أجراسٌ لا تقرع، وساحاتٌ تغزوها الحجارة المتناثرة، وأروقةٌ تضِجُ بأصوات النازحين، وصفوفٌ دراسية تحولت إلى أماكن للنوم، والجدران المهمشة تشهد على وحشية الاحتلال، لم تعد المدرسة كما كانت، فأكثر من 95% من مدارس القطاع تضررت، وحُرِم مئات الآلاف من الطلبة حقهم في التعليم للعام الثالث على التوالي.
استمرار الغياب الطويل عن المدرسة أدى إلى حرمان الطلبة من حاضنة نشاطهم وإبداعهم، فهي لم تكن مكانًا لتلقي المعلومات فحسب، بل كانت بمثابة بيتٍ ثانٍ يوفر بيئةً آمنة للتفاعل الاجتماعي وتهذيب النفس وصقل المهارات الفكرية.
تقول حياة صيام، مرشدة تربوية لشبكة مصدر الإخبارية: "كانت المدرسة نشاطًا اجتماعيًا وتربويًا للأطفال، ولها دور رئيسي في تقويم سلوكهم وازدهار حاضرهم ومستقبلهم، فمن خلال الأنشطة الترفيهية واللامنهجية والمتابعة النفسية المستمرة، استطعنا أن نكون حلقة الوصل بين الأطفال وشخصياتهم، ونجحنا في اكتشاف مواهبهم ومحاولة تقديم الدعم المطلوب لتطويرها وإكسابهم الثقة والشعور بالأمان".
وتابعت صيام: "كانت الأنشطة تعطي مساحةً واسعة للطلاب للتعبير عن آرائهم وتطوير شخصياتهم، والالتزام بالنظام المدرسي والمتابعة التربوية المستمرة، المدعومة بأنشطة الدعم النفسي، وتلعب دورًا في تغذية وعيهم ومساعدتهم في إيجاد الحلول للمشكلات المختلفة".
وأردفت: "لكن منذ بدء الحرب اختل هذا النشاط، وأحدث اضطرابات سلوكية ومس سلامة الأطفال النفسية والفكرية وأكسبهم العديد من السلوكيات، التي كان من الصعب على الأهالي التعامل معها بسبب ما يمرون به من ضغطٍ نفسي، كما لاحظنا ارتفاعًا في معدلات القلق والاكتئاب وظهور مشكلات سلوكية مثل العدوانية أو الانطواء".
هذه الأزمة أضافت عبئًا نفسيًا على الأهالي، لأنها تهدد مستقبل جيلٍ كامل حُرَم من أبسط حقوقه، تقول دينا النعسان، أم لأربعة أطفال لمصدر الإخبارية: "أكبر الخسائر التي تعرضت لها خلال الحرب هو حرمان أطفالي من الذهاب للمدرسة، مما أثر على سلوكياتهم ونشاطهم الاجتماعي وأكسبهم بعض العادات السيئة".
وأضافت النعسان: " أرى أثر هذا الغياب على ابني الأوسط (عمر) صاحب الستة أعوام، الذي لم يلتحق بالمدرسة بعد، وكان انخراطه المباشر في بيئةٍ تختلف عن البيئة التعليمية، واكتسب شخصية تختلف عن إخوته وأشعر أحيانًا أن اهتماماته لا تليق بعمره".
وأردفت وتبدو عليها علامات الانزعاج: "أشعر دائمًا بالعجز عن تعويض ابنائي حرمانهم من التعليم، على الرغم من محاولاتي الدائمة في متابعة مستواهم الأكاديمي والحاقهم ببعض المراكز التعليمية، لكن الحرمان الأكبر يبقى في عدم اندماجهم في البيئة الصحية التي كانت توفرها المدرسة، أتمنى عودة الدوام الوجاهي لإنقاذ ما يمكن انقاذه من مستقبل أطفالنا".
• انتهاكات مستمرة
وصرح اسماعيل الثوابتة، مدير المكتب الإعلامي الحكومي في غزة: "إن أكثر من 785 ألف طالب وطالبة حرموا من التعليم، وتعطل ما يقارب 25 ألف كادر تربوي للعام الثالث على التوالي، هذه أرقام كارثية وحرمان الطلبة من التعليم خصوصًا في المراحل الأساسية جريمة حرب متعمدة بحق الأجيال الفلسطينية".
وذكر الثوابتة أن غالبية الطلبة في قطاع غزة هم في مراحل التعليم الاساسي، مؤكداً على أن الانقطاع عن الدراسة في هذه المرحلة الحرجة يؤدي حتمًا الى تأثر المسيرة التعليمية بشكل سلبي وخطير، ما يشكل جريمة متعمدة بحق الأجيال الفلسطينية ويهدد مستقبل المجتمع برمته ".
وأشار إلى " أن 95% من مدارس القطاع تضررت بفعل الاعتداءات الإسرائيلية خلال حرب الإبادة، ودُمرت 163 مدرسة وجامعة بالكامل، وتضررت 388 مؤسسة تعليمية بشكل جزئي، واستشهد أكثر من 13,500 طالب وطالبة و830 معلمًا وكادرًا تربويًا" .
وأضاف الثوابتة: "إن الهدف الواضح من وراء جرائم الاحتلال بحق المسيرة التعليمية هو تدمير الركائز المدنية الأساسية للمجتمع الفلسطيني، وحرمان الأجيال من التعليم، بما يكرس واقع الجهل والفقر والتهجير القسري، ويشكل جزئًا أصيلاً من مخطط الابادة الجماعية الشاملة بحق شعبنا في قطاع غزة".
• نمط حياة مختلف
حتى أحلام الأطفال لم تنجُ من حرب الإبادة التي استبدلت سَكينة طفولتهم وفرط النشاط، بالخوف ونوبات الهلع، واغتالت آمالهم في بناء مستقبلٍ مشرقٍ وبلادٍ مزدهر، واستنزفت طاقاتهم وقدراتهم وغيرت أولوياتهم، لدرجة خسارة شريحة من الطلاب دوافع استكمال تعليمهم؛ نتيجة هذه الفجوة الكبيرة.
يقول إبراهيم، 14 عامًا: " كنت طالبًا مجتهدًا وكان حلمي أن أحصل على معدل 99% في نهاية العام بدلاً من 98%، ولكن الآن تغيرت أحلامي وأصبح هدفي الرئيسي أن أصبح ماهرًا في مجال ميكانيكا السيارات، ولا أهتم لأمر الدراسة كثيرًا، لأنه لا مستقبل للتعليم في غزة".
أما محمد عاشور، 11 عامًا، فيقول: "كان روتيني اليومي قبل الحرب مرتب وجميل ومنظم، كنت استيقظ صباحًا استعد للمدرسة، أحمل حقيبتي وأحرص على الحضور مبكرًا للالتحاق بطابور الصباح، اليوم أيضًا استيقظ باكرًا للالتحاق بطابور المياه بدلاً من طابور المدرسة، وأضع في حقيبتي ذاتها بطارية كبيرة بدلاً من الدفاتر والكتب، أحملها كل يوم لمسافة طويلة حتى أصل نقطة الشحن، ثم أعود بها إلى الخيمة لتضيء لنا مصباحاً صغيراً".
ويتابع عاشور: "هذه حياة لا أتقبلها إطلاقاً، أريد العودة للمدرسة والصفوف الدراسية ومقابلة زملائي، اشتاق لمكتبة المدرسة واستعارة الكتب ومناقشتها مع المعلمين، فهذا الأمر كان يسعدني ويساعدني على تطوير شخصيتي وتفكيري والاندماج في المجتمع"
وبعد عامين من حرب الإبادة، أضافات الاضطرابات النفسية التي تسيطر على شريحة واسعة من أطفال القطاع أبعادًا إضافية للتحدي، استنزفت طاقاتهم وأطفأت شغفهم، مما يستوجب تدخلاً واسعاً وآني من قبل الأطراف المنعية، لإنقاذ مستقبلٍ يحاصره الظلام من كل جانب.
