فتحي صباح: رسالة الى قيادة حماس

فتحي صباح – مصدر الإخبارية

ترددت كثيراً قبل أن أكتب رسالة علنية لكم، لأسباب كثيرة، أهمها أنني مواطن صحافي مستقل تماماً عن أي حركة أو حزب سياسي، ولا أمارس أي مهمات أو أدوار سياسية، خارج إطار العمل الصحافي المهني، إضافة إلى أنني أعتقد أنكم لستم بحاجة إلى رسالتي.

فأنتم لديكم مكتب سياسي ومجلس للشورى، ومستشارون، وأصدقاء، وزعماء ووسطاء لا شك في حرصهم عليكم وعلى قضية فلسطين، وعلى قطاع غزة وأهله.

لكن تطورات حرب الإبادة وتصاعدها وكل هذه النكبات والاعداد من الشهداء والجرحى والمعوقين، والدمار الهائل، والضياع والتيه، وعدم تحقيق أي نتائج، وتحويل معظم مناطق القطاع إلى صحراء جرداء، وتصحر العقول والضمائر والأخلاق، دفعني لأوجه لكم هذه الرسالة النصيحة، حرصاً عليكم وعلى من تبقى من أهل غزة وأرض غزة، لعل وعسى أن تجد أذاناً صاغية.

إن ما دفعني بقوة للكتابة، هو قرار المجلس الوزاري الإسرائيلي السياسي الأمن المصغر “كابينيت” الليلة الماضية السابع من آب (أغسطس) ٢٠٢٥، القاضي ببدء عملية عسكرية جديدة كبرى واحتلال ما تبقي من قطاع غزة، والبداية من مدينة غزة العاصمة السياسية والإدارية والاقتصادية والثقافية للقطاع الساحلي الصغير.

من المرجح أن تبدأ هذه العملية في تشرين الأول (اكتوبر) المقبل، تزامناً مع بدء الحرب عامها الثالث، بارغام سكان مدينة غزة والنازحين فيها المُقدر عددهم بنحو مليون فلسطيني، على النزوح جنوباً الى مواصي خان يونس، وليس إلى المحافظة الوسطى، لأنه من المتوقع أن يجتاحها جيش الاحتلال بعد مدينة غزة، علماً أن المواصي والوسطى ليس فيها موطئ قدم واحدة لأي نازح جديد، ومناطق شرق القطاع وشماله ورفح كلها محتلة.

وقد تستغرق هذ العملية الجديدة عاماً كاملاً، يحتاجه رئيس الحكومة الإسرائيلية بنيامين نتنياهو وحلفاؤه من اليمين المتطرف كي تظل حكومتهم وائتلافهم موحداً حتى موعد الانتخابات التشريعية المقبلة في تشرين الأول (أكتوبر) ٢٠٢٦.

وأعتقد جازماً أنه لا يُخفى عليكم، ما هي حال اكثر من مليوني غزي الأن، بعد عامين تقريباً من حرب الإبادة، والتدهور المعيشي والتجويع الحاصل وفقد الناس كل من مدخراتهم وشقى العمر، ولم يعد لديهم ما يقدمونه على مذبح الحرية سوى المزيد من الموت والدمار والانهيار الاقتصادي والمجتمعي والصحي والثقافي.

وطبعاً لا يُخفى عليكم ما ستجره العملية العسكرية الجديدة من موت ودمار وانهيار جديد على كل المستويات.

لذا أود أن أذكركم بما قاله في نهاية عام ٢٠١٢ رئيس المكتب السياسي لحركة حماس خالد مشعل خلال لقاء، شارك فيه عدد من قياديي الحركة وحضره أكثر من ١٠٠ شخصية وطنية واعتبارية (أنا واحد منهم)، دعا إليه الصديق عمر شعبان مدير مؤسسة بال ثنك في قاعة “روتس”، أو سيدار” في مدينة غزة، وما جرى قبل اللقاء وبعده.

مشعل قال إن السياسي الإسرائيلي رئيس حزب “شاس” اليميني المتطرف عضو الكنيست والوزير الأسبق إيلي يشاي أرسل له عرضاً، مع الرئيس الأميركي الأسبق جيمي كارتر، لإجراء مفاوضات مباشرة بين حماس وإسرائيل للتوصل إلى حل للقضية الفلسطينية.

وأضاف مشعل أنه رفض العرض، وقال حرفياً وهو مُحق: “رفضت العرض ليس لأن المفاوضات حرام، فالمفاوضات ليست محرمة شرعياً، بل رفضت لأنني أعلم أن إسرائيل لن تعطينا شيئاً ولا حقوقاً، وها هي تجربة مفاوضات (الرئيس الفلسطيني الراحل) ياسر عرفات ونتائجها ماثلة أمامنا”.

اذاً، مشعل اقتنع بعدما عركته السياسة واكتسب خبرة من كونه رئيساً للمكتب السياسي لعشرين عاماً، أن إسرائيل، ومن خلفها الولايات المتحدة تدعمها بكل قوة، كما هو حاصل الأن، لن تمنح الشعب الشعب الفلسطيني، ولا أي طرف فلسطيني أي حقوق أو دولة أو حق تقرير المصير، الذي يُعتبر من القواعد الأمرة في القانون الدولي، التي لا يجوز مخالفتها او النكوص عنها.

كما أن أربعة حروب سابقة على القطاع انتهت بآلاف الشهداء وتدمير عشرات آلاف المنازل والوحدات السكنية والبنى التحتية والاقتصادية والثقافية والاجتماعية، من دون أي مقابل.

وللحركة تجربتان في هذا الشأن، الأولى حرب عام ٢٠١٢، حيث أوكلت حماس إلى المسؤولين والأشقاء المصريين، مهمة التفاوض مع الولايات المتحدة وإسرائيل لإنهاء الحرب بعد اندلاعها بثمانية أيام فقط.

الثانية كانت في حرب ٢٠١٤، حيث طالبت حماس بمطالب كبيرة جداً محقة، لكن لم يتحقق منها أي شيء، من بينها إنشاء ميناء بحري، وإعادة بناء مطار غزة الدولي، ورفع الحصار المشدد عن القطاع، وعملية تبادل أسرى لم تتم، وغيرها.

لكن الحرب انتهت بعد ٥٠ يوماً، ورغم أن الحركة وافقت على أن تكون جزءاً من فريق مفاوض لمنظمة التحرير الفلسطينية، وليست المفاوض الوحيد، برئاسة القيادي الفتحاوي عزام الأحمد، من دون تحقيق أي نتائج تُذكر، ولا زلنا حتى اليوم نتحسّر على تدمير المطار وعدم وجود ميناء، ولا تبادل للأسرى.

وإن لم يكن لدى الحركة في ٢٠١٤ ما يمكن أن تقايض به أسرى فلسطينيين او غيرها من المطالب المُحقة، فالامر اليوم مختلف تماماً، إذ أن لديها ٢٠ أسيراً حياً، ونحو ٣٠ جثة لإسرائيليين، يمكن أن تجبي الحركة والوطن أثماناً محترمة مقابل إطلاقهم.

لنعود قليلاً إلى الوراء، إلى عام ٢٠٠٨، حيث غادر وفد من قياديي الحركة قطاع غزة عبر معبر رفح البري، بضمانات مصرية بعدم المسّ به، متوجهاً إلى القاهرة ودمشق لخوض مفاوضات غير مباشرة مع إسرائيل للتوصل لوقف اطلاق نار وانهاء الحرب التي شنتها على القطاع في ٢٧ كانون الأول (ديسمبر) ٢٠٠٨.

وبعدما وضعت الحرب أوزارها التقينا خمسة أو ستة من الصحافين مع القيادي البارز في الحركة الدكتور محمود الزهار في غزة بعد انتهاء الحرب في ١٨ كانون الثاني (يناير) ٢٠٠٩.

وقال لنا الزهار حرفياً وهو مُحق أيضاً: “قلت لمشعل الحرب يجب أن تتوقف، عليك أن تُوقف الحرب (بصفته رئيس المكتب السياسي صاحب الكلمة العليا)، واللي ايده في الميه مش زي اللي ايده في النار واحنا في غزة أيدينا في النار”، وفعلا وافق مشعل والحركة على وقف النار من دون أي مقابل أو نتائج تُذكر.

العبرة والنصيحة

خلاصة القول: إن الحروب الأربعة وأخرها عام ٢٠٢١ انتهت من دون تحقيق أي نتائج، أو اطلاق أسرى، أو استعادة حقوق أو اكتساب حقوق جديدة.

كما أن تجربة الحركة، في المفاوضات خلال الحرب الحالية، لم تُحقق الكثير، تماماً مثل تجربة منظمة التحرير الفلسطينية، وقد تكون أسوأ منها، أو أكثر عبثية منها، رغم مكاسبها الضئيلة من مفاوضات اتفاق أوسلو، فالمفاوضات أصبحت “عملية” مثل عملية السلام أو عملية المصالحة لا طائل منها.

إن إسرائيل تمتلك قوة نارية هائلة مدعومة أميركياً بكل ما يلزمها من سلاح وذخيرة، وهي مؤمنة بأن ما لا يتحقق بالقوة سيتحقق بمزيد من القوة، وهذه القناعة والمنطق الخطير هو ما يفسر قرار شن عملية عسكرية حاسمة متوقعة خلال الأسابيع المقبلة.

إن اسرائيل تمتلك غطاء سياسياً وقانونياً اميركياً في كل المحافل الدولية، وكلنا نعرف أن قرارات محكمة العدل الدولية بوقف الإبادة، وقرار المحكمة الجنائية الدولية نتنياهو ووزير دفاعه السابق يوأف غالنت بارتكاب جرائم حرب لن تُنفذ.

وتعلم الحركة أن الأمتين العربية والإسلامية لم تحرك ساكناً منذ نحو عامين، ولن تحرك ساكناً الأن حتى لو قتلوا كل أهل غزة ودمروا كل بيوتهم، وربما يكتفون بإرسال أكفان القماش البيضاء، أو أكياس بلاستكية بدلاً منها.

ومن المؤكد أنكم تعلمون أن العالم كله لم يتمكن من اقناع إسرائيل بإدخال زجاجة ماء واحدة أو حبة دواء طيلة الشهور الخمسة الماضية أو وقف الحرب، بل أن أوروبا وأميركا تعتبركم حركة إرهابية وأعطت إسرائيل الضوء الأخضر لابادتكم وابادتنا من خلال إعلانها أن من حقها الدفاع عن نفسها، والاعلان ما يزال صالحاً حتى الأن.

وهناك الكثير مما يمكن قوله وسرده في سياق استخلاص العبر، لكن تبقى النصيحة الأهم هي: كل هذا ليس معناه الخضوع والاذعان أو دعوة للاستسلام، بل دعوة لقراءة الواقع في قطاع غزة والضفة والقدس، حيث نفقدها جميعاً ويتهددها خطر الابادة والاستيطان والضم وضياعها جميعاً.

ومثلما فعلتم في ٢٠١٢، و ٢٠١٤، كونوا جزءاً من فريق فلسطيني عربي موحد يتألف من ممثلين عن حماس وممثلين عن حركة فتح ومنظمة التحرير ومصر وقطر، وأعطوا تفويضاً كاملاً للفريق المفاوض باتخاذ القرارات المصيرية المناسبة المتعلقة بتبادل الأسرى، ووقف الحرب، ومصير السلاح، واعادة الإعمار، وشكل اليوم التالي في قطاع غزة.

هذا بعد المصالحة الفورية مع فتح والرئيس محمود عباس بأي ثمن، فأي ثمن للمصالحة مهما كان بسيطاً أفضل مليون مرة من عدمها، وأي ثمن لوقف النار أفضل مليون مرة مما يعيش فيه أهل غزة منذ عامين، فما بالكم لو نفذت إسرائيل قرارها بشن عملية عسكرية جديدة.

كما أنصح الحركة بإعلان تخليها كلياً عن الحكم والخروج نهائياً منه وليس من الحكومة فقط.

ربما يشكل هذا الطرح سلماً لنجاتكم ونجاتنا من إبادة قادمة أكثر فتكاً من الحالية، وفي حال فعلتم سيسجل التاريخ لكم موقفاً غير مسبوق، وسيحفظ لكم حقنكم دماء الفلسطينيين، وإن لم تفعلوا، لا سمح الله وفات الأوان، فقد تكونوا قد اخترتم طريق هلاككم وهلاك أهل غزة، ولن يرحمكم الشعب والتاريخ معاً.

فالإنسان أغلى من الأرض ومن الأحزاب، وفلسطين وغزة من دون أبنائها وأهلها لا قيمة لها ولا معنى، والمواطن الفلسطيني الصابر الصامد المظلموم تاريخياً، أغلى وأهم من حماس وفتح وكل الأحزاب والفصائل، وهو من سيحافظ على جذوة الكفاح الوطني مشتعلة طالما ظل الاحتلال جاثماً فوق صدره وأرضه، وطالما ظلت عجلة التاريخ تدور.