مصطفى إبراهيم .. كاتب ومحلل سياسي
تدخل المرحلة الثانية من اتفاق وقف إطلاق النار في قطاع غزة أخطر محطاتها، وسط مشهد سياسي وأمني يتّسم بتضارب المصالح وتآكل الثقة وبطء الاستجابة الدولية لحجم الكارثة الإنسانية. وفيما تُظهر الولايات المتحدة والدول الأوروبية ومعها دول عربية رغبة جامحة في دفع الخطة قدماً، تبدو إسرائيل، وتحديداً رئيس حكومتها بنيامين نتنياهو، مصمّمة على عرقلة أي مسار قد يحدّ من سيطرتها على القطاع أو يفرض عليها التزامات ملموسة. ومع وصول النقاش إلى قضية تشكيل قوة متعددة الجنسيات ونزع السلاح، يبرز عمق الهوّة بين ما يطالب به الحلفاء وما تقبل به إسرائيل فعلياً.
ورغم كثافة التصريحات الدولية، يظل الواقع في غزة على حاله: عشرات آلاف الشهداء، دمار هائل، وسيطرة عسكرية إسرائيلية فعلية على أكثر من نصف أراضي القطاع. وبينما تتواصل القيود على دخول المساعدات الإنسانية ومواد “ثنائية الاستخدام”، يبدو واضحاً أن الضغط الدولي لا يزال إطاراً خطابياً أكثر منه أدوات تنفيذ قادرة على كبح إرادة نتنياهو. حتى الرئيس الأميركي دونالد ترامب، الذي يُفترض أنه الجهة الوحيدة القادرة على فرض معادلة جديدة، يبدو متماهياً معه، ما يجعل التقدّم في الخطة مجرد إجراءات شكلية مسقوفة بقرار إسرائيلي صارم.
تسعى إدارة ترامب إلى إظهار مرحلة ما بعد وقف إطلاق النار كمسار منظم: تدريب شرطة فلسطينية جديدة في مصر والأردن، إشراف دولي على المساعدات، وربما إدخال شخصيات فلسطينية “غير مصنفة أمنياً” للمشاركة في إعادة الإعمار. لكن هذه الأفكار تُقدَّم على أنها “إنجازات”، في حين أنها لا تغيّر شيئاً من جوهر المعادلة القائمة: إسرائيل تريد غزة مُسيطراً عليها أمنياً، مفصولة سياسياً، ومجرّدة من أدوات العمل السياسي والمقاومة.
في المقابل، تكشف التقارير الإسرائيلية عن عمق الخلاف بين أطراف الوساطة. فبينما تقترح قطر وتركيا ترتيبات تدريجية تمتد لعامين، تصر إسرائيل على جدول زمني قصير لا يتجاوز أشهر معدودة، وتعتبر أي صيغة لا تؤدي إلى نزع السلاح الكامل لحماس “التفافاً خطيراً” على جوهر الاتفاق. حتى المقترحات الأميركية المتعلقة بـ“بنزع السلاح” وفق تجارب نزاعات أخرى، ترفضها إسرائيل تماماً، خشية إعادة استخدام السلاح لاحقاً.
يتعامل نتنياهو مع المرحلة الثانية كفرصة لتعميق استراتيجيته وليس للانفتاح على حل سياسي. فهو يرفض بشكل واضح فكرة تشكيل قوة متعددة الجنسيات في غزة، ويعتبر أي وجود تركي أو إشراف خارجي تهديداً مباشراً لمعادلات السيطرة الإسرائيلية. ويعكس موقفه خوفاً بنيوياً من أن يؤدي وجود قوة دولية إلى تقليص قدرة الجيش الإسرائيلي على التحرك أو إعادة احتلال أجزاء واسعة من القطاع إذا انهارت التهدئة أو بقيت حماس فاعلة.
التقارير الاسرائيلية تشير أيضاً إلى مخططات مقلقة لإعادة تنظبم الجغرافيا الإنسانية في غزة، عبر مشاريع مثل “مدينة الخيام” في رفح، وهي فكرة أمريكية–إسرائيلية قديمة يتم تسويقها اليوم كخطوة إنسانية مؤقتة، بينما جوهرها خلق منطقة كثيفة السكان يمكن ضبطها أمنياً، بما يمهّد لتقسيم فعلي للقطاع. هذا المشروع، الذي يقوم على تجميع مئات آلاف المدنيين في مساحة ضيقة تحت إشراف أمني دولي وإسرائيلي، يُظهر بوضوح كيف تتحول المساعدات الإنسانية إلى غطاء سياسي لتغييرات عميقة في خريطة السيطرة.
في المقابل، تتمسك حماس بموقف واضح: لا سلاح خارج يد المقاومة، ولا قبول بإشراف خارجي. وقد كرر خالد مشعل ذلك في كلمته المسجلة في إسطنبول حين قال: “المقاومة وسلاحها حق لشعبنا”. هذا الموقف يجعل الخطة الأميركية في مأزق حقيقي، إذ لا السلطة الفلسطينية قادرة على تنفيذ إصلاحات عميقة تتيح لها تولي قيادة بديلة، ولا المجتمع الدولي مستعد لإرسال قوة استقرار قد تجد نفسها في مواجهة عسكرية مباشرة مع فصائل فلسطينية.
لذلك تبدو المرحلة الثانية اختباراً لما يسميه العالم “ضغطاً دولياً”. فإذا كان الهدف وقف الحرب وإعادة إعمار غزة واستعادة الحياة، فإن معيار الجدية يبدأ من القدرة على إلزام إسرائيل، لا من تحميل الفلسطينيين وحدهم كلفة الترتيبات الجديدة. وحتى الآن، تبدو إسرائيل هي الطرف الأكثر قدرة على العرقلة، بينما يكتفي المجتمع الدولي بالتعبير عن “القلق” و“الانزعاج”.
تبدو غزة اليوم أمام مفترق: إما مسار حقيقي يقود إلى تهدئة دائمة تُحترم فيها إرادة الفلسطينيين، أو إعادة إنتاج احتلال ناعم بأدوات دولية، يرسخ السيطرة الإسرائيلية ويعيد صياغة القطاع باعتباره منطقة معزولة خاضعة للرقابة. ومع رفض نتنياهو للقوة الدولية واشتراطه نزع السلاح أولاً، تتجه المرحلة الثانية نحو أن تصبح أكثر مراحل الحل تعقيداً.