استراتيجية الصراع في فلسطين

أقلام – مصدر الإخبارية

استراتيجية الصراع في فلسطين، بقلم الكاتب والمفكر العربي منير شفيق، وفيما يلي نص المقال كاملًا كما وصل موقعنا:

دخل الوضع الفلسطيني في أسوأ حالاته بعد أن وقع اتفاق أوسلو وأعلن عن انتهاء المقاومة المسلحة، وأصبح الهدف (أو المشروع الوطني الفلسطيني) هو بناء دولة فلسطينية في الضفة الغربية وقطاع غزة (حدود ما قبل الخامس من حزيران/ يونيو 1967).

وقد تدهور الوضع أكثر عندما تبين أن الاستراتيحية الصهيونية مجمعة على مواصلة الاستيطان وتهويد القدس، وقد تضاعفا عشرات المرات عما كانا عليه قبل اتفاق أوسلو، مما يعني أن حلّ الدولتين (التصفوي للقضية الفلسطينية، وثوابتها الأساسية المقررة في منطلقات فتح والفصائل، في ميثاقي م.ت.ف 1964 و1968)، أصبح وهماً، وتأكد أنه وهْم أصلاً.

وهذا الأمر يفسّر الفشل الذريع لمحادثات كامب ديفيد2، ومن ثم اندلاع الانتفاضة الثانية عام 2000، وانتهاءً باستشهاد ياسر عرفات، ثم تواصل التدهور في الوضع الفلسطيني مع اتفاق دايتون الأمني عام 2007، والذي جاء ليكرس الانقسام ما بين الضفة الغربية وقطاع غزة، إثر الصدام بين حماس وفتح، بعد نجاح حماس في الانتخابات التشريعية عام 2006، وقيام حكومة برئاسة اسماعيل هنية، وهو في جوهره انقسام سياسي بين اتفاق أوسلو واستمرار نهجه من جهة، وبين معارضته واستمرار المقاومة الذي عبّرت عنه كل من حماس وحركة الجهاد الإسلامي من جهة أخرى.

وبهذا انتهى الوضع الفلسطيني ببناء قاعدة مقاومة مسلحة جبارة في قطاع غزة، خاضت أربع حروب ناجحة حتى 2021، فيما انتهى اتفاق أوسلو، ودخل نهجه في مأزق خانق، وتكرسّ اتفاق التنسيق الأمني، وتعاظمت سلطة الاحتلال، وتفاقم الاستيطان في الضفة الغربية والقدس، فضلاً عن اشتداد اقتحامات المسجد الأقصى.

انتهى الوضع الفلسطيني ببناء قاعدة مقاومة مسلحة جبارة في قطاع غزة، خاضت أربع حروب ناجحة حتى 2021، فيما انتهى اتفاق أوسلو، ودخل نهجه في مأزق خانق، وتكرسّ اتفاق التنسيق الأمني، وتعاظمت سلطة الاحتلال، وتفاقم الاستيطان في الضفة الغربية والقدس، فضلاً عن اشتداد اقتحامات المسجد الأقصى

إن الوضع الفلسطيني أخذ يتغيّر نوعياً، لا سيما في القدس والضفة الغربية بعد حرب سيف القدس، وما بعدها، أي ما بين 2021 و2023. فقد شهدت السنوات الثلاث الأخيرة تغيّراً هائلاً في تدهور وضع الاحتلال عسكرياً وسياسياً ومعنوياً.

كانت البداية مع حرب سيف القدس التي انتقلت إلى إدخال القدس والمسجد الأقصى والضفة الغربية في استراتيجية المقاومة المسلحة في قطاع غزة، وهو ما أخذ يسمى باستراتيجية “وحدة الساحات” مع مستوى معطى من المرونة في تطبيقها أو ترجمتها.

إن التغيّر الأول الذي هز الاحتلال هزاً مقدّراً تمثل بالعمليات الفردية ذوات الفعالية العالية، كما عبّرت عنها عمليات كل من عملية بئر السبع (محمد غالب أبو القيعان)، وعملية الخضيرة (أيمن وخالد أغبارية)، وعملية حيّ “بني براك” (ضياء حمارشة، الذي ألهم آلاف الفتية ليكون قدوتهم)، وعملية “دوزينغوف” (رعد حازم زيدان).

وقد أسماها بعض الإعلام بعمليات الذئاب المنفردة، حرفاً لمدلولاتها وأبعادها، فهي لم تكن كما يحدث مع الذئاب حين يفتك بها الجوع، فتفقد وحدتها وتتفرق، لتتحوّل إلى ضوارٍ منفردة.

فعلى العكس، تجلت تلك العمليات، بالرغم من بُعدها الفردي الظاهري، في مقاتلين عبّروا عن إرادة شعبية جماعية جامحة وراسخة، وذلك بدليل سرعة التبني الشعبي الهائل، ولا سيما الشبابي من جهة، كما ظاهرة أمهات الشهداء وآبائهم، في دعمهم والتحريض على التشبه بهم، ومواصلة طريقهم (واحدة من النماذج المعبّرة أم ابراهيم النابلسي) من جهة أخرى.

إن ظاهرة العمليات الفردية المنبثقة والمؤيّدة من الشعب بشبه إجماع، وما واكبها من جنائز التشييع المصحوبة بهتاف الله أكبر، وبقبضات الشباب والفتيان الداعية لمواصلة المقاومة المسلحة، ثبّتا الوضع الجديد، وأكدا تشكل قراءة جديدة لوضع العدو، وهو الشعور بضعفه، والقدرة على تحدّيه ومواجهته (ما يُمكن أن يُسمّى بالعامية الفلسطينية: “طاحت العين به”)، الأمر الذي أسهم في تعزيز ظاهرة كتيبة مخيم جنين، ثم عرين الأسود في نابلس، وذلك برفع السلاح العلني، مما أدخل وضعاً جديداً على معادلة ميزان القوى الداخلي في الضقة الغربية المثخنة بالاستيطان وسيطرة الاحتلال.

إن بروز السلاح إلى العلن، كما حدث بداية في مخيم جنين ثم من خلال عرين الأسود في نابلس، أدى إلى أن تميد الأرض تحت الاحتلال من جهة، وإلى أن تأخذ العدوى تهدّد بالانتشار في المخيمات والقرى والمدن في الضفة الغربية، وذلك مع كل يوم يمضي دون أن يقدم العدو على تصفية الظاهرة التي تعني نهاية الاحتلال إذا ما توسعت وتكرست.

ظاهرة العمليات الفردية المنبثقة والمؤيّدة من الشعب بشبه إجماع، وما واكبها من جنائز التشييع المصحوبة بهتاف الله أكبر، وبقبضات الشباب والفتيان الداعية لمواصلة المقاومة المسلحة، ثبّتا الوضع الجديد، وأكدا تشكل قراءة جديدة لوضع العدو، وهو الشعور بضعفه، والقدرة على تحدّيه ومواجهته (ما يُمكن أن يُسمّى بالعامية الفلسطينية: “طاحت العين به”)، الأمر الذي أسهم في تعزيز ظاهرة كتيبة مخيم جنين، ثم عرين الأسود في نابلس، وذلك برفع السلاح العلني

حاول العدو أن يقوم بعمليتين عسكريتين خاطفتين لاغتيال عدد من المقاومين في مخيم جنين ونابلس، وقد دُبرتا ونُفذتا خلسة، كما كان يفعل العدو الصهيوني في لبنان باعتباره أرضاً عدوّة (مثلاً عملية فردان 1973). أما أن يعتبر أرض مخيم جنين ونابلس بأنها أراضٍ عدوّة، وليست أراضي تحت الاحتلال فهذا يعني تغيّراً جوهرياً في ميزان القوى، سوف يمهّد لفرض الانسحاب عليه لاحقاً، أو سيوجد معادلة اشتباك: بين ضفة غربية مسلحة علناً من جهة، واحتلال مكبل اليدين من جهة أخرى.

ومن هنا يأتي التطوّر الذي تشكل بعد بروز السلاح في مخيم جنين ونابلس، ثم إرهاصات مماثلة تكاد تصل لتكون ظاهرة عامة، ليشيرا إلى احتمال تشكل معادلة الاشتباك آنفة الذكر، ولا سيما بعد الانتصارين اللذين أفشلا هجومين استهدفا السيطرة على مخيم جنين، وإنهاء المقاومة المسلحة كلياً، ولا سيما هجوم الثالث والرابع من تموز/ يوليو 2023.

ومن هنا أصبح مستبعداً إلى حد بعيد أن يكون في قدرة الاحتلال تصفية المقاومة المسلحة في الضفة، ويزيد هذا التوقع قوّة عندما تضاف ضرورة تدخّل المقاومة في قطاع غزة، كجزء من معادلة الاشتباك الجديدة التي تجعل عدم القضاء على المقاومة خطاً أحمر، كما عدم التقسيم الزماني والمكاني للمسجد الأقصى خطاً أحمر، يقتضيان تدخل المقاومة في غزة في اللحظة الحاسمة.

وهنا يمكن التأكيد من خلال تقدير موقف دقيق لموازين القوى الداخلية في فلسطين وإقليمياً وعالمياً، بأن حرباً شاملة بتدخل المقاومة في غزة ستكون منتصرة، وستنتهي بخسارة جيش العدو الذي هُزم في اقتحامي مخيم جنين، وفشل في إنهاء ظاهرة انتشار المقاومة على مستوى الضفة الغربية، كما العمليات ذات الظاهر الفردي.

بكلمة، إن نظرة شاملة، وبالتدقيق الصحيح، تؤكد أن الاستراتيجية التي يجب أن تدعم وتؤيد ويسهم الجميع في تبنيها، هي الاستراتيجية التي رسمها الصراع على أرض الواقع في الضفة الغربية، وأثبتت نجاعتها وإمكان نجاحها.

نظرة شاملة، وبالتدقيق الصحيح، تؤكد أن الاستراتيجية التي يجب أن تدعم وتؤيد ويسهم الجميع في تبنيها، هي الاستراتيجية التي رسمها الصراع على أرض الواقع في الضفة الغربية، وأثبتت نجاعتها وإمكان نجاحها

فالوضع الذي وصلته المقاومة في الضفة الغربية يجب أن يتحوّل إلى استراتيجية متبنّاة، ولا مساومة عليها، ولا أدنى انحراف عنها. فالصراع العملي ذاهب إلى اشتباكات متواصلة مع العدو؛ لأنه لا يستطيع أن يحافظ على احتلاله، ومن ثم توغل الاستيطان، إلّا بتصفية المقاومة في مخيم جنين ونابلس وطولكرم ومخيم نور شمس ومخيم بلاطة، ومواقع أخرى، ومنع انتشار عدواها. ومن ثم فإن تبني هذه الاستراتيجية، كأولوية، وتحويل سياسة الاقتحامات إلى فشل، وتحريم نجاحها، هو الواجب الملحّ على كل الفصائل والنخب، بما في ذلك حركة فتح، ومختلف الأنشطة السياسية الجانبية.

قطعاً لا بد من تأييد هذه الاستراتيجية، أو في الأقل عدم السماح بوضع العصي في دواليبها، أو الشغب بنشاطات تبتعد عن الأولوية، وتنحرف عما هو النشاط الرئيسي الحاسم في هذه المرحلة، وقد أصبحت مسألة غير قابلة للنقاش، فالوضع الفلسطيني في حرب مفتوحة.

لقد وصل الصراع على أرض فلسطين مع الاحتلال والكيان الصهيوني إلى مرحلة جعلت الاحتلال مستحيلاً، وهيّأت لتشكل مقاومة مسلحة من نمط مخيم جنين وعرين الأسود في الضفة الغربية، وإلى حماية شعبية جبارة للمسجد الأقصى. واقع له مقوّماته، وهو واقع يمكن الانتقال منه إذا ما تكرسّ إلى وضع القدم على طريق تحرير فلسطين كل فلسطين من البحر إلى النهر، ومن رأس الناقورة إلى أم الرشراش.

والمسؤولية هنا أن يتحرك الجمييع للحشد وراء هذا الاتجاه، وإنجاح هذه الاستراتيجية التي وصل إليها الصراع.

هذا وتبقى مسؤولية كبرى على سلطة رام الله، ألّا تسمح للضغط الأمريكي الصهيوني عليها بأن تقوم هي بما فشل العدو أن يقوم به؛ لأن في ذلك نصرة لفتح وتجنباً لارتكاب جريمة لا تغتفر بحق الشعب الفلسطيني ومقاومته، بل ستكون أمّ الجرائم.

أقرأ أيضًا: انتصار مخيم جنين مرة أخرى.. بقلم منير شفيق

انتصار مخيم جنين مرة أخرى.. بقلم منير شفيق

أقلام – مصدر الإخبارية

انتصار مخيم جنين مرة أخرى، بقلم الكاتب والمفكر منير شفيق، وفيما يلي نص المقال كاملًا كما وصل موقعنا:

كان صباح الثالث من تموز/ يوليو شديد الخطورة على مستقبل المقاومة المسلحة في الضفة الغربية، وقد حمل في بوادره الأولى حرباً تهدّد ميزان القوى الذي ترسّخ في السنوات الثلاث، بعد حرب سيف القدس.

اختلف الهجوم الاقتحامي الواسع الذي بدأ فجر ذلك اليوم، عن الهجمات التي تعرّض لها مخيم جنين، أو عرين الأسود في نابلس. ففي هذه المرة، لم تكن عملية تعتمد على تشكل المستعربين لإنجاز اغتيال، أو تحقيق ضربة خاطفة، قد تكون مؤلمة ولكنها غير ذات تأثير على ظاهرة القاعدتين المسلحتين في مخيم جنين ونابلس.

فالعمليتان اللتان ارتقى في كلٍّ منهما عشرة شهداء، و12 شهيداً، على التتالي، أسفرتا عن تعزيز لظاهرة النواة المسلحة علناً، سواء أكان عن طريق ما وقع من مقاومة، أم كان في الجنائز، أم في مواقف الأمهات المذهلات في عظمتهن في توديع الشهداء، أم كان في اندفاع العشرات من الفتيان/ الشباب إلى انتظار دورهما في حمل السلاح الناري.

خريطة المقاومة المسلحة أصبحت تشمل إلى جانب قاعدة المقاومة في قطاع غزة؛ مخيم جنين، وعرين الأسود، والمسجد الأقصى، وبهذا، أصبح المساس بقطاع غزة، أو مخيم جنين، أو عرين الأسود، أو المسجد الأقصى؛ خطوطاً حمراء، ومن ثم يعني تهديد أيّ منها، تهديداً جدياً، اختراقاً لخط أحمر مما يؤدي إلى اشتعال الوضع كله

الهجوم، هذه المرة، اتسّم بعملية عسكرية يقوم بها لواءان -في الأقل- من القوات المسلحة بالآليات المجنزرة والطائرات، ومئات المصفحات وتحت قيادة هيئة الأركان مباشرة، كما هو الحال في الحرب. ولهذا كان لا بد من أن يذهب تقدير الموقف، والحالة هذه، إلى توقع هجوم احتلالي للمخيم، وعمليات قضاء على المقاومين، وكل البنى التحتية للمقاومة، ثم تدمير مخيم جنين الذي اجترح ظاهرة البروز بالسلاح علناً، والتحدي المذل للاحتلال.. هذا المخيم الذي ثبت على سلاحه، وتفشى لينقل “عدواه” إلى كل الضفة الغربية، وحتى القدس. ومن ثم دخل الوضع الفلسطيني بأسره في الداخل، في مرحلة جديدة من الاشتباك، وقواعد القتال، كما في حالة موازين القوى في المواجهة مع الكيان الصهيوني، وهو ما كانت حرب سيف القدس قد مهّدت له في توسيع حدود المقاومة في قطاع غزة، لتشمل القدس.

وها هي ذي كتيبة جنين، ومعها عرين الأسود، ثم تململ طولكرم، وصولاً إلى مخيم عقبة جبر في أريحا. وبهذا يوسّع البيكار ليشمل الضفة الغربية، ومن ثم ليكرّس نظرية وحدة الساحات على مستوى الداخل الفلسطيني.

إن خريطة المقاومة المسلحة أصبحت تشمل إلى جانب قاعدة المقاومة في قطاع غزة؛ مخيم جنين، وعرين الأسود، والمسجد الأقصى، وبهذا، أصبح المساس بقطاع غزة، أو مخيم جنين، أو عرين الأسود، أو المسجد الأقصى؛ خطوطاً حمراء، ومن ثم يعني تهديد أيّ منها، تهديداً جدياً، اختراقاً لخط أحمر مما يؤدي إلى اشتعال الوضع كله.

وبعبارة أخرى، أصبحت الخطوط الحمراء محدّدة ومعرّفة، وغدا انتهاك أيّ منها على شكل هجوم عسكري يتهدّد وجوده منفرداً، يشكل تهديداً فورياً لكل المقاومة المسلحة في فلسطين. وهذا يشمل أيضاً تغيير الواقع القائم في المسجد الأقصى، مثل فرض التقسيم المكاني والزماني للصلاة فيه.

لم يكن من المسموح به تحت أيّ ظرف من الظروف أن يتمكن الجيش الصهيوني من إنهاء المقاومة المسلحة في مخيم جنين؛ لأن من شأن ذلك أن يُحدث نكسة في وضع مقاومة الاحتلال في الضفة الغربية. وبهذا يعاد عقرب الساعة إلى الوراء بعودة الاحتلال، بعد أن أصبحت الضفة الغربية أرضاً معادية لا تحتمل وجوده، ولا يستطيع أن يدخل إلى أيّ نقطة مقاومة فيها إلاّ تسللاً، أو باستخدام القوّة السافرة

لهذا، هدّد الهجوم الصهيوني في الثالث والرابع من تموز/ يوليو على مخيم جنين، أحد الخطوط الحمراء الرئيسية في المعادلة الراهنة من الوضع الفلسطيني، كما هدّد بتغيير ميزان القوى الراهن، بين الشعب الفلسطيني والكيان الصهيوني، الأمر الذي جعل الردّ من جانب الغرفة المشتركة في قطاع غزة على الأجندة، أو على نار حامية.

فلم يكن من المسموح به تحت أيّ ظرف من الظروف أن يتمكن الجيش الصهيوني من إنهاء المقاومة المسلحة في مخيم جنين؛ لأن من شأن ذلك أن يُحدث نكسة في وضع مقاومة الاحتلال في الضفة الغربية. وبهذا يعاد عقرب الساعة إلى الوراء بعودة الاحتلال، بعد أن أصبحت الضفة الغربية أرضاً معادية لا تحتمل وجوده، ولا يستطيع أن يدخل إلى أيّ نقطة مقاومة فيها إلاّ تسللاً، أو باستخدام القوّة السافرة. وبهذا تصبح نصرة مخيم جنين قراراً حتمياً لا يقبل الجدال، وإلّا تعرض الوضع كله، بما في ذلك في قطاع غزة، تحت المثل المشهور: “أُكلت يوم أُكل الثور الأبيض”.

من هنا كان موقف الغرفة المشتركة (وأساساً حماس والجهاد) صحيحاً بوضع الإصبع على الزناد، وانتظار مدى قدرة المقاومة والشعب في مخيم جنين، مع نصرة التحركات الشعبية أو العمليات الفردية، على الصمود ودحر الهجوم، بما يُعفي من إشعال النار في السهل كله.

وبالفعل كانت المقاومة المسلحة في مخيم جنين مؤلفة من كتيبة جنين، ومن كتائب عز الدين القسّام، ومن كتائب الأقصى، ومن مبادرين شباب أو من فصائل مقاومة، عند الثقة الشديدة بعزيمتهم وقدراتهم، وصمودهم، وذكائهم، وإبداعهم، كما الثقة بالشعب الأصيل، قد تم إنزال الهزيمة بالهجوم العسكري الاستثنائي، من حيث عديده وآلياته وتصميمه على اكتساح المخيم، وذلك بقوات لا مثيل بحجمها، منذ الهجوم على مخيم جنين وجنين عام 2002.

عندما أفشلت المقاومة هدف اقتحام كل مخيم جنين، واجتثاث المقاومة منه، جعلت العدو يتراجع عن هدفه الأول، ويحدّد هدف الهجوم بما هو دونه من أهداف، مع تأكيد نتنياهو بأنه هجوم واحد من سلسلة هجمات ستليه لاحقاً، الأمر الذي يسمح بالقول إن الهجوم فشل، وأن المقاومة والشعب الشجاع في المخيم، قد انتصرا

عندما أفشلت المقاومة هدف اقتحام كل مخيم جنين، واجتثاث المقاومة منه، جعلت العدو يتراجع عن هدفه الأول، ويحدّد هدف الهجوم بما هو دونه من أهداف، مع تأكيد نتنياهو بأنه هجوم واحد من سلسلة هجمات ستليه لاحقاً، الأمر الذي يسمح بالقول إن الهجوم فشل، وأن المقاومة والشعب الشجاع في المخيم، قد انتصرا، أو خرجا مرفوعي الرأس، مما سيفتح، بدوره مرحلة أعلى من مراحل الاشتباك ومستواه. وهذا كما يبدو، أصبح عادة من عادات المقاومة في مخيم جنين، أو كما يبدو، غدا من عادات كل الضفة والقدس وقطاع غزة. ولا ننسَ انتفاضة أهلنا في مناطق الـ48 خلال حرب سيف القدس.

ينبغي لهذه التجربة أن تعلم الكثير من المعلقين الذين راحوا يهاجمون قيادات المقاومة، من دون روية أو تمهل، ومن دون انتظار النتائج الإيجابية التي كانت محصلة لمجموعة المواقف في إدارة الصراع. وهنا قد يدّعي البعض أن هذه الملاحظة تصادر حق النقد او الاعتراض. طبعاً لا، لأن كثيراً من الحق يُراد به باطل، وكثيراً من الاعتراض يُفسد ولا يُصلح. ولكن الحمد لله الذي جعل من النتائج حَكَماً فيصلاً في تحديد الخط الصحيح، والخط الخاطئ، وذلك بغض النظر عن النية التي تريد إصلاحاً لا إفساداً.

إن النتائج التي أسفرت عنها حرب 3 و4 تموز/ يوليو في مخيم جنين، هي التي تشهد للمقاومة والشعب في جنين ومخيم جنين، وهي التي تشهد على حسن إدارة الصراع في غرفة المقاومة في قطاع غزة، وهي التي تشهد على موقف الغالبية الساحقة من الشعب الفلسطيني، في الداخل والخارج، وذلك في تأييد المقاومة والالتفاف حولها.

إن تجربة الحربين الأخيرتين في جنين، ومن قبلهما تجربة ثأر الأحرار، وما سبق، تشير إلى الاتجاه الذي ستتخذه الأحداث في فلسطين، في الأيام والأسابيع والشهور القادمة.. ومن ثم فليستعد كل من يعنيه الأمر، منذ اليوم، على أن يكون في مستوى الحروب التي يعدّ لها العدو.

أقرأ أيضًا: حذار من العدو المهزوم.. بقلم منير شفيق

حذار من العدو المهزوم.. بقلم منير شفيق

أقلام – مصدر الإخبارية

حذار من العدو المهزوم، بقلم المفكر الفلسطيني منير شفيق، وفيما يلي نص المقال كاملًا كما وصل موقعنا:

معركة مخيم جنين في التاسع عشر من حزيران/ يونيو 2023 دخلت التاريخ الفلسطيني، وذلك باعتبارها نقلة نوعية في المواجهة العسكرية مع جيش الاحتلال الصهيوني، ضمن المرحلة التي حددها بروز السلاح علنا في مخيم جنين، وفي نابلس (عرين الأسود)، ثم تتابع ظهور كتائب وسرايا كامنة في مختلف مدن الضفة الغربية وقراها ومخيماتها.

إن مرحلة ظهور السلاح العلني، بداية من خلال كتيبة مخيم جنين ثم عرين الأسود في نابلس، ثم انتشار الظاهرة بأشكال متعددة، أدخلت الصراع مع الكيان الصهيوني، مرحلة أعلى من مرحلة العمليات الفردية المدهشة. وقد ألهبت الخيال، بما أرسته من قواعد اشتباك متقدمة، ولكنها سرعان ما مهدت لمرحلة ظهور السلاح العلني التي أرست بدورها قواعد اشتباك أعلى، الأمر الذي جعل الاحتلال عاجزا ومرشحا للاندحار، أو في الأدق، جعل الاحتلال يقف على أرض عدوّة، لا يستطيع دخولها إلّا خلسة. وتكفي المقارنة بوضعه السابق، عندما كان يصل إلى أية نقطة، بمجرد الطلب من قوات الأمن الفلسطينية إفساح الطريق له، حتى ينفذ مهمة اعتقال أو اغتيال، ويعود “سالما غانما” عدا في حالات الاشتباك، كالتي استشهد فيها القائد باسل الأعرج، وغيره من الشهداء.

إن مرحلة ظهور السلاح العلني، بداية من خلال كتيبة مخيم جنين ثم عرين الأسود في نابلس، ثم انتشار الظاهرة بأشكال متعددة، أدخلت الصراع مع الكيان الصهيوني، مرحلة أعلى من مرحلة العمليات الفردية المدهشة. وقد ألهبت الخيال

كان لا بد والحالة هذه، في مرحلة ظهور السلاح العلني في الضفة الغربية، مع استمرار العمليات الفردية (وأحيانا ثنائية أو ثلاثية)، من أن يقرر العدو القيام باجتياح يعيد له بعض هيبته المفقودة، أو المتدهورة، ومن ثم كانت معركة مخيم جنين في التاسع عشر من حزيران/ يونيو 2023.

معركة مواقع مواجهة تختلف عن عمليات التسلل، كما حدث من قبل في مخيم جنين ونابلس، إنها عملية اقتحام معززة بالآليات المصفحة، وطائرات الأباتشي، وكان هدفها القضاء على كتيبة جنين، وعلى الذين حملوا السلاح معها من حماس وكتائب شهداء الأقصى، فضلا عمن تطوعوا بمبادرات فردية، بالعشرات من الشباب الذين أخذوا ينخرطون في المقاومة.

فكانت معركة مواقع مواجهة تختلف عن عمليات التسلل، كما حدث من قبل في مخيم جنين ونابلس، إنها عملية اقتحام معززة بالآليات المصفحة، وطائرات الأباتشي، وكان هدفها القضاء على كتيبة جنين، وعلى الذين حملوا السلاح معها من حماس وكتائب شهداء الأقصى، فضلا عمن تطوعوا بمبادرات فردية، بالعشرات من الشباب الذين أخذوا ينخرطون في المقاومة؛ مع كل استشهاد ومواجهة تلت حرب سيف القدس، وبطولات الدفاع عن المسجد الأقصى في القدس. وقد أصبح الشعب شريكا في المقاومة، يعوّضها عن كل شهيد بعشرات من المقاومين والأمّهات والآباء.

الجميع تابع معركة اقتحام مخيم جنين في ذلك اليوم المشهود، وقد فوجئ العدو بإعداد دفاعي، مفكر به جيدا، ووجد نفسه بآلياته المصفحة يُستدرج إلى كمين، مما حوّل الاقتحام الهجومي إلى حالة دفاعية؛ هدفها الإفلات من الكمين، ونقل الآليات المعطوبة، والجرحى والقتلى. وقد دامت المعركة للخروج من الكمين الذكي المُحكم إلى أكثر من ست ساعات، وبعد استخدام ست طائرات مروحية من طراز أباتشي، وقد أصيبت إحداها وهبطت اضطراريا، كما أعلن أن ثلاث طائرات أف-16 شاركت في القصف.

وبهذا انتهت معركة جنين، بنصر مؤزّر للمقاومة المسلحة، بالرغم مما قُدّم من خمسة شهداء وعشرات الجرحى. ولكن مع دفع ثمن باهظ من خسائر بشرية، تعمّد العدو إخفاء عدد القتلى والجرحى، طبعا هذا يدخل ضمن التفاصيل لمعركة منتصرة، نقلت المقاومة المسلحة إلى مرحلة أعلى بالضرورة.

وبهذا انتهت معركة جنين، بنصر مؤزّر للمقاومة المسلحة، بالرغم مما قُدّم من خمسة شهداء وعشرات الجرحى. ولكن مع دفع ثمن باهظ من خسائر بشرية، تعمّد العدو إخفاء عدد القتلى والجرحى، طبعا هذا يدخل ضمن التفاصيل لمعركة منتصرة، نقلت المقاومة المسلحة إلى مرحلة أعلى بالضرورة.

من هنا، فإن العدو مع هذا الفشل، سوف يعمد لتعويضه بتصعيد جديد، لمستوى المعركة/ المعارك القادمة ضد مخيم جنين ونابلس والضفة كلها، والقدس، وصولا إلى ما لا مفرّ منه من حرب ضد قاعدة المقاومة الجبارة في قطاع غزة.

وإنه لمن المهم التوقف عند استخدام هزيمة العدو، أو تحقيق نصر مؤزّر ضدّه. لا يقصد المحتوى العسكري التقليدي، بمعنى فرض الاستسلام عليه أو تجريده من سلاحه، وهو ما سيحدث مستقبلا، وإنما يكفي في ظل احتلال واختلال في ميزان القوى العسكري، أن يسمّى هزيمة أو تحقيق نصر مؤزّر، حين يفشل بتحقيق هدفه العسكري، بسحق المقاومة واستعادة السيطرة العسكرية، ومن ثم تثبيت قواعد اشتباك جديدة في غير مصلحته، وهو ما حدث في عدة حروب خاضها ضد المقاومة في قطاع غزة، حتى وصلت المقاومة اليوم إلى ما وصلت إليه الآن.

من المهم التوقف عند استخدام هزيمة العدو، أو تحقيق نصر مؤزّر ضدّه. لا يقصد المحتوى العسكري التقليدي، بمعنى فرض الاستسلام عليه أو تجريده من سلاحه، وهو ما سيحدث مستقبلا، وإنما يكفي في ظل احتلال واختلال في ميزان القوى العسكري، أن يسمّى هزيمة أو تحقيق نصر مؤزّر، حين يفشل بتحقيق هدفه العسكري، بسحق المقاومة واستعادة السيطرة العسكرية، ومن ثم تثبيت قواعد اشتباك جديدة في غير مصلحته.

بالتأكيد تضاعفت ورطة العدو العسكرية واهتز احتلاله، بعد الهزيمة في معركة مخيم جنين التي كادت الضفة الغربية كلها وقطاع غزة أن يتدخلا فيها، لو طالت واحتدمت إلى مستوى لا يمكن السكوت عليه، بل وبعد ما ستتركه هذه النتيجة من آثار سلبية على معنويات قياداته ومستوطنيه، وما ستتركه أيضا من آثار إيجابية في معنويات الشعب الفلسطيني، تكريسا لاستراتيجية المقاومة المسلحة، وتعظيما لثقة الشباب المقاتلين بقدراتهم، وما يمتلكون من إبداعات وقدرات في قضايا الدفاع والهجوم.

إن الكمين الذي أعدّ بإحكام وقد أجبر العدو، لاحقا، على الاعتراف بالمهارة التي كانت وراء إدارة المعركة، سوف يعزز من القدرات الاشتباكية لدى شباب المقاومة من جهة، كما سوف يخفف من الملاحظات النقدية التي وجهت لهم، ولو كان وراء أكثرها نيات حسنة من جهة أخرى. وهنا يمكن أن نتذكر النقد الذي وُجه لمجرد ظهور السلاح، واتهامهم بالتباهي والاستعراضية، وبعدم الحرص على العمل السري، وعلى الاحتياط من الانكشاف للعدو والتعرض للاغتيال. وقد وصل بالبعض إلى القول بأن العودة إلى العمل السري المطارد أفضل من الحالة الجديدة، وقد نسوا نقاط الضعف والسلبيات في مرحلة العمل السري، حيث زمام المبادرة شبه مطلقة بيد جيش العدو والأجهزة الأمنية، علماً أن العمل السري استمر متكاملا مع المرحلة الجديدة.

طبعا الذي يحسم الجدال هنا، كما هو الحال في كل جدال حول أشكال النضال، إنما هي النتائج العملية. فقد أثبتت التجربة أن الخروج بالسلاح علنا في مخيم جنين، وفي نابلس، كان مبادرة من قبل الشباب المقاوم، وذلك للانتقال إلى مرحلة أعلى في قواعد الاشتباك، وهو ما أكدت صحته حالة المقاومة في القدس والضفة الغربية، كما أكدت صحته معركة مخيم جنين الأخيرة.

يجب أن يسجل هنا بأن المقاومة في مخيم جنين، ورثت تقليدها السابق في الحرب التي خيضت في عام 2002، وقد تضافرت في المواجهة حركة الجهاد وحماس وكتائب الأقصى. فالوحدة القتالية في ميدان المعركة، كما تجلت في معركة مخيم جنين، شكلت عاملا مهما في الانتصار، كما شكلت نموذجا بأن أعظم الوحدات القتالية، أو الجماهيرية، في الساحة الفلسطينية، كانت تحدث في أتون المعركة ضد العدو.

الموقف يتطلب أن يستعد الجميع لمواجهته، ويضع الحبّ منذ الآن في طاحونة الاستعداد للمواجهات القادمة. وهذا لن يتحقق إلّا إذا عمل كل طرف، ليشارك من موقعه في المواجهة، ليس في القلوب والمشاعر فحسب، وإنما باتخاذ خطوات عملية يكون قد أعدّ لها، للإسهام في تحقيق الانتصارات القادمة.

من يراقب الساعات الست التي دامت فيها معركة مخيم جنين، في التاسع عشر من الشهر الجاري، يدرك أهمية الالتفاف حول المقاومة. وذلك كما فعلت العيون والآذان والقلوب والمشاعر والمواقف، على مستوى الشعب الفلسطيني في الداخل والخارج، كما على المستويين العربي والإسلامي، ومستوى أحرار العالم.

إذا كان التقدير السديد للموقف والوضع، يقول إن ما حدث في هذه المعركة سيتكرر، وبمستوى أعلى وأشدّ، فإن الموقف يتطلب أن يستعد الجميع لمواجهته، ويضع الحبّ منذ الآن في طاحونة الاستعداد للمواجهات القادمة. وهذا لن يتحقق إلّا إذا عمل كل طرف، ليشارك من موقعه في المواجهة، ليس في القلوب والمشاعر فحسب، وإنما باتخاذ خطوات عملية يكون قد أعدّ لها، للإسهام في تحقيق الانتصارات القادمة.

إن العدو الصهيوني لا يستطيع أن يبتلع نتائج معركة مخيم جنين، كما لم يبتلع أن يبقى الوضع السابق على حاله، فشنّ معركة جنين، وهذا ينطبق على كل مواقع المقاومة. وأضف إلى ذلك استراتيجيته، وسعيه الحثيث لاقتسام باحة المسجد الأقصى، واقتسام الصلاة فيه.

فالسمة المقاومة ستكون سمة مواجهات مصيرية يجب أن ننتصر فيها، وشرط ذلك أن نستعد لها، وإلّا لا ساعة مندم؛ وكيف يجوز المندم، وموازين القوى بعمومها في مصلحة المقاومة.

أقرأ أيضًا: كتب منير شفيق: الشهيد الشيخ خضر عدنان

Exit mobile version