المناديب في زمن الحرب.. أذرع النجاة في مخيمات النزوح

07 ديسمبر 2025 02:08 م

نسمة الحرازين- مصدر الإخبارية

من بين ركام حيّ الشجاعية شرق مدينة غزة، تتشكّل قصص عديدة عن النجاة، إلا أن قصة أحمد سعدي عيّاد، المعروف بـ"أبو عبدالله"، تبدو كتجسيد واضح لما يعيشه آلاف النازحين الغزيين ممن فقدوا بيوتهم ومراكز حياتهم.

وُلد أحمد عام 1992 في أسرة بسيطة متماسكة، يجمع أفرادها بين الالتزام الديني والشعور الوطني، وهو ما شكّل جزءًا مهمًا من شخصيته ومفهومه للعطاء والمسؤولية. شاء القدر بأن يكون ترتيبه الثاني على الجميع ، نشأ في بيئة تمنحه دعمًا عائليًا قويًا أعانه على مواجهة تحولات حياته اللاحقة.

منذ طفولته، أبدى أحمد اهتمامًا بالعلاقات الاجتماعية والعمل الشبابي، ما دفعه إلى دراسة العلاقات العامة والإعلان في الكلية الجامعية، قبل أن ينخرط في سلسلة من الدورات في مجالات الإعلام والتنمية البشرية، بينها دورة إعداد مدرّبين.

وبفعل هذه الخبرة، أسّس مركزًا شبابيًا تدريبيًا حمل اسم "إدراك" قبل حرب 2014 بشهر واحد فقط، ضمن فريق شبابي تطوعي إلا أن الحرب حينها لم تُبق مجالًا لاستمرار المشروع، فتحوّل المركز إلى مأوى للنازحين، في أول صدمة حقيقية دفعته إلى إعادة التفكير في دوره المجتمعي.

إلى جانب نشاطه المدني، برز أحمد رياضيًا منذ المدرسة الأساسية، وحقق مراكز متقدمة في كرة القدم وتنس الطاولة ضمن بطولات “القدس” شرق غزة خلال رحلته الجامعية . كانت الرياضة متنفسًا له، قبل أن تتراجع أهميتها في ظل الظروف المتراكمة التي عاشها القطاع.

تحوّل قاسٍ.. من الاستقرار إلى النزوح

مع اندلاع الحرب على غزة عام 2023 وما تبعها من دمار واسع، تغيّر مسار حياة أحمد جذريًا. يروي تلك اللحظة التي غيّرت كل شيء قائلًا:

"في يوم واحد فقط، تحوّل الحي الذي عشت فيه سنوات إلى رماد. فقدنا البيت وكل ما بنيناه. لم يبقَ شيء سوى الذاكرة."

منذ تلك اللحظة، بدأت رحلة نزوح طويلة امتدت لشهور، قبل أن تستقر العائلة في مخيمات مكتظة تفتقر لأبسط مقومات الحياة وبمرور الوقت، اكتشف أحمد أن دوره لا يمكن أن يقتصر على الاهتمام بعائلته فقط، بل بات أمام مسؤولية أوسع تجاه مجتمعه.

من نازح إلى مندوب يخدم آلاف الناس

بعد نحو عامين من الترحال، أصبح أحمد أحد الوجوه المألوفة في مخيم “أطياف العودة” قرب منطقة “جميل وادي”، ضمن سلسلة مخيمات الإسراء، ومع توسّع الاحتياجات وتعقّد الظروف، جرى التوافق عليه كمندوب للمخيم، وهو دور يتجاوز حدود الوظيفة الإدارية، ليصبح نقطة اتصال بين آلاف النازحين والمؤسسات الإغاثية.

يشرح آلية اختيار المندوبين داخل المخيم: "يتم التوافق على المندوبين بين لجان المخيم وفق معايير تشمل القدرة على التواصل، الخبرة، وتحمل الضغط. نتلقى توجيهات من الجهات الرسمية، ونوزع المساعدات حسب الأولويات".

تتضمن مهامه اليومية تنسيق توزيع المواد الغذائية، متابعة الحالات الصحية، مراقبة احتياجات الأطفال وكبار السن، وتوثيق كل ما يجري لضمان الشفافية.

لكن هذا الدور لم يخلُ من التحديات، بل فتح الباب أمام سلسلة من الاتهامات التي يواجهها المندوبون عمومًا على أرضية الحساسية العالية المرتبطة بتوزيع المساعدات.

في المخيم، يُنظر إلى المندوبين على أنهم "أذرع النجاة"، وفي الوقت ذاته "الجهة الأقرب لتحميلها المسؤولية". فالاحتياج أكبر من الموارد، والضغط اليومي يدفع كثيرًا من الناس لطرح أسئلة حول العدالة والمصداقية.

يقول أحمد: "الوضع الحساس يجعل أي تأخير أو نقص يُفسّر كتمييز. البعض يعتقد أننا نتحكم بالقوائم وهذا غير صحيح نحن آخر حلقة في سلسلة طويلة".

يتلقى المندوبون شكاوى متكررة التي من ضمنها تأخير وصول بعض المساعدات الإنسانية وعدم إدراج أسماء معينة ضمن الكشوف و الاعتقاد بوجود "محسوبيات" أو معاملات خاصة.

هذه الاتهامات، التي كثيرًا ما تُوجّه للمندوبين، لا تعبّر بالضرورة عن الحقيقة، لكنها تعكس حجم الضغط النفسي والاجتماعي الواقع على الأهالي في مخيمات النزوح، حيث يصبح الحصول على سلة غذائية أو عبوة مياه أمرًا مصيريًا.

أين يقع الخلل؟

يوضح أحمد أن جزءًا كبيرًا من الفجوة بين الناس والمندوبين يعود إلى العوامل عدة وهي عدم استقرار آلية وصول المساعدات غالبًا ما تكون أقل من المتوقع، أو تتأخر، ما يؤدي إلى استبعاد أسماء مؤقتًا، وتعدد الجهات المانحة لكل جهة نظام مختلف، وبعض القوائم لا تتكامل مع غيرها فنقص الشفافية العامة، الناس لا يعرفون الأسباب الفنية وراء حذف أو تأجيل توزيع معين.

ويضيف: "نحن نمثّل الواجهة فقط. لا نملك صلاحية إضافة اسم أو حذفه، لكن الناس ترى أننا المسؤول المباشر".

فقدٌ شخصي يزيد العبء لكنه لا يوقف المسيرة

لم تتوقف مأساة أحمد عند فقدان منزله فقط، بل خسر شقيقته الصغرى “نورا”، وزوجها، وأطفالهما في قصف دمّر منزلهم في الشجاعية.

يقول بصوت خافت: "كان يومًا أسود… لكن في وسط الألم، كان هناك من ينتظر مساعدتي. لم أملك الخيار بين أن أكمل أو أن أتوقف."

أعاد أحمد توجيه حزنه نحو العمل الإغاثي، معتبرًا أنه مسؤولية لا يمكن التخلي عنها.

بحث دائم عن حلول في ظل الحرب 

رغم محدودية الإمكانيات، يعمل أحمد ولجان المخيم على خطط لتحسين الخدمات، مثل:توفير مياه صالحة للشرب،صيانة بعض خطوط الكهرباء، البحث عن دعم للتعليم والصحة،خلق بيئة أكثر أمانًا للأطفال.

ويصف الوضع بقوله: "الأمل هو الشيء الوحيد الذي يمكن حمله. كل خطوة صغيرة تُحسب فتواصلنا مع بعض المتبرعين في الخارج، حيث شاهد البعض منهم ما نقدمه من جهود وخدمات للنازحين عبر مواقع التواصل أو من خلال تقاريرنا الميدانية.

بدأت تصلنا بعض التبرعات البسيطة، ليست ضخمة أو مستمرة، لكنها تُحدث فرقًا في أحيان متفرقة، تصل مساعدات تكفي لعائلات محدودة، وتلبي احتياجات أساسية هذه المساهمات، وإن كانت متواضعة، تمنح الأمل وتخفف من وطأة النزوح، وتؤكد أن صوت المعاناة يصل، ولو بعد حين". 

شبكة تعاون داخل المخيمات

أحمد ليس وحيدًا. خلفه يقف عشرات المتطوعين الذين يعملون في ظروف صعبة، وأحيانًا خطرة.

يقول: "أحيانًا لا نستطيع الوصول للمخيم بسبب الأوضاع. أحيانًا تتعطل السلال. لكننا نبقى على اتصال دائم ونبحث عن حلول."

شهادة عن صمود جماعي

قصة أحمد ليست حالة فردية، بل نموذجًا لآلاف الأشخاص الذين يقفون في الصفوف الأمامية لتسيير حياة النازحين في غزة.

رجل فقد بيته وعائلته، لكنه لم يفقد قدرته على العطاء.

يقول في ختام حديثه "فقدنا الكثير، لكننا لم نفقد إنسانيتنا. كل شخص نساعده أصبح جزءًا من عائلتنا الكبيرة."

المقالات المرتبطة

تابعنا على فيسبوك