غسّان كنفاني في غزة

كتب رئيس التحرير

تحل اليوم الثامن من تموز (يوليو) الذكرى 51 لاغتيال الموساد الإسرائيلي السياسي والأديب المبدع والفنان الإنسان غسان كنفاني في الحازمية في العاصمة اللبنانية بيروت.
في صبيحة ذلك اليوم الحزين من عام 1972 صعد غسان إلى سيارته وبرفقته لميس ابنة شقيقته فايزة، وعندما أدار محركها انفجرت السيارة.
تطاير جسد غسان والطفلة لميس أشلاءّ في أرجاء المكان.
لكن غسان الإنسان والفكرة والنموذج والأيقونة سيظل حاضراً في الوعي الجمعي الفلسطيني والثقافة الوطنية إلى الأبد.
قبل رحيلة بست سنوات جاء غسّان إلى غزة، عبر القاهرة، ضمن وفد اتحاد الصحافيين العرب، الذي اطلع على أوضاع قطاع غزة، وشارك في مؤتمر لاتحاد كتاب فلسطين.
مكث غسّان أياما عدة في مدينة يزورها، ربما للمرة، الأولى والأخيرة في حياته.
فاجأته مدينة غزة وأهلها، مثلما فاجأت كثيرين من قبله ومن بعده، بطيبتهم وشهامتهم وكرمهم المعهود.
هذا الكرم الذي شهد به صحافيون وسياسيون وناشطون عرب وأجانب زاروا قطاع غزة خلال عشرات السنوات.
وإلى يومنا هذا لم يتخلَ أهل غزة عن طيبتهم وشهامتهم وكرمهم وحسن استقبالهم وضيافتهم.
غسّان كتب رسالة أرسلها إلى الكاتبة والأديبة السورية غادة السمان من فندق أبو هويدي على شاطئ بحر مدينة غزة في التاسع والعشرين من تشرين الثاني (نوفمبر) 1966.
نشرت الأديبة اللامعة رسائل غسّان في كتاب، ومن بينها تلك الرسالة، التي يسجل فيها ملاحظاته وانطباعاته عن غزة وأهلها، وتُظهر إنسانيته وثوريته وتواضعه وحبه للناس.
يقول غسّان في رسالته لغادة: “إنني معروف هنا، وأكاد أقول (محبوب) أكثر مما كنت أتوقع، أكثر بكثير”.
ويضيف: “وهذا شيء، في العادة، يذلني، لأنني أعرف بأنه لن يُتاح لي الوقت لأكون عند حسن ظن الناس، وأنني في كل الحالات سأعجز في أن أكون مثلما يتوقعون مني”.
ويتابع: “طوال النهار والليل أستقبل الناس، وفي الدكاكين يكاد الباعة يعطونني ما أريد مجاناً، وفي كل مكان أذهب إليه أُستقبل بحرارة تزيد شعوري ببرودة أطرافي ورأسي وقصر رحلتي إلى هؤلاء الناس وإلى نفسي”.
ويقول: “إنني أشعر أكثر من أي وقت مضى أن كل قيمة كلماتي كانت في أنها تعويض صفيق وتافه لغياب السلاح، وأنها تنحدر الآن أمام شروق الرجال الحقيقيين الذين يموتون كل يوم في سبيل شيء أحترمه، وذلك كله يشعرني بغربة تشبه الموت وبسعادة المحتضر بعد طول إيمان وعذاب، ولكن أيضا بذُل من طراز صاعق”.
ربما كُتب القليل عن زيارة غسّان ووفد اتحاد الصحافيين العرب إلى غزة، وما جرى فيها.
والثابت أن غسّان شارك في ندوة عُقدت في مدينة غزة على هامش الزيارة.
لكن كاتباً فلسطينياً لامعاً كتب مقالاً عن غسّان ضمّنه شيئاً عن هذه الزيارة.
كتب الأديب والشاعر راسم المدهون مقالاً بعنوان “غسّان كنفاني كاتب التراجيديا الفلسطينية”.
قال: “كان العام 1966 في ما أذكر. هرعنا يومها إلى قاعة سينما النصر في مدينة غزة لحضور ندوة أدبية عُقدت على هامش مؤتمر لاتحاد كتاب فلسطين، كان يعقد في المدينة. كانت المفاجأة أجمل من مؤتمر يُعقد وينتخب هيئة مسؤولة للاتحاد وينفضُ كأن شيئاً لم يكن”.
أعلن عريف الندوة دعوته “الكاتب الشاب” غسّان كنفاني.
يصف الأديب المبدع المدهون غسّان: “شاب بالغ الوسامة ناحل وفي مقتبل العمر صعد المنبر ليتحدث بلهجة تمزج الحلم بالواقع في مناخ كان أقرب للحلم: أخبرنا عن شعر جميل جاءه من “هناك”، من “الجهة الأخرى” التي صارت “غامضة”، ومحجوبة عن أخبار الإذاعات والصحف لأنها صارت جزءاً من الكيان الذي نشأ على أنقاضنا”.
يُشير الأديب المدهون إلى كُتّاب وشعراء فلسطينيين من فلسطيني الداخل: “أخبرنا غسّان كنفاني يومها أنه سيقرأ قصائد “وصلته” لعدد من شعراء الجليل، وراح يردّد أسماء محمود درويش، توفيق زياد، سميح القاسم، فوزي الأسمر وغيرهم”.
غزة مثل عكا مسقط رأسه وحيفا ويافا وصفد حاضرة دائما في قلب غسان وعقله ووجدانه وأعماله الأدبية.
غسّان كتب قصة قصيرة بعنوان ورقة من غزة” ضمن مجموعته القصصية “أرض البرتقال الحزين”، يرفض فيها البطل الهجرة من المدينة المظلومة الحزينة الجريحة إلى الولايات المتحدة رفضاً قطاعاً باتاً لا رجعة عنه.