بعد شهورٍ من النزوح القسري والمعاناة، عاد آلاف المواطنين إلى منازلهم في مدينة غزة وشمالها ليجدوا أن مشهد الدمار لم يقتصر على البيوت والبنية التحتية، بل طال أهم مقومات الحياة: المياه.
فمع تدمير شبكات المياه والصرف الصحي، باتت هذه المناطق تعاني من شحٍّ حاد في المياه الصالحة للشرب والاستخدام اليومي، مما فاقم من معاناة السكان العائدين.
في هذا التقرير، نرصد الواقع اليومي الصعب الذي يعيشه الأهالي، من خلال ثلاث مقابلات موسعة مع مواطنين اضطروا للسير لساعات يومياً لجلب المياه من مناطق لا تزال تتوفر فيها مصادر محدودة، مثل محيط مستشفى الشفاء وشارع الصحابة، حيث تتجمّع طوابير طويلة في انتظار تعبئة بعض الغالونات التي بالكاد تكفي لسدّ احتياجات يوم واحد.
وسط أنقاض منزلها شبه المدمر في حي الشيخ رضوان بمدينة غزة، تحاول نادية سالم (45 عاماً) إعادة الحياة إلى بيتها المتهالك، لكن ما يعيقها قبل أي شيء هو انقطاع المياه التام.
تقول بحزن لـ"شبكة مصد الإخبارية"، إن أول ما لاحظته بعد عودتها من النزوح ليس فقط رائحة الغبار، بل "الحنفية الناشفة".
"من أول يوم رجعنا فيه ما في نقطة مي كل شي بدنا نعمله – من الشرب للطهي للنظافة – محتاج مي، بس ما في"، تضيف.
تروي أن أبناءها يخرجون يوميًا فجراً إلى شارع الصحابة، ويعودون بعد ساعات حاملين 3 إلى 4 جالونات من الماء، بالكاد تكفي ليوم واحد.
وتتابع: "صرنا نقسم المياه بالقطارة بنغليها، ونعقّمها بالكلور إذا توفر، بس هذا ما بيمنع القلق الدائم من التلوث أو العدوى الوضع غير إنساني، والضغط علينا كأمهات صار لا يُطاق".
وفي حي الشجاعية المدمر، يقف عبد الله السرساوي (60 عاماً) في طابور طويل يحمل غالونين فارغين، يستعد لرحلة أخرى نحو مستشفى الشفاء.
كل يوم، يرافق حفيده في مسير شاق عبر الحارات المدمّرة، متجاوزًا الركام والقذائف غير المنفجرة.
"الطريق صارت مألوفة بس مؤلمة نمشي 3 ساعات تقريبًا عشان نرجع بشوية مي أحياناً يرجع حفيدي يشكي من وجع ظهره، بس شو نعمل؟ المي ضرورية وبدنا نعيش".
يصف عبد الله الواقع بأنه "أقسى من النزوح"، مضيفاً أن بعض جيرانه المسنّين لم يعودوا قادرين على الذهاب لجلب المياه، ما جعلهم يعتمدون كليًا على تبرعات الجيران أو الصهاريج التي تصل بين الحين والآخر.
"ما في خزان، ما في شبكة، حتى البئر اللي كان في الحي اتفجر. الكل بيعاني، وكل يوم بيمر بدون حلول بيقرّبنا من كارثة صحية جماعية"، يخبرنا عبد الله.
وفي مخيم الشاطئ غرب مدينة غزة، لم تعد سارة عوض (11 عاماً) تقضي صباحها في المدرسة، بل على الطرقات، حاملة غالونًا بلاستيكيًا تبحث فيه عن مصدر ماء صالح.
تصف رحلتها اليومية مع شقيقتها للبحث عن المياه وانتظار الشاحنات للتبرع بالمياه بأنها مرهقة وخطيرة، خاصة للفتيات.
تروي لـ"شبكة مصدر الإخبارية": "بنمشي من 6 الصبح، ونقف في طابور طويل مرات بنرجع الساعة 10، والعين علينا من الكبار، فيش أمان، لا مي ولا كرامة".
تقول سارة إن كثيرًا من صديقاتها اضطررن لترك التعليم لمساعدة أسرهن في تأمين المياه، وهو ما تعتبره "خسارة مضاعفة".
وتضيف: "صرنا نحس إن حياتنا كلها توقفت بسبب أزمة مي لا في تركيز، لا خصوصية، ولا مستقبل واضح الماء صار أكبر هم في يومنا، وصرنا نحلم بحنفية تشتغل بس".