في ذكرى نفق الحرية نكتب من جديد.. فجرنا سيبزغ عمّا قريب!

أقلام-مصدر الإخبارية

كتب أحمد عبد الرحمن كان يبدو صباحاً عادياً، ككل صباحات فلسطين، اصطف فيه العمّال الفلسطينيون الساعون لجمع قُوت عيالهم قرب حاجز بيت حانون، “إيرز”، شمال قطاع غزة، في انتظار وسيلة النقل التي ستوصلهم إلى اماكن عملهم، لم يكونوا يعلمون في ذلك الوقت بأن حقداً أسود سيكون قادماً إليهم ليسفك دمهم، ويخطف أرواحهم البريئة، التي لم تكن تحمل للعالم إلّا كل خير.

في ذلك الصباح الدامي من شهر كانون الأول(ديسمبر) من عام 1987، قام جندي إسرائيلي مجرم يقود شاحنة بدهس مجموعة من العمال الفلسطينيين، الأمر الذي أدّى إلى استشهاد خمسة منهم، وإصابة آخرين.

بعد أيام على استشهاد العمّال الخمسة، كتب الدكتور الشهيد فتحي الشقاقي قصيدة رثاء، عبّر فيها عن حجم الألم الذي أصاب نفوس الفلسطينيين، الذين عمّ الحزن كل حاراتهم وشوارعهم، وأصبح الشهداء المظلومون أبناءً لكل الشعب، وليس فقط لعوائلهم المكلومة والحزينة.

كتب الشقاقي حينها: “كانوا خمسة.. في يد كل منهم منجل.. في يسرى كل منهم قفّة.. كانوا يا أصحابي خمسة.. وقفوا في صفٍّ مكسور.. في أعينهم نامت مدن وبحور.. كانوا خمسة.. في يمنى كل منهم منجل.. في يسرى كل منهم قفّة.. تركوا الدرّاق الأخضر.. قالوا يوماً أو يومين ولا أكثر.. يا عمال بلادي هرمت غابات الزعتر.. وانسكب الزيت وغصن الزيتون تكسّر.. يا قلب الأرض تحجّر.. لا تُزهر أبداً لا تُزهر.. إلا غضباً إلا بركاناً يتفجّر”.

أيام قليلة وانفجر البركان الذي بشّر به الشقاقي الشهيد، إذ اندلعت، على إثر هذه الجريمة النكراء، ما اصطلح على تسميته لاحقاً بـ “انتفاضة الحجارة”، والتي عُدَّت محطة مهمة ومفصلية في تاريخ العلاقة بين الشعب الفلسطيني من جهة، والمحتل الإسرائيلي من جهة أخرى، وشكّلت فاصلاً بين مرحلة كان فيها المستوطن الصهيوني يتجوّل في شوارع غزة كأنه في وسط “تل أبيب”، ومرحلة لاحقة أدت، فيما بعد، نتيجة تفاعلات جيوسياسية فارقة، إلى خروج المحتل مندحراً من أراضي القطاع، في سابقة تاريخية أسست حقبة جديدة من تاريخ نضال هذا الشعب البطل.

اقرأ/ي أيضا: على خلفية عملية نفق الحرية.. عزل مسؤول مصلحة السجون

بعد 34 عاماً تقريباً على مجزرة العمّال، وما نتج منها من انتفاضة شعبية عارمة، أسّست، كما أسلفنا، مرحلة من الصراع المفتوح بين الشعب الفلسطيني، في كل شرائحه، و”دولة” الاحتلال المسلّح بكل ادوات القتل والإجرام، من أخمص قدميه حتى أعلى رأسه، وأسفرت فيما بعد عن هروب المحتل من قطاع غزة، وهو يجر أذيال الخيبة والهزيمة؛ بعد هذه الأعوام الطوال، كان الشعب الفلسطيني على موعد مع إنجاز جديد، حطّم فيه ستة من الأسرى الأبطال أسطورة الأجهزة الأمنية الإسرائيلية، ووجّهوا إليها ضربة قاتلة لم تستطع التعافي منها حتى اليوم، وكتبوا أسماءهم بحروف من نور في لوحة الشرف التي لن يطمسها تخاذل البعض، ولن تشوّهها خيانة البعض الآخر.

رسموا بأظفارهم الدامية خريطة فلسطين في باطن الأرض، وعلى فوّهة النفق، وعلى امتداد سهول بيسان، وفي شوارع الناصرة والناعورة، وصولاً إلى جنين الحبيبة، حيث مهوى الفؤاد وطمأنينة القلب.

اليوم، ونحن نعيش الذكرى الثانية للتحرر الكبير من سجن جلبوع، عبر نفق الحرية والانعتاق من الأسر، وفي ظل ما تعيشه الحركة الأسيرة من أوضاع قاسية بفعل سياسات الاحتلال الظالم، ولا سيما في ظل القرارات المجحفة التي أصدرها وزير الأمن القومي المتطرّف، إيتمار بن غفير، والتي تُنذر بانتفاضة شاملة داخل السجون والمعتقلات، يمكن أن يمتد أوارها إلى كل المدن والمخيمات الفلسطينية، وفي ظل التوتّر الذي يحيط بالمشهد الفلسطيني، ولا سيما مع تهديدات قادة الاحتلال باغتيال قادة المقاومة وتصفيتهم؛ في ظل كل ذلك نجد أنفسنا مضّطرين، اضطرارَ المحب والعاشق، لا اضطرارَ المُكره والحاقد، إلى أن نكتب من جديد عن أبطال معركة الحرية الستة، الذين اجترحوا المستحيل، وحققوا الإعجاز، وهدموا، بإصرارهم ومعاولهم البسيطة، جدار السجن والعزل والحرمان.

نكتب من جديد عن محمود، ومحمد، وزكريا، ويعقوب، وأيهم، ونضال، علّنا نوفيهم جزءاً من حقهم، الذي يحاول البعض طمسه، ونسيانه، وتحويله إلى مجرد ذكرى مرّت وانتهت من دون أي مفاعيل، أو نتائج.

وبعيداً عن العاطفة الجيّاشة التي تملأ قلوبنا تجاه الأبطال الستة، وبغض النظر عن الأيام الجميلة التي عشناها، فترةَ انعتاقهم من السجن، وخروجهم إلى الحرية، فإن النظرة المحايدة إلى هذا الفعل المعجِز تضعنا أمام معطيات مهمة، ونتائج مفصلية، يمكن لنا، من دون أيّ تحيّز لهذا الطرف أو ذاك، ان نضعها في خانة الأحداث التاريخية، التي أسست مرحلة جديدة من مراحل نضال الشعب الفلسطيني، والتي يمكن لها أن تسفر في فترات مقبلة، وبعد البناء عليها، عن نتائج جيواستراتيجية تشبه كثيراً تلك التي نتجت من انتفاضة الحجارة، وما تلاها من أحداث، وصولاً إلى الاندحار الصهيوني من قطاع غزة.

إن عملية الهروب المبدعة من سجن جلبوع، والتي جاءت في فترة زمنية عمّ فيها الهدوء القاتل جغرافيا الضفة المحتلة، في مدنها ومخيماتها وقراها، بفعل القبضة الأمنية المزدوجة، التي فرضت نفسها بشدة على حركة العمل المقاوم هناك، بالإضافة إلى انصراف معظم المواطنين إلى أشغالهم وأعمالهم، التي تم استخدامها في كثير من الأحيان أداةً لابتزازهم والضغط عليهم، أدّت إلى تغيير كثير من المفاهيم، وأفضت إلى تطورات باتت تلقي ظلالها على كل المشهد الفلسطيني، ولا سيما على صعيد المواجهة مع المحتل، والخروج من حالة اليأس والانكسار، اللذين كانا سائدين آنذاك، في اتجاه فعل مقاوم يكاد يشعل الأرض تحت أقدام الغزاة، ويفرض معادلات حقيقية على الأرض وفي الميدان، بعيداً عن النظريات العقيمة، والخطابات الجوفاء.

ويمكن لنا أن نشير في هذا الخصوص بالذات إلى عدة معطيات مرتبطة، بطريقة أو بأخرى، بنتائج عملية “نفق الحرية “، وتُعَد أحد إفرازاتها الطبيعية، سواء عن طريق الإلهام، أو عن طريق التأثير المباشر.