ماذا تعني عملية عسكرية إسرائيلية واسعة في الضفة الغربية؟!

أقلام – مصدر الإخبارية

ماذا تعني عملية عسكرية إسرائيلية واسعة في الضفة الغربية؟!، بقلم الكاتب الفلسطيني ساري عرابي، وفيما يلي نص المقال كاملًا كما وصل موقعنا:

يكثر الحديث الإسرائيلي منذ فترة عن احتمالات شنّ عملية عسكرية واسعة في الضفّة الغربية، وتحديدا في شمالها.

ينبغي التذكير، والحالة هذه، أنّ الاحتلال ما يزال في غمرة عمليته التي أطلقها منذ آذار/ مارس العام الماضي، أي منذ أكثر من عام وثلاثة شهور، وسمّاها “كاسر الأمواج”، في ذلك الشهر قُتل 11 إسرائيليّا، وأصيب 27 آخرون، بينما كان آخر العمليات التي نفّذها فلسطينيون في هذا الشهر حزيران/ يونيو 2023، إطلاق نار أنجزه مقاتلان من حركة حماس أفضى، بحسب الاعترافات الإسرائيلية، إلى مقتل 4 إسرائيليين وإصابة عدد آخر بجراح، في حين استشهد المنفّذان. وقد سبق ذلك كمين استهدف بعبوات متفجرة، اقتحاما إسرائيليّا لمخيم جنين أصيب فيه على الأقل 7 جنود إسرائيليين.

منذ إطلاق عملية “كاسر الأمواج” لا يبدو أنّ شيئا كثيرا قد تغيّر، فقد حصلت عدة عمليات نوعية في الأثناء، منها عملية عدي التميمي، وخيري علقم، وتمددت الحالة الكفاحية إلى مخيم عقبة جبر في أريحا، كما عاد الاحتلال لاستخدام القصف من الجوّ، سواء بالمروحيات كما الاشتباكات التي تلت كمين جنين أخيرا، أو في اغتيال ثلاثة مقاتلين فلسطينيين في شماليّ جنين بطائرة مسيّرة إسرائيلية هذا الشهر. ولم تخل الأحداث، خلال هذا الوقت الممتد، من عمليات حصار ضربت على نابلس وأريحا. وهكذا يمكن القول إنّ عملية “كاسر الأمواج”، قد فشلت بالفعل، حتى لو بدا أن ثمّة نجاحات في تفكيك الحالة التي عرفت في نابلس باسم “عرين الأسود”، فهو أمر متوقع لجملة أسباب، منها أسباب فلسطينية داخلية.

عملية “كاسر الأمواج” لم تنجح في كسر أمواج المقاومة، وإن نجحت في التعبير عن طبيعة الحالة المقاومة، من كونها أمواجا متتابعة، وهذه الأمواج تتسم بالتحوّل والتكيّف وقدر من الثبات النسبي في التتابع، فهل يعني ذلك أن العدوّ ذاهب نحو عملية واسعة؟!

كذلك هو متوقع، بالنظر إلى طبيعة الصراع، والتفوّق الأمني الإسرائيلي، وما سمّيناه في مقالات سابقة ووصفناه بأنه “حالة هجينة”، من حيث تصاعد المقاومة، وفي الوقت نفسه، وجود قدر ظاهر من الاغتراب الاجتماعي، ناجم عن الظرف الفلسطيني الخاصّ بالضفة الغربية، وتعلّقاته السياسية والاقتصادية والإدارية، ممّا يقتضي تحوّلات بالانتقال بالظرف المقاوم إلى نمط أرقى، يتجاوز الحالة ذات الطابع الاستعراضي السابق، وهو ما يبدو أنّ السعي إليه حاصل في مسابقة قاسية مع العدوّ، الذي بات يضاعف أخيرا من عمليات الاعتقال والمداهمات، التي تتركز تجاه فصائل المقاومة تحديدا، في انعكاس لما يدور في الخفاء، والذي كان من صوره كما ذكرت مصادر إعلامية، اعتقال عناصر لحركة حماس في الأردن، بتهمة تهريب السلاح إلى الضفّة الغربية.

هذه الصورة في المجمل، تعني أنّ عملية “كاسر الأمواج” لم تنجح في كسر أمواج المقاومة، وإن نجحت في التعبير عن طبيعة الحالة المقاومة، من كونها أمواجا متتابعة، وهذه الأمواج تتسم بالتحوّل والتكيّف وقدر من الثبات النسبي في التتابع، فهل يعني ذلك أن العدوّ ذاهب نحو عملية واسعة؟!

حين الحديث عن عملية واسعة، ينبغي السؤال عن ماهية السعة في هذه العملية. يجري الحديث، حتى في أوساط إسرائيلية، عن عملية على غرار “عملية السور الواقي” التي دفع بها شارون نحو المناطق (أ) في الضفة الغربية، آخر آذار/ مارس 2002. هذه الدعوة لاستنساخ “السور الواقي” سخر منها وزير الحرب الإسرائيلي السابق غانتس بقوله: “هذا ما يدعو له أناس لا يفهمون ما يعني تنفيذ مثل هذه العملية، لا يعرفون ما هي ظروف المنطقة، إنهم فقط يطلقون مجرد كلمات”، في الوقت نفسه كان غانتس يقرّ بأنّ أكثر من نصف جيش الاحتلال موجود بالفعل في الضفّة الغربية.

ليس ثمّة معنى إذن، بحسب غانتس، للحديث عن عملية “سور واقي” ثانية، جوهريّا، لأنّ عملية “السور الواقي” الأولى استهدفت الإلغاء الفعلي لمناطق (أ). ليس ثمّة حرمة، منذ العام 2002، لهذه المناطق التي بات يدخلها الاحتلال الإسرائيلي متى أراد. صحيح أنّ قوات الاحتلال تواجه بالمقاومة الشعبية حين الاقتحام، وبإطلاق النار في بعض المناطق، وبات دخول مخيم جنين أصعب من ذي قبل، لكنّ تصدّي القوات الفلسطينية الرسمية لهذه الاقتحامات لم يعد قائما، بخلاف ما كان عليه الحال في انتفاضة الأقصى، مما يعني أن شارون أراد حينها تحييد السلطة الفلسطينية عن حالة المقاومة التي كانت قائمة وقتها.

عملية “السور الواقي” الأولى استهدفت الإلغاء الفعلي لمناطق (أ). ليس ثمّة حرمة، منذ العام 2002، لهذه المناطق التي بات يدخلها الاحتلال الإسرائيلي متى أراد. صحيح أنّ قوات الاحتلال تواجه بالمقاومة الشعبية حين الاقتحام، وبإطلاق النار في بعض المناطق، وبات دخول مخيم جنين أصعب من ذي قبل، لكنّ تصدّي القوات الفلسطينية الرسمية لهذه الاقتحامات لم يعد قائما، بخلاف ما كان عليه الحال في انتفاضة الأقصى

يمكن الحديث إذن عن ثلاثة اختلافات جوهرية، وهي الإلغاء الفعلي لمناطق (أ)، واختلاف موقع السلطة من حالة المقاومة بالنسبة لما كانت عليه في انتفاضة الأقصى، وتركّز حالة المقاومة الأكثر إرباكا للاحتلال في مناطق محدّدة في شمال الضفّة الغربية، مما يعني أنّها أقل انتشارا ممّا كانت عليه في الانتفاضة الثانية، ومن ثمّ، وفي حين أنه بالنسبة لانعدام الحرمة لمناطق (أ) لا معنى لعملية “سور واقي” ثانية، فإنّ التوسيع العنيف للعمليات القائمة، قد يهدّد موقف السلطة الفلسطينية من جهة، وقد يؤدّي لانفراط في الوضع القائم من شأنه أن يأتي بالضدّ على أهداف العملية العسكرية الإسرائيلية، وذلك بتوسّع حالة المقاومة، واندماج أوساط أوسع من الجماهير فيها.

سياسيّا، تبنّى نتنياهو ما سمّاه “السلام الاقتصادي”، وأوساط أخرى سياسية وأمنية وأكاديمية، تبنّت خطّة أخرى أُطلق عليها “تقليص الصراع”. هذه التصوّرات كلّها تهتمّ بعزل الجماهير الفلسطينية تماما عن أيّ حالة مقاومة، وإشغالها بالهمّ الاقتصادي، وتجريدها من الشعور بثقل الاحتلال. ومن ثمّ فإنّ أيّ توسّع في العمليات العسكرية الإسرائيلية من شأنه أن يزعزع هذه السياسات التي تستهدف عمق المجتمع الفلسطيني في وعيه وفي إرادته، بالتركيز على البنية التحتية الاقتصادية والاجتماعية، فبالضرورة كان كلّ تجاوز نسبيّ لهذه السياسات، بالحصار الذي ضرب على بعض المدن، أو بتوسيع الاقتحامات، أو بالاغتيال من الجوّ، يعني وجود تحدّ أمنيّ مزعج للاحتلال الإسرائيلي.

التعامل الإجرائي، في حدود موضعية، هو الخيار الذي سيظلّ مفضّلاً في الأفق المنظور لدى المستويات الأمنية والعسكرية والسياسية الإسرائيلية، بالرغم من دفع أحزاب الصهيونية الدينية نحو إجراءات أكثر سعة، بيد أنّ القرار الحقيقي في قضايا من هذا القبيل بيد المؤسسة العسكرية والأمنيةإذن، فإنّ أيّ عملية عسكرية واسعة لن تكون على غرار عملية “السور الواقي”، وما يدور بالنسبة للأوساط الأمنية والعسكرية الإسرائيلية، هو اقتحام واسع لمدينة جنين، يطول حتى 48 ساعة، في عدد من المحاور والمواقع في وقت واحد. هذا الاقتراح الأمني تفيد المصادر الإسرائيلية أنّ نتنياهو ووزير حربه غالنت قد رفضاه، وإن كان هذا الرفض قد يتغيّر نحو القبول بحسب الأحداث المحتملة، على الصعيد الأمني.

التعامل الإجرائي، في حدود موضعية، هو الخيار الذي سيظلّ مفضّلاً في الأفق المنظور لدى المستويات الأمنية والعسكرية والسياسية الإسرائيلية، بالرغم من دفع أحزاب الصهيونية الدينية نحو إجراءات أكثر سعة، بيد أنّ القرار الحقيقي في قضايا من هذا القبيل بيد المؤسسة العسكرية والأمنية.

هذا التعامل حين توسيعه، سيكون مجرّد زيادة على ما هو قائم، إذ في الضفة الغربية 25 كتيبة عاملة للجيش الإسرائيلي. فكما أنّ الاحتلال، ضرب الحصار على بعض المناطق في أوقات سابقة، وقصف من الجوّ، وأفضت سياسات الاقتحام السابقة له عن ارتقاء أعداد كبيرة من الشهداء في اليوم الواحد، فإنّه لن يمتنع في حال اضطراره عن توسيع هذه الإجراءات، ولكن في حدود موضعية ومؤقتة كما هو مذكور، في حدود ما أمكنه التحكّم في سير العملية، وبالقدر الذي يضمن له عزل المناطق الأخرى عن حالة المقاومة. وأمّا أحزاب الصهيونية الدينية، فقد يرضيها بإطلاق المستوطنين على قرى الفلسطينيين كما حصل أخيرا، وهو تحدّ آخر ينبغي أن يستعد له الفلسطينيون جيدًا.

أقرأ أيضًا: الاتفاق السعودي الإيراني.. ما هي مشكلة هذه المنطقة؟!

خضر عدنان.. في التشبث بالمعنى حتى آخر نفس!

أقلام – مصدر الإخبارية

خضر عدنان.. في التشبث بالمعنى حتى آخر نفس!، بقلم الكاتب الفلسطيني ساري عرابي، وفيما يلي نص المقال كاملًا كما وصل موقعنا:

الشهيد السابع والثلاثون بعد المئتين، من شهداء الحركة الأسيرة، منذ حزيران/ يونيو 1967، هو الشيخ خضر عدنان، الذي ارتقى في إضراب عن الطعام في الثاني من أيار/ مايو 2023. الشهيد هنا ليس رقماً، ولكنّ للرقم دلالة. بهذا الاعتبار، سيكون ثمّة دلالات أخرى لأرقام أخرى، منها أنّه الشهيد الخامس في إضراب عن الطعام منذ العام 1980، وآخر الشهداء المضربين عن الطعام في سجون الاحتلال كان في العام 1992، كذلك هو الشهيد الخامس والستون ممن ارتقوا في ظرف من الإهمال الطبي منذ نيسان/ أبريل 1968، والشهيد السابق بالإهمال الطبي كان في كانون الأول/ ديسمبر 2022، وليس أخيراً، فهذا الإضراب الرابع في التاريخ الشخصي للشيخ خضر عدنان، والذي طال حتى 86 يوماً، وبهذا يكون الشيخ خضر عدنان أوّل شهداء الإضرابات الفردية، فالذين سبقوه ارتقوا في إضرابات جماعية.

الدلالات تتحدث عن الاستمرار التاريخي لنضال الحركة الأسيرة، في مقابل سياسة استعمارية ثابتة، تهدف إلى تحطيم الحالة النضالية، واستنزاف كوادرها وتغييبهم بالاعتقال المستمرّ، وتحويل السجون، لا إلى أدوات قهر وعقاب فقط، بل إلى أدوات تدمير ممنهج؛ للحركة الوطنية والمجتمع الفلسطيني والكوادر التي تستهدف بالاعتقال المركّز.

يقابل ذلك بالضرورة بمعاندة نضالية من الحركة الأسيرة نفسها، التي لا تهدف بنضالها إلى تحسين شروط الاعتقال فحسب، للكسر من سياسات القهر، ولكنّها أيضاً تناضل ضدّ الانكسار، ضدّ الانكسار العامّ، وضدّ الانكسار الفردي، وضدّ انكسار المشروع الذي بالضرورة سيظلّ يحارب بالاعتقال.

يتحوّل المقاتل، المناضل، الكادر التنظيمي، إلى أسير، وبينما يسعى الاحتلال، بالأسر، إلى تجريده ممّا كان عليه قبل أسره، ويسعى بذلك إلى تحطيم الإرادة النضالية من خلفه، فإنّ هذا الأسير، يقاتل بعد اعتقاله ليبقى مقاتلاً ومناضلاً وكادراً تنظيميّاً، حماية لروحه التي تجسّدت في المعنى الذي كان ولا بدّ سيدخل به التجربة الاعتقالية. سيكون الاعتقال، والحالة هذه، اختباراً لصدق الإيمان بذلك المعنى، ثمّ عزيمة الاحتفاظ بذلك الإيمان، بنحو ما؛ يدافع الأسير هنا عن حياته، ولو بالأداة التي تدفع به نحو تخوم الموت/ الشهادة، أي بالإضراب عن الطعام، لأنّ الحياة بهذا الاعتبار ليست زمن البقاء الدنيوي، وإنما المعنى المقصود حين البقاء الدنيوي. المعنى للآلاف، ممن انسلكوا في المسيرة النضالية، هو النضال بتمثّلاته وتجلّياته، والمعنى من هذه الجهة هو فرديّ صرف، يعيه الأسير وعياً ضمنيّاً لا يحتاج تحفيزاً لاستظهاره، كما لا يحتاج أصلاً لتعبئة لاكتشافه أو اصطناعه، فهو موجود، ولأجله يقاتل هذا الأسير.

حينما يقاتل الأسير، الفرد، ليحافظ على صفته قبل اعتقاله، مقاتلاً ومناضلاً وكادراً تنظيميّاً، هو يدافع إذن عن حياته، من حيث التشبّث بمعناها. ليس القصد هنا حصراً في الإضراب الفردي، فالنضالات الجماعية، وأشكال التنظيم والتأطير للوجود الجماعي داخل السجون، هو انتظام لهذا الوعي الفرديّ، كذلك فالوعي بالحقيقة الاستعمارية الصهيونية هو وعي فرديّ ابتداء، يعانيه الفلسطيني مباشرة، ليكون الانتظام في الجماعة وسيلة التحقّق الذاتي لهذا الوعي الفرديّ، والإجابة العملية عن سؤال الواجب، لتصير الجماعة في المقابل واحدة من ضمانات تعزيز الوعي الفرديّ وتجديده، وهو ما ينتقل إلى داخل المعتقل، في هذا النمط المتداخل من حاجة الفرد للجماعة، وانتظام الجماعة من الأفراد، لتنعكس صورة من الخارج إلى داخل المعتقل بفرض نمط من الحضور المنظّم، الذي لا يهدف فقط إلى تأطير الحياة الاعتقالية بأقلّ قدر من المشكلات التي لا بدّ وأن تنجم عن تناقضات طبيعية بين الناس، ولكن أيضاً إلى استمرار صورة في الداخل عمّا في الخارج، فتفكيك الجماعة إرادة استعمارية، والاحتفاظ بها فلسطينيّاً في كلّ مكان إرادة نضال مقابلة.

قد يكون لافتاً أن العديد من أعمال المقاومة المؤثّرة، في السنوات الأخيرة خارج السجن، كانت فردية، أو بتعبير أدقّ بدوافع ذاتيّة، في حين أنّه قد ظهر عدد من المناضلين في المعتقلات، الذين بادروا إلى الإضراب الفردي عن الطعام، في محاولة منهم لكسر استهدافهم المكثّف والمركّز بالاعتقال، أو لوضع حدّ لاعتقالهم الإداري

تأتي الإضرابات الفردية عن الطعام في السنوات الأخيرة، دالّة بدورها، على استمرار صور الصراع، والتحوّلات النضالية أثناءه، ومن ذلك الزيادة في الحضور للنضال المقترب من الطبيعة الفردية الصرفة. قد يكون لافتاً أن العديد من أعمال المقاومة المؤثّرة، في السنوات الأخيرة خارج السجن، كانت فردية، أو بتعبير أدقّ بدوافع ذاتيّة، في حين أنّه قد ظهر عدد من المناضلين في المعتقلات، الذين بادروا إلى الإضراب الفردي عن الطعام، في محاولة منهم لكسر استهدافهم المكثّف والمركّز بالاعتقال، أو لوضع حدّ لاعتقالهم الإداري.

لم تكن الإضرابات الفردية بديلاً عن الإضرابات الجماعية. خاض المعتقلون الإداريون عدداً من الإضرابات الجماعية في محاولة لإنهاء أو تحجيم، هذه السياسة الاعتقالية التي تستهدف بالدرجة الأولى الكوادر الأكثر فاعلية وحضوراً، أو الأقدر على خلق التحولات، كما خاضت الحركة الأسيرة في عمومها إضرابات جماعية كثيرة، كانت تتأهّب لخوض واحدة منها أخيراً. بيد أنه، وإزاء عدم القدرة على تنظيم الاعتقالات الجماعية على طول الوقت المفتوح، إذ هو أمر مستحيل من كلّ وجه، أخذ بعض المناضلين على عاتقهم زمام المبادرة، لكسر استهداف الاحتلال لهم، وهو الأمر الذي من ناحية أخرى، من شأنه أن يضيء على قضايا اعتقالية عامّة، كقضية الاعتقال الإداري، أو أن يعزّز الشارع بدوافع أخرى للحركة.

بالتأكيد، رافق الإضراب الفردي نقاشات ضرورية، حول الجدوى والصوابية، وتآكل الآثار المرجوّة من الإضراب، بيد أنّ هذه النقاشات لا يمكن أن تتّجه نحو القصدية، والبعد النضالي والتحرّري والأخلاقي لهذه الإضرابات، التي تحوّلت إلى مجلى للإرادة والعزيمة في مواجهة سياسات الاحتلال، وإلى تعويض في أوقات معينة عن ضعف الإمكانات والظروف الجماعية.

ينبغي أن يحيل ذلك إلى قضيتين أساسيتين؛ الأولى، متصلة باختبار الاعتقال، من حيث فحص صدقية الإيمان بالمعنى المستفاد من النضال، الذي يتحوّل لدى المناضل إلى الحياة ذاتها. الأسير الذي ينتزع حريته باستمرار، ثمّ يعود لدوره النضالي وكأنه لم يعتقل من قبل، أو كأنه لم يخض تجربة الجوع المرير لكسر إرادة المنظومة الاستعمارية برمّتها، هو المثال الأكثر وضوحاً على استمرار المثل والنموذج في الفلسطينيين، مثل الإيمان الكامل والصلب بذلك المعنى، وهذا ما مثّله خضر عدنان باقتدار، بإضراباته المتعدّدة، وعودته لمواقعه، وانحيازه للمواقع والميادين الصحيحة في ساحة الضفّة الغربية في عدد من المراحل والمحطّات والمواقف والأحداث، سواء في الاصطفافات الداخلية، أم في مواجهة العدوّ. ومن ثمّ فقد غيّبه العدوّ قصداً بقدر ما انتهى به إضرابه إلى الشهادة.

والثانية، متعلقة بالتداخل بين نضال الحركة الأسيرة، وحركة الشارع في الخارج. ظلّت هذه العلاقة تداخلية، تذكي الحركة الأسيرة روح الشارع، ويسند الشارع النضال المطلبيّ للحركة الأسيرة. مثلاً، آخر المواجهات الدامية، التي شهدتُها في مدينة رام الله، قبل أن تدخلها السلطة الفلسطينية، كانت إسناداً لإضراب للحركة الأسيرة، سُمّي في حينه “معركة الأمعاء الخاوية”، كانت المواجهات في ذلك العام، 1995، ملحمية بالفعل، ولمّا اعتقلت في الأثناء وشاهدت الجنود الجرحى في مقرّاتهم، فقط بفضل حجارة الشبان، أدركت حقيقة تلك البسالة التي منحت الحجر هذه الفاعلية في مواجهة كلّ ما أمكن للجندي الاحتماء به.

هذه المشهدية، وفي مثل هذا السياق، لم تتكرّر بعد ذلك. السبب واضح والإجابة واضحة، فسلطة في ظلّ الاحتلال، تصادر بالضرورة العديد من أدوات النضال الممكنة، هذا فضلاً عن أي سياسات مقصودة أم غير مقصودة، تذوّب دائماً إرادة النضال وممكناته عند الجماهير. والنقد الجدّي ينبغي أن يتركّز هنا وحسب.

الاتفاق السعودي الإيراني.. ما هي مشكلة هذه المنطقة؟!

أقلام – مصدر الإخبارية

الاتفاق السعودي الإيراني.. ما هي مشكلة هذه المنطقة؟!، بقلم الكاتب الفلسطيني ساري عرابي، وفيما يلي نص المقال كاملًا كما وصل موقعنا:

قيل الكثير، وسيُقال أكثر، عن الاتفاق السعودي الإيراني بوساطة صينية، وبالرغم من أنّ أكثر ما قيل لن يخلو من الوجاهة التفسيرية لهذا الحدث المهمّ، إلا أنّ قدراً من الغموض ما يزال يفرض نفسه، تحديداً بسبب غموض الموقف الأمريكي من الاتفاق المحمول على وساطة صينية تنفذ إلى الساحة الأمريكية الرئيسة في المنطقة المسماة “الشرق الأوسط”، ثمّ بعد ذلك، التباس الحدود التي تفتح المجال لهوامش التحرّك المنفرد في قضايا كبرى لدول ظلّت حدود مساحاتها الخاصّة في علاقاتها بالولايات المتحدة محلّ جدل تاريخيّ.

معرفة هذه المساحات، من حيث موقعها العضوي في بنى أنظمة تلك الدول، ثمّ ما طرأ عليها من تغيرات في السنوات الأخيرة، أمر ضروري لمحاولة تفسير تصرّفات تلك الدوّل. لكنّ هذا الغموض بدوره قد لا يكون أكثر من انعكاس لحقيقة التراجع الأمريكي، الداخلي الذي كان تجلّيه الأكبر بصعود الظاهرة الترامبية، والخارجيّ بارتباك اليد الأمريكية على خيوط اللعبة الدولية. هذا التراجع الخارجي، بالضرورة، سيعود بالسؤال عن الصين، لا من حيث كونها الدولة الأهمّ المؤهّلة لمزاحمة النفوذ الدولي للولايات المتحدة مستقبلاً، ولكن من حيث المصلحة الراهنة لها في إلقاء ثقلها، واستثمار علاقاتها القويّة مع البلدين، في هذا التوقيت بالذات.

هذا الغموض بدوره قد لا يكون أكثر من انعكاس لحقيقة التراجع الأمريكي، الداخلي الذي كان تجلّيه الأكبر بصعود الظاهرة الترامبية، والخارجيّ بارتباك اليد الأمريكية على خيوط اللعبة الدولية. هذا التراجع الخارجي، بالضرورة، سيعود بالسؤال عن الصين، لا من حيث كونها الدولة الأهمّ المؤهّلة لمزاحمة النفوذ الدولي للولايات المتحدة مستقبلاً، ولكن من حيث المصلحة الراهنة لها في إلقاء ثقلها، واستثمار علاقاتها القويّة مع البلدين، في هذا التوقيت بالذات

الانتباه إلى التوقيت عنصر مهمّ في تقدير الاحتمالات، ليس بالضرورة الراجحة فحسب، ولكن تلك التي تبقى قائمة مهما ضَعُفَ رجحانها، بما ينبغي أن يمنع من الغفلة عنها. فالصين التي لم تتخلّ بعد عن سياساتها الدولية الحذرة والمحافظة، ولم تزل تستند إلى العامل الاقتصادي في علاقاتها الدولية، ليست في وارد المزاحمة المبكرة للولايات المتحدة في مناطق نفوذها التاريخية والاستراتيجية، مما يعني أنّها كانت، بدفعها نحو هذا الاتفاق، مستعجلة لأجل حماية مصالحها الاقتصادية في الخليج، الذي تشتري منه أكثر من ثلث وارداتها النفطية، وترتبط مع دوله العربية، بتبادل تجاري يتجاوز 163 مليار دولار، فضلاً عن إيران التي يبلغ حجم تجارتها مع الصين 15 مليار دولار، مما يعني أن نشوب حرب في الخليج سيمثّل في جانب منه نوعاً من الحصار الاقتصادي للصين، وهو ما يبقي الظنّ قائماً بكون الصين كانت ترى خطراً محتملاً في الخليج من شأنه أن ينعكس بالضرر على صعودها الاقتصادي.

الاتفاق السعودي الإيراني.. ما هي مشكلة هذه المنطقة؟!

هذا الاتفاق من جهة أخرى يزيد مشكلة هذه المنطقة وضوحاً، إذ لا يمكن تفسير الاتفاق بكونه جزءاً من تصفير دول المنطقة لمشاكلها، كالمصالحات السعودية والقطرية والإماراتية والتركية، إذ كلّ المصالحات تنمّ عن تحوّلات مؤقّتة، تهدف إلى عبور لحظة تتسم بالغموض والقلق، ومن ثمّ يمكن النظر إلى آخر عشر سنوات، من التحوّلات في العلاقات البينية، بين دول المشرق العربي، وبين بعضها والدول الإقليمية، الأصيلة كتركيا وإيران أو الطارئة كـ”إسرائيل”، إذ ليس ثمّة ثوابت في هذه العلاقات إطلاقاً.

في المقابل، تتسم العلاقات الغربية البينية، دول أوروبا مثلاً فيما بينها أو علاقاتها بالولايات المتحدة، أو علاقة هذه المنظومة بحلفائها في شرق آسيا كاليابان وكوريا الجنوبية، أو علاقاتها بـ”إسرائيل”، بثبات واضح؛ بالتأكيد لا يلغي ما يمكن أن ينجم بالضرورة عن أي تدافع اجتماعي من تباينات وتناقضات تمكن إدارتها وتنظيمها، والتفاهم الضمني عليها، لكن هذا الأمر غير حاصل في هذه المنطقة بالقدر المعقول والآمن، فهل ثمّة تفسير سوى ثلاثة عوامل خارجية متضافرة، لا تنفكّ عنها العوامل الداخلية المتعلقة بالمنطقة وبكل دولة منها في ذاتها؟!

لا يمكن عزل هذه الحالة المزرية، من انعدام الثوابت في السياسات الخارجية بين دول المنطقة، عن كون المنطقة قد تشكّلت سياسيّاً أصلاً بفعل الاستعمار القديم، الذي هو دون العالمين، من يتمتع برؤية أكثر وضوحاً واستقراراً وثباتاً، ثمّ بعد ذلك، جاء الاستعمار الجديد بأقنعته الخاصّة، ممثلاً في الولايات المتحدة مستخدماً سياسات خلخلة الاستقرار ليبقى ضامن إدارة الأزمات فيها، وأخيراً هل ستكون “إسرائيل” شيئاً آخر سوى أهمّ أدوات الاستعمارين القديم المؤسّس لـ”إسرائيل” والمشكّل للمنطقة سياسيّاً، والجديد الراعي الأكبر لـ”إسرائيل” والضامن الأهمّ لوجودها، في الحيلولة دون صعود عربي إقليمي معتبر، وفي تدبير النزاعات المستمرّة فيها، وهو ما يتطلب بدوره أن تبقى “إسرائيل” الدولة الإقليمية الأكثر تطوّراً وتقدّماً والأحسن تسليحاً؟!

لا يمكن، والحالة هذه، السعي لتحقّق الذات العربية، أو لأيّ دولة عربية ثقيلة إقليميّاً ودوليّاً بالتعويل على هذا الاستعمار، أو بالتحالف مع “إسرائيل”، بل بالقطع مع ذلك كلّه، ودعم القضية الفلسطينية، أي أنّ العرب ليسوا فقط أولى من غيرهم بالقضية الفلسطينية، ولا أنّ ما تلقيه عليهم هذه القضية من واجب لا يمكن أن يسقط بالتقادم فحسب، بل إنّ مصلحتهم المباشرة، تتمثّل في استثمار هذه القضية بما لا يتناقض مع عدالتها وثوابتها التأسيسية

بالتأكيد ثمّة أسباب أخرى داخلية، في كل من الدول العربية الأكثر ثقلاً في المنطقة، حيث لا يكاد يُذكر منها اليوم سوى السعودية، بعد تحطيم كلّ من العراق وسوريا، وتراجع مصر المزري، وبين هذه الدول والدول الإقليمية الأخرى الأكثر أصالة، لكن القضية ليست بهذا التعقيد من حيث التصوّر الذهني، وإن كانت معقّدة بالفعل في الواقع العملي، فالخشية من التمدد الإقليمي الإيراني، وأنماط هذا التمدّد وأدواته، تحتاج بناء ذاتيّاً قادراً على المنافسة الإقليمية، المحمولة على أشكال من التعاون والصداقة مع الدول التي تقبل ذلك، والثقل الذي يكبح أيّ تمدّد يتسم بالعدوانية، وهذا لا يمكن دون تصفية العامل الذي يحول دون القدرة على البناء الذاتي، وخلق تكتل عربيّ، وإنشاء تصورات ثابتة للعلاقات الإقليمية، وهذا العامل المباشر هو “إسرائيل”، حيث إنّ معالجته الجذرية هي بوابة التخلص من هذا التاريخ الاستعماري الطويل والممتدّ حتى اللحظة.

إن كان الأمر كذلك، وهو كذلك بالفعل، من حيث حرص مستويات الاستعمار وتمثّلاته سالفة الذكر، على بقاء النزاع قائماً في المنطقة، وبما يمنع أيّ صعود عربيّ معتبر، ويضمن الديمومة للتفوّق الإسرائيلي، فإنه لا يمكن، والحالة هذه، السعي لتحقّق الذات العربية، أو لأيّ دولة عربية ثقيلة إقليميّاً ودوليّاً بالتعويل على هذا الاستعمار، أو بالتحالف مع “إسرائيل”، بل بالقطع مع ذلك كلّه، ودعم القضية الفلسطينية، أي أنّ العرب ليسوا فقط أولى من غيرهم بالقضية الفلسطينية، ولا أنّ ما تلقيه عليهم هذه القضية من واجب لا يمكن أن يسقط بالتقادم فحسب، بل إنّ مصلحتهم المباشرة، تتمثّل في استثمار هذه القضية بما لا يتناقض مع عدالتها وثوابتها التأسيسية.

ذلك بالنسبة للوعي الاستراتيجي، لحقيقة هذه المنطقة، التي سعى الاستعمار لجعلها تاريخيّاً منطقة عازلة من حول “إسرائيل”، ومن ثمّ استمرار تبعية المنطقة، وتأبيد الخوف والقلق فيها لمنع أيّ تلمّس عربي ذاتيّ لطريق خاصّة. وإذا كان من المبكّر للغاية، توقع أن هذا الوعي الاستراتيجي حاضر بإلحاح وبسويّة واحدة بين جميع أنظمة الحكم العربية، حيث لم تزل تكشف الأحداث أن بعض هذه الأنظمة لا ترى لها من دور سوى القيام بدور القوى العازلة من حول “إسرائيل”، فلا شكّ أنّه حتى بالوعيّ الذاتيّ الأخصّ، تدرك دول الخليج أنها قد تكون دافع الثمن الأكبر في أي مواجهة إسرائيلية مع إيران، أكثر من “إسرائيل” نفسها، وهذا كاف لتحوّل أكثر معقولية في السياسات الإقليمية.

أقرأ أيضًا: الاتفاق السعودي الإيراني وانعكاساته على المنطقة

تشرين الفلسطيني.. بدايات لا نهاية لها

أقلام – مصدر الإخبارية

تشرين الفلسطيني.. بدايات لا نهاية لها، بقلم الكاتب الفلسطيني ساري عرابي، وفيما يلي نص المقال كاملًا كما وصل موقعنا:

إذا كان يمكن التأريخ لبدايات الانتفاضات والثورات العظيمة في تاريخ الشعب الفلسطيني، فإنّ التأريخ لنهاياتها دائماً ملتبس، ويتسع فيه الفرق إلى سنوات، كما يتأرجح سبب التأريخ للنهاية بين عدد من الحوادث. فالانتفاضة الفلسطينية الأولى لن يختلف الفلسطينيون على كونها بدأت في كانون الأول/ ديسمبر عام 1987، ولكن هل انتهت مع توقيع اتفاقية أوسلو في 1993، أم مع دخول السلطة الفلسطينية غزّة وأريحا في 1994، أم مع دخولها بقية مدن الضفة الغربية في 1995/ 1996؟ وقل الشيء نفسه عن الانتفاضة الفلسطينية الثانية، التي لا خلاف أنّها بدأت آخر أيلول/ سبتمبر وبداية تشرين الأول/ أكتوبر 2000، لكن متى انتهت؟ وإذا كان الغالب على المؤرخين احتساب نهايتها في 2005، فلأي سبب بالضبط كان ذلك؟ ألأجل اتفاق الهدنة في شرم الشيخ بمصر بين الرئيس عباس ورئيس وزراء العدوّ الأسبق، شارون؟!

وهكذا تكون البدايات واضحة، جليّة، وإن كانت مدفوعة بمسار سابق يصعب التنبؤ بمآلاته، وإن لم تكن عادة بقرار من أحد. والنهايات ملتبسة، ولا تخلو من المفارقات، فكيف بالذي لم يكن مؤمناً بالانتفاضة أن يحكم عليها بالنهاية؟! بيد أن النهايات لا تقضي بها القرارات، وإلا كم من محاولة لإنهاء الانتفاضة الثانية بقرار قد فشلت؟! على الأرجح لا تنتهي هذه الانتفاضات، على الأقلّ بالنسبة للشعب الفلسطيني، وإنما تترك وعياً عميقاً في الفلسطينيين، لا يلبث أن يصعد حينما يكتفي الناس بالتقاط الأنفاس، أو حينما يستنفد الهدوء أغراضه. ثمّ إنّ الناس، وقد استعادوا شخصيتهم، يستعيدون معها أدواتهم القديمة، وخطاباتهم السابقة، بالرغم من أن ذلك كلّه يجري في جيل جديد لم يعايش ما سبق من أنماط كفاحية.

لا يكاد يعرف أكثر الناس، أن إمكانية الاشتباك المباشر بأدوات الانتفاضة الفلسطينية الأولى مع الاحتلال، لم يعد ممكناً بالقدر نفسه، بسبب خطّة إعادة الانتشار التي اتُّفق عليها في أوسلو، وخلّصت الاحتلال من انغماس جنوده وشرطته في تجمعات الفلسطينيين السكانية، مع بقاء احتلاله للضفّة الغربية! ومع ذلك ظلّ النزوع الفلسطيني إلى تلك المشهدية متعاقباً، ففي هبّة النفق عام 1996، وانتفاضة الأقصى في مطالعها، والهبّات الجارية في القدس والضفة الغربية منذ بضع سنوات، يزحف الشبان إلى الحواجز ومداخل المدن، استدعاءً لاشتباك من هذا النوع مع الاحتلال، وهو الأمر الذي كان كفيلاً بتحوّل هذا الاستدعاء إلى انتفاضة مسلّحة في الانتفاضة الثانية، إذ لم يكن للناس أن يرجعوا إلى الوراء، ولا أن يبقوا ينزفون شهداءهم على الحواجز!

ذلك فضلاً عن الاشتباك بنمط الانتفاضة الأولى، حتى اللحظة، كلّما دخلت دوريات العدوّ قرية فلسطينية. كيف بقي الفلسطينيون يتعاقبون هذا النمط من الاشتباك، يتعبأ به شبّانهم، قبل انتقالهم لطور جديد من النضال، بالرغم من كل المياه التي جرت أسفل جسرهم، منذ العام 1994 وحتى الآن؟ وبالرغم من أنّ الخطاب التعبوي، والبنية التحتية الاقتصادية وانعكاساتها الثقافية والاجتماعية، كثيراً ما كانت تتعارض مع واجب التعبئة ومع الأولويات الوطنية، وهو ما كان عليه الحال، على الأقل، من بعد ما يسمى بـ”الانقسام الفلسطيني”؟!

ذلك لأنّه لا توجد نهايات محدّدة، وأنّ ما يبدو نهاية هو في حقيقته معنى منساب في الفلسطينيين، يُجدّدهم حينما تتوفّر له شروط التجديد، ويتجسّد من جديد بما يتصل بذاكرتهم النضالية العميقة، وإن كان هذا التجسّد سيكون في أوساط جديدة لم تشهد ما تقوم باستعادته. وهو أمر مثير للتأمّل، ويرتدّ إلى عمق الوعي النضالي للفلسطينيين، ويمكن ملاحظة ذلك تماماً في ذكرى “هبة القدّس”، التي أُرّخ لها بتشرين الأول/ أكتوبر 2015، أي في مثل هذه الأيّام. فالشاب الذي نُسب له فتح الباب لهذه الهبّة، أي مهند الحلبي، كان قد كتب قبل أيام من استشهاده “حسب ما أرى فإنّ الانتفاضة الثالثة قد انطلقت”، وهو الذي كان عمره أقل من سبع سنوات، حينما كان شارون يجتاح المناطق “أ” في الضفة الغربية عام 2002. فمن أين لهذا الشاب هذا الوعي بهذا التاريخ؟ وكيف له أن يراقب المشهد حتى يتمكن بالفعل من الدفع نحو هبّة، لم تزل تحفر بعمق وبطء في الوقت نفسه، وصولاً للتحوّلات الجارية الآن في الضفّة الغربية؟!

بعد أن تمكّن الاحتلال من اقتحام مخيم جنين عام 2002، في ملحمة خاضها قليل من المقاتلين الفلسطينيين بعدّة لا يمكن أن توضع في ميزان واحد مع عدّة الجيش المدجّج المعتدي، ثم بعد العام 2007، بدا للعدوّ، وداعميه الإقليميين والدوليين، أنه يمكن الآن تحويل جنين إلى نموذج للفلسطيني الجديد. تجولت كونداليزا رايس في جنين عام 2008، وتوني بلير عام 2009، وفي تلك الفترة كذلك الجنرال الأمريكي كيث دايتون، وكلّهم أطبقوا على هذا الأمل (أملهم هُم)، بأن يحيلوا مدينة ملحمة “معركة مخيم جنين”، إلى نقيض لنموذجها الملحميّ الأوّل، وللفلسطيني المقاتل. بعد هذه السنوات ماذا تفعل جنين هي ومخيّمها؟! تعود إلى النموذج الأوّل، إلى شخصيتها الحقيقية، وما طرأ على وجهها لم يكن، حقّاً، أكثر من غبار!

اليوم يعيش الفلسطينيون ذكرى انتفاضاتهم العظيمة، الانتفاضة الثانية، وهبّة القدس، بل وحتى الانتفاضة الأولى، فقد سُبِقت في تشرين الأول/ أكتوبر بما كان يكسر القفل عن قيد الفلسطينيين لينطلقوا في تلك الانتفاضة العظيمة. ولكن الفلسطينيين اليوم يعيشون هذه الذكريات، بنمط غامض من المقاومة، لا يُدرى إن كان سيبقى سارياً طويلاً على هذا النحو، أم سيستحيل قريباً في بداية محدّدة المعالم، كشأن البدايات السابقة. لكن ما يمكن قوله إنّ هذا الشعب دائم التجدّد، وأن الوعي النضالي عميق فيه بما لا يمكن للعدوّ المغرور أن يلامسه!

Exit mobile version