القدس المحتلة - مصدر الإخبارية
في أعقاب احتلال إسرائيل للضفة الغربية وقطاع غزة، في حرب حزيران/يونيو العام 1967، شكل رئيس الحكومة الإسرائيلية في حينه، ليفي أشكول، وحدة سرية سعت إلى "تشجيع هجرة" الفلسطينيين من قطاع غزة، في إطار حملة إسرائيلية واسعة لتهجير أكبر عدد من الفلسطينيين من الضفة والقطاع.
ويصف المؤرخ الإسرائيلي، د. عومري شيفر رافيف، في فيلم وثائقي جديد من إنتاج معهد "عكيفوت – لبحث الصراع الإسرائيلي – الفلسطيني"، الممارسات الإسرائيلية لتهجير الفلسطينيين من الأراضي المحتلة، في أواخر ستينيات القرن الماضي.
سعت إسرائيل، خلال الحرب، إلى تهجير الفلسطينيين من الضفة الغربية، "بواسطة إخراجهم من مدنهم وقراهم وإغلاق طريق العودة إليها"، وفقا لرافيف. وكان عدد سكان الضفة 800 ألف نسمة قبل الحرب، وتراجع عددهم إلى 600 ألف نسمة بعد الحرب، أي أن إسرائيل هجّرت 200 ألف فلسطيني، الذين يشكلون رُبع سكان الضفة الغربية.
وأضاف أنه كان هناك صراع دائم داخل الحركة الصهيونية بين المطامع الإقليمية، أي السيطرة على أكبر مساحة من الأرض، وبين الواقع الديمغرافي. "مع احتلال الأرض هناك مجموعة سكانية كبيرة، وعمليا لم يكن بالإمكان تحويل الضفة الغربية وقطاع غزة إلى جزء من إسرائيل، لأنه في هذه الحالة ينبغي منحهم حقوق مدنية وما إلى ذلك، وهذا أمر رفضته الحكومة لأن الأقلية العربية ستصبح أكبر".
من أجل تنفيذ تهجير الفلسطينيين، "سيّرت الحكومة الإسرائيلية حافلات من القدس الشرقية ومدن في الضفة باتجاه الضفة الشرقية، وأي أحد يريد المغادرة يسمحون له بالخروج. لكن كانت هناك صعوبات. فوسائل الإعلام الدولية، التي كانت مؤيدة جدا لإسرائيل، بدأت تتساءل لماذا توجد قوافل كثيرة من اللاجئين؟ والخطوة الأولى التي نفذتها الحكومة هي منع الصحافيين من التجول بحرية في الضفة".
وتابع رافيف أنه "بعد ذلك، كان السؤال المركزي هو كيف يمكن تشجيع الهجرة من دون إثارة انتقادات؟ وكان اللاجئون يعبرون إلى الضفة الشرقية في مياه نهر الأردن، لأن الجسور تم قصفها. وفي الأول من آب/أغسطس 1967، قررت الحكومة إصلاح هذه الجسور كي يخرج اللاجئون بشكل أسهل".
وفي الأشهر الأولى بعد الحرب، وضعت هيئة إسرائيلية يطلق عليها تسمية "اللجنة لتنسيق أعمال الحكومة في المناطق" (المحتلة) وثيقة حول "مبادئ العمل الإسرائيلية في المناطق". وجاء في البند الأول في هذه الوثيقة: "سياسة موجِهة لخروج أكبر عدد من العرب من المناطق المدارة" أي المحتلة؛ وجاء في البند الثاني: "التركيز بشكل خاص على إخلاء قطاع غزة، وخصوصا مخيمات اللاجئين. والخروج إلى الضفة الغربية هو أحد الأفكار أيضا".
وأشار رافيف إلى أنه على عكس الضفة الغربية التي هُجّر ربع سكانها، "لم يخرج أحد من قطاع غزة، لأنه كان جَيبا داخل إسرائيل. وكان هناك إجماع في الحكومة على ضم قطاع غزة إلى إسرائيل. كذلك كان نصف سكان القطاع من لاجئي الـ48، ويعيشون في مخيمات. والهدف الإسرائيلي الأول كان خروج جميع سكان المخيمات من القطاع وإعادة توطينهم في دول عربية أخرى، وأن يتم ذلك باتفاق سياسي".
وأضاف أنه "بعد أن أدركت إسرائيل أن اتفاقا كهذا ليس قريبا، بدأ التفكير بتشجيع الهجرة. والفرق الأهم بين تشجيع الهجرة وإعادة التوطين، هو أن إعادة التوطين، الذي يسمى ترانسفير، هو جماعي، بينما تشجيع الهجرة مختلف قليلا وهو فردي".
وأفاد رافيف بأن "البند الأول في الوثيقة الإسرائيلية هو ألا يتم الحديث عن تشجيع الهجرة باللغة العربية، لأنه ستبدأ مقاومة جماعية من جانب الفلسطينيين".
ويتبين من وثيقة إسرائيلية في الأرشيف أن إسرائيل لاحظت، بعد الاحتلال، سكان قطاع غزة، وسكان المخيمات بشكل خاص يعانون من بطالة شديدة، وكانت نسبتها 50% قبل الحرب. "لذلك تبنت إسرائيل نموذج هجرة كلاسيكي، بأن تحافظ على مستوى حياة متدن، كعامل أساسي لتشجيع الهجرة"، وفقا لرافيف.
والخطوة الأولى في مخطط التهجير الإسرائيلي هو إيجاد أماكن عمل للغزيين في الضفة، وخصوصا في الأغوار ومنطقة أريحا، "لأنه من هناك سيكون الانتقال سهل باتجاه الشرق"، حسب الوثيقة. ووفرت إسرائيل، في إطار هذا المخطط، أماكن عمل للغزيين في مشروع كبير، وهو شق شارع بين عين فشخة وعين جدي، عند البحر الميت.
وحدة تهجير سرية
قاد حملة تهجير الغزيين رئيس الحكومة الإسرائيلية، ليفي أشكول، في نهاية العام 1967 وبداية العام 1968، وأقام وحدة سرية "لتشجيع الهجرة"، وعيّن برئاستها امرأة، تدعى عيدا سيريني. وسيريني لم تكن تقيم في إسرائيل وإنما في إيطاليا.
وجاء تعيين سيريني بسبب خبرتها في نقل أشخاص من مكان إلى آخر. وكان هؤلاء الأشخاص لاجئون يهود في أوروبا، الذين عملت سيريني على تهريبهم إلى فلسطين، قبل العام 1948، إذ كانت هجرتهم إليها محظورة.
واعتبر أشكول أن سيريني ستنجح في نقل اللاجئين من غزة إلى دول أخرى من دون أن يلتفت أحد إلى أشكال التهجير السرية، مثل رشوة مسؤولين وما شابه.
شارك في الاجتماع الأول للوحدة السرية برئاسة سيريني كل من رئيس الشاباك ورئيس الموساد ومستشار رئيس الحكومة لشؤون العرب. وتقرر خلاله، حسب رافيف، ألا تفعل إسرائيل شيئا بخصوص تهجير الغزيين، لأنه كان يخرج بين ألفين وثلاثة آلاف شخص من غزة شهريا، بسبب البطالة والأوضاع الصعبة في القطاع، وكذلك على إثر "عوامل الجذب التي كانت إسرائيل تبادر إليها".
في آذار/ مارس العام 1968، تراجع عدد الغزيين الذين يغادرون القطاع، بسبب معركة الكرامة وعمليات الفدائيين الفلسطينيين المسلحة ضد الجيش الإسرائيلي في الضفة خصوصا، التي في أعقابها هاجم الجيش الإسرائيلي مخيم الكرامة للاجئين في الجانب الأردني للحدود. وأدى ذلك إلى تدهور الوضع الأمني، ولذلك توقف الغزيون عن التوجه إلى الضفة الشرقية، وفقا لرافيف.
وأضاف رافيف أنه من الجهة الأخرى، "تبين لعيدا سيريني أن عددا كبيرا جدا من اللاجئين من غزة، كانوا ينضمون لحركة فتح عندما يصلون إلى الضفة الشرقية، خاصة وأنهم لا يجدون عملا فيها. وكانوا يريدون تحرير فلسطين، وفتح كانت تدفع رواتب لهم".
عندها، طرحت سيريني على أشكول خطة جديدة، تقضي بأن "تدفع إسرائيل المال للغزيين من أجل أن يصلوا إلى الضفة الشرقية على الأقل، كي يواصلوا طريقهم منها إلى الكويت، التي استقبلت فلسطينيين كثيرين في الخمسينيات والستينيات الذين هاجروا إليها بسبب صناعة النفط".
في مطلع آب/ أغسطس العام 1968، قررت الحكومة الأردنية وقف دخول أي شخص من غزة إلى أراضيها، لأنها كانت تحارب حركة فتح. إثر ذلك، "نشطت فتح والجبهة الشعبية لتحرير فلسطين في غزة، وبدأت تنفذ عمليات ضد قوات الأمن الإسرائيلية، التي بدورها دعت الحكومة إلى التخلي عن سياسة تشجيع التهدير وتحسين مستوى معيشة الغزيين"، حسب رافيف.
"لكن إسرائيل لا تتنازل عن تشجيع الهجرة وإنما يغيرونها وحسب، وينتقلون إلى نوع آخر من تشجيع الهجرة، وهو تشجيع مجموعة اجتماعية، وهم الشبان والمتعلمون. وكان القرار الأول السماح بخروج من يريد المغادرة إلى الدراسة في مصر. وحاولت سيريني البحث مع دول عربية، باستثناء الأردن، إذا بإمكانها استقبال غزيين، وهذا موثق في الأرشيف الإسرائيلي".
لم تحقق خطط إسرائيل نجاحا في تهجير الغزيين بعد حرب العام 1967. وإحدى هذه الخطط كانت تقضي بطرد 60 ألف فلسطيني من قطاع غزة إلى باراغواي في أميركا الجنوبية. ومن أصل 60 ألف فلسطيني خططت إسرائيل لتهجيرهم، وافق 30 فلسطينيا على الهجرة، وبينهم اثنان أطلقا النار على موظفة في السفارة الإسرائيلية في باراغواي، بسبب غضبهما من عدم حصولهما على المال الذي تعهدت إسرائيل بدفعه للذين يهاجرون في إطار هذه الخطة.
لم تتوقف إسرائيل عن التخطيط لتهجير الغزيين عن القطاع حتى يومنا هذا، ويواصل وزراء إسرائيليون ورئيس الحكومة الحالي، بنيامين نتنياهو، في ظل حرب الإبادة، الحديث علنا عن تهجير كهذا، لكنهم يعترفون أيضا بأنهم لم يجدوا ولو دولة واحدة توافق على استقبال مهجرين من غزة.