د.شادية الغول - مصدر الإخبارية
إعلان كندا وبريطانيا وأستراليا اعترافها بدولة فلسطين جاء في ظرف تصاعد فيه القتل والتجويع في غزة، لذا لا يمكن فصله عن السياق الأخلاقي والسياسي الذي يضع هذه الخطوة تحت مجهر التقييم النقدي. على الورق، يعني الاعتراف إقرارًا بسيادة فلسطينية رمزيًا ودعمًا لحق تقرير المصير، لكن عمليًا في غياب أدوات حماية أو ضغوط فعالة يبقى اعترافًا ناقصًا وغير قادر على تغيير واقع الإبادة الذي يعيشه أهل غزة الآن. بريطانيا أعلنت اعترافها الرسمي قبيل أو أثناء أعمال الجمعية العامة للأمم المتحدة، وانضمت إليها كندا وأستراليا وبلجيكا في إعلان متزامن أثار ردود فعل دولية متباينة.
هنا تتجلى المفارقة الكبرى: بريطانيا، التي ترتبط بتاريخ مسؤولية مباشرة عن ولادة الحركة الصهيونية عبر وعد بلفور عام 1917، هي نفسها الدولة التي تحتج اليوم بأنها «تعيد تصويبًا سياسيًا» — لكن هذا التاريخ لا يُمحى بسهولة. وعد بلفور كان حجر الأساس لحقبة طويلة من التدخل البريطاني والسياسات التي سخّنت مسار الاستيطان والتهجير في فلسطين، ما يجعل أي «اعتراف» بريطاني اليوم محملاً بتراكمات تاريخية ومسؤوليات أخلاقية وسياسية لا يمكن تجاهلها.
على صعيد العلاقات العملية مع إسرائيل، تكشف الأرقام والسياسات الحديثة تناقضًا بين الخطاب والفعل. رغم أن صادرات الأسلحة البريطانية إلى إسرائيل أقل حجمًا مقارنة بالولايات المتحدة وألمانيا، فإن تراخيص التصدير استمرت حتى في سنوات الحرب الأخيرة، مع أرقام ملحوظة تمنح عشرات الملايين من الجنيهات، ما يضع علامة استفهام حول جدية لندن في «المحاسبة» أو منع استخدام المعدات في انتهاكات محتملة للقانون الدولي. كندا وأستراليا دخلتا الآن ساحة الاعتراف بعد سنوات من المماطلة، لكن علاقاتهما مع إسرائيل لم تنقطع؛ حيث استمرت التجارة والروابط الاقتصادية، بما في ذلك مكونات تقنية أو تراخيص دفاعية، قبل وأثناء النزاع.
المفارقة الأشد وضوحًا تكمن في السلوك العملي لهذه الدول على صعيد مجلس الأمن والمساعدات الإنسانية. بريطانيا، كعضو دائم في مجلس الأمن، لم تستخدم موقعها للضغط على إسرائيل لإصدار قرار ملزم بوقف إطلاق النار، واكتفت بالتصريحات الرمزية، في حين لم تفعل كندا وأستراليا رغم امتلاكهما القدرة على التأثير الدبلوماسي شيئًا يغير من مسار العدوان. على الأرض، استمر سكان غزة في مواجهة مجاعة حقيقية، وأغلقت المعابر في وجه الغذاء والدواء، بينما اقتصرت الخطوات الغربية على بيانات عامة أو مساعدات محدودة، دون فرض أي ضغط عملي على إسرائيل لكسر الحصار. وعلى مستوى القانون الدولي، فشلت هذه الدول في تطبيق أبسط مبادئه، المتمثلة في حماية المدنيين ومنع الإبادة، تاركة إسرائيل تتصرف دون رادع فعلي.
أما الموقف الأمريكي الحاسم، فهو يضع سقفًا عمليًا لأي تأثير للاعترافات؛ فالولايات المتحدة توفر الغطاء السياسي والدبلوماسي والعسكري لإسرائيل، وتستخدم الفيتو في مجلس الأمن لإجهاض أي مسعى لوقف العدوان، ما يجعل أي خطوة اعترافية دولية مهما كانت رمزية تقطر في فراغ من دون رافعة دولية حقيقية تلزم الالتزام بوقف النار أو فرض عقوبات رادعة.
من الناحية الإيجابية، يمكن للاعتراف أن يمنح الفلسطينيين منصة قانونية أوسع أمام المحاكم الدولية، ويعزز شرعيتهم الدبلوماسية، وربما يشجع دولًا أخرى على التحرك. لكنه في المقابل يسلط الضوء على فجوة كبيرة بين الرمزية والواقع: أهل غزة لا يستفيدون من هذه الاعترافات بأي حماية فعلية، ولا تزال البيوت تحترق والأطفال يتضورون جوعًا، بينما قد تستثمر السلطة الفلسطينية هذا الاعتراف داخليًا كإنجاز دبلوماسي، دون أي أثر ملموس على حياة المدنيين.
في النهاية، يظهر اعتراف كندا وبريطانيا وأستراليا كخيار رمزي يعكس فشلًا مزدوجًا: فشلًا أخلاقيًا للدول الغربية التي سمحت بتصاعد الإبادة قبل أن تتحرك، وفشلًا للقانون الدولي الذي لم يترجم إلى إجراءات رادعة. الاعتراف وحده لا يوقف القصف، ولا يفتح ممرات آمنة، ولا يحقق العدالة، بل يظل مجرد ورقة لا تُطفئ النار المستعرة فوق جثث المدنيين في غزة، مما يؤكد أن الشعب الفلسطيني يحتاج الآن أكثر من أي وقت مضى إلى حماية فعلية، وإجراءات ملموسة لوقف الإبادة، ومحاسبة إسرائيل على جرائمها.