْأَيامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ الناسِ وَلِيَعْلَمَ اللهُ الذِينَ آمَنُوا وَيَتخِذَ مِنكُمْ شُهَدَاءَ ۗ وَاللهُ لَا يُحِب الظالِمِينَ}.

وبعدما علم الله تعالى صدق إرادتهم واختيارهم للقتال والدفاع عن الحق، اصطفاهم وكرمهم وقربهم إلى جواره واختصهم بفضله، فاتخذ من هؤلاء المجاهدين والمقاومين شهداء أحياء، ففازوا باختيار الخالق وتكريمه للمخلوق الذي انحاز إلى قيمه وشعبه وأمته، واختار الموت الجميل الكريم الذي يفتح أبواب الحياة الجميلة الكريمة لشعبه ليعيش حراً عزيزاً سيداً في وطنه السليب بعد تحريره والعودة إليه.

الموت الذي تكون بعده حياة الشهيد في الجنة وحياة الشعب في الدنيا هو سلاح الاستشهاد كطريقةٍ للموت التي اختارها الشعب الفلسطيني طلباً للحياة، وهو الرد الفلسطيني المُعجز على آلة الحرب الصهيونية المدمرة منذ استشهاد عز الدين القسام وصحبه في أحراج يعبد قرب جنين، الذين كان دمهم هو الذي فجَّر الثورة الفلسطينية الكبرى عام 1936م، ومنذ استشهاد مصباح الصوري وصحبه في مخيمات وأحياء غزة، الذين كان دمهم هو الذي فجَّر انتفاضة الحجارة الفلسطينية الأولى عام 1987.

وفي العمليات الاستشهادية في قلب الكيان الصهيوني أثناء انتفاضة الأقصى الفلسطينية الثانية بعد عام 2000، كانت دماء الاستشهاديين هي الردّ الفلسطيني المبدع على آلة القتل والتدمير العسكرية الإسرائيلية، مُحققة توازن الرعب ومعادلة الردع تعويضاً عن الخلل الهائل في ميزان القوى العسكري لمصلحة العدو.

بهذا الفهم لفلسفة الشهادة ومعادلة القتال في فلسطين، يُصبح القتال حتى الشهادة نهجاً يسير عليه عُشاق الحياة وهم يركبون سفينة الموت؛ الموت الذي تولد من رحمه الحياة، فدم الشهداء شريان الحياة لشجرة الحرية، والشهداء لا يذهبون إلى الموت، بل إلى الاشتباك المستمر بأيدي إخوانهم ورفاقهم، والرصاص الذي يُصيب قلوبهم لا يُنهي حياتهم، بل يهبهم الحياة الخالدة الجديدة، ويهب الحياة لشعبهم وأمتهم بما توقد في نفوسهم من روح الجهاد والمقاومة وتحررهم من الوهن والوهم، والشهداء يعيدون تشكيل الحياة بزخمٍ أكبر وإبداع أعظم؛ الحياة التي ترسم معالم المستقبل الزاخر بالحرية والشموخ والإباء.

المقاومون الشهداء هم الذين سيقررون مصير فلسطين والشعب والأرض بالحياة والبقاء، ومصير “إسرائيل” والمشروع الصهيوني بالموت والزوال. المقاومون الشهداء هم الَّذين يمثّلون الشعب والأمة قائلين: إن كان لا مفر من الموت، فليكن الموت شهادة. لنمت مقاومين شهداء كما نريد، لا مساومين أذلاء، كما يريد الأعداء. ليكن موتنا شهادة تظهر وجه عدونا القبيح، وتبعث الحياة في شعبنا وأمتنا؛ حياة تقتلع الموت من أرضنا، كما قال الشاعر الفلسطيني الثائر معين بسيسو في قصيدته: “نعم لن نموت ولكننا سنقتلع الموت من أرضنا. نعم، لن نموت. نعم سوف نحيا. ولو أكل القيد من عظمنا. ولو فرقتنا سياط الطغاة. ولو أشعلوا النار في جسمنا. نعم لن نموت، ولكننا سنقتلع الموت من أرضنا”.

الفقر والوعي والثورة.. بقلم وليد القططي

أقلام – مصدر الإخبارية

الفقر والوعي والثورة، بقلم الكاتب الفلسطيني وليد القططي، وفيما يلي نص المقال كاملًا كما وصل موقعنا:

تنتهي رواية (الحرافيش) للأديب الكبير نجيب محفوظ بثورة الحرافيش على حكم فتوّة الحارة الطاغية، والحرافيش هم طبقة مسحوقة من الكادحين الفقراء في الحارة المصرية كان الفتوّة يسلبهم عرقهم ومالهم، ومن خلال أحداث وحوارات الرواية وضح نجيب محفوظ رؤيته للعلاقة بين الفقر والوعي والثورة، مُجيباً على سؤال من الذي يصنع الثورة، الفقر أم الوعي؟، فقد ظلَّ الحرافيش مستكينين دهراً دون أن يثوروا على الطغاة المتعاقبين على حكم الحارة، ولم يثوروا إلاّ بعد أنَّ نشر عاشور الناجي – بطل الرواية – الوعي الثوري بينهم، ونقطة البداية كانت في الحوار الذي دار بين عاشور الناجي وأخيه بعدما صفع حسونة السبع – فتوّة الحارة – أمهم على وجهها، فقال له أخوه: ” لولا أننا صرنا حرافيش ما تعرّضت أمنا للإهانة”، فرد عليه عاشور الناجي “حرافيش أم وجهاء ستُدرك الإهانة دائماً من يتقبلها”، وبمفهوم المخالفة لن تدرك الإهانة من يرفضها، ورفض الإهانة والظلم يسبقه الوعي.

الرفض القائم على الوعي للإهانة والظلم هو الأرض التي تدفن في باطنها مخزون الغضب الشعبي المتراكم حتى إذا ما تأججت نار الثورة انفجرت كالبركان تحرق الطاغية وتدمر منظومة الاستبداد والفساد، وهذا ما أدركه عاشور الناجي عندما نشر الوعي الثوري بين الحرافيش، فبدد وهم انتظار البطل المُخلّص الساكن في عقولهم واستبدله بالبطولة الشعبية ليتوّلوا بأنفسهم تغيير حالهم السيء بالثورة، وكسر حاجز الخوف من الطاغية المزروع في قلوبهم لينفجروا بشجاعة في وجه الطاغية وعصابته كالبركان الثائر، ونزع من نفوسهم مرض القابلية للاستحمار فانقلبوا بوعي ثوري يزودهم بالمناعة المقاوِمة للاستحمار والاستعمار، والمحصِنة ضد الإذلال والاستغلال، والرافضة للإهانة والاستخفاف.

شرط الوعي بين الفقر والثورة أكد عليه المفكر الشهيد فتحي الشقاقي في دراسته لثورة الشيخ الشهيد عزالدين القسام بعنوان: (القسام.. الرائد الأول لطلائع الحركة الإسلامية في فلسطين)، فذكر أنَّ القسام كان ينشر أفكاره الجهادية بين العمال والفلاحين والباعة، وهم فقراء الشعب الفلسطيني آنذاك، وعلل ذلك بقوله:” إنَّ القسام كان يرى في العمال والفلاحين أصدق الفئات وأكثرها استعداداً للبذل والتضحية” ولكن الشقاقي استنبط من ثورة القسام أنَّ الفقر وحده لا يصنع ثورة، ولا حتى مجرد الإحساس بالظلم الناتج عن ما أسماه (القهر الاقتصادي)؛ فلا بد من الوعي بالفقر والظلم؛ فعلل ثورة القسام بقوله: “الإيمان في قلوب هذه الطليعة، والوعي بخطورة التحدي والمعركة كانا العامل الأهم للثورة”، فالثورة عند الشقاقي هي نتيجة لمعادلة تجمع بين الإيمان والوعي، والقهر الاقتصادي الناتج عن الفقر أحد مصادر وقودها لاسيما في ثورة تجمع بين: الجهاد الإسلامي، والتحرير الوطني، والنضال الاجتماعي.

إشهار سيف الثورة بعد الوعي بالظلم المُسبب للفقر حدث متكرر في التاريخ البشري، لاسيما ضد أنظمة الحكم التي تجمع بين احتكار السلطة والثروة، أو تتحالف فيها النخبة الحاكمة مع النخبة المالكة، فينهض الفقراء المستضعفون بالثورة ضد الأغنياء المستكبرين، إدراكاً منهم بأنَّ الفقير لا يجوع إلاّ بتخمة الغني، وقد يموت الفقير مخمصةً بينما يموت الغني بطنةً، ولا ينتشر الفقر والحرمان في بلدٍ ما إلاّ بانتشار البذخ والإسراف فيها، ولا تزداد الهوة بين الأكثرية البائسة والقلة المُترفة إلاّ بازدياد الفجوة في توزيع الثروة بين طبقتي الميسورين والمعوزين، ولا يزداد الفقراء فقراً والأغنياء غنىً إلاّ بمنعهم حقهم في مال الله المودع بيد الأغنياء، كما وضح ذلك الرسول صلى الله عليه وسلم بقوله: “إنَّ الله فرض على أغنياء المسلمين في أموالهم بقدر الذي يسع فقراءهم، ولن يجهد الفقراء إذا جاعوا وعروا إلاّ بما صنع أغنياؤهم”.

وفهم الصحابي الثائر أبو ذر الغفاري –رضي الله عنه – هذا التوجيه النبوي، فقال: “عجبت لمن لم يجد القوت في بيته كيف لا يخرج على الناس شاهراً سيفه”، وهذا ما شرحه ابن حزم الاندلسي – إمام المذهب الظاهري – في كتابه (المُحلّى)، بقوله: “إذا مات الرجل جوعاً في بلدٍ اُعتبر أهله قتلة، وأُخذت منهم دية القتيل، وإنَّ للجائع عند الضرورة أنْ يُقاتل في سبيل حقه في الطعام الزائد عند غيره، فإنْ قُتل (الجائع) فعلى قاتله القصاص، وإنْ قُتل المانع (الغني) لعنه الله لأنه منع حقاً وهو من الطائفة الباغية”، والأصل أنْ لا يصل المجتمع المسلم إلى هذه الدرجة تطبيقاً لمبدأ التكافل الاجتماعي عملاً بنص الحديث النبوي ” مَن كانَ معه فَضْلُ ظَهرٍ فَلْيعدْ به على مَن لا ظَهرَ له، ومَن كان له فضلُ زادٍ فَلْيَعدْ به على مَن لا زادَ له”، والأولى أن يكون الزاد والحاجات الأساسية لأفراد المجتمع مكفولة لهم بإيجاد فرص عمل للقادرين، وسد حاجات غير القادرين وفق منظومة التكافل الاجتماعي.

إذا كان حضور الوعي مطلوباً للثورة، فإن تغييب الوعي مطلوباً للطغاة، الذين يعمل كهنتهم على ترسيخ مفاهيم ومعتقدات تُشرعن الفقر والتفاوت الطبقي والظلم الاجتماعي، ولذلك فإن تصويب هذه المفاهيم والمعتقدات المُرسِّخة للفقر كحالة فردية ومنظومة اجتماعية مطلوب لخلق وعي رافض للظلم المؤدي للفقر، ومن أمثلة ذلك: أهمية الوعي بالمشكلة الاقتصادية بأنها مشكلة سوء استغلال وإنتاج لموارد الطبيعة، وسوء استهلاك وتوزيع للثروات، وليس مشكلة ندرة الموارد الطبيعية التي أودعها الله تعالى في الأرض لتكفي كل البشر إلى يوم القيامة لقوله تعالى عن الأرض “وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا”، وأهمية الوعي بالمنهج النبوي في سد حاجات الفقراء بكرامة من خلال تمكينهم من امتلاك أدوات الإنتاج لإيجاد فرص عمل لهم تسد حاجاتهم وليس بتقديم مساعدات مالية وعينية لهم تسد حاجاتهم مؤقتاً وتبقيهم متسولين مؤبداً، وأهمية تصويب عقيدة القضاء والقدر وعلاقتها بحرية الإنسان ومسؤوليته، وتصويب مفهوم التوكل على الله وربطه بالسعي والعمل، وتصويب حقيقة التفاوت الاقتصادي ووضعه في إطار التكامل الوظيفي والحراك الاجتماعي، وغير ذلك من الأمثلة.

العلاقة بين الفقر والوعي والثورة لخصها فيلسوف الثورة الاشتراكية كارل ماركس بقوله: “الفقر لا يصنع ثورة، إنما وعي الفقر هو الذي يصنع الثورة، الطاغية مهمته أنْ يجعلك فقيراً ، وكاهن الطاغية مهمته أن يجعل وعيك غائباً”. فوجود الفقر – دون إحساس بالقهر ووعي بالظلم – لا يصنع ثورة ولا يحدث انفجاراً ووجود الفقر والإحساس به كقهر اجتماعي لا يصنع ثورة ولكنه بُحدث إنفجاراً شعبياً يُفرغ مخزون الغضب والانتقام، وقد يحقق مكاسب جريئة مؤقتة لصالح الفقراء دون أنْ يُغيّر من واقعهم جذرياً. ووجود الفقر والإحساس به كقهر اجتماعي، والوعي به كمنظومة حكم تصنع الفقر والظلم يصنع ثورة إذا ما اكتملت شروطها تكون نتيجتها تغيير جذري يؤدي إلى تداول السلطة والثروة، ويُحقق العدالة والمساواة وتكافؤ الفرص، ويقضي على الاستبداد والفساد.

أقرأ أيضًا: مشروع المقاومة والتحرير قبل إنهاء الانقسام (مقال)

Exit mobile version