قدري أبو بكر.. مسيرة نضال وكفاح

أقلام – مصدر الإخبارية

قدري أبو بكر.. مسيرة نضال وكفاح، بقلم المختص في شؤون الأسرى عبد الناصر فروانة، وفيما يلي نص المقال كاملًا كما وصل موقعنا:

تلقي خبر وفاة اللواء قدري أبو بكر، شهقت أنفاسي ولم أصدق – ولا أريد أن أصدق – تنقلت بين المواقع الإخبارية والقلق يتملكني، علّ أحدها ينفي أو حتى يأتيني بأهون المصائب “إصابة الوزير اللواء قدري أبو بكر”!!.

وأجريت اتصالاً واثنين وثلاثة، وتواصلت مع زملائي في هيئة شؤون الأسرى والمحررين، فجاءت الأنباء البائسة: “أبو فادي مات بالفعل ورحل إلى الأبد”.

يا الله ما أقسى الموت، حينما تفقد إنساناً عزيزاً، فهذا ليس بحادث عادي أو موت عابر، إنها الفاجعة. فاجعة إنسانية ووطنية أصابتنا جميعاً بالصدمة؛ وما زلنا نعيش اضطرابات ما بعد الصدمة. وكما يقول الشاعر الفلسطيني محمود درويش: الموت لا يوجع الموتى.. الموت يوجع الأحياء.

عرفناه ثائراً فتحاوياً ومقاتلاً فلسطينياً وأسيراً وطنياً متمرداً على كل أشكال الظُلم والقهر، ورمزاً من رموز الحركة الأسيرة، طوال سنوات سجنه التي امتدت لنحو سبعة عشر عاماً متتالية.

عرفناه رجلاً صادقاً وقائداً وحدوياً وإنساناً متواضعاً، في كل الميادين، فحفظنا صورته في القلوب، وحفرنا اسمه في العقول، وسنردد معاً اسمه دوماً بين الجموع. فما من أحد عرفه أو التقى به، إلا وأثني على حسن سيرته وطيبة قلبه. وما من أحد من هؤلاء سمع بخبر وفاته إلا وتوشح الحزن ألماً لفراقه، واسترسل بذكر محاسنه، وهذا ما سمعناه وقرأناه في حياته وبعد مماته.

الرئيس يكلفه رئيساً لهيئة شؤون الأسرى والمحررين

تشرفت بالاتصال به للمرة الأولى مهنئاً، عقب صدور قرار السيد الرئيس محمود عباس بتكليفه رئيساً لهيئة شؤون الأسرى والمحررين في أغسطس عام2018، وتبادلنا الحديث في هموم الأسرى وشؤون العمل، فإذ به يفاجئني بالسؤال عن أبي ويخبرني بأنه كان صديقاً له في السجن وعايشه لسنوات طوال في غرف سجن بئر السبع. لقد كان يتمتع بذاكرة قوية. وبمجرد أن أنهيت المكالمة، توجهت لوالدي وأخبرته بالحوار، فبدأ هو الآخر باستعادة ذكرياته والإشادة به وبسماته الطيبة وسرد سيرته النضالية والوطنية المشرقة. وحين توفى “والدي” رحمة الله عليه مساء 8نوفمبر 2020 كان “أبو فادي” أول المتصلين معزياً برحيله.

وتوالت الاتصالات، وتبادلنا الحديث مراراً وتكراراً، لكننا لم نستطع اللقاء فوق تراب الوطن بفعل إجراءات الاحتلال والقيود المفروضة على حرية التنقل ما بين غزة والضفة الغربية، فكان لقاؤنا الأول في نوفمبر عام 2018 بالقاهرة، أي بعد تسلمه رئاسة هيئة شؤون الأسرى والمحررين بثلاثة شهور، ومن ثم توالت لقاءات العمل، فالتقيته كثيراً وتشرفت بالسفر برفقته مراراً إلى عواصم عربية وأوروبية عديدة، وشاركنا في لقاءات ومؤتمرات عربية ودولية عديدة، ودخلنا سوياً سفارات فلسطينية ومؤسسات واتحادات عربية كثيرة بما فيها جامعة الدول العربية، والتقينا بالأمين العام أكثر من مرة، وطرقنا معاً أبواب برلمانات ومؤسسات أوروبية ودولية، والتقينا هناك بالعديد من البرلمانيين الأوروبيين. وكانت العاصمة البلجيكية (بروكسل) آخر المحطات الأوروبية التي جمعتني به في فبراير الماضي.

أما عربياً فكما شهدت مصر لقائي الأول به عام2018، كانت العاصمة المصرية (القاهرة) هي المحطة الأخيرة للمشاركة في العديد من اللقاءات والفعاليات، أبرزها الفعالية التي أقامتها جامعة الدول العربية إحياءاً ل يوم الأسير الفلسطيني.

وكانت آخر لحظات اللقاء قبل الفراق الأبدي، في صالة مطار القاهرة الدولي، وهو عائد والوفد المرافق إلى رام الله ، فجر الجمعة 12 مايو2023. يومها أصريت بأن أبقى معهم حتى اللحظة الأخيرة وان أرافقهم إلى المطار، ولسان حالي كان يردد على مسامعهم: لا نعرف متى سنلتقي مجدداً. وكأنني كنت أودعه الوداع الأخير.

وفي السفر لنا معه ذكريات..

وفي السفر، لنا معه ذكريات كثيرة، حافلة بالمواقف الوطنية والإنسانية، وتبادلنا معه أحاديث عديدة، وكان يحرص، على سبيل المثال، أن يستهل زيارته للقاهرة بزيارة الأسيرة الأولى في الثورة الفلسطينية المعاصرة الأخت المناضلة فاطمة البرناوي، حيث كانت تُقيم قبل رحيلها في 3نوفمبر 2022، وقد زرناها معاً مرات عدة.

وكان سريع الاستجابة مع الاتصالات الهاتفية، فلم يترك اتصالاً إلا ويرد عليه، وكثيراً ما رن هاتفه النقال أثناء تناوله الطعام، فإذ به يتوقف عن الأكل ويمسك هاتفه ويرد على المتصل دون أن يعرف هويته.!

وخلال وجودنا في بروكسل، المرة الأخيرة، قبل خمسة شهور، وصلتنا رسالة بعد منتصف الليل تفيد بأن الأسير (أحمد أبو علي) استشهد في سجن النقب جراء الإهمال الطبي، وفي الصباح نزلنا معاً لتناول طعام الإفطار، وقبل أن أبلغه بالخبر. فإذ به يفاجئني قائلاً: اتصل بي الأسرى الساعة الرابعة فجراً (عبر هاتف مهرب) وأبلغوني بخبر استشهاد الأسير. فاستهجنت الأمر وتساءلت: كيف تُبقي هاتفك مفتوحاً طوال الليل يا عمي أبو فادي وترد على الاتصالات بعد المنتصف!. فرد والابتسامة تعلو وجنتيه: نحن خدم للأسرى وقضيتهم.

وفي السفر، كان يتجاوز طواعية البروتوكول الخاص بالوزراء، وكثيرة هي المرات التي منحنا فيها مساحة بالمشاركة في الحديث. كما ولم يشعرنا أبداً بأنه وزير ونحن مرؤوسوه، كان بمثابة الأب الحنون والأخ الكبير والصديق الوفي. كان طيباً وكريماً ومتواضعاً.

معايدة عيد الأضحى المبارك والتواصل مع أهالي الأسرى

وفي اليوم الأول من أيام عيد الأضحى المبارك، اتصلت به مهنئاً إياه والأسرة بحلول العيد، فإذ به، في نهاية المعايدة، يطلب مني رقم هاتف الحاجة أم ضياء الأغا، والدة عميد أسرى قطاع غزة والمعتقل منذ 31 عاماً، ليقدم لها التهاني وهذا ما حصل بعد أن أنهيت مكالمتي. كان حريصاً على التواصل مع الأسرى وعوائلهم. وهو العارف لمعنى أن تكون أسيراً، أو أن يكون لك أبٌ أو ابنٌ أسيراً. فكان مناصراً لهم وصادقاً معهم، وداعماً لحريتهم ومسانداً قوياً لقضيتهم العادلة. فأحبه الجميع وحزن الكل الفلسطيني على رحيله، وكان الحزن أكبر لدى من التقى به. فهذه “أم ضياء الأغا” تقول لي:. “التقيت به، وللمرة الأولى، مؤخراً في القاهرة، وجالسته في أكثر من مناسبة، فتعرفت أكثر عليه، وازددت احتراماً له، وبعد رحيله شعرت بألم كبير وحزن مضاعف. فيا ليتني لم ألتقِ به ولم أتعرف على شخصيته عن قُرب، لكان الألم أخف والحزن أقل”.

وهذا يتقاطع مع ما كنت أرددته على مسامعه وأمام من معه، قبل الفراق بعد كل لقاء، كنت أقول له: كلما التقيت بك، ازددت احتراماً لك.

سيرة مشرقة ومشرّفة..

سيرة العظماء لا ترحل برحيل أجسادهم، وكيف يمكن أن ترحل سيرة “أبا فادي” الذي عاش حياة خصبة وعميقة، وكرّس حياته لأجل وطنه وشعبه وقضية الأسرى والمحررين وعوائلهم، على اختلاف انتماءاتهم، وحرص على أن يكون دائماً عنواناً وحدوياً، وفي كل مرة كانت وطنيته وفلسطينيه تتغلب على فتحاويته، فشكّل رمزاً للكل الفلسطيني.

ولد قدري عمر محمد أبو بكر وكنيته “أبا فادي” في الأول من يناير عام 1953، في بلدة بديا غرب محافظة سلفيت، وانتمى إلى حركة “فتح” عام 1968، ثم التحق بالقوات المسلحة وتلقى تدريبات عسكرية في معسكرات الثورة في الأردن والعراق، وغدى مُطارِداً للعدو ومُطارَداً منه، إلى أن أُعتقل منتصف عام 1970 أثناء مشاركته بمهمة عسكرية قرب قرية يتما جنوب محافظة نابلس وحُكم عليه بالسجن 20 عامًا.

أبعد إلى العراق في أكتوبر عام 1987، بعد قضاء 17عاماً من فترة حكمه، ليعُيِّن هناك مديراً لمكتب القائد خليل الوزير “أبا جهاد”، فكان أحد أركان فريق متابعة العمل النضالي والكفاحي في الأراضي المحتلة، وفي عام 1996 عاد إلى الضفة الغربية، ليعمل مساعداً للمدير العام لجهاز الأمن الوقائي للشؤون المالية والإدارية، وتقاعد برتبة “لواء” عام2008، ليتفرغ بعدها للعمل في أطر حركة “فتح”، وكلف رئيساً للجنة الرقابة المالية في المجلس الثوري للحركة، قبل أن يتم استدعاؤه للعمل مجدداً في أغسطس عام 2018 وتكليفه رئيساً لهيئة شؤون الأسرى والمحررين، ومن ثم تم منحه رتبة وزير، وخلال انعقاد المجلس الوطني عام 2018 تم انتخابه عضواً في المجلس الوطني الفلسطيني.

حصل “أبو بكر” على شهادة الثانوية العامة أثناء فترة سجنه عام 1974، وبعد تحرره واصل تعليمه فحصل على درجة البكالوريوس في العلوم السياسية من جامعة بيروت العربية عام1991. ومن مؤلفاته: كتاب المعتقلون الفلسطينيون من القمع إلى السلطة الثورية، وكتاب الإدارة والتنظيم للحركة الوطنية الفلسطينية الأسيرة، أساليب التحقيق لدى المخابرات الإسرائيلية- كيف تواجه المحقق؟، هذه هويتي. كما وساهم، مع إخوانه ورفاقه، في بناء الحركة الأسيرة وصياغة التاريخ المقاوم خلف القضبان وفي وضع دستوراً ثورياً يحتكم إليه أبناء الحركة الأسيرة.

تزوج أبا فادي بعد تحرره من السجن من المناضلة والناشطة المجتمعية أريج عودة، وأنجب منها ولدان (فادي وفرات) وبنت اسمها (دانا).

الرحيل الأبدي..

انتقل إلى رحمة الله تعالى عصر يوم السبت الموافق 1 يوليو 2023 عن عمر يناهز (70عاماً)، إثر حادث سير مؤسف قرب بلدة جماعين جنوب مدينة نابلس، حين كان يقود سيارته بنفسه، دون سائق أو مرافق، أثناء عودته إلى بيته بعد أداء واجبه الوطني ومشاركته في فعالية أقيمت في مقر الرئاسة الفلسطينية برام الله بحضور السيد الرئيس الفلسطيني محمود عباس، لمعايدة أطفال الأسرى في سجون الاحتلال الإسرائيلي بمناسبة عيد الأضحى المبارك. كان هذا آخر ما شارك فيه، فصافح هذا وذاك، وحضن هذه الطفلة وتلك، والتقط صوراً مع أطفال آخرين. وكأنه في حالة وداع أبدي.

قدرك يا “قدري” أن ترحل لتسكن إلى جوار ربك، فالموت حق وإن كان موجعاً، وقدرنا أن نعيش الألم والحزن من بعد رحيلك، وبرحيلك يا عمي “أبو فادي” أظلمت هيئة شؤون الأسرى والمحررين حزناً، وفي السجون أضفت ظلمة على ظلمتها ألماً، وأوجعت شعب أحبك، لكن بقيّ وجهك الطيب يشع نوراً في عيون الزملاء وعيون كل من عرفك، وسنبقى جميعاً نستلهم من مواقفك النضالية والإنسانية والوطنية، ونستحضر سيرتك الطيبة، وما تركته لنا ولشعبك من إرث نضالي ووطني وثقافي.

الله يرحمك يا عمي أبو فادي ويحسن إليك ويسكنك فسيح جناته ويلهم أسرتك وعائلتك ومحبيك الصبر والسلوان. وإنا لله وإنا إليه راجعون.

أقرأ أيضًا: كتب د. رأفت حمدونة: اللواء قدري أبو بكر سيرة ومسيرة