لقد مهد فوز دونالد ترامب في الانتخابات الرئاسية الأميركية الطريق لصدمة هائلة في أوروبا. ففي حملته الانتخابية، وعد ترامب بالتحرك بسرعة نحو محادثات وقف إطلاق النار في أوكرانيا والتفاوض على اتفاق سلام مع روسيا، المعتدي في الصراع. وإذا ما التزمت إدارته بهذه التعهدات، فإن النتيجة ستكون لها عواقب وخيمة، ليس فقط على أوكرانيا بل وعلى الأمن الأوروبي على نطاق أوسع. ولا يمكن استبعاد الأوروبيين ــ بما في ذلك الأوكرانيون ــ من المناقشات التي ستحدد مستقبلهم. ويتعين على الدول الأوروبية الحازمة الآن أن تتحد لتشكيل ائتلاف، والمطالبة بمقعد على الطاولة، وجعل شروطها مسموعة بصوت عال وواضح.
ولكي نبدأ، يتعين على التحالف الأوروبي أن يصر على أن إدراج الضمانات الأمنية الموثوقة والفعّالة لأوكرانيا يشكل شرطاً مسبقاً غير قابل للتفاوض لأي محادثات جادة. ويتعين على أوروبا أن تكون مستعدة لتقديم هذه الضمانات بنفسها، ونشر قوات على الأراضي الأوكرانية لتكون بمثابة رادع لأي هجوم روسي واسع النطاق في المستقبل. وفي غياب ضمانات قوية بأن أوكرانيا سوف تظل محمية، فإن علاج وقف إطلاق النار قد يكون أسوأ كثيراً من مرض الحرب ــ وقد تؤدي التسوية غير الكافية إلى إهلاك ليس أوكرانيا فحسب، بل والقارة بأكملها.
نافذة الفرصة
لم تكن الحرب تسير على ما يرام بالنسبة لأوكرانيا. فبعد هجومها الفاشل في صيف عام 2023، حاولت كييف شن توغل مفاجئ في منطقة كورسك في روسيا في أغسطس 2024، لكنها لم تتمكن من ترجيح الميزان التكتيكي لصالحها على الخطوط الأمامية. وبدلاً من ذلك، تواجه مشاكل أكبر من أي وقت مضى. فمنذ الصيف الماضي، قامت موسكو بتنشيط المزيد من القوات من الحرس الوطني والاحتياطيات، وقبل أسابيع فقط، جلبت الآلاف من “القوات الخاصة” الكورية الشمالية، على سبيل الإعارة من النظام في بيونج يانج. وحققت القوات الروسية مكاسب تدريجية على الجبهة الرئيسية للحرب، وخاصة في منطقة دونيتسك، حيث تتمتع بمزايا كمية في المعدات والذخيرة وقوة القوات. ويسمح نقص أنظمة الدفاع الجوي في أوكرانيا للطائرات الروسية المأهولة وغير المأهولة بإجراء الاستطلاع وتدمير أي أهداف أوكرانية عالية القيمة تقع ضمن مدى إطلاق النار، مما يعيق تركيز القوة اللازم للعمل الهجومي.
الواقع أن الوضع ليس أفضل بعيداً عن خطوط المواجهة. فمع حلول فصل الشتاء، من المرجح أن تسفر الحملة الروسية المستمرة ضد البنية الأساسية للطاقة في أوكرانيا، والتي بدأت بجدية في مارس/آذار الماضي، عن خسائر فادحة. وقد يجد ملايين الأوكرانيين أنفسهم محرومين من التدفئة والكهرباء والمياه، مما يدفع موجة جديدة من اللاجئين إلى الفرار عبر البلاد وأوروبا. كان المجتمع الأوكراني مرناً بشكل ملحوظ منذ بدأت الحرب في عام 2014 ــ وخاصة بعد تصاعد الصراع مع الغزو الروسي الكامل النطاق في عام 2022 ــ لكنه الآن يظهر علامات التوتر. وبعد جهود التعبئة التي بذلتها كييف في الربيع الماضي، والتي خففت من مشكلة القوة القتالية المستنفدة في أوكرانيا ولكنها فشلت في حلها، تبدو المعادلة العسكرية قاتمة على نحو متزايد.
كما نجحت روسيا في حشد الدعم بين البلدان التي وصفها الرئيس فلاديمير بوتن بأنها “الأغلبية العالمية”، والتي حضر العديد منها قمة مجموعة البريكس في قازان في أكتوبر/تشرين الأول. (كانت روسيا عضواً مؤسساً في مجموعة البريكس، إلى جانب البرازيل والهند والصين وجنوب أفريقيا). ورغم أن زعماء بلدان مجموعة البريكس الأخرى كانوا أكثر تردداً من موسكو في الابتعاد عن المؤسسات المالية المدعومة من الغرب أو الترويج لأجندة معادية للغرب بشكل صريح، فقد أوضحت القمة نجاح روسيا في تجنب العزلة الدبلوماسية على الرغم من انتهاكاتها الواضحة للقانون الدولي في أوكرانيا.
إن فرض تسوية بقيادة ترامب في أوكرانيا في وقت مبكر من العام المقبل سيكون في وقت غير مناسب بشكل خاص. فمن شأنه أن يجبر أوكرانيا على التفاوض من موقف ضعف عسكري. وتشير الخطوط العريضة لصفقة محتملة رسمها جيه دي فانس، نائب الرئيس المنتخب، وآخرون في فلك ترامب أثناء الحملة الرئاسية إلى أنها لن تُحسم لصالح أوكرانيا. وتشمل المقترحات الشائعة تجميد العمليات العسكرية على طول الخطوط الأمامية الحالية وشروط وضع أوكرانيا بعد الحرب والتي تتراوح من الحياد الرسمي إلى نزع السلاح الكامل. وتتناقض مثل هذه الشروط تماما مع الوعد الذي قطعه زعماء حلف شمال الأطلسي لكييف في يوليو/تموز، في قمة الحلف في واشنطن، ببناء “جسر مضاء جيدا” إلى العضوية. والموافقة على هذا النوع من التسوية من شأنها أن تغلق الأضواء.
وعلاوة على ذلك، من المرجح أن يؤدي الاتفاق إلى إثارة أزمة سياسية وعسكرية في أوكرانيا، والتي قد تستغلها روسيا لتحقيق هدفها في تحويل البلاد إلى دولة خاضعة. ومن شأن انهيار أوكرانيا أن يخلف تأثيرا مدمرا على أوروبا، مما يتسبب في أزمة ثقة ليس فقط في العلاقات عبر الأطلسي ولكن أيضا في مبدأ الدفاع الجماعي في المادة الخامسة من ميثاق حلف شمال الأطلسي وفي مصداقية الاتحاد الأوروبي. ومن المرجح أن تحاول روسيا تعميق هذه الشقوق وزرع المزيد من الشكوك، مما يدفع بعض الدول الأوروبية إلى التحوط، والابتعاد عن الغرب. ولمنع هذه النتيجة الكارثية، تحتاج أوكرانيا إلى دفاعات قوية لنفسها وضمانات أمنية من أوروبا. والآن هناك فترة ضيقة مدتها شهران قبل تولي ترامب منصبه للتأكد من دمج هذين العنصرين الأساسيين في أي مفاوضات قادمة. ولا ينبغي لأوروبا وأوكرانيا أن تفوتا هذه الفرصة.
المطالب الأساسية
ومن المهم أن نلاحظ أن التوصل إلى اتفاق سلام شامل في عام 2025 أمر مستبعد للغاية. فبعد ضم أراض بشكل غير قانوني في خمس مقاطعات أوكرانية، لن ترغب موسكو في التنازل عن مطالباتها في غياب هزيمة عسكرية كبيرة أو تغيير سياسي داخلي. وفي الوقت نفسه، ستجد أي حكومة أوكرانية مستقلة أنه من المستحيل سياسيا وخطر على الاستقرار الداخلي التخلي عن الأراضي المحتلة في شبه جزيرة القرم ودونيتسك وخيرسون ولوغانسك وزابوريزهيا.
وعلى هذا فإن الاتفاق سوف يقتصر على وقف إطلاق النار العسكري، مع تأجيل المحادثات السياسية إلى مرحلة لاحقة. أما بالنسبة للامتثال المتوقع من جانب روسيا، فإن التاريخ ينصح بالحذر: فقد سعت اتفاقيات مينسك أيضا إلى وقف العنف وإرساء الأساس لتسوية واسعة النطاق بعد الغزو الروسي الأولي في عام 2014. وفي الفترة ما بين عامي 2015 و2022، عقدت روسيا وأوكرانيا ما يقرب من 200 جولة من المفاوضات واتفقتا على 20 وقفا لإطلاق النار. وخلال تلك الفترة، اختبرت روسيا الاتفاقات يوميا من خلال نيران المدفعية، وطلقات القناصة، والتسلل، والهجمات الإلكترونية والحرب الإلكترونية، وحملات التضليل المكثفة. واليوم، من غير المرجح أن تحترم روسيا التزاما مماثلا. فمن شأن الاتفاق ببساطة أن يمهد الطريق لصراع طويل الأمد ومنخفض الكثافة.
ولكن لا يزال بوسع الإدارة الأميركية الجديدة أن تقرر متابعة مثل هذا الترتيب، على الرغم من عيوبه الواضحة. وهذا يترك لأوكرانيا وأوروبا فرصة الاستفادة القصوى من هذا الوضع السيئ. أولا، يجب عليهما الإصرار على عدم إجراء أي مفاوضات بدون كييف وأصحاب المصلحة الأوروبيين الرئيسيين على الطاولة. إن قيام المفاوضين الأميركيين والروس (وربما الصينيين) بتحديد مستقبل القارة من خلال صفقة بوساطة سعودية أو تركية سيكون سيناريو كابوسيا، يذكرنا باتفاقية ميونيخ لعام 1938، عندما تم حبس الدبلوماسيين التشيكوسلوفاكيين في غرفة بينما سلمت أوروبا الغربية بلادهم إلى أدولف هتلر، أو اتفاق الدوحة الأحدث في عام 2020، الصفقة بين الولايات المتحدة وطالبان التي فرضتها إدارة ترامب على الحكومة الجمهورية في أفغانستان.
ومن الضروري أيضا تجنب التوصل إلى تسوية غير ملزمة يمكن لروسيا أن تنتهكها دون عواقب فورية. إن عدم فعالية كل من اتفاقيات مينسك ومذكرة بودابست لعام 1994 – وهي الاتفاقية التي وقعتها روسيا والتي قدمت ضمانات أمنية لبيلاروسيا وكازاخستان وأوكرانيا – يُظهر خطورة الاعتماد على موسكو في الوفاء بوعدها. وبالتالي، يجب أن يتضمن الاتفاق الجديد آليات امتثال قوية تضمن عواقب مؤلمة في حالة الانتهاك. وفي غياب مثل هذه التدابير، من المرجح أن تتعامل روسيا مع وقف إطلاق النار باعتباره مجرد توقف عملياتي لإعادة بناء قواتها قبل استئناف هجومها واسع النطاق – عندها فقط، ستكون قدرة أوكرانيا الممزقة بالحرب والهشة سياسيا على المقاومة أقل مما كانت عليه في فبراير/شباط 2022.
ولكي تتجنب أوروبا هذه المزالق وتفرض شروطها الخاصة، يتعين عليها أن تشق طريقها إلى طاولة المفاوضات. ولكن لكي تفعل ذلك، يتعين عليها أن تتغلب على انقساماتها الداخلية. فالحكومات في بعض الدول الأوروبية، مثل المجر وإلى حد أقل سلوفاكيا، تدعو علناً إلى استرضاء روسيا، في حين أعطت حكومات أخرى، بما في ذلك القيادة الحالية في ألمانيا واليونان وإيطاليا وإسبانيا، الانطباع بأنها لن تقاتل من أجل التوصل إلى اتفاق تقوده الولايات المتحدة لإنهاء الحرب بسرعة. ولكن لا يزال هناك العديد من الدول الراغبة في اتخاذ موقف حازم لصالح أوكرانيا والمصالح الأمنية الأوروبية. وقد يشمل أعضاء التحالف الأساسي فرنسا وبولندا والمملكة المتحدة ودول البلطيق ودول الشمال الأوروبي، وقد يحشدون جمهورية التشيك ورومانيا وحتى بلجيكا وهولندا إلى جانبهم. وبوسع فرنسا والمملكة المتحدة على وجه الخصوص الاستفادة من قدراتهما الدبلوماسية والعسكرية، كما فعلتا في المحادثات النووية مع إيران في عام 2015، للدفاع عن موقف أوروبي مبدئي لا يقبل المساومة. وبفضل الحكومات الملتزمة التي تتولى زمام المبادرة، فإن الأوروبيين قادرون على إحداث قدر كاف من الضجيج بحيث تجد الولايات المتحدة صعوبة بالغة، إن لم يكن من المستحيل، أن تتغلب عليهم.
أحذية على الأرض
إن السؤال التالي هو كيف يمكن صياغة ضمانة أمنية موثوقة. ومن بين الأفكار التي تم طرحها دعوة أوكرانيا لبدء عملية الانضمام إلى حلف شمال الأطلسي قبل انتهاء الحرب. ومن الناحية السياسية، فإن هذا من شأنه أن يشير إلى روسيا بأنها لا تستطيع أن تتوقع أن يتضمن اتفاق وقف إطلاق النار شروط الحياد الأوكراني أو، وهو ما هو أسوأ بالنسبة لكييف، نزع السلاح. ومن الناحية النفسية، من شأن هذه الخطوة أن تعزز الروح المعنوية للجيش والمجتمع الأوكراني. وقد تضغط أيضا على روسيا للدخول في محادثات عاجلا وليس آجلا إذا كانت تريد التفاوض على وضع أوكرانيا دون العضوية الكاملة في حلف شمال الأطلسي. ولكن مجرد دعوة كييف للانضمام إلى حلف شمال الأطلسي لا تشكل في حد ذاتها ضمانة أمنية فورية. وسوف يكون من الصعب للغاية حمل جميع أعضاء حلف شمال الأطلسي على الموافقة على تمديد الضمانة، نظرا لتردد إدارة ترامب القادمة في زيادة الالتزامات الأمنية الأميركية تجاه أوروبا والخوف الذي عبرت عنه الحكومة الألمانية من الطبيعة التصعيدية لمثل هذه الخطوة. وقد تغير هذه البلدان مواقفها بمرور الوقت، ولكن الضمانات الأمنية الأوكرانية لا يمكن أن تنتظر.
وقد يتضمن خيار آخر زيادة الدعم المالي لأوكرانيا وإزالة معظم القيود المفروضة على استخدام القوة ــ وهو ما يطلق عليه أحيانا “النموذج الإسرائيلي”، في إشارة إلى الضمان الأمني الذي تقدمه الولايات المتحدة لإسرائيل. وتزويد أوكرانيا بقدرات متقدمة من شأنه أن يمكن كييف من تعزيز دفاعاتها، وبالتالي ردع العدوان الروسي. ولكن هذا يتطلب التزاما ماليا وسياسيا مستداما من الشركاء الغربيين. وكما أظهرت الصراعات الإسرائيلية الأخيرة في الشرق الأوسط، فإن داعمي أوكرانيا سوف يحتاجون إلى الاستعداد للمشاركة المباشرة في الدفاعات ضد الهجمات. وعلاوة على ذلك، قد يعكس هؤلاء الداعمون هذا النوع من الضمان في أي وقت وبتكلفة ضئيلة بالنسبة لهم.
وهذا يترك لنا خيارا أخيرا: نشر قوات عسكرية في أوكرانيا لضمان احترام روسيا لاتفاق وقف إطلاق النار. وسوف تقود أوروبا مثل هذه العملية، مستفيدة من قدراتها العسكرية ومصالحها الاستراتيجية في الدفاع عن أوكرانيا، بدعم محدود من الولايات المتحدة. ومن شأن هذا النهج أن يحقق العديد من الفوائد: فهو من شأنه أن يثبت التزاما أوروبيا ملموسا ويمنع المزيد من التقدم الروسي، كما أنه من شأنه أن يلبي توقعات ترامب بأن يعتني الأوروبيون بقارتهم، ومن شأنه أن يدفع روسيا إلى الانخراط في مفاوضات ذات مغزى.
إن الغرض من نشر قوات أوروبية لن يكون توفير دفاع شامل لأوكرانيا. بل سيكون بمثابة قوة ضامنة تعمل كرادع ضد العدوان واسع النطاق من جانب روسيا ومستعدة للرد بسرعة في حالة وقوع هجوم. وكثيرا ما يشار إلى هذا النظام باسم “النموذج الكوري”، حيث يوفر الوجود العسكري الأميركي في كوريا الجنوبية رادعاً مماثلاً ضد العدوان الكوري الشمالي. وفي أوكرانيا، سيعمل الوجود العسكري الأوروبي كدرع أمني وسيشير إلى الالتزام الغربي الثابت. ومن شأن هذا أن يجعل روسيا مترددة في التصعيد لأن أي غزو آخر لأوكرانيا من شأنه أن يحمل مخاطر عالية تتمثل في استدراج أوروبا وحلف شمال الأطلسي.
إن الانتشار العسكري للتحالف الأوروبي سوف يتطلب مكوناً برياً كبيراً يتألف من أربعة أو خمسة ألوية متعددة الجنسيات تحت هيكل قيادة دائم. وسوف تتمركز القوات في شرق أوكرانيا وسوف تحتاج إلى أن تكون جاهزة للقتال، ومتحركة، ومتكيفة مع الظروف الأوكرانية. وسوف يكون المكون الجوي القوي، بما في ذلك الدوريات الجوية القتالية، والرادار المحمول جواً للكشف عن الطائرات أو الصواريخ القادمة، والدفاعات الجوية الأرضية، وقدرات الاستجابة السريعة ضرورياً لمنع القصف الروسي والتوغل الجوي. ومن الممكن تشغيل بعض هذه الأنظمة من قواعد جوية خارج أوكرانيا. وأخيراً، من الممكن أن يساعد المكون البحري في تأمين خطوط الاتصال الخارجية، ولكن بموجب شروط اتفاقية مونترو، التي تحكم المرور عبر مضيق البوسفور والدردنيل، سوف تحتاج تركيا أولاً إلى السماح لعدد محدود من السفن البحرية الغربية بالدخول إلى البحر الأسود.
وعلى النقيض من مهمة حفظ السلام التابعة للأمم المتحدة، فإن قوة الضمان الأوروبية هذه سوف تحتاج إلى سلطة موثوقة والقدرة على الرد على أي هجوم روسي متجدد بما يتجاوز مجرد المراقبة. ومع ذلك، فإن دورها الرئيسي سوف يكون الردع؛ ولن تخدم القوات الأوروبية في أدوار قتالية في الخطوط الأمامية، حيث سوف تتعرض لحوادث ومناوشات يومية، لتجنب خطر التصعيد غير المرغوب فيه وغير المنضبط. وسوف تعمل قوات التحالف دفاعيا، في مواقع تبعد ما لا يقل عن اثني عشر ميلا خلف خط المواجهة، وبقواعد اشتباك تؤكد على موقفها الرادع.
إن هذه العملية ستكون طموحة بالنسبة للدول الأوروبية ولكنها ليست مستحيلة. فقد سبق لفرنسا وألمانيا والمملكة المتحدة أن تولت مهام عسكرية طويلة ومتطلبة في أماكن بعيدة مثل أفغانستان والعراق ومنطقة الساحل. ورغم أن أوروبا ستوفر القوات العادية، فإن الدعم الأميركي ــ وإن كان محدودا وغير ملفت للنظر ــ سوف يظل ضروريا لجعل القوة مستدامة، وخاصة الدوريات الجوية والدفاع الجوي والاستخبارات والمراقبة وقدرات الاستطلاع. ومن الممكن توجيه معظم العمليات الأميركية، إن لم يكن كلها، من مسافة بعيدة، دون الحاجة إلى بصمة عسكرية أميركية في أوكرانيا.
يتعين على الضامنين الأوروبيين أن يتوقعوا من روسيا أن تختبر حدود هذا الترتيب الأمني باستخدام المدفعية الصاروخية وقذائف الهاون والحرب الإلكترونية والعمليات الخاصة لتعطيل الشبكات اللوجستية للبعثة. ومن المرجح أيضا أن تواجه البلدان الأوروبية المساهمة في القوة وابلا هائلا من التضليل ومحاولات التخريب الأخرى. وللحفاظ على احتواء هذه التهديدات، سوف تحتاج إلى دفاعات قوية ضد الهجمات الإلكترونية وجهود الدبلوماسية العامة لمواجهة الروايات الروسية.
التوصل إلى اتفاق
إن الموافقة على هذا النوع من الضمانات الأمنية قد تبدو غير جذابة للغاية بالنسبة لروسيا، بالنظر إلى ميزتها العسكرية الحالية. لقد رفضت موسكو بالفعل اتفاق إسطنبول في مارس/آذار 2022، وهو جهد سابق لإنهاء الحرب، لأنها رفضت قبول الضمانات الأمنية التي سيتم تفعيلها إذا انتهكت روسيا الاتفاق. وقد يحسب بوتن، الذي راهن منذ اليوم الأول على تراجع الاهتمام الأميركي والإرهاق الأوروبي، أنه سيكون من الأفضل له أن يلعب على الوقت وينتظر إدارة ترامب الجديدة حتى تفقد صبرها وتجبر أوكرانيا على خفض سعرها للصفقة.
إن روسيا سوف تحتاج إلى الإقناع. ولعل ما يساعد في هذا الجهد هو أن آفاق روسيا في الأمد المتوسط ليست قوية كما قد تبدو. فقد أدت الخسائر الهائلة في ساحة المعركة إلى تقليص جودة وكمية القوة العسكرية الروسية. كما كانت مكافآت التوقيع على الانضمام إلى الجيش في تزايد مطرد، مما يدل على الصعوبة التي واجهتها موسكو في مواكبة الالتحاق. ومعظم المعدات التي ترسلها روسيا إلى الخطوط الأمامية يتم تجديدها من مخزونات الحرب الباردة ، والتي على الرغم من ضخامتها، فقد استنفدت بشكل كبير. وفي الوقت نفسه، يعاني الاقتصاد الروسي من ارتفاع درجة الحرارة؛ والإنفاق العام ينفجر، وكذلك التضخم وأسعار الفائدة، وتخسر البلاد رأس المال البشري والميزة التكنولوجية. ولا أحد يعرف متى قد تأتي نقطة التحول، ويعتمد الكثير على الدعم الخارجي الذي يمكن لروسيا تأمينه، ولكن هذا قد يحدث في أقرب وقت ممكن بحلول نهاية العام المقبل. باختصار، إن روسيا تحترق بنفسها، ولكن أوكرانيا تحترق بسرعة أكبر. وهذا يعني أن بوتن عرضة للضغوط، ولكن الغرب لابد أن يزيد من جهوده لتسوية الملعب بين كييف وموسكو.
إن هذه الجهود لابد وأن تشمل توسيع الدعم العسكري لأوكرانيا وتشديد الضغوط الاقتصادية على روسيا. وعلى غرار النهج الذي تبناه الرئيس الأميركي ريتشارد نيكسون في عام 1972، عندما كثف حملات القصف الأميركية والضغوط الدبلوماسية على فيتنام الشمالية، فإن الهدف هو إرغام الخصم على التفاوض. واليوم، ربما يكون التدخل المباشر غير وارد، ولكن التدابير القسرية قد تؤثر على حسابات روسيا. والواقع أن القرار الذي اتخذته الولايات المتحدة مؤخراً برفع القيود المفروضة على استخدام أوكرانيا للأسلحة بعيدة المدى لشن ضربات عميقة في روسيا يشكل خطوة متأخرة منذ فترة طويلة في الاتجاه الصحيح، ولكن لا يزال هناك الكثير الذي يتعين القيام به، بما في ذلك تكثيف عمليات تسليم منصات إطلاق الدفاع الجوي والذخيرة، وزيادة المساعدات المالية، وتسريع التدريب العسكري. ومن الممكن أيضاً أن تستولي الدول الأوروبية على الأصول الروسية المجمدة، وتستخدم الأموال لتسريع عمليات التسليم العسكرية إلى أوكرانيا، وفرض عقوبات ثانوية على الموردين في آسيا الوسطى وشرق آسيا والشرق الأوسط الذين يحافظون على استمرار المجهود الحربي الروسي. ومع تصاعد الضغوط على الجبهتين العسكرية والمالية، سوف تضطر روسيا إلى النظر في صفقة تتضمن ضمانات أمنية قوية لأوكرانيا.
ولكن إذا ظلت روسيا صامدة، فإن أوروبا لابد وأن تتحمل الجزء الأعظم من المساعدات المالية لدعم أوكرانيا في صراع مطول. ولن تتضاءل الحاجة إلى نشر قوات أوروبية في أوكرانيا. بل إن جزءاً من قوة ضامنة ــ مثل الدفاع الجوي والدوريات الجوية القتالية أو كتيبة رأس حربة للقيام بدور تدريبي ــ من الممكن أن يتم نشره حتى في حين لا تزال الحرب جارية. ومن شأن هذا الموقف أن يظهر لروسيا أن أوروبا عازمة على دعم سيادة أوكرانيا وأن القوات الأوروبية سوف تكون موجودة هناك مهما كلف الأمر. ومن شأنه أن يخبر بوتن أنه حتى مع تقلبات السياسة، فإن الغرب مستعد للوقوف على أرضه.