ديمتري دلياني - مصدر الإخبارية
في قلب كل مأساة تاريخية ينهض سؤال الذاكرة والكرامة، وفي قلب فلسطين يكتسب هذا السؤال معنى وجودياً يتجاوز حدود المكان والزمان. فالفلسطيني المحاصر في غزة أو المضيَّق عليه في القدس وباقي أنحاء الضفة الغربية المحتلة لا يواجه ظرفاً عابراً، بل منظومة استعمارية متجذّرة تسعى إلى طمس هويته وسحق إنسانيته. ومع ذلك يظل الفلسطيني قادراً على تحويل المعاناة إلى شاهد على صموده وامتداد لشرعية نضاله.
لقد شهد التاريخ طغاة استخدموا الكلمة سلاحاً موجهاً إلى ضحاياهم. فعلها هتلر حين خاطب يهود أوروبا حول سياسات الإبادة، وجعل من خطاباته المسموعة في الغيتوات وسيلة لتكريس الذل قبل أن يجرّدهم من حياتهم. وفعلها ستالين حين خاطب الملايين في أوكرانيا إبّان المجاعة المصطنعة، مقدماً كارثة إنسانية كأنها مشروع تقدّم. وفي البلقان، وجّه ميلوشيفيتش وكارادجيتش رسائلهم التلفزيونية مباشرة إلى المحاصرين في سراييفو، ليذكّروهم كل يوم أن حصارهم مقصود وأن قتلهم متعمّد. وفي أفريقيا، استخدم موسوليني خطاباته الموجَّهة إلى الإثيوبيين لتبرير الغزو الاستعماري وفرض الطاعة، فيما كان الطيران الإيطالي يمطر القرى بالغازات السامة. هذه الأمثلة تظهر كيف تحوّلت الكلمات إلى أدوات قمع نفسي، توازي الرصاص والمدافع في وحشيتها.
اليوم، يحاول نتنياهو أن يفرض خطابه عبر مكبّرات الصوت على غزة الجريحة، مكرراً سلوك الطغاة الذين ظنوا أن الضحية يمكن أن تُساق بالتهديد اللفظي. لكن التجربة الفلسطينية أثبتت أن الصوت الجمعي لا يُكسر، وأن الوعي الوطني يعلو على ضجيج المعتدي. كل خطاب يوجَّه إلى الضحايا يتحول إلى شاهد تاريخي على إجرام قائله، فيما يبقى صوت فلسطين عصياً على الطمس، شاهداً على أن كرامة شعبنا هي آخر ما يندثر على وجه هذه الارض.