في غزة، حيث يصبح الحزن عادة والانتظار عبئًا يوميًا، لا شيء يوجع أكثر من الغياب المجهول ليس الموت ما يُخيف، بل أن يُقتل المرء مرتين: مرة حين تسقط روحه، ومرة حين يُسلب اسمه ووجهه وحتى مكان قبره.
عائلات بأكملها باتت تعيش على حافة الأمل، تتنقل بين ثلاجات الموتى وشاشات العرض، تبحث في صور الجثامين المتحللة عن ملامح وجه مألوف، عن حاجب يشبه ابنها، عن ندبة تعرفها، عن أي أثر يقول: "ها هو".
لا وداع، لا جنازة، لا حتى يقين فقط صور صامتة، تملأ الشاشات والمخيلة، تُعرض في غرف باردة لقلوب محترقة، تَمنّت لو أن أبناءها استشهدوا فورًا، بدلًا من أن يكونوا أسرى تحت سياط تعذيب الاحتلال، ثم يعودوا جثثًا مشوهة، بلا هوية.
بمنزلهم في النصيرات وسط قطاع غزة، جلس أفراد عائلة جودة، يفتحون ألبومات الصور القديمة، يحاولون استحضار ملامح ابنهم المفقود منذ السابع من أكتوبر 2023.
عامان مرا، كانوا خلالها يعلّقون آمالهم بين السماء والسجون، يُقنعون أنفسهم كل يوم بأن علي ما زال على قيد الحياة، أسيرًا خلف القضبان، رغم أن هذه الأمنية كانت تخيفهم أكثر مما تطمئنهم.
يقول شقيقه آدم لشبكة مصدر الإخبارية، وقد بدا عليه الإرهاق: "كنا نقول يمكن أسير لكننا بصراحة كنا نتمنى أن يكون شهيدًا، لأننا نعرف جيدًا ما يواجهه الأسرى من تعذيب وظروف لا يتحملها بشر، خاصة بعد السابع من أكتوبر الموت أهون من ذلك".

مشهد الاعتراف المؤلم
الأمل انطفأ تمامًا قبل أيام، عندما نشرت وزارة الصحة الفلسطينية عبر موقعها الإلكتروني صورًا لجثامين الشهداء التي تسلّمتها من الجانب الإسرائيلي، طالبين من الأهالي مساعدتهم في التعرف على أصحابها.
كانت الصور صادمة أجساد تحللت بفعل الزمن، وبعضها بلا ملامح تقريبًا، لكن آدم وعائلته عرف شقيقه، قائلًا: "تعرفت عليه من حاجبه فقط، نصف وجهه كان متحلل، أما النصف الآخر فبقي كما هو جلست أبكي، لا أعرف إن كنت مرتاحًا لأنني أخيرًا عرفته ودفنّاه، أم لأنني فقدت الأمل الأخير في عودته حيًا".
دفنت العائلة جثمان علي في جنازة هادئة، مهيبة، حضرها الجيران والمعارف. لم يكن وداعًا لشهيد فقط، بل كان وداعًا لعامين من الحيرة، من انتظار كل باب يُطرق، وكل خبر يُذاع.
طفلان ينتظران والدهما بلا عودة
علي لم يكن شابًا عاديًا كان أبًا لطفلين لم يتجاوزا بعد مرحلة الطفولة، آدم شقيقه يتحدث عنهم بصوت مختنق: "الأصعب من دفن علي هو شرح غيابه لطفليه كل يوم يسألون عنه".
أصبحت الطفولة في غزة مثقلة بالحزن المبكر، وفي عيون الأطفال الذين خسروا آباءهم، تقرأ شيئًا من الشيخوخة.
"أريد دفنه فقط"
في زاويةٍ منزوِية داخل مجمع ناصر الطبي في خان يونس، جلست ليلى درويش، تحدق في شاشة لم تأتِ لها بصورة ابنها، بل بسيلٍ من الوجوه المشوهة والملامح المحطمة.
لم تكن تشاهد مقطعًا من فيلم رعب، بل صورًا حقيقية لجثامين شهداء أعادهم الاحتلال الإسرائيلي دون أسماء أو تفاصيل، بعدما احتجزتهم لعامين، حتى نسيت وجوههم ملامحها.
كل صورة تمرّ على الشاشة قد تكون هي، وقد لا تكون تمسح ليلى دموعها، وتحدق مجددًا، "ربما الجثمان رقم 48، ليس هو أما هذا؟ يبدو طويلاً لكن الوجه غائب".
هي لا تبحث عن حياة، بل عن نهاية تليق بالموت عن قبر يحمل اسماً عن شيءٍ من الكرامة تُعيده لأمٍّ حرمت حتى من طقوس الحزن الطبيعية.
تقول ليلى وهي تلمس صورًا مطبوعة في يدها لابنها الشهيد ثائر: "رحل ابني ولم أودّعه لم أره ميتًا، ولم أدفنه كل ما أطلبه اليوم أن أعرف مكان جثمانه أن أحضنه ولو ميتًا أن أدفنه، وأضع على قبره وردة وصورة".
ثائر، شاب في العشرينيات من عمره، فقدته عائلته في نوفمبر 2023، خلال الأسابيع الأولى من حرب الإبادة على غزة أُبلغت العائلة بخبر استشهاده، لكن الجثمان اختفى المستشفيات لم تعرف عنه شيئًا، والصليب الأحمر لم يحمل جوابًا.
حين أُعلن عن تسلّم وزارة الصحة الفلسطينية لجثامين نحو 120 شهيدًا، ممن احتجزهم الاحتلال منذ بدء الحرب، شدّت ليلى رحالها من غزة إلى خان يونس، علّها تعثر على ما تبقى من ولدها.
تروي: "كل الذين رأيتهم في الصور تغيّرت وجوههم قال لي الأطباء إن كثيرًا منهم أُعدموا ميدانيًا عيونهم معصوبة، وأجسادهم مكبلة، وطلقات اخترقت رؤوسهم أي أم قادرة على التعرف على وجه ابنها وقد ذاب؟".
لم تكن ليلى وحدها أمام الشاشة كانت إلى جوارها عشرات الأمهات، كلّ واحدة تُحدّق في صورة، وتُمسك قلبها بيدها هذا ليس عرضًا لجثامين، بل عرض لقصص انتهت دون أن تُكتَب نهايتها.
تضيف: "لا أريد شيئًا من الدنيا بعد الآن، فقط أريد أن أعرف: أين جثمان ثائر؟ هل ما زال في ثلاجات الاحتلال؟ هل دُفن في حفرة دون شاهد؟ أم أنّه بين الجثامين التي لم أستطع التعرف عليها؟".
كشف مختص الأدلة الجنائية وعضو لجنة الجثامين بوزارة الصحة في غزة سامح حمد، تفاصيل صادمة عن ظروف استلام جثامين الشهداء التي أفرجت عنها قوات الاحتلال الإسرائيلي مؤخرًا، مؤكدًا أن الاحتلال انتهك المعايير الدولية والأخلاقية في التعامل مع جثامين الشهداء الفلسطينيين، وارتكب ما وصفه بـ"جريمة مركبة" بحقهم.
وبيّن حمد الذي شارك بشكل مباشر في عملية استلام الجثامين، أن اللجنة باشرت عملها بعد إبلاغها من قبل الصليب الأحمر بنية الاحتلال تسليم نحو 450 جثمانًا كان يحتجزها منذ بداية الحرب.
وقال: "فور تلقي البلاغ، شكّلت الوزارات المعنية لجنة مشتركة تضم فرق الطب الشرعي، وزارة الصحة، وزارة العدل، وزارة الأوقاف، جهاز الدفاع المدني، والمباحث والأدلة الجنائية. اجتمعنا على طاولة واحدة تحت مسمى 'لجنة إدارة جثامين الشهداء'، وبدأنا العمل الفوري".

استلام تدريجي لـ165 جثمانًا
ووفق حمد بدأت عملية الاستلام في 14 أكتوبر 2025، حيث تم تسلّم: 45 جثمانًا في اليوم الأول، 45، جثمانًا في اليوم الثاني، 30 جثمانًا في اليوم الثالث، ثم 15 جثمانًا على مدار يومين متتاليين، ليصبح المجموع الكلي حتى لحظة إعداد التقرير 165 جثمانًا.
جثامين دون هوية
وعن آلية التسليم، قال حمد: "الاحتلال تعمّد تسليم الجثامين بأرقام رمزية فقط، دون أي بيانات أو معلومات تعريفية، كل جثمان كان ملفوفًا بكيس بلاستيكي أزرق اللون من النوع الرديء، الذي يؤدي إلى طمس ملامح الجثمان خاصة في حالات التحلل المتقدمة".
كما أشار إلى أن الجثامين وصلت في درجات تجميد غير إنسانية، تجاوزت -180 درجة مئوية، ما جعل عملية المعاينة والتشريح صعبة للغاية.
وشدد على أن عملية التوثيق والتصوير التي أجرتها فرق الأدلة الجنائية والطبية أظهرت مشاهد صادمة.
وتابع: "في أحد الجثامين وُجدت خياطة سوداء على منطقة البطن، ما يشير إلى أنه خضع لعملية جراحية أو لتشريح ما داخل معتقلات الاحتلال، لكننا لم نتمكن من فحصه بسبب التجميد الشديد وضيق الوقت".
أغلب الجثامين تعرضت للإعدام
بحسب ما وثقته اللجنة، فإن 7 إلى 15 جثمانًا على الأقل تحمل دلائل قاطعة على أنها تعرضت للإعدام الميداني، "بعضهم كان بلباس مدني، وبعضهم بلباس عسكري، بينما كانت النسبة الأكبر من الجثامين شبه عارية، لا ترتدي سوى الملابس الداخلية السفلية، ما يرجّح أنهم تعرضوا للتحقيق والتعذيب قبل تصفيتهم".
أوضح حمد أن اللجنة اضطرت إلى نشر صور الجثامين للعامة عبر رابط رسمي، بسبب عدم توفر أي معلومات أو عينات تطابق الهويات.
وفي ختام حديثه، قال حمد: "الاحتلال لم يكتفِ بتعذيب الأحياء، بل مارس العذاب المكرر على الأموات. كبّلهم، أعدمهم، ثم أخفى جثامينهم، وعاد ليسلمها بطريقة غير إنسانية تمنعنا حتى من تشريحها أو التعرف عليها".
وطالب بلجنة تحقيق دولية، ونطالب بدعم عاجل لتجهيز مختبرات DNA في غزة، فشعبنا لا يطلب المستحيل فقط يريد أن يودع أبناءه بكرامة.
انتهاكات جسيمة
أكد مدير مؤسسة الضمير لحقوق الإنسان علاء سكافي أن سلطات الاحتلال الإسرائيلي ارتكبت انتهاكات جسيمة للقانون الدولي الإنساني في تعاملها مع جثامين الشهداء الفلسطينيين الذين سلمتهم مؤخرًا، محذرًا من أن بعض هذه الانتهاكات ترقى إلى جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية.
وقال سكافي إن الاحتلال لم يلتزم بما تنص عليه اتفاقية جنيف الرابعة، التي تفرض على القوة القائمة بالاحتلال التزامات واضحة بشأن التعامل مع جثامين المتوفين أثناء النزاعات المسلحة.
وأشار إلى أن اتفاقية جنيف الرابعة تلزم الاحتلال بإعادة الجثامين والرفات والممتلكات الشخصية للمواطنين مع توفير كافة المعلومات المتعلقة بهوياتهم، مع حفظها في مكان يصون كرامة الموتى.
وأضاف أن الواجب القانوني يفرض على الاحتلال احترام كرامة المتوفى وذويه عند تسليم الجثامين، لكن ما جرى كان مخالفًا تمامًا لهذه الالتزامات.
وشدد سكافي على أن الاحتلال لم يراعِ أي من هذه المعايير. الجثامين وصلت بطرق مهينة، تفتقر لأبسط شروط التعامل الإنساني. بعضها تُرك في الشمس داخل حاويات، بلا تبريد أو احترام.

أدلة على الإعدام الميداني
وأشار سكافي إلى أن هناك مؤشرات خطيرة ظهرت أثناء فحص الجثامين المُسلّمة، تؤكد أن بعضها تعرض لتصفية ميدانية.
ويتابع: "رأينا آثار طلقات نارية على بعض الجثامين، وكانت العيون معصوبة والأيدي مكبلة، ما يشير إلى أن الاحتلال نفذ إعدامات ميدانية بحق عدد من الشهداء".و
واعتبر أن هذه الأفعال تتطلب تشكيل لجنة تحقيق دولية للوقوف على تفاصيل الجريمة ومحاسبة المسؤولين عنها.
وطالب سكافي المدعي العام في المحكمة الجنائية الدولية بفتح تحقيق عاجل وفوري في ظروف استشهاد واحتجاز وتسليم الجثامين، لما يشكّله ذلك من جريمة مكتملة الأركان وفق القانون الدولي.