موجات الحر.. تُلهب السجون وتُؤذي الأسرى

أقلام – مصدر الإخبارية

موجات الحر.. تُلهب السجون وتُؤذي الأسرى، بقلم المختص في شؤون الأسرى عبد الناصر فروانة، وفيما يلي نص المقال كاملًا كما وصل موقعنا:

لقد عانينا كثيراً خلال الأيام الماضية، جراء الارتفاع الكبير في درجات الحرارة. وما زلنا نُعاني من موجات الحر الشديد وقسوة الصيف هذا العام؛ بالرغم مما نَمتلكه من إمكانيات، وما يُمكن أن نُوفره من أدوات مساعدة، تُساهم في تخفيض درجات الحرارة وتبريد الجو وتساعد في تخفيف مخاطر موجة الحر وآثار الصيف وتداعياته الخطيرة على صحة الإنسان. لكننا وفي ظل هذه الأجواء الحارة جداً نضطر لأن نُعيد شريط ذكريات مريرة وثقيلة حملتها تلك السنوات التي قضيناها داخل سجون الاحتلال الإسرائيلي، وخاصة في السجون المقامة في صحراء النقب، جنوب فلسطين، لنستحضر معاً طبيعة المناخ هناك وتفاصيل الحياة القاسية التي وثقتها الذاكرة الجمعية للمعتقلين الذين مرّوا في التجربة، وهم كُثر. فنستشعر معاناة وآلام من لازالوا يقبعون في سجون الاحتلال ويقضون سنوات أعمارهم وزهرات شبابهم بين جدران السجون، وخاصة أولئك الذين يتواجدون اليوم في سجون النقب ونفحة ورامون وبئر السبع، التي تقع في عمق الصحراء ويتواجد فيها نصف إجمالي عدد الأسرى والمعتقلين الفلسطينيين البالغ عددهم نحو خمسة آلاف أسير ومعتقل.

إن دولة الاحتلال الإسرائيلي لم تكتفِ بما ورثته من سجون عن الانتداب البريطاني عام1948، وما تركته السلطات الأردنية والادارة المصرية من مراكز ومعسكرات بعد “نكسة” حزيران عام1967. كما ولم تكتفِ بما أقدمت عليه من توسيع وتعديل لبعضها وإدخال اضافات جديدة عليها، بما يتلاءم ورؤيتها القمعية وينسجم مع سياستها الاحتلالية. وإنما بدأت مطلع سبعينيات القرن الماضي في تشييد سجون جديدة بمواصفات أكثر قمعاً وتشديداً، وكان أول تلك السجون التي تم تشييدها إسرائيلياً، سجن بئر السبع، الذي تم افتتاحه في 3كانون الثاني/يناير عام1970، ومن ثم تم تقسيمه إلى عدة سجون منفصلة مثل أيشل و أوهلي كيدار. وتبعه سجن نفحة الذي تم افتتاحه في 1آيار/مايو عام1980، ويُعتبر ثاني تلك السجون.
وفي 17آذار/مارس عام 1988، افتتح معتقل “أنصار3″، والذي كان بالأساس معسكراً للجيش الإسرائيلي، وتم إنشاء المعتقل بداخله، والذي يُعتبر من أكبر وأضخم السجون الإسرائيلية، من حيث مساحته الجغرافية، وفي عدد النزلاء أيضاً. وفي العام2006 افتتحت سلطات الاحتلال سجن “رامون”، بجوار سجن نفحة. وأربعتها تقع في عمق صحراء النقب جنوب فلسطين، ويعيش الأسرى فيها ظروفاً صعبة وقاسية، فيتحالف فيها سوء المناخ، صيفاً وشتاءاً، مع قسوة ظروف الاحتجاز وبشاعة السجان، فتتفاقم معاناة الأسرى هناك، ويزداد وجعهم مع ارتفاع درجات الحرارة وسخونة الأجواء.

ومما لاشك فيه، بأن معاناة الأسرى والمعتقلين في كافة سجون الاحتلال تتفاقم مع قدوم فصل الصيف وارتفاع درجات الحرارة والرطوبة، خاصة في يونيو وتموز وآب، وهم الأكثر سخونة، وتزداد هذه الأيام مع ارتفاع معدلات الموجات الحارة وشدة وطول كل منها، حيث تتحول الغرف إلى جحيم، وزنازين التحقيق والعزل الانفرادي إلى أفران، فالصيف ضيفاً ثقيلاً على الأسرى والمعتقلين وأينما تواجدوا، في النقب وعوفر ومجدو أو في نفحة وعسقلان والدامون، أو في بئر السبع وجلبوع والرملة.. الخ، فيما تكون معاناة الأسرى داخل السجون الواقعة في قلب الصحراء أشد وأقسى، نظراً للطبيعة القاسية للمناخ الصحراوي في النقب، والحديث هنا يطول.
وإن تناولنا مخاطر الحياة هناك وآثارها على صحة وحياة الإنسان، صيفاً وشتاءً، فسنجد أمامنا الكثير من الحقائق المؤلمة. هذا بالإضافة إلى أنها تقع بالقرب من “مفاعل ديمونا” وفي منطقة تُستخدم لدفن مخلفات “المفاعل النووي” ومادة الأسبست التي تؤدي إلى الإصابة بأمراض مسرطنة، وهذا ما حذرت منه مراراً وزارة البيئة الإسرائيلية في تقارير سابقة، وأكدت وجود نفايات سامة في منطقة النقب قد تسبب الإصابة بأمراض خبيثة ومنها السرطان.
لقد سقط الكثير من الأسرى شهداء في السجون الأربعة التي تقع في صحراء النقب، بالإضافة إلى آخرين توفوا بعد خروجهم من السجن، وآخرين تسببت لهم الحياة هناك بكثير من الأمراض أو الإعاقات الجسدية أو الحسية، فيما تؤكد العديد من الدراسات أن الأمراض المزمنة والمستعصية والتي ظهرت وبدأت تظهر على الأسرى المحررين لها علاقة بصورة دالة إحصائياً بخبرة السجن وجراء ما تعرض له المحررين خلال فترات سجنهم، لذا ننصح كافة الأسرى المحررين بضرورة إجراء الفحوصات اللازمة فور خروجهم من السجون للتأكد من خلوهم من الأمراض، أو لمعالجتهم من الأمراض التي قد تظهر عليهم قبل أن تستفحل في أجسادهم وتكون سببا لوفاتهم كما حصل مع المئات من رفاقهم.

إن ما دفعني إلى الكتابة اليوم، هي تلك الكلمات والصرخات التي حملتها رسائل الأسرى التي وصلتني مؤخراً، والتي عكست صوراً فردية وجماعية موجعة لآلاف من الأسرى والمعتقلين، فالأسرى يشتكون من صعوبة الظروف وقسوة المعاملة واكتظاظ الغرف وقلة التهوية وسوء المناخ وانتشار الزواحف الخطيرة والسامة والحشرات الضارة والقوارض وسخونة الهواء وشدة الحرارة، وعذاب البوسطة، وتأثيرات الصاج الموجود على النوافذ في بعض الأقسام، في ظل شحة الأدوات المساعدة والمخففة لدرجة الحرارة، أو الواقية لأشعة الشمس ولهيب حرارة تموز.
إن سوء الظروف المناخية وقسوتها في الصيف وموجات الحر الشديد، تفاقم من معاناة الأسرى، وتترك آثارا خطيرة على أوضاعهم الصحية وتسبب لهم العديد من الأمراض مثل:ضربات الشمس والجفاف وأمراض الجلد والإعياء الحراري ونزيف الأنف (الرعاف) وبعض متاعب القلب المفاجئة التي تحدث لأول مرة، وغيرها. وقد يزداد الخطر في ظل تدني الرعاية الصحية، ومع استمرار سياسة الإهمال الطبي، خاصة لدى المرضى ومن تظهر عليهم أعراض المرض. مما يزيد من درجة القلق لدى أهالي الأسرى والمؤسسات المختصة بهذا الشأن.
كما وأن إحدى الدراسات تُفيد: بأن التعرض المباشر للشمس مع درجات حرارة أكبر من 30 مئوية، مع ارتفاع نسب الرطوبة لعدد من الساعات المتتالية قد يكون معيار خطورة شديدة، حيث يفشل الجسم في تبريد نفسه ذاتيًا مما قد يلحق الضرر بالدماغ والقلب والكلى والعضلات ويمكن أن يؤدي إلى الموت، خاصة في الحالات والفئات العمرية الهشّة. وهنا نُحذر من مخاطر الإجراءات الإسرائيلية التي تُفرض على الأسرى وتُجبرهم على البقاء تحت أشعة الشمس.
في الختام، إن تلك الظروف القاسية ترفع من درجة القلق لدينا ولدى عائلات الأسرى والمؤسسات المختصة، وتدفعنا جميعاً لأن نرفع صوتنا ونُطالب المؤسسات الدولية، الحقوقية والإنسانية، لاسيما اللجنة الدولية للصليب الأحمر ومنظمة الصحة العالمية، بالتوجه إلى السجون الإسرائيلية وخاصة في صحراء النقب، والإطلاع على ظروف الاحتجاز وحجم المعاناة في فصل الصيف وموجات الحر الشديد التي تجتاح العالم هذه الأيام، والعمل على توفير الحماية للأسرى وخاصة المرضى والأطفال وكبار السن من مخاطر الصيف وتأثيرات ارتفاع درجات الحرارة ونسبة الرطوبة في الجو.

أقرأ أيضًا: قدري أبو بكر.. مسيرة نضال وكفاح

فلسطين والجزائر.. علاقة تاريخية عميقة

أقلام – مصدر الإخبارية

فلسطين والجزائر.. علاقة تاريخية عميقة، بقلم الكاتب الفلسطيني عبد الناصر فروانة، وفيما يلي نص المقال كاملًا كما وصل موقعنا:

الجزائر.. رائعة في جمالها وطبيعتها وشواطئها، وفاتنة بكسوتها الخضراء. هائلة بآثارها العديدة ومدنها التاريخية العظيمة. الجزائر.. متميزة بمتحفها “مقام الشهيد”، وشامخة كجبالها وعظيمة بثورتها وحجم تضحياتها. الجزائر.. وفية لفلسطين وشعبها، وصادقة في دعمها ومساندتها للقضية الفلسطينية، ولأنها كذلك فلقد احتلت مساحة واسعة وعميقة في الذاكرة الجمعية للشعب الفلسطيني وفي سجل تاريخنا العريق.

ونحن شعب يُحب الجزائر ويُقدر عالياً الاهتمام الجزائري، الرسمي والشعبي، بالقضية الفلسطينية، ونقدر كذلك دعم الجزائر ووقوفه التاريخي لجانب الشعب الفلسطيني، ولا تزال الجزائر متميزة بالتزامها تجاه فلسطين ودعمها لشعبها المُكافح، وكعادتها، لم تترك الجزائر أي مناسبة إلا وتؤكد فيها على موقفها الثابت والداعم لنضال الشعب الفلسطيني، فكانت سباقة في تقديم الدعم المادي لأبناء شعبنا في جنين البطولة لإعادة اعمار وبناء ما دمره الاحتلال خلال عدوانه الأخير على المخيم. وستبقى صرخة رئيسها السابق” هواري بومدين (نحن مع فلسطين ظالمة أو مظلومة) تصدح في آذاننا وآذان كل الفلسطينيين، في الوطن والشتات، لأنها لم تكن مجرد صرخة من رئيس غادر سدة الحكم وفارق الحياة، وإنما كونها صرخة صادقة ومُعبرة، توارثتها الأجيال ورددها الرؤساء المتعاقبين للجزائر الشقيقة وشعبها العظيم، لتؤكد الجزائر على أن فلسطين حاضرة ولم تغبْ عن أذهان وعقول وقلوب الجزائريين كل الجزائريين، ونفخر أن لنا من بين الجزائريين أصدقاء نُحبهم ونحترمهم ونحرص على التواصل معهم. لهذا لم ولن ننسى الجزائر التي حُفر اسمها في سفر تاريخنا الفلسطيني وثورتنا المُعاصرة، وهي دائمة الحضور في قلوبنا وعقولنا ويوميات حياتنا، وكثيراً ما ترى الفلسطيني يرفع الراية الجزائرية لجانب راية فلسطين. وصدق من قال: من الاوراس الى الكرمل، الثورة مازالت مستمرة.

وكنت قد تشرّفت بزيارة الجزائر مرتين، فكانت المرة الأولى في آذار/مارس عام2007، للمشاركة في مؤتمر عقد في فندق الأوراسي وخُصص للقدس وكان للأسرى نصيب فيه، فيما تكررت زيارتي لها للمرة الثانية عام2010, للمشاركة في مؤتمر دولي خصص للأسرى في قصر الصنوبر بالعاصمة الجزائرية. وكلما ذُكرت الجزائر، أو كتبت شيئاً عنها، ازددت شوقاً للعودة لزيارتها من جديد. هذا ليس شعوري فقط، وإنما لسان حال شعب يعشق الجزائر ويشتاق دوماً لزيارتها. فنحن نعشق الجزائر وترابها، ونحب شعبها ورؤسائها وقياداتها، ونفخر بتاريخها ومواقفها، ونتعلم من دروسها وتجربتها الرائدة بشقيها السياسي والعسكري. لقد ارتبط الجزائريون بأرض فلسطين ارتباطاً روحيًا باعتبار أرض فلسطين أرضاً مُقدسة مُباركة، ويعتبرون أنفسهم جزءا لا يتجزأ من القضية الفلسطينية، وأن استقلال الجزائر منقوصٌ، حتى تتحرر فلسطين. وما بين الجزائر الشقيقة بلد المليون ونصف المليون شهيد، وفلسطين الحبيبة بلد المليون أسير، علاقة نضال وتحرر، علاقة تاريخية وطيدة وليست استثنائية.

واليوم ونحن في رحاب ذكرى استقلال الجزائر في 5يوليوعام1962، نبرق باسم شعبنا الفلسطيني أحر التهاني للجزائر الشقيقة ولشعبها الحبيب. كما ولا يسعنا إلا أن ننقل للجزائر، رئيسا وحكومة وجيشا وشعبا، تهاني إخواننا ورفاقنا الأسرى والمعتقلين في سجون الاحتلال، الذين خصوا الجزائر بأحر التهاني في الذكرى الواحدة والستين لاستقلالها. كما وأبرقوا أسمى آيات الشكر والتقدير إلى وسائل الإعلام الجزائرية المختلفة وخاصة المقروءة منها وإلى كافة الإعلاميين الذين ساهموا في تخصيص مساحات واسعة يومياً على صفحات الصحف الجزائرية لتسليط الضوء على قضية الأسرى ونقل معاناتهم، مما جعل منها تجربة إعلامية متميزة واستثنائية في إسناد الأسرى الفلسطينيين ودعم قضاياهم العادلة وتعزيز صمودهم في مواجهة السجان، والشكر موصول إلى الصديق والأسير المحرر خالد عز الدين، مسؤول ملف الأسرى في سفارة دولة فلسطين في الجزائر الشقيقة، والذي ساهم بشكل كبير ليس في إنجاح التجربة فقط، وإنما في جعلها تجربة استثنائية ومتميزة.

مرة أخرى هنيئاً للجزائر وشعبها العظيم، وندعو الله أن يحفظها من كل شر وسوء، وأن يُديم عليهم الأمن والاستقرار.

أقرأ أيضًا: قدري أبو بكر.. مسيرة نضال وكفاح

قدري أبو بكر.. مسيرة نضال وكفاح

أقلام – مصدر الإخبارية

قدري أبو بكر.. مسيرة نضال وكفاح، بقلم المختص في شؤون الأسرى عبد الناصر فروانة، وفيما يلي نص المقال كاملًا كما وصل موقعنا:

تلقي خبر وفاة اللواء قدري أبو بكر، شهقت أنفاسي ولم أصدق – ولا أريد أن أصدق – تنقلت بين المواقع الإخبارية والقلق يتملكني، علّ أحدها ينفي أو حتى يأتيني بأهون المصائب “إصابة الوزير اللواء قدري أبو بكر”!!.

وأجريت اتصالاً واثنين وثلاثة، وتواصلت مع زملائي في هيئة شؤون الأسرى والمحررين، فجاءت الأنباء البائسة: “أبو فادي مات بالفعل ورحل إلى الأبد”.

يا الله ما أقسى الموت، حينما تفقد إنساناً عزيزاً، فهذا ليس بحادث عادي أو موت عابر، إنها الفاجعة. فاجعة إنسانية ووطنية أصابتنا جميعاً بالصدمة؛ وما زلنا نعيش اضطرابات ما بعد الصدمة. وكما يقول الشاعر الفلسطيني محمود درويش: الموت لا يوجع الموتى.. الموت يوجع الأحياء.

عرفناه ثائراً فتحاوياً ومقاتلاً فلسطينياً وأسيراً وطنياً متمرداً على كل أشكال الظُلم والقهر، ورمزاً من رموز الحركة الأسيرة، طوال سنوات سجنه التي امتدت لنحو سبعة عشر عاماً متتالية.

عرفناه رجلاً صادقاً وقائداً وحدوياً وإنساناً متواضعاً، في كل الميادين، فحفظنا صورته في القلوب، وحفرنا اسمه في العقول، وسنردد معاً اسمه دوماً بين الجموع. فما من أحد عرفه أو التقى به، إلا وأثني على حسن سيرته وطيبة قلبه. وما من أحد من هؤلاء سمع بخبر وفاته إلا وتوشح الحزن ألماً لفراقه، واسترسل بذكر محاسنه، وهذا ما سمعناه وقرأناه في حياته وبعد مماته.

الرئيس يكلفه رئيساً لهيئة شؤون الأسرى والمحررين

تشرفت بالاتصال به للمرة الأولى مهنئاً، عقب صدور قرار السيد الرئيس محمود عباس بتكليفه رئيساً لهيئة شؤون الأسرى والمحررين في أغسطس عام2018، وتبادلنا الحديث في هموم الأسرى وشؤون العمل، فإذ به يفاجئني بالسؤال عن أبي ويخبرني بأنه كان صديقاً له في السجن وعايشه لسنوات طوال في غرف سجن بئر السبع. لقد كان يتمتع بذاكرة قوية. وبمجرد أن أنهيت المكالمة، توجهت لوالدي وأخبرته بالحوار، فبدأ هو الآخر باستعادة ذكرياته والإشادة به وبسماته الطيبة وسرد سيرته النضالية والوطنية المشرقة. وحين توفى “والدي” رحمة الله عليه مساء 8نوفمبر 2020 كان “أبو فادي” أول المتصلين معزياً برحيله.

وتوالت الاتصالات، وتبادلنا الحديث مراراً وتكراراً، لكننا لم نستطع اللقاء فوق تراب الوطن بفعل إجراءات الاحتلال والقيود المفروضة على حرية التنقل ما بين غزة والضفة الغربية، فكان لقاؤنا الأول في نوفمبر عام 2018 بالقاهرة، أي بعد تسلمه رئاسة هيئة شؤون الأسرى والمحررين بثلاثة شهور، ومن ثم توالت لقاءات العمل، فالتقيته كثيراً وتشرفت بالسفر برفقته مراراً إلى عواصم عربية وأوروبية عديدة، وشاركنا في لقاءات ومؤتمرات عربية ودولية عديدة، ودخلنا سوياً سفارات فلسطينية ومؤسسات واتحادات عربية كثيرة بما فيها جامعة الدول العربية، والتقينا بالأمين العام أكثر من مرة، وطرقنا معاً أبواب برلمانات ومؤسسات أوروبية ودولية، والتقينا هناك بالعديد من البرلمانيين الأوروبيين. وكانت العاصمة البلجيكية (بروكسل) آخر المحطات الأوروبية التي جمعتني به في فبراير الماضي.

أما عربياً فكما شهدت مصر لقائي الأول به عام2018، كانت العاصمة المصرية (القاهرة) هي المحطة الأخيرة للمشاركة في العديد من اللقاءات والفعاليات، أبرزها الفعالية التي أقامتها جامعة الدول العربية إحياءاً ل يوم الأسير الفلسطيني.

وكانت آخر لحظات اللقاء قبل الفراق الأبدي، في صالة مطار القاهرة الدولي، وهو عائد والوفد المرافق إلى رام الله ، فجر الجمعة 12 مايو2023. يومها أصريت بأن أبقى معهم حتى اللحظة الأخيرة وان أرافقهم إلى المطار، ولسان حالي كان يردد على مسامعهم: لا نعرف متى سنلتقي مجدداً. وكأنني كنت أودعه الوداع الأخير.

وفي السفر لنا معه ذكريات..

وفي السفر، لنا معه ذكريات كثيرة، حافلة بالمواقف الوطنية والإنسانية، وتبادلنا معه أحاديث عديدة، وكان يحرص، على سبيل المثال، أن يستهل زيارته للقاهرة بزيارة الأسيرة الأولى في الثورة الفلسطينية المعاصرة الأخت المناضلة فاطمة البرناوي، حيث كانت تُقيم قبل رحيلها في 3نوفمبر 2022، وقد زرناها معاً مرات عدة.

وكان سريع الاستجابة مع الاتصالات الهاتفية، فلم يترك اتصالاً إلا ويرد عليه، وكثيراً ما رن هاتفه النقال أثناء تناوله الطعام، فإذ به يتوقف عن الأكل ويمسك هاتفه ويرد على المتصل دون أن يعرف هويته.!

وخلال وجودنا في بروكسل، المرة الأخيرة، قبل خمسة شهور، وصلتنا رسالة بعد منتصف الليل تفيد بأن الأسير (أحمد أبو علي) استشهد في سجن النقب جراء الإهمال الطبي، وفي الصباح نزلنا معاً لتناول طعام الإفطار، وقبل أن أبلغه بالخبر. فإذ به يفاجئني قائلاً: اتصل بي الأسرى الساعة الرابعة فجراً (عبر هاتف مهرب) وأبلغوني بخبر استشهاد الأسير. فاستهجنت الأمر وتساءلت: كيف تُبقي هاتفك مفتوحاً طوال الليل يا عمي أبو فادي وترد على الاتصالات بعد المنتصف!. فرد والابتسامة تعلو وجنتيه: نحن خدم للأسرى وقضيتهم.

وفي السفر، كان يتجاوز طواعية البروتوكول الخاص بالوزراء، وكثيرة هي المرات التي منحنا فيها مساحة بالمشاركة في الحديث. كما ولم يشعرنا أبداً بأنه وزير ونحن مرؤوسوه، كان بمثابة الأب الحنون والأخ الكبير والصديق الوفي. كان طيباً وكريماً ومتواضعاً.

معايدة عيد الأضحى المبارك والتواصل مع أهالي الأسرى

وفي اليوم الأول من أيام عيد الأضحى المبارك، اتصلت به مهنئاً إياه والأسرة بحلول العيد، فإذ به، في نهاية المعايدة، يطلب مني رقم هاتف الحاجة أم ضياء الأغا، والدة عميد أسرى قطاع غزة والمعتقل منذ 31 عاماً، ليقدم لها التهاني وهذا ما حصل بعد أن أنهيت مكالمتي. كان حريصاً على التواصل مع الأسرى وعوائلهم. وهو العارف لمعنى أن تكون أسيراً، أو أن يكون لك أبٌ أو ابنٌ أسيراً. فكان مناصراً لهم وصادقاً معهم، وداعماً لحريتهم ومسانداً قوياً لقضيتهم العادلة. فأحبه الجميع وحزن الكل الفلسطيني على رحيله، وكان الحزن أكبر لدى من التقى به. فهذه “أم ضياء الأغا” تقول لي:. “التقيت به، وللمرة الأولى، مؤخراً في القاهرة، وجالسته في أكثر من مناسبة، فتعرفت أكثر عليه، وازددت احتراماً له، وبعد رحيله شعرت بألم كبير وحزن مضاعف. فيا ليتني لم ألتقِ به ولم أتعرف على شخصيته عن قُرب، لكان الألم أخف والحزن أقل”.

وهذا يتقاطع مع ما كنت أرددته على مسامعه وأمام من معه، قبل الفراق بعد كل لقاء، كنت أقول له: كلما التقيت بك، ازددت احتراماً لك.

سيرة مشرقة ومشرّفة..

سيرة العظماء لا ترحل برحيل أجسادهم، وكيف يمكن أن ترحل سيرة “أبا فادي” الذي عاش حياة خصبة وعميقة، وكرّس حياته لأجل وطنه وشعبه وقضية الأسرى والمحررين وعوائلهم، على اختلاف انتماءاتهم، وحرص على أن يكون دائماً عنواناً وحدوياً، وفي كل مرة كانت وطنيته وفلسطينيه تتغلب على فتحاويته، فشكّل رمزاً للكل الفلسطيني.

ولد قدري عمر محمد أبو بكر وكنيته “أبا فادي” في الأول من يناير عام 1953، في بلدة بديا غرب محافظة سلفيت، وانتمى إلى حركة “فتح” عام 1968، ثم التحق بالقوات المسلحة وتلقى تدريبات عسكرية في معسكرات الثورة في الأردن والعراق، وغدى مُطارِداً للعدو ومُطارَداً منه، إلى أن أُعتقل منتصف عام 1970 أثناء مشاركته بمهمة عسكرية قرب قرية يتما جنوب محافظة نابلس وحُكم عليه بالسجن 20 عامًا.

أبعد إلى العراق في أكتوبر عام 1987، بعد قضاء 17عاماً من فترة حكمه، ليعُيِّن هناك مديراً لمكتب القائد خليل الوزير “أبا جهاد”، فكان أحد أركان فريق متابعة العمل النضالي والكفاحي في الأراضي المحتلة، وفي عام 1996 عاد إلى الضفة الغربية، ليعمل مساعداً للمدير العام لجهاز الأمن الوقائي للشؤون المالية والإدارية، وتقاعد برتبة “لواء” عام2008، ليتفرغ بعدها للعمل في أطر حركة “فتح”، وكلف رئيساً للجنة الرقابة المالية في المجلس الثوري للحركة، قبل أن يتم استدعاؤه للعمل مجدداً في أغسطس عام 2018 وتكليفه رئيساً لهيئة شؤون الأسرى والمحررين، ومن ثم تم منحه رتبة وزير، وخلال انعقاد المجلس الوطني عام 2018 تم انتخابه عضواً في المجلس الوطني الفلسطيني.

حصل “أبو بكر” على شهادة الثانوية العامة أثناء فترة سجنه عام 1974، وبعد تحرره واصل تعليمه فحصل على درجة البكالوريوس في العلوم السياسية من جامعة بيروت العربية عام1991. ومن مؤلفاته: كتاب المعتقلون الفلسطينيون من القمع إلى السلطة الثورية، وكتاب الإدارة والتنظيم للحركة الوطنية الفلسطينية الأسيرة، أساليب التحقيق لدى المخابرات الإسرائيلية- كيف تواجه المحقق؟، هذه هويتي. كما وساهم، مع إخوانه ورفاقه، في بناء الحركة الأسيرة وصياغة التاريخ المقاوم خلف القضبان وفي وضع دستوراً ثورياً يحتكم إليه أبناء الحركة الأسيرة.

تزوج أبا فادي بعد تحرره من السجن من المناضلة والناشطة المجتمعية أريج عودة، وأنجب منها ولدان (فادي وفرات) وبنت اسمها (دانا).

الرحيل الأبدي..

انتقل إلى رحمة الله تعالى عصر يوم السبت الموافق 1 يوليو 2023 عن عمر يناهز (70عاماً)، إثر حادث سير مؤسف قرب بلدة جماعين جنوب مدينة نابلس، حين كان يقود سيارته بنفسه، دون سائق أو مرافق، أثناء عودته إلى بيته بعد أداء واجبه الوطني ومشاركته في فعالية أقيمت في مقر الرئاسة الفلسطينية برام الله بحضور السيد الرئيس الفلسطيني محمود عباس، لمعايدة أطفال الأسرى في سجون الاحتلال الإسرائيلي بمناسبة عيد الأضحى المبارك. كان هذا آخر ما شارك فيه، فصافح هذا وذاك، وحضن هذه الطفلة وتلك، والتقط صوراً مع أطفال آخرين. وكأنه في حالة وداع أبدي.

قدرك يا “قدري” أن ترحل لتسكن إلى جوار ربك، فالموت حق وإن كان موجعاً، وقدرنا أن نعيش الألم والحزن من بعد رحيلك، وبرحيلك يا عمي “أبو فادي” أظلمت هيئة شؤون الأسرى والمحررين حزناً، وفي السجون أضفت ظلمة على ظلمتها ألماً، وأوجعت شعب أحبك، لكن بقيّ وجهك الطيب يشع نوراً في عيون الزملاء وعيون كل من عرفك، وسنبقى جميعاً نستلهم من مواقفك النضالية والإنسانية والوطنية، ونستحضر سيرتك الطيبة، وما تركته لنا ولشعبك من إرث نضالي ووطني وثقافي.

الله يرحمك يا عمي أبو فادي ويحسن إليك ويسكنك فسيح جناته ويلهم أسرتك وعائلتك ومحبيك الصبر والسلوان. وإنا لله وإنا إليه راجعون.

أقرأ أيضًا: كتب د. رأفت حمدونة: اللواء قدري أبو بكر سيرة ومسيرة

العيد في السجن.. غاب الأسرى وحضرت ذكرياتهم

أقلام – مصدر الإخبارية

العيد في السجن.. غاب الأسرى وحضرت ذكرياتهم، بقلم المختص في شؤون الأسرى عبد الناصر فراونة، وفيما يلي نص المقال كاملًا كما وصل موقعنا:

قضيت أعياداً كثيرة بين جدران السجون، وعشرات الأعياد الأخرى وأنا ابنٌ أو أخٌ لأسير يقبع بعيداً في ظلمة سجون الاحتلال. وفترة العيد تختلف من سجن إلى آخر، ومن مرحلة عمرية إلى أخرى. وفي العيد يتجدد الألم، فيغيب الأسرى وتحضر ذكرياتهم، ونجتهد لوصف الألم، ورسم صورة قلمية للواقع الأليم الذي يعيشه أسرانا وذويهم في العيد. فتجدنا نعتمد، تارة، على ما تحفظه الذاكرة من مشاهد وذكريات، وتارة أخرى نستند إلى ما يصلنا حديثاً من خلف القضبان عبر رسائلهم المهربة، أو لما يُنقله إلينا المحامون وما نستمع إليه من حكايات يرويها لنا ذوو الأسرى. فالاحتفالات بالأعياد تحمل مذاقاً مختلفاً لدى الأسرى الفلسطينيين وعوائلهم، حيث مشاعر الفرح والسعادة تكون دائماً ممزوجة بالألم والحزن، ولا يحسّ بها سوى من ذاق مرارة الاعتقال وتأثيراته، ولا أظن أن أحداً من الفلسطينيين قد مرّ بالتجربة، ونسى كيف ينقضي العيد في السجن، أو في ظل وجود حبيب وراء القضبان، فالذاكرة الفردية لا زالت تحتفظ الكثير مما ألمّ بنا من وجع ومرارة!.

يعيش الأسرى داخل السجون المحاطة بالجدار الشاهقة وداخل الغرف المغلقة ظروفاً صعبة، ويُعاملون بقسوة ولا إنسانية. والعيد في السجون مناسبة إسلامية سعيدة، لكنها ثقيلة ومؤلمة، وتمر ساعاتها المعدودة وأيامها المحدودة ببطء شديد، والحياة والمشاعر فيها مختلفة، فيضطر الأسرى لإحياء المناسبة بطقوس خاصة، حيث صناعة الحلوى وفقاً للإمكانيات المتاحة، والاستيقاظ المبكر صبيحة العيد، والاستحمام وارتداء أجمل الملابس، والخروج إلى الفورة (الساحة) لأداء صلاة العيد، ومن ثم يصطفون بشكل دائري في الفورة، ويصافحون بعضهم البعض، ويتبادلون التهاني، ويوزعون كعك وحلوى صنعتها أيديهم، وما هو متوفر لديهم وما تمكنوا من شرائه من مقصف السجن من الشوكولاتة والتمر، كما وتُلقى الكلمات وعبارات التهنئة والخطب القصيرة.

وفي كثير من الأحيان تمنع إدارة السجن صلاة العيد بشكل جماعي في ساحة القسم، وترفض تخصيص زيارة للأهل، أو الاتصال بهم هاتفياً. وفي أحيان أخرى تعرقل الزيارات فيما بين الغرف والأقسام الداخلية، أو تتعمد استفزاز الأسرى من خلال اقتحام الأقسام وإجراء التفتيشات الاستفزازية والاعتداء عليهم أو التنكيل بهم، دون احترام لمشاعرهم.

وفي العيد يضطر الأسرى لاستحضار شريط ذكرياتهم، بما حمله من مشاهد ومحطات مختلفة. فبعض الأسرى ينطوون لساعات طويلة في زوايا الغرف الصغيرة، والبعض الآخر يشرع في ترجمة ما لديه من مشاعر على صفحات من الورق، ليخطّ بعض القصائد والرسائل على أمل أن تصل لاحقاً إلى أصحابها، وقد لا تصل وتبقى حبراً على ورق، فيما الدموع تنهمر من عيون بعضهم حزناً وألماً على ما أصابهم وأصاب عائلاتهم. وهناك المئات من الأسرى قد استقبلوا عشرات الأعياد بين جدران السجن، ومنهم من احتفل بالعيد مع أبنائه خلف القضبان، ومن بين الأسرى من فقدوا أحبة لهم وهم في السجن، وتبخر الأمل في الاحتفاء بالعيد مع آبائهم وأمهاتهم وأعزاء على قلوبهم الذين غادروا دنيانا للأبد.

والعيد مناسبة لا تقل ألماً بالنسبة لذوي الأسرى وأفراد أسرهم، حيث تعيش العائلات لحظات من الألم والوجع بسبب غياب الأحبة، وهو ما يجعل العائلة تفقد مشاعر الفرح جراء سجنهم، فتضطر لاستحضار ذكرياتهم، ويدفع الأفراد للمطالبة بأن يُسمح لهم بالتوافد إلى بوابات السجون للزيارة ولقاء الأحبة ولو لدقائق معدودة. خاصة وأن الزيارات غير منتظمة، وآلاف من الأهالي ممنوعين من الزيارة تحت ذرائع وحجج مختلفة.

ويحل عيد الأضحى هذا العام وأوضاع الأسرى وظروف احتجازهم، تزداد قسوة، خاصة بعد قدوم الحكومة الإسرائيلية اليمينية المتطرفة وتسلم المتطرف “بن غافير” وزارة الأمن، الأمر الذي أدى إلى تدهور الأوضاع وسوء المعاملة واتساع حجم الانتهاكات والجرائم الإسرائيلية.

وفي غمرة الفرحة بالعيد، ندعوكم للإكثار من الدعاء للأسرى، والمبادرة في زيارة أسرهم والسعي للتخفيف من آلامهم ومعاناتهم. وتذكروا أن هناك قرابة (5000) أسير، يقبعون في سجون الاحتلال، ولكل واحد من هؤلاء قصة وحكاية، وأن من بينهم (30) أسيرة، و(160) طفلا، وأكثر من (1000) معتقل إداري، ونحو (700) أسير/ة يعانون أمراضاً مختلفة، بينهم عشرات من ذوي الاحتياجات الخاصة ومرضى السرطان و كبار السن.

وتذكروا أيضا أن من بين الأسرى يوجد نحو (430) أسيراً معتقلين منذ ما يزيد عن 20عاماً في سجون الاحتلال على التوالي، وهذا الرقم مرشح دوماً للارتفاع، أقدمهم الأسير محمد الطوس “ابا شادي” المعتقل منذ عام 1985. بالإضافة إلى عشرات آخرين كانوا تحرروا في صفقة وفاء الأحرار (شاليط) عام2011، وأعيد اعتقالهم عام 2014، وأبرزهم الأسير نائل البرغوثي الذي أمضى أكثر من 42 سنة على فترتين ولا يزال في السحن؛ وهؤلاء قضوا في السجن عشرات الأعياد، ما بين فطر وأضحى.

وفي الختام، لابد وأن نُسجل جُل احترامنا وتقديرنا للمملكة العربية السعودية، التي منحت المئات من أهالي الأسرى الفرصة في أداء فريضة الحج لهذا العام، ضمن مكرم خادم الحرمين الشريفين، التي شملت (1000) حاج من ذوي الشهداء والأسرى الفلسطينيين، وزعت مناصفة فيما بينهم، الأمر الذي بعث بالسعادة في نفوس الأسرى وعائلاتهم وخفف من معاناتهم. كما ونُسجل أيضاً شكرنا وتقديرنا العظيم لكل من ساهم في إنجاح ذلك.

نسأل الله عز وجل أن يفرج الله كربهم، وأن يفك أسرهم جميعاً ويعيدهم إلى أهلهم سالمين غانمين. وَيَقُولُونَ مَتَىٰ هُوَ قُلْ عَسَىٰ أَنْ يَكُونَ قَرِيبًا.

أقرأ أيضًا: العمال هم وقود الثورة وعماد الحركة الأسيرة

كيف يؤثر الاعتقال في المجتمع الفلسطيني بأسره؟

أقلام – مصدر الإخبارية

كيف يؤثر الاعتقال في المجتمع الفلسطيني بأسره؟، بقلم الكاتب الفلسطيني عبد الناصر فروانة، وفيما يلي نص المقال كاملًا كما وصل موقعنا:

كثيرون من الناس يظنون أن معاناة السجن وتأثير الاعتقال يقتصران على الأسير نفسه؛ فتجدهم يتضامنون مع الأسرى في سجون الاحتلال الإسرائيلي ويساندونهم ويدعمونهم، ولا يلتفتون إلى مَنْ يعانون جراء الاعتقال من دون أن يكونوا أسرى.

على الصعيد الشخصي، عشت تجربة أسرية مريرة مع الاعتقال والسجن على مدار أعوام طويلة، وقرأت حكايات وتجارب كثيرة وثقتها أقلام المعتقلين، وتناقلتها ألسن المحررين، واستمعت إلى قصص أُخرى من المعاناة روتها أسر وعائلات فلسطينية تعرّض واحد من أفرادها أو أكثر للاعتقال، واطلعت على بعض مما كتبه الباحثون والمختصون، فأدركت أن الأسرى والمعتقلين الفلسطينيين ليسوا وحدهم ضحايا الاعتقال، بل أيضاً أسرهم وعائلاتهم هم ضحايا مثلهم، وأن آثار السجن والاعتقال تمتد إلى خارج الأسوار فتشمل الدوائر الاجتماعية، وتطال الأسرة والعائلة، وتمتد إلى الجيران والأصدقاء وزملاء العمل، وتصل إلى العاملين في مجال الدفاع عن القضية، فتسبب لهم الكثير من المشكلات الاجتماعية والصحية والنفسية والاقتصادية، وتلحق الأذى والضرر، وأحياناً الخراب والدمار، بالفرد والجماعة والمؤسسة، وتعيق تطور الإنسان والمجتمع الفلسطيني.

الأسرى والمعتقلين الفلسطينيين ليسوا وحدهم ضحايا الاعتقال، بل أيضاً أسرهم وعائلاتهم هم ضحايا مثلهم، وأن آثار السجن والاعتقال تمتد إلى خارج الأسوار فتشمل الدوائر الاجتماعية، وتطال الأسرة والعائلة، وتمتد إلى الجيران والأصدقاء وزملاء العمل، وتصل إلى العاملين في مجال الدفاع عن القضية

فدولة الاحتلال الإسرائيلي، منذ قيامها سنة 1948، تعد الأمن أساس وجودها، وتؤمن أيضًا بأن الأمن كفيل بديمومة احتلالها للأراضي الفلسطينية – على حد زعمها – وقد خيم على عقول قادتها أن التخلص من الآخر، أو على الأقل ردعه واعتقاله وسلب حريته، هو الوسيلة الأفضل والأكثر ضمانة لتحقيق أمنها، والحفاظ على وجودها، واستمرار احتلالها للأراضي الفلسطينية والعربية، من دون أن تولي – في تطبيقها لنظريتها الأمنية – أي اهتمام لكرامة الإنسان الفلسطيني وحقوقه.

وفي سياق تحقيقها ذلك المراد، اعتمدت الاعتقال نهجًا منظمًا، وممارسة مؤسساتية، ووسيلة للقمع والقهر وبث الرعب والخوف في نفوس الفلسطينيين، بهدف كبح إرادتهم، وتدمير العقيدة، أو القضية، التي تحفز الفلسطيني وتدفعه إلى الكفاح والمقاومة في إطار سياسة ثابتة، ولا سيما بعد احتلالها بقية الأراضي الفلسطينية في 5 حزيران/ يونيو 1967، حتى أضحت الاعتقالات جزءًا أساسيًا لا يتجزأ من فلسفة الاحتلال، وسلوكه اليومي في التعامل مع الفلسطينيين، ومنهجيته للسيطرة على الشعب الفلسطيني.

لا بد من تبيان ما يعانيه الأب جراء الشعور بالضعف والعجز الذي ينتابه حين اعتقال طفله أو طفلته القاصر، كذلك الرجل والشخص البالغ الراشد حين اعتقال الأب والأم، أو الأخت والزوجة، وما يشاهده الصغار والكبار من إهانة وإذلال لحظة الاعتقال، وما يتعرضون له من صدمات، وما يسمعون عن حدوثه في أروقة التحقيق وبين جدران السجون من تعذيب وسوء المعاملة، فيتأثر الجميع، بدرجات متفاوتة

ومن خلال ما نرى ونسمع، أو ما نتابع ونوثق، أصبحت الاعتقالات “الإسرائيلية” جزءًا من الحياة اليومية للفلسطينيين، والسيرة الذاتية لكل فلسطيني، فلا يمر يوم واحد إلاّ وتسجَّل فيه اعتقالات تطال فئات المجتمع الفلسطيني وشرائحه كافة، ذكورًا وإناثًا، صغارًا وكبارًا، ويزداد قلق الأهالي في حال اعتقال الأطفال والفتيات القُصّر، أو الأمهات والآباء كبار السن والمرضى.

وفي هذا السياق، لا بد من تبيان ما يعانيه الأب جراء الشعور بالضعف والعجز الذي ينتابه حين اعتقال طفله أو طفلته القاصر، كذلك الرجل والشخص البالغ الراشد حين اعتقال الأب والأم، أو الأخت والزوجة، وما يشاهده الصغار والكبار من إهانة وإذلال لحظة الاعتقال، وما يتعرضون له من صدمات، وما يسمعون عن حدوثه في أروقة التحقيق وبين جدران السجون من تعذيب وسوء المعاملة، فيتأثر الجميع، بدرجات متفاوتة، وقد يؤثر ذلك لاحقًا في العلاقات الأسرية من ناحية، وقد يخدش أيضًا طبيعة الصورة النمطية للأب وشكلها في ذهن أطفاله.

عقاب جماعي وإجراءات انتقامية بحق أهالي الأسرى

لقد رأت سلطات الاحتلال أن جسد الأسير المعذَّب في حالته الفردية يمتد إلى الجسد الفلسطيني العام، لذا كثيرًا ما لجأت إلى معاقبة أهالي الأسرى والانتقام منهم، وتعمُّد اتخاذ إجراءات من شأنها أن تفاقم معاناتهم، وتزيد حالة القلق والاكتئاب لديهم، وتُلحق الضرر والأذى الجسدي والنفسي والمادي بهم، فتعتقل الأب والزوج، أو الأم والأخت والزوجة، للضغط على المعتقل، بالإضافة إلى سرقة أموال ومجوهرات، أحياناً، في أثناء المداهمات والاعتقالات، وهدم أو إغلاق وتدمير محتويات بيوت المعتقلين وتشريد عائلاتهم، ومنع أفراد أسرهم من السفر، ووضع العراقيل أمام حركتهم وتنقلهم عبر المعابر والحواجز المنتشرة، والملاحقة المستمرة لهم، وأحيانًا يفقدون فرص العمل، أو المقدرة على مواصلة التعليم والعلاج، وعدم انتظام زيارات الأهالي وإلغائها أحيانًا تحت ذرائع متعددة، من دون توفير آليات بديلة أو السماح باللجوء إلى الوسائل الحديثة للتواصل الإنساني في الأعياد والمناسبات، فهناك آلاف من ذوي القرابة الأولى محرومون من رؤية أحبتهم بحجج واهية، وغالبًا ما يكون بذريعة “المنع الأمني”، الأمر الذي يمثل معاناة مركبة تثقل كاهل الأسرى وأقاربهم في آن، وتشكل ضربة نفسية قاسية لكلا الطرفين، كما تشكل الزيارة، لمن يُسمح لهم بذلك، رحلة شاقة من المعاناة، نظرًا إلى بُعد مواقع السجون الإسرائيلية وأماكن الاحتجاز عن مكان إقامة الأهالي، وما يتخللها من إجراءات تعسفية وأحياناً اعتداءات جسدية ولفظية.

وخلال السنوات الأخيرة، صعّدت سلطات الاحتلال من سياسة “الحبس المنزلي”، التي حولّت مئات البيوت الفلسطينية إلى سجون، وجعلت أفراد العائلة، وتحديدًا في القدس، سجانين ومراقبين على أطفالهم الذين يضطرون إلى منعهم من مغادرة البيت لأي سبب كان تنفيذًا لقرار المحاكم “الإسرائيلية”، الأمر الذي يفاقم معاناة الأسرة، ويحدث خللًا في طبيعة العلاقة بين الطفل وأهله، ويخلق العديد من المشكلات النفسية والاجتماعية لدى الطرفين.

علاوة على هذا، لجأت سلطات الاحتلال إلى فرض غرامات مالية باهظة بحق بعض المعتقلين، وخصوصًا الأطفال، بل نكاد نجزم هنا بأن جميع الأحكام التي صدرت بحق الأطفال تكون مقرونة بفرض غرامة مالية، وهو ما يشكل عبئًا اقتصاديًا على الأهل الذين يضطرون إلى دفعها، ولا سيما إذا ما تعلق الأمر بالأطفال، حرصاً على أبنائهم القُصّر، وتجنباً لاستمرار بقائهم في السجن.

اعتقال الأب أو الأم أو كليهما

وتشير التقديرات إلى أن أكثر من ثلث الأسرى الفلسطينيين في سجون الاحتلال هم من المتزوجين، وهذا يؤثر بدوره في واقع أفراد الأسرة ومستقبلهم وطبيعة العلاقات الأسرية، ويضع زوجة الأسير أمام تحديات إضافية، فتضطر إلى أن تقوم بدور الأب والأم معًا، ولا شك في أن سنوات الأسر الطويلة تؤثر سلبًا، بدرجات متفاوتة، في طبيعة العلاقات الأسرية، بين الزوج والزوجة، أو بين الأبناء والأب، وخصوصًا إذا ما امتدت فترة السجن لسنوات وعقود، أو توقفت زيارات الأهالي، واستمر منع الأطفال، تحديدًا، من زيارة آبائهم لفترات طويلة.

وروى لي أسير من غزة (ن.ح) أنه خرج ذات مرة إلى زيارة الأهل بعد انقطاع استمر لأكثر من 6 أعوام، ودخل غرفة الزيارات، وجلس على المقعد بانتظار زوجته ومن سُمح لهم من الأبناء، فإذ بطفلة بعمر (14 عامًا) تسبق الكل وتجلس أمامه في الجهة المقابلة؛ فلم يتعرف عليها، ووجّه إليها سؤالًا صادمًا: “إنت بنت مين يا عمو علشان أتعرف عليك؟” هذا المشهد تكرر مع كثيرين من الأسرى القدامى.

لعل الخطورة تكمن أيضًا في ذاك التلازم الخطر بين الاعتقال والتعذيب، إذ تؤكد جميع الشهادات أن كل من مرّ بتجربة الاعتقال، من الفلسطينيين، كان قد تعرّض للتعذيب الجسدي أو النفسي والإيذاء المعنوي والمعاملة القاسية

وفي مرات متكررة ترى الأم هي الأسيرة، وفي حالات أُخرى تجد الأب والأم بين جدران السجون، فتزداد معاناة الأبناء وجعًا، ويتسع الاختلال في نظام العائلة، فلا يمكن للأسرة أن تؤدي جميع وظائفها بصورة طبيعية في حالة اعتقال الأب أو الأم أو كليهما.

وهنا لا بد من الإشارة إلى عذاب “الاعتقال الإداري” الذي لا يقتصر على الأسير فحسب، بل يطال أفراد عائلته أيضًا، حيث الترقب والانتظار، ثم صدمة تمديد فترة الاعتقال من دون تهمة أو محاكمة. وحتى إن أُفرج عن المعتقل، وقُدّر له أن ينعم بالحرية النسبية، فتجده يعيش بقلق وترقب وانتظار موعد الاعتقال المقبل.

إرهاب الجيران واعتقال الأصدقاء

إن الاعتقال من البيت ليلًا هو الأكثر شيوعًا بين أشكال الاعتقال، حيث المداهمات لقوات كبيرة من جنود الاحتلال المدججين بالسلاح، واقتحام البيوت، وخلق أجواء من الرهبة والخوف والرعب، لا لدى الشخص المراد اعتقاله أو في نفوس أفراد الأسرة فحسب، بل أيضًا في أوساط الجيران، الأمر الذي قد يؤدي إلى إصابة بعض الأطفال بصدمات نفسية. وفي أحيان كثيرة جرى اعتقال أفراد من الجيران والأصدقاء للحصول على معلومات تتعلق بالشخص المستهدف.

تلازم بين الاعتقال والتعذيب

ولعل الخطورة تكمن أيضًا في ذاك التلازم الخطر بين الاعتقال والتعذيب، إذ تؤكد جميع الشهادات أن كل من مرّ بتجربة الاعتقال، من الفلسطينيين، كان قد تعرّض للتعذيب الجسدي أو النفسي والإيذاء المعنوي والمعاملة القاسية، كذلك تؤكد الوقائع أن سلطات الاحتلال تلجأ إلى الاعتقالات بمعزل تام عن قواعد القانون الدولي الإنساني، والقانون الدولي لحقوق الإنسان، وتصر دومًا على معاملتهم وفقًا لقوانينها الجائرة، وإجراءاتها العسكرية والأمنية، ورؤيتها السياسية، بعيدًا عن الاتفاقيات والمواثيق الدولية، الأمر الذي ينعكس سلبًا على ظروف احتجازهم وطريقة معاملتهم.

الاعتقال وتأثيره في المؤسسات الفلسطينية

إن الأغلبية العظمى من المؤسسات الفلسطينية الحكومية والأهلية، التعليمية والصحية والدينية والثقافية والإعلامية والحقوقية والأكاديمية.. إلخ، تأثرت سلبًا، وبنسب متفاوتة، جراء اقتحامها والعبث بمحتوياتها بذريعة عمليات البحث والاعتقال، أو بسبب غياب كادرها وموظفيها بفعل السجن.

كما أن ضخامة عدد المعتقلين الفلسطينيين، وما يلحق بهم وبأسرهم من دمار وأضرار متعددة، واحتجاز بعضهم لعشرات السنين، يلقي أعباء كثيرة ومسؤولية كبيرة جدًا على السلطة الوطنية الفلسطينية وهيئة شؤون الأسرى والمحررين باعتبارها المؤسسة الرسمية والحاضنة الأساسية، وكذلك على المجتمع الفلسطيني، بمختلف فصائله الوطنية والإسلامية ومؤسساته المجتمعية، من حيث متابعة أوضاعهم وملفاتهم المتعددة، والقيام بالواجب الوطني والديني والإنساني تجاههم وتجاه أسرهم، واحتضان المحررين منهم، وتقديم كل أشكال الدعم لهم ولعائلاتهم، وضمان توفير مستوى لائق من الحياة الكريمة، وهذه بالمناسبة ليست مسؤولية المجتمع الفلسطيني فحسب، بل أيضاً مسؤولية وطنية وقومية ودولية، باعتبارهم مناضلين من أجل الحرية، وضحايا للاحتلال والإرهاب “الإسرائيلي”.

وفي السياق ذاته، فإن الاعتقال لم يقتصر على الفلسطينيين الأحياء، بل شمل الشهداء منهم، فقد جعلت دولة الاحتلال من مقابر الأرقام وثلاجات الموتى سجونًا للفلسطينيين بعد موتهم بهدف الانتقام منهم ومعاقبة ذويهم وإيلامهم، والسعي لردع الأحياء من بعدهم، في واحدة من أبشع الجرائم التي تقترفها علانية، ولا تزال سلطات الاحتلال تحجز أكثر من 370 جثمانًا لشهداء فلسطينيين وعرب، بعضهم مضى على احتجازه سنوات طويلة، بينهم 11 جثمانًا لفلسطينيين استشهدوا داخل السجون “الإسرائيلية”.

في الختام، وعلى الرغم مما ذكرناه أعلاه – وهذا غيض من فيض-فإن الاعتقال وما يترتب عليه، كان سببًا في زيادة الكراهية للاحتلال، ونمو شعور الرغبة في الانتقام لدى كثيرين من الفلسطينيين، كذلك لم يكسر السجن إرادة الفلسطينيين الذين حافظوا على تمسكهم بانتمائهم الوطني وهويتهم الفلسطينية وتشبثهم بأرضهم وقضيتهم، ولن يوقف مسيرتهم الكفاحية في الدفاع عن حقوقهم وسعيهم لانتزاع حريتهم وتحقيق أهدافهم المشروعة، فكثيرون ممن مرّوا بتجربة الاعتقال يتفاخرون وهم يعددون عدد مرات اعتقالهم والسنوات التي أمضوها خلف القضبان وما حققوه خلال فترة سجنهم، كما أن العائلات الفلسطينية تتباهى هي الأُخرى بأبنائها ومسيرتهم النضالية، كامتداد طبيعي وجزء أصيل من المجتمع الفلسطيني الذي لا يزال، وسيبقى، يُقدّر عاليًا نضال الأسرى والمعتقلين وتضحياتهم، وما قدموه من أجل فلسطين وشعبها، ومساهماتهم الكبيرة ودورهم الفاعل في تعزيز الثقافة الوطنية والرواية الفلسطينية.

أقرأ أيضًا: العمال هم وقود الثورة وعماد الحركة الأسيرة

Exit mobile version