غسّان كنفاني “روائيًّا”: تأريخُ القضيّةِ الفلسطينيّةِ وأنسنتُها في ظروفِها التاريخيّةِ المتغيّرة

مقال بقلم أيوب الشنباري

كتب الشاعر والكاتب أيوب جمال الشنباري، اليوم الاثنين، مقال بعنوان: غسّان كنفاني “روائيًّا”: تأريخُ القضيّةِ الفلسطينيّةِ وأنسنتُها في ظروفِها التاريخيّةِ المتغيّرة، فيما يلي المقال كاملًا عبر شبكة “مصدر الإخبارية“:

إنّ الحديثَ عن شخصيّةِ الروائيِّ والأديبِ المفكّرِ غسّان كنفاني (مؤسّس مجلّة الهدف عامَ 1969) ينبغي فيهِ مراعاةُ الدّقّةِ في رصدِ استراتيجيّتِهِ الإبداعيّة، ووصفِ إنتاجِهِ الأدبيِّ الإنسانيِّ الكبير، الذي أسهمَ بشكلٍ كبيرٍ بالتأصيلِ للقضيّةِ الفلسطينيّةِ في بُعديْها؛ التأريخيّ والإنسانيّ، وجَعْلِها جزءًا من حركةِ التاريخِ المعاصرِ الحاضرِ في العقلِ الجمعيِّ العربيِّ والقوميِّ والدوليّ، وجَعْلِها قضيّةً مركزيّةً تخصُّ العالمَ الإنسانيَّ أجمع، والإضفاءِ عليها صبغة الإنسانيّةِ التي كفلت الحياةَ الكريمةَ للإنسانِ عمومًا، وتصويرِها صديقةَ الإنسانِ الفلسطينيّ، بل أمَّهُ وحبيبتَه؛ من خلال إنتاجاتِهِ الأدبيّةِ الغنيّةِ بالمعرفةِ والوعي.

قال عنه الناقدُ الإنجليزيُّ روجر ألن: “لم يستطعْ روائيٌّ تسليطَ الضوءِ على مأساةِ الشّعبِ الفلسطينيّ في ميدانِ القصّةِ بتأثيرٍ قويٍّ كما فعلَ غسّان كنفاني، فقد كرّسَ حياتَهُ في الواقعِ وفي الأدبِ القصصيّ لتصويرِ ظروفِ الفلسطينيّين، وتقصّي المواقفِ العربيّةِ المتشابكةِ إزاءَهم”.
ولعلَّ المتتبّعَ لحركةِ الأدبِ “الكنفانيّ” – إنْ جازَ التعبير – والدارسَ له يدركُ أهميّةَ ذلكَ التأريخِ لأهمِّ قضيّةٍ في مركزِ الصّراعاتِ البشريّةِ الكونيّة، ألا وهي قضيّةُ فلسطين، ويدركُ أيضًا مدى استطاعةِ الأديبِ المفكّرِ غسّان كنفاني من تصييرِ القضيّةِ الفلسطينيّةِ من حالةٍ مهمّشةٍ متخلّفةٍ عن الحضورِ في الرأيِّ العربيِّ والعالميِّ إلى حالةٍ متوهّجةٍ حاضرةٍ بقوّة، تملكُ الحقَّ والشرعيّةَ في الوجود، مع شرعنةِ الفعلِ المقاوِمِ للإمبرياليّةِ والكولونياليّةِ والأبرتهايد.

لم يكنْ غسّان كنفاني شاهدًا على ألمِ فلسطينَ وتهجيرِ شعبِها وحسب، بل كانَ شاهدًا أيضًا على مرارةِ الهزيمةِ العربيّةِ عامَ 1967، متجرّعًا من صمتِ الأنظمةِ العربيّةِ الرجعيّةِ وهزيمتِها وخنوعِها علقمَ الإحساسِ بالإهانةِ والذّلِّ كونَهُ فلسطينيًّا عربيًّا قوميًّا يساريًّا حرًّا، بل تعدّت الهزيمةُ إلى ضربِ الأملِ العربيِّ القوميِّ وشلِّهِ في نفوسِ الشّعوبِ العربيّة، إلّا أنّ قلمَ غسّان كنفاني كان يأبى الهزيمة، فكتبَ، وكتبَ، وكتب، رغمَ وهنِ الحالةِ العربيّةِ المتشرذمة، راسمًا مستقبلًا حرًّا ذا استقلالٍ وكرامةٍ وحرّيّةٍ وعدلٍ لشعوبِ المنطقةِ العربيّةِ عمومًا، وللشّعبِ الفلسطينيّ خصوصًا. هكذا بقلمِهِ الذي كان ينهلُ من فكرِهِ الثّوريّ وإرادتِهِ العربيّةِ القوميّةِ اليساريّةِ الصُّلْبةِ استطاعَ غسّان أنْ يجعلَ من قلمِهِ رصاصًا ومدافعَ في مجالدةِ الجهلِ والاحتلالِ والواقع، بل جعلَ من قلمِهِ أيقونةً للثائرِ المتمرّدِ على الجهلِ والاحتلالِ في تاريخِ القوميّةِ العربيّةِ والقضيّةِ الفلسطينيّة؛ كذلك لم يكتفِ غسّان بتشخيصِ الحالةِ العربيّةِ المفكّكة وحسب، بل كان يحثُّ على الثورة، ويشحذُ هممَ الأحرارِ في كلِّ مكان، ويحشدُ مشاعرَ الجماهيرِ وأصواتَهم رفضًا لواقعِ الهزيمةِ والاحتلالِ والجهلِ والتبعيّة؛ فتجلّى ذلكَ كلُّهُ في كتاباتِهِ التي تغلغلتْ في قلوبِ الجماهيرِ قبلَ عقولِهم؛ الأمرُ الذي جعلَ الشّعوبَ العربيّةَ أكثرَ وعيًا بأهميّةِ التمسّكِ بالأرضِ والهُويّة، خاصّةً الشّعب الفلسطينيّ، الذي أصبحَ ينظرُ إلى وطنِهِ على أنّهُ مادّةٌ إنسانيّةٌ ذاتُ روحٍ وحركةٍ وهُويّةٍ منسجمةٌ مع كينونةِ الإنسانِ الفلسطينيّ، ومرتبطةٌ بهِ ارتباطًا وثيقًا وبظروفِهِ التاريخيّةِ المتغيّرة.

لقد نجحَ غسّان كنفاني – الأديب والمفكّر والمناضل السياسيّ – إلى حدٍّ كبيرٍ في إعطاءِ الصّراعِ مع المحتلِّ بُعدًا تتجلّى فيهِ عمليّةُ التأريخِ للأحداثِ في قالبٍ روائيٍّ تراجيديّ، إضافةً إلى لغةِ التّحريضِ والإدانةِ في إطارِ وعيٍ مقاوِمٍ ملتزم؛ لأنّه تنبّهَ مبكّرًا إلى أهميّةِ القلم، وإلى خطورةِ صراعِ الأدمغةِ مع الاحتلالِ وكي الوعي، فعملَ على إبطالِ روايةِ العدوّ في إظهارِ حقائقِ المفاهيمِ والمصطلحاتِ والواقعِ كما هو بأبعادِهِ كافةً؛ الفكريّة، والسياسيّة، والاقتصاديّة، والاجتماعيّة، والدينيّة، بل أدركَ أهميّةَ التراجيديا المأساويّةِ في تشخيصِ الحالةِ الفلسطينيّةِ خصوصًا ورصدِها وتوثيقِها بجوانبِها كافةً؛ ليكونَ أكثرَ واقعيّةً في مطابقةِ مقتضى الحال، كما نرى ذلكَ في روايتِهِ الأولى “رجال في الشمس” التي تضمّنتْ طابعَ النقدِ والإدانةِ بلغةٍ تراجيديّةٍ لواقعِ النكبةِ المعاشِ ولأبطالِها، خاصةً حين يسألُ سؤالَهُ الأخيرَ فيها، وكأنَّ غسّان كنفاني من خلالِهِ يصرخُ في وجهِ العالم: “لماذا لم تدقّوا جدران الخزّان؟ لماذا لم تقرعوا جدران الخزّان؟ لماذا؟ لماذا؟ لماذا؟”، سؤالٌ تنضوي تحتَهُ غصّةٌ عميقة، يحملُ في طيّاتِهِ اللومَ والإدانةَ على الرجالِ الثلاثةِ الذين آثروا الهروبَ والمنفى على مواجهةِ الواقعِ والتّحدّي والصمود، وذهبوا إلى الموتِ وماتوا دونَ صوتٍ ولا صراخٍ ولا حتّى حركة؛ يلومُهم ويُدينُهم كما يدينُ حركةَ التاريخِ والواقعِ الذي أجبرهم على فعل ذلك.

لقد منحَ غسّان كنفاني في كتابتِهِ كلَّ شيءٍ حولَ الإنسانِ الفلسطينيّ المقهورِ صفاتٍ إنسانيّةً، وجَعَلَها أيضًا تحملُ مسؤوليّةَ مأساتِها التاريخيّةِ بأسلوبٍ روائيٍّ تراجيديٍّ مدهش، وبلغةٍ أدبيّةٍ فُجائيّةٍ للمنطقِ والفنتازيا معًا؛ فتارةً تراهُ يُؤَنْسِنُ خيمةَ اللجوءِ التي تقتلعُها ريحُ التشرّدِ كرْهًا رغمَ حاجةِ اللاجئِ الفلسطينيِّ المهجّرِ إليها في المنفى، وتارةً يُؤنْسِنُ أوتادَها المتطايرةَ مع كلِّ عاصفةٍ على صلابتِها وثِقْلِها، وتارةً يؤنسنُ بطاقةَ التموينِ التي تهينُ كرامةَ الإنسانِ الفلسطينيِّ في كلّ مرةٍ يُخرِجُها من جيبِهِ المهترئ، وتارةً يؤنسنُ الخبزَ مع كلِّ مضغة، وكذلك أَنْسَنَ الأحجارَ والأشجارَ وحتّى ملابسَهُ والصورَ والرسومات؛ إشارةً إلى أنسنَةِ الهزيمةِ والنكبة؛ وهكذا منحَ غسّان كلَّ شيءٍ ذاكرةً كذاكرةِ الإنسان، بشكلٍ فلسفيٍّ يعيدُ هيكلةَ مفاهيمِ الأشياءِ في مركزِ الوعي، ويجعلُ التبصّرَ أعمقَ في ماهيّةِ الواقع، غارسًا في تربةِ المستقبلِ بذرةَ الأملِ نحو الاستقلالِ والحرّيّةِ والنصر، ممتشقًا إباءَهُ على صهوةِ الصمودِ في ساحةِ الكبرياءِ والمجد، رغمَ ما فيهِ من ألمٍ وقهرٍ وتشرّدٍ وعذاب.

هكذا جمعَ غسّان بين تجربتِهِ الحياتيّةِ المعاشةِ الصعبة؛ من إحساسِهِ بالألمِ نتيجةَ التهجيرِ والقتلِ والتشريدِ له ولأبناءِ شعبِهِ المكلوم؛ وتجربتِهِ الأدبيّةِ وتوظيفِها في قالبٍ أدبيٍّ إبداعيٍّ مأساويٍّ لتشخيصِ حالةِ الإنسانِ الفلسطينيِّ في واقعٍ مظلمٍ تنهشُهُ فيهِ كلابُ الزّمنِ الضالّة؛ الجائعةُ للّحمِ العربيّ والفلسطينيّ؛ جيءَ بها من أصقاعِ الأرضِ النائية؛ من حاراتِ البلدانِ الفقيرةِ أخلاقًا، ومن مكبِّ نفاياتِ الإنسانيّةِ جيءَ بها حادّةَ الأنيابِ متعطّشةً للدّماءِ لا تعرفُ الرحمةَ ولا الشفقة، وسطَ خنوعِ الأنظمةِ العربيّةِ تجاهَ قضيّتِهِ المركزيّةِ فلسطين.
هكذا استطاعَ غسّان كنفاني أن يستلهمَ إبداعَهُ من واقعِهِ المؤلمِ وتجربتِهِ المأساويّة، فسلّطَ الضوءَ عليها بصورةٍ واقعيّةٍ رفضًا لشروطِ الواقع، واستخدمَ شخوصًا متعدّدةَ الاتّجاهاتِ الفكريّةِ والاجتماعيّةِ والسياسيّةِ في كتاباتِهِ تتلاءمُ ومقتضى حالِ التَّجْرِبةِ الداميةِ التي عاشها أديبُنا المفكّرُ غسان، وأيضًا مطابقتها مقتضى حالِ القوميّةِ العربيّةِ وما يعتريها من تفكّكٍ وضعفٍ وضياع؛ وهذا يجعلنا أكثرَ يقينًا بصدقِ غسّان مع نفسِهِ وشعبِهِ وأمّتِهِ في وصفِ القانونِ العامِ لحالةِ المفاهيمِ المتعلّقةِ بواقعِ القضيّةِ الفلسطينيّةِ والقوميّةِ العربيّةِ ضمنَ وعيٍ يتقبّلُ متغيرّاتِ التاريخِ دونَ الخضوعِ لشروطِها والاستسلامِ لها، بل كان يرى في الهزيمةِ حدثًا طبيعيًّا تكتيكيًّا من حركةِ التاريخِ المتغيّرة، متعلّقًا بمدى فهمِنا للظّروفِ الاستراتيجيّة والتكتيكيّةِ حولَ الأسبابِ المؤدّيةِ للهزيمة، دون أن يخضعَ لشروطِها بالقَبولِ بها واقعًا، والاستسلامِ لها ضعفًا، دون المحاولةِ للنهوضِ مجدّدًا، والتغلّبِ على الهزيمة، وامتشاقِ صهوةِ الكفاحِ المسلّحِ والفعلِ النضاليّ بأشكالِهِ كافةً؛ للخروجِ من أزمةِ النكبةِ والهزيمةِ وتبعاتهما، وصولًا إلى النصرِ والاستقلال.

لقد كانَ أسلوبُ غسّان كنفاني الروائيُّ متعلّقًا بالظرفِ التاريخيّ؛ فبعدَ أنْ وقفَ غسّان على أنقاضِ الهزيمةِ العربيّةِ شاهدًا عليها؛ فقد كتب بما يتلاءمُ والظرفَ التاريخيَّ مع بزوغِ فجرِ الفعلِ المقاوِمِ في الأوساطِ العربيّةِ والفلسطينيّة، وبروزِ حركاتِ التحرّر، حيث بدا التمرّدُ على الواقعِ المأساويّ جليًّا في كتاباتِه ، والحثُّ على مواجهةِ الاحتلالِ واضحًا في أروقةِ سطوره – وإنْ لم يكن سردُهُ ممتلئًا بالتفاؤلِ بما يكفي تصريحًا، لكن لم يكن ممتلئًا باليأس كذلك – وهذا ما نجدُهُ في روايتِهِ الثانية “ما تبقى لكم” التي حاولَ غسّان فيها الخروجَ من الذّاتِ العاجزةِ إلى الفعلِ القادر، ومن الألمِ الفرديِّ الشخصيِّ إلى الألمِ الفرديِّ الشخصيِّ العام، في إطارِ الهمِّ الجماعيِّ المشترك، مع ضرورةِ تغليبِ المصلحةِ العامةِ على الخاصّةِ في كلِّ شيء، وتوحيدِ الجهودِ والمساعي للخروجِ من الذّات؛ وهنا نستنتجُ أنّ غسّان إنّما كان يحثُّ الجماهيرَ الفلسطينيّةَ على عدمِ الانكفاءِ على الذّات، والاستكانة، والخضوع، والقَبولِ بالواقع، بل كان يدعو إلى التمرّدِ على الذّات أوّلًا، ثمّ الانطلاقِ نحو الفعلِ الذي يضمنُ كرامتَها وحريّتَها ثانيًا، وكذلك يرى أنّ الهمَّ جماعيٌّ نتقاسمُهُ جميعًا، وهي إشارةٌ إلى ضرورةِ أن تكونَ نظرةُ الإنسانِ العربيِّ والفلسطينيِّ أعمقَ في فهمِ طبيعةِ الهمّ الجماعيِّ المشترك.

ومع سيطرةِ الفصائلِ الفلسطينيّةِ على (م. ت. ف.)، وبَدْءِ الكفاحِ المسلّحِ ضدَّ الاحتلالِ الصهيونيِّ الفاشيّ؛ تنبّهَ غسّان إلى ضرورةِ استنهاضِ جميعِ القوى لمواجهتِه، وأنّ حقيقةَ الصراعِ مع العدوِّ الإحلاليّ ليستْ إلا صراعًا وجوديًّا؛ صراعًا على الأرضِ والهُويّةِ والوطن، فظهرَ الحسُّ الثوريُّ الواعي في كتاباتِهِ جليًّا واضحًا في شموخِ الفدائيِّ الفلسطينيِّ الثائر، بعدما كانت كتاباتُهُ تصفُ النكبةَ وآثارَها، كحالةِ البؤسِ والتشرّدِ وخيمةِ اللجوءِ والذّلِّ والجوع…، فكتبَ روايتَهُ “عائد إلى حيفا” بمفرداتٍ تقطرُ عزّةً وتمرّدًا وأنفة، إيمانًا منه بالكفاحِ المسلّحِ بأشكالِهِ كافّة، ورفضًا للضعفِ الفلسطينيِّ والخنوعِ العربيّ. كما كان يرى أنَّ الجماهيرَ المسحوقةَ في مخيّماتِ اللجوءِ هم الأقدرُ على الفعلِ النضاليِّ والأجدرِ به؛ لما عانوه من عذابٍ وتشرّدٍ وحرمان، لذلك كان في بُعدِهِ الطبقيّ منتميًا للجماهير الكادحةِ والفلاحين؛ لإيمانِهِ العميقِ بقوّتِها وقدرتِها على الكفاحِ والثورة، كما جاءَ في روايتِهِ “أم سعد” التي باتت تلك المرأةُ تمثّلُ صوتَ الجماهيرِ الفلسطينيّةِ في كينونةِ غسّان وهُويّتِهِ الأدبيّةِ وفكرِهِ المقاوِمِ في مواجهةِ الاحتلالِ ومقاومتِهِ وحدَهُ (أي الإنسان الفلسطينيّ) دون انتظارِ الجيوشِ العربيّة.

هكذا تمكّنَ غسّان بقلمِهِ الممتلئِ بالفكرِ اليساريِّ التقدّميِّ القوميّ، والوعي الطبقيّ، والإبداع، والتمرّد، والإصرار، والنضال، والكفاح… أنْ يشكّلَ خطرًا على العدوِّ الصهيونيِّ النازيّ، من خلالِ تأريخِ أهمِّ المحطّاتِ التاريخيّةِ في القضيّةِ الفلسطينيّةِ والحالةِ العربيّةِ وتوثيقِها في كتاباتِهِ الأدبيّةِ الفريدة، التي ما زالت الجماهيرُ المسحوقةُ المتطلّعةُ للحياةِ بحرّيّةٍ وكرامةٍ واستقلالٍ تصدحُ بها بأعلى صوتِها، رافضةً واقعَ الاحتلالِ النازيّ والأبارتهايد والكولونياليّة؛ ما زالت كتاباتُ الأديبِ المفكّرِ غسّان كنفاني تملأُ أفئدةَ الأجيالِ المتعاقبةِ وعقولَها منذُ أكثرَ من ستّينَ عامًا؛ رحلَ غسّان عن عالمِنا غدرًا وخسّةً ولم ترحلْ إبداعاتُهُ الجمّة، بعدما أنسنَ كلَّ شيءٍ يتعلّقُ بالقضيّةِ الفلسطينيّة، وجَعَلَها قضيّةً مركزيّةً تخصُّ الإنسانيّةَ كلَّها، وانطلقَ في أنسنةِ الأشياءِ ومنْحِها ذاكرةً إنسانيّةً ذات دلالاتٍ خاصّة، إضافةً إلى إعطاءِ القضيّةِ الفلسطينيّةِ بُعدًا إنسانيًّا ووجوديًّا في الحضور العالميّ والعربيّ؛ من خلالِ الربطِ بين القوميّةِ والهُويّةِ الثقافيّة، والموقع الطبقيّ. وهذا لا يتأتّى بسهولةٍ لغيرِ غسّان كنفاني (مؤسّس مجلّة الهدف عامَ 1969)، الذي امتلكَ نصيبًا كبيرًا من القدرةِ الإبداعيّةِ في عمليّةِ الخلقِ الروائيّة، والبراعةِ التصويريّة، والسّرد، والتأريخ، والوصف، والتحليل، بلغةٍ تراجيديّةٍ لم تخرجْ عن واقعِ الإنسانِ الفلسطينيِّ في مراحلِ قضيّتِهِ كافّة، بل وثّقتْ محطّاتِ واقعِهِ في متغيّراتِ ظروفِهِ التاريخيّةِ بشكلٍ موضوعيٍّ عقلانيّ، وسلّط الضوءَ على كيفيّةِ الخلاصِ من الهمِّ الجماعيِّ العربيِّ والفلسطينيِّ المستفحلِ في أواصرِ البِنيةِ السياسيّةِ والاجتماعيّةِ والفكريّةِ للإنسانِ العربيِّ والفلسطينيِّ على حدٍّ سواء؛ فكان خطرًا حقيقيًّا على دولةِ الاحتلالِ الكولونياليّةِ الفاشيّة، لذلك قرّرت اغتيالَهُ بدمٍ بارد؛ ظنًّا منها بإسكاتِ صوتِ الحقيقةِ والجماهير، لكنْ هيهات! ولو دقّقنا في تصريحِ غولدا مائير بُعيدَ اغتيالِ غسّان كنفاني لعرفنا أهميّةَ دورِهِ وأهميّةَ الوعي في صراعِنا مع هذا الاحتلالِ الإحلاليِّ النازيِّ والفاشيّ.

وداعًا رفيقي المناضل الأديب والمفكّر غسّان كنفاني، ولروحك ألف سلام.