“الحرب اللامتناظرة”.. كيف تمكّنت المقاومة من تغيير المعادلة العسكرية

أقلام-مصدر الإخبارية

كتب أحمد الرحمن، كنا قد أشرنا في الجزء السابق من هذا المقال إلى فشل الكيان الإسرائيلي في ابتكار حلول تمكّنه من مواجهة طرق العمل الجديدة التي استخدمتها المقاومة في مواجهة قواته العسكرية، والتي يندرج العديد منها ضمن مبادئ “الحرب اللامتناظرة”.

ورغم التعديلات الكثيرة التي حاول العدو الاعتماد عليها لمجابهة تلك “الحرب”، والتي تضمّنت إعادة الاعتبار إلى الذراع البرية لـ”الجيش” الإسرائيلي، وتطوير منظومات الدفاع الجوي، وإعطاء مساحة أكبر لسلاح الجو، والترتيبات على مستوى الجبهة الداخلية، إضافة إلى إحداث ما وُصف في حينه بالثورة على صعيد عمل أجهزة الاستخبارات، وغير ذلك من خطوات كان يُعتقد بأنها ستكون فعّالة وذات نتائج مبهرة، فإن كل ذلك لم يجدِ نفعاً أمام تطوّر عمل المقاومة، وأمام ما باتت تستخدمه من تكتيكات وخطط قلّصت بشكل كبير حجم الفجوة بين إمكانياتها المتواضعة وإمكانيات العدو الهائلة.

ولا بد من الإشارة هنا إلى أن الفوارق في الإمكانيات انخفضت بشكل كبير خلال السنوات العشر الأخيرة، ولا سيما على صعيد امتلاك فصائل المقاومة في فلسطين والإقليم أسلحة لم تكن متوافرة من قبل، سواء على صعيد القوة الصاروخية أو الطائرات المسيّرة، إضافة إلى تطوّر خبراتها القتالية بشكل واضح وجلي، وحيازتها خططاً عملياتية حققت لها في المواجهات الأخيرة كثيراً من الإنجازات، وخصوصاً على صعيد قوات النخبة ووحدات الدروع والمدفعية.

وبناء عليه، أصبحت كل المعارك التي يخوضها الكيان الصهيوني في المنطقة، لا سيما في فلسطين ولبنان على وجه الخصوص، تحمل الكثير من المفاجآت غير السارة لـ”الدولة العبرية”، التي لم يعد بإمكانها حسم تلك المعارك خلال أيام معدودة، كما كان يحدث سابقاً، رغم أنها كانت في معظم الحالات تبادر إلى الهجوم، على أمل إحداث صدمة لدى الطرف الآخر، إلا أنَّ ذلك لم يجدِ نفعاً، نتيجة الكثير من العوامل التي أدخلتها المقاومة إلى طرق عملها، ونتيجة المرونة التي أصبحت تتمتع بها، سواء على صعيد البنية التنظيمية التي تمكَّنت بشكل مذهل من تجاوز كل الصدمات، كما حدث في أيار/مايو الماضي في عملية “ثأر الأحرار”، أو على صعيد تطوير الخطط القتالية لمواجهة الإمكانيات الهائلة التي يملكها “جيش” العدو.

“الحرب اللامتناظرة” في نسختها الفلسطينية
يمكن التأصيل لبداية ظهور مبادئ “الحرب اللامتناظرة” على كفاح الشعب الفلسطيني ونضاله منذ انطلاق انتفاضة الأقصى عام 2000، إذ إن تلك الانتفاضة التي جاءت بعد 7 سنوات تقريباً من اتفاق أوسلو وما أحدثه من شرخ واسع في صفوف الشعب الفلسطيني، أدت إلى مغادرة جزء كبير ومهم منه نحو خيار ما عُرف حينها بمسيرة “السلام والتعايش” مع الاحتلال.

جاءت الانتفاضة، ومن خلال العديد من الأدوات التي استُخدمت فيها، لتُحدث تغييراً هائلاً على صعيد حالة الاشتباك بين الشعب الفلسطيني والمحتل الذي ضرب بعرض الحائط كل الاتفاقيات وأدار ظهره لكل المعاهدات، واستطاعت أن تفرض نفسها بقوة على مسيرة الحركة الوطنية الفلسطينية، محدثةً تفاعلاً عميقاً على صعيد الصراع بين الشعب والمحتل، ومتجاوزة ذلك النوع من المواجهة التقليدية التي تخضع لقانون الغلبة للأقوى، ومستخدمة العديد من الوسائل التي لم تكن حاضرة من قبل، مثل العوامل الحضارية والثقافية والمعنوية، بالتوازي مع عوامل أخرى من قبيل القوة الاقتصادية والتكنولوجية والعسكرية التي بدأت تتسلح بها منذ تلك الفترة، وإن كان بشكل محدود.

ولعل أهم سلاح امتلكته المقاومة الفلسطينية في ذلك الوقت، والذي يتطابق من حيث الأداء والنتائج مع مبادئ “الحرب اللامتناظرة”، هو العمليات الاستشهادية التي ألقت بظلال قاتمة على منظومة الأمن القومي الإسرائيلي، وأصابت عنجهية قادة الكيان وصلفهم بنوع من الصدمة، لما أحدثته من خسائر هائلة على الصعيد البشري والمادي، وهو الأمر الذي لم يكن معتاداً في تلك الفترة، مع أن “إسرائيل” جرّبت مثله في منتصف التسعينيات، ولكن ليس بالوتيرة نفسها.

تضاف إلى ذلك الخسائر المعنوية القاسية التي ضربت النسيج المجتمعي الصهيوني، وأثّرت بشكل واضح في تماسك الجبهة الداخلية للعدو، التي فقدت جزءاً كبيراً من ثقتها بقيادتها العسكرية والسياسية.

هذا الأمر دفع رئيس الأركان الإسرائيلي الأسبق الجنرال موشي يعلون إلى وصف المجتمع الإسرائيلي في تلك الفترة بأنه مجتمع ثري ومدلّل وغير مستعد للكفاح والتضحية، وأن عدم استعداد المواطنين الصهاينة للتضحية بأرواحهم من أجل حماية “الوطن” يجعل “إسرائيل” تشبه بيت العنكبوت الذي يبدو قوياً ومتماسكاً من الخارج، ولكنه يتفكك ويسقط حين يلمسه أحدهم عن قرب.

إلى جانب العمليات الاستشهادية، تميزت انتفاضة الأقصى أيضاً بأنها لم تصبح أسيرة للطابع الشعبي من النضال فحسب، بل انتقلت إلى ممارسة الكفاح المسلح على نطاق واسع أيضاً، وهو الأمر الذي تحوّل إلى ما يشبه حرب الاستنزاف التي أدمت جسد “الدولة العبرية”، إذ تميزت بانتهاج تكتيك القنص والعبوات الناسفة والكمائن واقتحام المستوطنات ومعسكرات “الجيش” الصهيوني.

وقد وصلت إلى تصفية رموز سياسية من المستوى الأول، مثل وزير السياحة المتطرف رحبعام زئيفي، وكذلك استهداف المستوطنين ووسائل النقل الصهيونية في فلسطين 48 و67 على السواء، ولا سيما على الطرق الالتفافية، وهذا ما جرّد العدو من مكاسبه الميدانية التي حصل عليها بفعل اتفاق أوسلو، إذ تحوّلت المستوطنات إلى عبء أمني على الكيان الصهيوني بعدما وُجدت لتكون خط الدفاع الأول عنه.

بعد هذا التغيّر المذهل في أداء المقاومة الفلسطينية بعيد انطلاق انتفاضة الأقصى، والذي استمر 6 سنوات تقريباً، عادت الأوضاع، ونتيجة عوامل كثيرة لا مجال لذكرها الآن، نحو الهدوء، ولا سيما في مدن الضفة، وهو ما سمح بانتقال الثقل الأساسي للمقاومة الفلسطينية نحو قطاع غزة الذي بدأ مرحلة جديدة من الإعداد والتجهيز، مستعيناً بوسائل مستحدثة بدت للبعض من دون جدوى في تلك الفترة، وكان في مقدمتها سلاح الصواريخ، الذي تحوّل في سنوات قصيرة إلى أهم سلاح ردع تملكه المقاومة في غزة.

وقد أصبح هذا السلاح بفعل الخبرات والدعم الكبيرين اللذين حصلت عليهما المقاومة من الجمهورية الإسلامية في إيران وحزب الله وسوريا عاملاً مشتركاً في جميع المعارك التي حدثت بعد ذلك، بداية من 2008 وحتى معركة “ثأر الأحرار” قبل شهرين تقريباً.

ورغم أن هذا النوع من الأسلحة يُستخدم في الحروب التقليدية وحرب العصابات، ففي غزة، وبسبب طبيعة الحروب التي جرت فيها، واعتماداً على تكتيكات قتالية لم يعهدها العدو من قبل، وعلى حجم التأثير الهائل الذي تركه على الجبهة الداخلية الصهيونية، يمكن النظر إليه بأنه ينسجم تماماً مع تكتيكات “الحرب اللامتناظرة”، ويخدم بصورة أو بأخرى المبادئ التي نصّت عليها، ولا سيما على صعيد الابتعاد قدر الإمكان عن الحرب الكلاسيكية التي يتفوّق فيها العدو، إضافة إلى تأثيره الطاغي، كما أشرنا آنفاً، في الجبهة الداخلية الإسرائيلية التي يُعتبر الحفاظ على أمنها واستقرارها هدفاً مستداماً لـ”الجيش” الإسرائيلي.

اقرأ/ي أيضا: صلاح البردويل: المقاومة هي رأس الحرب وما يحصل مقدمة لانفجار شامل

إضافة إلى ذلك، إن أحد أهم الأسلحة الجديدة التي أدخلتها المقاومة ضمن خططها الهجومية، والذي لا يقل أهمية عن سلاح الصواريخ، كان سلاح الأنفاق الذي شكّل خلال عدوان 2014 تحديداً مفاجأة من العيار الثقيل، والذي حققت من خلاله المقاومة إنجازات رائعة ما زالت مفاعيلها سارية حتى الآن، وتتمثل في ملف الجنود الصهاينة الذين تم أسرهم في تلك الحرب.

هذا السلاح الذي بذلت “إسرائيل” جهوداً مضنية للقضاء عليه، وأنفقت ملايين الدولارات لبناء الحواجز والجدر للحد من مفاعيله، بدا في لحظة ما بأنه معجزة اجترحتها المقاومة في غزة، وتغلبت من خلالها على كثير من التعقيدات الفنية والتقنية التي كانت تقف حائلاً من دون إتمام هذا المشروع، وخروجه من حيّز النظريات والخطط والخرائط إلى مجال أوسع وأرحب مكّن المقاتلين من اقتحام مواقع العدو المحصنة، وقتل وأسر العديد من الجنود الصهاينة الذين ظهروا عبر مقاطع مصورة وهم يصرخون ويستنجدون.

ورغم انتقال الثقل المقاوم إلى قطاع غزة خلال سنوات الهدوء التي شملت مدن الضفة الغربية، ما عدا بعض العمليات بين الفينة والأخرى، فإن الزخم عاد من جديد إلى تلك المدن خلال العامين الأخيرين، لا سيما بعد تشكيل كتيبة جنين التابعة لسرايا القدس في أيلول/سبتمبر 2021، وما تبع ذلك من تشكيل كتائب أخرى في نابلس وطولكرم وطوباس، إضافةً إلى بروز حالات مقاومة، مثل “عرين الأسود” وغيرها.

هذا الأمر نقل ساحة الضفة إلى مرحلة جديدة سمتها الأساسية مواجهة المحتل في كل المحاور، وشن الهجمات المتنقلة في كثير من الأماكن، ومهاجمة المستوطنات والمدن المحتلة الكبيرة، مثل “تل أبيب” والخضيرة وبئر السبع، بعمليات نوعية وجريئة، في تطبيق واضح لنظرية “الحرب اللامتناظرة” التي بدت معالمها واضحة في معظم العمليات، وكانت أكثر وضوحاً في معركة “بأس جنين” قبل أسبوعين، التي سجلت فيها كتيبة جنين وفصائل المقاومة نصراً صريحاً على قوات الاحتلال التي كانت تتفوق عليها في العتاد والعدد.

حزب الله والحرب اللامتناظرة
بما أن آخر حرب خاضها الكيان الصهيوني على الجبهة الشمالية كانت في تموز/يوليو 2006، فنحن مضطرّون إلى فتح صفحاتها من جديد لنقرأ من خلالها طريقة عمل المقاومة الإسلامية في لبنان “حزب الله”، التي تعد أوضح نموذج لجنوح فصائل المقاومة في المنطقة إلى العمل ضمن مبادئ “الحرب اللامتناظرة”.

ورغم أن الهجوم الإسرائيلي في تلك المعركة لم يعتمد، كما العادة، على عامل المفاجأة أو الصدمة، وجاء رد فعل على عملية اختطاف الجنديين إيهود غولدفاسر وإلداد ريغف قرب قرية عيتا الشعب في الجنوب اللبناني، فإنَّ تعامل حزب الله مع المعركة كان يشير بوضوح إلى أنه تجهّز لها منذ مدة طويلة، وأنه استثمر في مبادئ “الحرب اللامتناظرة” بدرجة كبيرة، معتمداً في ذلك على إمكانياته العسكرية المتوسطة حينها، وعلى العقيدة القتالية العالية لمقاتليه، إضافة إلى مراهنته على ضعف الجبهة الداخلية للعدو من جهة، وندرة المعلومات الاستخبارية لديه من جهة أخرى.

ويمكننا القول هنا إنَّ تلك الحرب تركت أثراً سلبياً بالغاً في صفوف الإسرائيليين ما زالت تداعياته ماثلة حتى الآن، وشكّلت بطريقة أو بأخرى عامل ردع حاسم يمنع “جيش” الاحتلال من ارتكاب حماقة جديدة في تلك الجبهة خوفاً من التأثيرات الكارثية التي قد تلحق به.

وقد أقرّ عدد من مراكز الأبحاث الإسرائيلية التي ناقشت موضوع حرب تموز بأنه كشف عيوباً كثيرة مسّت بصلب عقيدة الأمن في “الدولة العبرية”، وأظهرت أن حصانة المجتمع الاستيطاني الصهيوني كانت هشّة للغاية، وأن البنية التحتية في الدولة كانت دون المستوى، إضافةً إلى ضعف القدرة التنفيذية لمعظم أذرع “الجيش”، ولا سيما سلاح البر، وصولاً إلى فقدان القيادة السياسية والعسكرية مبدأ القيادة والسيطرة في فترات طويلة وحاسمة من زمن المعركة.

من جانب آخر، ركّزت مجموعة أخرى من الأبحاث على عوامل قوة حزب الله، من قبيل ما أُطلق عليه “الصمود الأيديولوجي” وقدرة التحمّل العالية، سواء للمقاتلين أو الحاضنة الشعبية، والأهم من ذلك، بحسب مراكز البحث الإسرائيلية، أن تلك الحرب قد أعادت إلى الواجهة، وخصوصاً لدى الشعوب العربية والإسلامية، فكرة أن “إسرائيل” قابلة للهزيمة والانكسار، وأن هناك مروحة واسعة من الإمكانيات غير التقليدية، سواء على المستوى العسكري أو المعنوي، والتي تتوسّع لتشمل وسائل أخرى لها علاقة بالجوانب الثقافية والاجتماعية وتماسك المجتمع وغيرها، ويمكن لها أن تساهم في تحقيق النصر على “إسرائيل”، لا سيما إذا تم استخدامها ضمن خطط وبرامج مرنة تساهم في تحييد القوة العسكرية الصهيونية وتُفقدها الكثير من مزاياها التي تتمتع بها.

ويمكن لنا أن نلحظ العديد من النقاط المهمة في طريقة عمل حزب الله أثناء تلك المعركة، والتي حاول من خلالها مراكمة قائمة طويلة من الإنجازات التكتيكية والعملياتية التي أدت في النهاية إلى خروجه منتصراً على أكبر قوة عسكرية في الشرق الأوسط.

وسنشير فيما يلي إلى بعض تلك التكتيكات التي اعتمد عليها حزب الله والتداعيات التي نشأت عنها:

1- الاستفادة من الجغرافيا: استغل حزب الله المساحة الجغرافية الضيقة التي تفصل بين مدن الجنوب اللبناني وقراه، حيث أماكن وجود منظوماته الصاروخية القصيرة المدى، ومراكز تجمع المستوطنين الصهاينة في المنطقة الشمالية لفلسطين المحتلة، وقام بتحويل صواريخه التي يبلغ مداها 40 كلم إلى صواريخ ذات مفاعيل استراتيجية، إذ إن افتقاد الجبهة الداخلية الإسرائيلية العمق الاستراتيجي الآمن، وعدم نشوء منطقة فاصلة أو عازلة بين المدن القريبة من خط الجبهة ومدن الوسط بالحد الأدنى، أدى إلى تحوّل صواريخ تكتيكية ومنخفضة التأثير في مساحات القتال الواسعة إلى صواريخ ذات نتائج هائلة، فيما قامت الصواريخ متوسطة المدى باستكمال باقي المهمة، إذ استهدفت مدناً أبعد مدى وأكثر أهمية، مثل حيفا والخضيرة والعفولة وغيرها.

2- إخفاء مسرح العمليات: بذل حزب الله جهوداً جبارة لعدم تمكين العدو الصهيوني من تحديد مسرح العمليات الأساسي الذي يمكن أن يوجه إليه قوته النارية الهائلة، سواء عبر سلاح الجو الذي كان يسيطر بشكل شبه كامل على الأجواء أو من خلال المدفعية الثقيلة من عيار 155 ملم، التي يُعرف عنها الدقة في الرماية وحجم الضرر الكبير الذي تُحدثه في صفوف الطرف الآخر.

لذلك، اعتمد الحزب بشكل كبير على إطلاق الصواريخ من أماكن متعددة، معظمها تحت الأرض، بحيث يتم إطلاق الصواريخ من خلال راجمات متعددة الفوهات في ثوانٍ معدودة من دون تحديد مكانها في معظم الحالات أو من خلال القتال بوضعية الحركة الذي كانت تقوم به قوات النخبة في الحزب، التي كانت تتصدى لمحاولات التقدم من أكثر من اتجاه، معتمدة على المغارات الجبلية والأنفاق، وفي بعض الأحيان من خلال بيوت خالية من سكانها، وكانت تتموضع في أماكن كاشفة لخط سير قوات المشاة الإسرائيلية، ولا سيما قوات النخبة، التي تلقت وحدات “ماجلان وإيجوز والمظليين” فيها صفعة قاسية في المعركة الشهيرة في بلدة مارون الراس.

3- الأسلحة المضادة للدروع: اعتمد حزب الله في مواجهة الدبابات والمدرعات الإسرائيلية على الصواريخ المضادة للدروع التي كان معظمها من صناعة روسية، مثل صواريخ الكورنيت والفاقوت، وتمكّن من خلال مجموعاته المضادة للدروع المنتشرة في التضاريس الصعبة لقرى الجنوب اللبناني من إيقاع فخر الصناعة الإسرائيلية “ميركافاه 4” وغيرها من الآليات في عشرات الكمائن التي تمكنوا من خلالها من اصطياد تلك الدبابات كأنها في ميدان رماية، وكانت أشهر تلك العمليات ما أُطلق عليها “مقبرة الدبابات” في وادي الحجير، حين خسرت “إسرائيل” نحو 40 دبابة وجرافة، وقتل أكثر من 20 جندياً، وأصيب العشرات.

4- كثافة إطلاق الصواريخ: نجح حزب الله من خلال وحداته الصاروخية في تهديد مركز الثقل الإسرائيلي، المتمثّل في المستوطنات الصهيونية التي افتقدت كثيراً من الخدمات أثناء الحرب، وهو بهذا الفعل الميداني استطاع إيجاد فجوة بين المستوطنين وقيادتهم السياسية والعسكرية، لا سيما بعد فشل تلك القيادة في توفير الأمن لهم، إضافةً إلى فشلها في توفير ما يلزم من غذاء ودواء لكثير من المستوطنات التي كانت تحت نيران الحزب.

5- الصواريخ المضادّة للسفن: رغم أن حرب تموز شهدت العديد من المفاجآت التي أصابت “الجيش” الإسرائيلي في مقتل، فإن أهمها على الإطلاق كان استهداف البارجة “ساعر – 5” قبالة سواحل مدينة صور، إذ تم النظر إلى تلك الحادثة بكثير من الانبهار، لكونها كانت الأولى من نوعها، إضافة إلى أنها جرت من دون أن يكون هناك توقع مسبق لإمكانية حدوثها.

وقد حاولت “إسرائيل” التكتم على الأمر في بداية الحدث ونفي التصريحات التي أطلقها الأمين العام لحزب الله على الهواء مباشرة، ولكنها اضطرت في النهاية إلى الاعتراف بالعملية، ملحقة ذلك بإجراء عملياتي تمثّل في سحب معظم سفنها من قبالة الشواطئ اللبنانية.

6- الحرب الإعلامية والسيكولوجية: تميّز حزب الله في حرب تموز بقدرة إعلامية وأخرى سيكولوجية قلّ نظيرها، واستطاع أن يقدّم لمناصريه وحاضنته الشعبية مادة إعلامية لا تخلو من رسائل نفسية، سواء كانت مرئية أو مقروءة، ساهمت في صمودهم ورفع روحهم المعنوية، فيما قدّم للجانب الآخر المتمثّل في المستوطنين الصهاينة والجنود الذين كانوا يقاتلون في الميدان رسائل من نوع آخر خلقت لديهم انطباعاً قاتماً عن مصيرهم ومستقبلهم غير الآمن في ظل قيادة بدت في غاية الغباء وقلة الخبرة.

وقد قاد الأمين العام للحزب شخصياً حملة الضغط الإعلامي والسيكولوجي على الجبهة الداخلية للعدو، ووجّه على نحو شبه دائم رسائل متلفزة إلى الجمهور الإسرائيلي، تركت، بحسب وسائل إعلام العدو، نتائج لافتة ومهمة للغاية، وكانت تحظى بمتابعة حثيثة من كل الصهاينة الذين كانوا يعتقدون بأنها صادقة أكثر من رسائل قادتهم السياسيين والعسكريين وتصريحاتهم.

إضافةً إلى كل ما تقدّم حول تجربة حزب الله على صعيد “الحرب اللامتناظرة” التي ركّزنا فيها على مجريات حرب تموز تحديداً، لكونها الصورة الأشمل والأوضح التي يمكن من خلالها قراءة المشهد والتعرّف إلى حيثياته، يمكن لنا أن نضيف حدثاً جديداً لم يمر عليه سوى عام واحد تقريباً، واعتبر في حينه حدثاً بارزاً جداً، هو إطلاق حزب الله 3 طائرات مسيّرة قرب حقل غاز كاريش إبّان الأزمة التي كادت تذهب بالمنطقة إلى حرب إقليمية واسعة.

وقد تمكّن الحزب من خلال طائرات صغيرة وغير مسلّحة من استجرار ردود فعل دولية، ولا سيما أميركية، أدت في نهاية المطاف إلى الوصول إلى اتفاق يرضي جميع الأطراف، ويحافظ على ثروة لبنان من النفط والغاز، التي كانت سابقاً مستباحة من الجانب الإسرائيلي.

هذا الأمر يعطينا صورة لا تقبل التأويل عن ضرورة اختيار الأدوات المناسبة لخوض المواجهة مع هذا العدو، إضافة إلى اختيار الوقت المناسب أيضاً، وتوجيه الضغط إلى نقاط ضعفه مباشرة، لنحصل على التأثير الأمثل، وكل هذا من صميم مبادئ “الحرب اللامتناظرة”.

الخاتمة
باستطاعتنا القول في النهاية إن المقاومة الفلسطينية واللبنانية أوجدت لنفسها مكاناً في “المنطقة الميتة” لإمكانيات “الجيش” الإسرائيلي وقدراته، وتمكنت بنسبة كبيرة من تجاوز عقدة فارق القوة لمصلحته، التي كان يستطيع من خلالها حسم كل المعارك سابقاً.

ولكن أسلوب القتال الجديد الذي اعتمدت من خلاله المقاومة على مفهوم “الحرب اللامتناظرة”، واستخدمت في بعض الأحيان، ولو بشكل جزئي، بعض مبادئ “الحرب الهجينة” التي تجمع بين مبادئ الحربين التقليدية واللامتناظرة، ساهم بشكل واضح في تعديل نتائج الحرب وجعلها تميل أكثر إلى جانب قوى المقاومة.

إن الاعتماد على مفاهيم من قبيل “القتال المتناثر” و”التجزئة الديناميكية” لمسرح العمليات أدى إلى فقدان العدو جزءاً كبيراً من تأثير القوة التي يملكها، ولا سيما أن المقاومة عملت وفق مبدأ الاختفاء الإيجابي من ميدان المعركة، وقاتلت بنفس طويل من زاوية إلى أخرى. هذا كله جعل العدو يفقد صبره في ظل رغبته في خوض المعارك السريعة والحاسمة.

ولأنَّ هذا الاحتلال يستخلص العبر من المواجهات السابقة، ويحاول أن يُكيّف خططه القتالية مع كل المستجدّات التي تطرأ في الميدان، فإن على المقاومة في كلّ أماكن وجودها تحديث خططها وتكتيكاتها، وتطوير إمكانياتها وقدراتها، وتفعيل جملة من الأفكار الحديثة التي لم يتم العمل وفقها من قبل، وابتكار وسائل وأساليب غير مُتوقعة قد تساهم في مزيد من التراجع والانكفاء للمشروع الصهيوني برمته، بما يؤدي في نهاية المطاف إلى تحقيق النصر الحاسم والمؤكد.