جنين تدمّر حصون النمر.. وتشتت صفوف اليمام والدوفدوفان!

أقلام – مصدر الإخبارية

جنين تدمّر حصون النمر.. وتشتت صفوف اليمام والدوفدوفان!، بقلم الكاتب في الشؤون العسكرية أحمد عبد الرحمن، وفيما يلي نص المقال كاملًا كما وصل موقعنا:

على الجانب الفلسطيني، فإن التطور الحاصل على مستوى القدرات الاستخبارية للمقاتلين والمقاومين بات لافتاً للنظر.

يُقال إن الكنعانيين هم أول من استوطن تلك البقعة الجميلة والساحرة من أرض فلسطين التاريخية، والتي تشكّل الرأس الجنوبي لمثلث سهل بن عامر الغنّاء، وأطلقوا عليها اسم “عين جانيم “، وتعني عين الجنان، بسبب بساتينها وحقولها الجميلة.

ويُقال أيضاً إن الرومان عندما احتلوا فلسطين في العام 63 قبل الميلاد أطلقوا عليها اسم “جانيم” للسبب نفسه الذي اعتمد عليه الكنعانيون أيضاً.

ويذكر بعض كتب التاريخ أن السيد المسيح عليه السلام قد مرّ بالقرب منها، أثناء رحلته من الناصرة في اتجاه القدس، وشفى بقدرة الله عشرة من المصابين بمرض الجذام على مشارف بلدة برقين غربي المدينة.

في القرن السابع الميلادي، وبعد نجاح العرب والمسلمين في طرد الغزاة البيزنطيين، اتخذ منها بعض القبائل العربية سكناً لهم، وأطلقوا عليها اسم “حينين”، الذي تحوّل لاحقاً إلى الاسم الذي باتت تُعرف به الآن وهو مدينة “جنين”.

وفي اعتقادي أنه ربما يكون هناك سبب آخر لهذه التسمية، وهو مشتق من مصطلح “الجنون”، وهذا مردّه أن أهل هذه المدينة والذين يمتازون بالصلابة وقوة الشكيمة، قد أصابوا كل الأعداء الذين احتلوها، وحاولوا فرض وصايتهم عليها بنوع من الجنون، الذي باتت مظاهره واضحة وجليّة في عصرنا الحالي على قوات الاحتلال الإسرائيلي، وعلى قيادتها العسكرية والسياسية، التي اعتقدت في ظل ما تملكه من إمكانيات عسكرية كبيرة أنها قادرة على فعل ما تريد، وقتما تريد، وفي أي مكان تريد.

هذا الجنون الذي أصاب القادة الصهاينة، وأدخلهم في نوبة من الصراخ والعويل نتيجة ما أصاب قوات نخبتهم في جنين صباح اليوم، بدا واضحاً في زجّهم بمئات الآليات العسكرية المصفّحة إلى داخل مساحة جغرافية صغيرة، وهذا الأمر يُعدّ خطأً عملياتياً جسيماً في مواجهات كهذه تُستخدم فيها العبوات الناسفة بكثافة، وبدا هذا الجنون أيضاً في استخدام “جيش” العدو طائرات مروحية هجومية من طراز “أباتشي” للمرة الأولى منذ 21 عاماً، والهدف من هذا الاستخدام، حسب التصريحات الإسرائيلية، كان تأمين انسحاب القوات والآليات التي تم استهدافها في كمين العبوات. بل وصل الأمر بالقادة الصهاينة إلى دراسة الاستعانة بطائرات حربية من طراز F-16 لتخليص جنودهم المحاصرين تحت رصاص وعبوات الأبطال في مدينة جنين.

جزء من هذا الجنون بدا كذلك في تبادل الاتهامات بين قوات “الجيش” التي وقع على عاتقها تنفيذ الهجوم في جنين اليوم، وبين أجهزة الاستخبارات التي فشلت كما يبدو في تقديم معلومات وافية عن إمكانيات المقاتلين في المدينة.

هذا التراشق لم يقتصر على هاتين الجهتين أيضاً، بل وصل إلى داخل الائتلاف المتطرف الحاكم في “إسرائيل”، والذي طالب جزء منه بالقيام فوراً بعملية عسكرية واسعة على غرار عملية “السور الواقي” في نيسان/أبريل 2002، فيما أطراف أخرى تحذر من الذهاب في اتجاه هذا السيناريو خوفاً من التداعيات الخطيرة التي يمكن أن ترتد على أمن الكيان الصهيوني، وإمكانية تفجّر مواجهة شاملة تشمل كل الأراضي الفلسطينية، واحتمال توسّعها في مرحلة ما لتصل إلى حرب إقليمية.

وبعيداً من الجنون الذي أصاب الصهاينة، فإن ما حدث صباح الاثنين في جنين، يمكن النظر إليه من عدة محاور، سواء على المستوى الميداني-العملياتي، أو على مستوى التداعيات التي يمكن أن نشاهدها خلال الأيام أو الأسابيع القادمة، وكلا المحورين يشيران من دون أدنى شك إلى أن التصعيد العسكري سيكون السمة الغالبة في المرحلة القادمة، لا سيما في شمال الضفة الغربية، وعلى وجه الخصوص مدينة جنين ومخيمها، وبدرجة ثانية مدينتي طولكرم ونابلس.

على المستوى الميداني – العملياتي، يمكن لنا أن نلحظ الكثير من المتغيرات، والتي لم تكن موجودة خلال العامين الماضيين، وخصوصاً منذ تشكيل كتيبة جنين التابعة لسرايا القدس، في أيلول/سبتمبر 2021، على يد الشهيد البطل جميل العموري وإخوانه.

أول هذه المتغيّرات هو التكتيك القتالي الذي باتت تنتهجه قوى المقاومة في جنين، والذي افتقد في مرحلة سابقة إلى الخبرة القتالية، بسبب حداثة سن المقاتلين، إضافة إلى عوامل أخرى لها علاقة بنوعية السلاح المستخدم، وحجم الحاضنة الشعبية التي لم تكن بالحجم المطلوب في ذلك الوقت.

في الأشهر الثلاثة الأخيرة تحديداً، ظهر واضحاً أن هذا التكتيك اختلف جملة وتفصيلاً، وأصبحت تكتيكات المقاومين تمتاز بكثير من الحرفية، والتي تشبه إلى حد بعيد تكتيكات “حرب العصابات”، إذ لم يعودوا يتحركون في المناطق المفتوحة التي كانت تسهّل على قناصي الاحتلال إصابتهم من أول طلقة، ولم يعودوا كذلك يتعجّلون الخروج لملاقاة قوات الاحتلال من دون خطّة مسبقة، وهذا ما كان يسبّب خسائر فادحة في صفوفهم، إضافة إلى زيادة حجم الحاضنة الشعبية لهؤلاء المقاتلين بشكل كبير جداً، وهذه الحاضنة رغم أنها من السكان المدنيين، فإنها تستطيع أن تقدم الكثير من الخدمات المهمة لحاملي السلاح، تبدأ من إمدادهم بالمعلومات الدقيقة عن أماكن تمركز قوات العدو وتحركاتها، وخصوصاً سلاح القناصة، ولا تنتهي بإمدادهم بالمؤن اللازمة لاستمرارهم في القتال، وتوفير أماكن آمنة لاستخدامها لأخذ قسط من الراحة.

المتغيّر الثاني يتعلق بالجانب المعلوماتي أو الاستخباري، وهذا الأمر ينقسم إلى جزأين، الأول يتعلّق بالجانب الصهيوني، والآخر بجانب المقاتلين والمقاومين الفلسطينيين. إذ بدا واضحاً في الآونة الأخيرة انخفاض حجم المعلومات الاستخبارية التي يملكها العدو الصهيوني، رغم ما بحوزته من وسائل تقنية وتكنولوجية هائلة في هذا المجال الحيوي والحسّاس، وقد ساعدته هذه الوسائل في ما مضى في تحديد أماكن تموضع المقاتلين بدقة، وهو ما سهّل عليه في كثير من المرات استهدافهم، سواء بالاعتقال أو الاغتيال، ويبدو أن الإجراءات المضادة التي بات يستخدمها المقاومون من قبيل عدم استخدام الأجهزة الخلوية الحديثة، أو الظهور مكشوفي الوجه في المهرجانات والمسيرات، إضافة إلى العمل الأمني الذي يقومون به ضد عملاء الاحتلال، لا سيما على صعيد الإجراءات الاحترازية، فقد بدا يُؤتي أُكله، وأصبحت قوات العدو تفتقد إلى كثير من المعلومات التي تساعدها في إتمام مهامها، بل والأهم من ذلك الخروج من تلك المهام من دون خسائر بشرية في صفوف جنودها.

على الجانب الفلسطيني، فإن التطور الحاصل على مستوى القدرات الاستخبارية للمقاتلين والمقاومين بات لافتاً للنظر، وهو ما تحدثت عنه الصحافة الإسرائيلية، لا سيما تلك القريبة من الأجهزة الأمنية أكثر من مرة، إذ كان المقاتلون في جنين يعتمدون في المرحلة الماضية على المعلومات العلنية، أي أن تحركاتهم الميدانية، وعمليات التصدّي للتوغلات الإسرائيلية كانت تعتمد فقط على معلومات يتم الحصول عليها من المصادر المفتوحة، مثل حديث المواطنين، أو الإذاعات ووسائل التواصل الاجتماعي وغيرها، وهذا الأمر كان يحمل في طيّاته مخاطر جسيمة، إذ إن الكثير من تلك المعلومات كان موجّهاً من جانب قوات العدو، ويحمل في طياته الكثير من عمليات تمويه أماكن القوات العسكرية، أو الأهداف الحقيقية من وراء العمليات الهجومية، لكن في الفترة الأخيرة، بات المقاتلون الفلسطينيون يملكون وسائل وأدوات تمكنهم من تحديد أهداف العمليات المختلفة بشكل مسبق، إضافة إلى إمكانية كشف مراكز تموضع الجنود الصهاينة، وأماكن تحركهم، والأهم من ذلك، تحديد خريطة مسرح العمليات المحتمل، بما يمكنهم من وضع خطة المواجهة بشكل مهني وفعّال.

المتغيّر الثالث الذي يمكن الإشارة إليه هنا، هو التطوّر الحاصل في إمكانيات المقاتلين، لا سيما على صعيد استخدام سلاح العبوات الناسفة، وهذا الأمر يُنظر إليه في المؤسستين الأمنية والعسكرية الصهيونيتين بشكل بالغ الخطورة، ولا سيما أن العدو يعتمد في كل عملياته على آليات مصفحة ضد الرصاص، ولكنها لن تصمد أمام قوة تفجيرية هائلة يمكن أن تنتج من العبوات الناسفة، مثل عبوة “التامر”(نسبة إلى الشهيد تامر النشرتي، مسؤول وحدة الهندسة في سرايا القدس)، التي تم استخدامها في مدينة جنين صباح اليوم. وفي اعتقادي أن الفترة القادمة، ونتيجة تزايد خبرات المقاومين، في هذا المجال الحسّاس على وجه الخصوص، يمكن لنا أن نشهد مزيداً من عمليات الاستهداف للآليات الإسرائيلية بهذا السلاح الفتّاك، وهو ما يمكن أن يسفر عن خسائر جسيمة في صفوف القوات الصهيونية.

على صعيد التداعيات المحتملة لما جرى في جنين، والذي أطلقت عليه “كتيبة جنين” في “سرايا القدس” اسم معركة “بأس الأحرار”، وبعدما تعرضت له قوات العدو الخاصة من كمين محكم استهدف قواتها وآلياتها المصفحة، وأسقط أكثر من سبعة جرحى، حسب اعتراف العدو، إضافة إلى إعطاب الكثير من الآليات الأخرى، فيبدو أننا سنكون أمام تداعيات مهمة، قد تأخذ المشهد الفلسطيني نحو مزيد من التصعيد مع قوات الاحتلال، سواء على مستوى مدن الضفة المحتلة، وخصوصاً الشمالية منها، أو على صعيد المواجهة الشاملة التي يمكن أن تمتد لتشمل كل الأراضي الفلسطينية بما فيها قطاع غزة.

وحسب ردود الفعل الإسرائيلية حتى كتابة هذا المقال، حيث ما تزال العملية العسكرية جارية في جنين، ولم تتضح مفاعيلها الميدانية والسياسية بعد، فإنه من المتوقع أن تلجأ “إسرائيل”، وبعد الفضيحة التي مُنيت بها قواتها النخبوية في جنين، إلى رفع نسق العمليات الهجومية في مدن الضفة، لا سيما في جنين وضواحيها، إضافة إلى إمكانية تفعيل سلاح الاغتيال من الجو عبر طائرات الاستطلاع، أو المروحيّات، أو الطائرات المسيّرة الانتحارية. مع إمكانية أن تشمل عمليات الاغتيال مناطق أخرى كقطاع غزة، على غرار عملية اغتيال الشهيد طارق عز الدين في أيار/مايو الماضي، والذي كانت تتهمه قوات الاحتلال بقيادة كتائب المقاومة التابعة لـ”سرايا القدس” في الضفة، وإمدادها بالمال والسلاح.

إضافة إلى ذلك، قد تذهب “إسرائيل ” نحو عملية موسّعة تُستخدم فيها الدبابات والطائرات بشكل كبير، على غرار عملية “السور الواقي” في العام 2002، لحسم مسألة المجموعات المقاتلة بشكل نهائي، ولفرض سيطرة أمنية وعسكرية على المناطق الساخنة التي شكّلت لها معضلة حقيقية خلال العامين الماضيين.

وبصرف النظر عن القرار الإسرائيلي المتوقع، رداً على ما جرى في جنين، وبعيداً من التداعيات التي يمكن أن تترتّب على تلك القرارات، سواء على المشهد الفلسطيني، أو الإقليمي، فإن ما قبل عملية “بأس الأحرار” لن يكون بالتأكيد كما بعدها، وأن التطورات القادمة ستكون ذات مفاعيل استراتيجية على مجمل الأوضاع في المنطقة، وليس فقط في الأراضي الفلسطينية المحتلة.

ختاماً، يمكن لنا أن نقول إن جنين، بشعبها الطيّب والمعطاء، وبمقاتليها الأشدّاء العِظام، وبكتائبها وسراياها البطلة، التي طوّعت الصخر، وألانت الحديد، واجترحت المستحيل، ستبقى شعلة مضيئة في ليل هذه الأمة البهيم، وأن التضحيات الجِسام، والدماء النازفة، ستكتب السطر الأخير في قصيدة الصبر والعطاء، والتضحية والفداء، الذي سيعلن فيه شعبنا انتصاره على الأعداء والغرباء، ويقولون متى هو: قل عسى أن يكون قريباً.

أقرأ أيضًا: إسرائيل وخيار الذهاب نحو السور الواقي 2