مُهرِّجان في نيويورك.. بقلم الكاتب رجب أبو سرية

أقلام – مصدر الإخبارية

مُهرِّجان في نيويورك، بقلم الكاتب رجب أبو سرية، وفيما يلي نص المقال كاملًا كما وصل موقعنا:

لم يظهر الرئيس الأوكراني فلاديمير زيلنسكي في الجمعية العامة للأمم المتحدة، كرئيس دولة احتُل بعض أراضيها، أو كرئيس دولة تتعرض إلى غزو خارجي من قبل دولة أخرى، وحتى أنه في كلمته أمام المنظمة الدولية، لم يطالب بإصدار قرار_مثلاً_ يطالب روسيا بالانسحاب من أرض بلاده المحتلة، بل هو ركز على ما يعتبره أو يدعيه من جرائم حرب، طالب في مواجهتها بتشكيل محكمة حرب خاصة، كذلك طالب المنظمة الدولية بتوجيه عقاب عادل حسب وصفه لروسيا بسبب غزوها لأوكرانيا.

والحقيقة أن زيلنسكي، رغم إلقائه كلمة بلاده في الجمعية العامة، إلا أن هدف زيارته الحقيقي للولايات المتحدة كان محاولة إقناع الجمهوريين بالموافقة على سياسة الرئيس جو بايدن، التي توصف بأنها “شيك على بياض” لدعم الحرب في أوكرانيا، حيث ينوي بايدن إرسال مبلغ إضافي يبلغ 24 مليار دولار لكييف، ولكن يقف في طريق ذلك الجمهوريون الذين يتمتعون بالأغلبية في مجلس النواب، فيما زيلنسكي يحاول أن يحصل على ذلك الدعم سريعاً، وتحديداً قبل دخول أميركا حمى الانتخابات الرئاسية العام المقبل، خاصة وأن هناك احتمالاً بعودة الرئيس السابق دونالد ترامب للبيت الأبيض، والذي وعد بوقف الحرب الروسية الأوكرانية في 24 ساعة.

وزيلنسكي، الرئيس الذي ما زال يظهر بمظهر “الفنان المسرحي” الذي لا يحبذ ارتداء الملابس الرسمية، ويرتدي “الكاجوال” حتى وهو في حضرة الجمعية العامة للأمم المتحدة، فهو يركز جل اهتمامه على الولايات المتحدة وبايدن حصراً، ولذا فإن الأمم المتحدة خاصة بجمعيتها العامة لا تبدو أنها مهمة، في نظره، وحتى مجلس أمن المنظمة الدولية، رغم تمتع حاميته أي الولايات المتحدة بحق النقض، إلا أن تمتع خصمه أيضا أي روسيا بالحق ذاته، جعله لا يراهن كثيراً على الأمم المتحدة بجمعيتها العامة ومجلس أمنها، وهو قال بصريح العبارة “بأن العالم لا يمكنه أن يراهن على الأمم المتحدة عندما يتعلق الأمر بالدفاع عن الحدود السيادية للدول”.

وربما أيضا أن زيلنسكي قاد بلاده وفق إستراتيجية خاطئة راهنت على “قوة” أميركا وقدرتها على فرض مشيئتها، ليس على روسيا فقط، بل وعلى العالم كله، لذا فإن مستوى التأييد العالمي لقضية بلاده لا يبدو انه كبير، وهو يقتصر على الغرب فقط، ولعل بيان قمة العشرين التي انعقدت في نيودلهي قبل شهر دليل على ذلك، والسبب يعود إلى أن العالم أدرك بأن الحرب الروسية الأوكرانية ما هي إلا صورة متأخرة عن الحرب الباردة، أو أنها صراع حول طبيعة النظام العالمي.

ومعظم العالم يفضل نظاماً عالمياً متعدد الأقطاب، أو نظاماً عالمياً أكثر عدالة من النظام العالمي الأميركي الحالي، وقد ساهم في موقف أغلبية دول العالم، التي تظهر الحياد إزاء تلك الحرب، إغلاق زيلنسكي لأبواب الحل السياسي، وإدارته ظهره للمخاوف الأمنية الروسية، ولم يظهر بوادر حسن الجوار، ولم يول التداخل العرقي بين الجارتين الاهتمام المناسب، خاصة وأنهما كانتا _نقصد روسيا وأوكرانيا_ تعيشان ضمن دولة واحدة هي الاتحاد السوفياتي لأكثر من سبعين سنة، وهكذا فإن زيلنسكي خاصة بعد أن أطلق هجومه المضاد قبل 3 أشهر، أظهر إصراراً على حسم الصراع عسكرياً، وهذا ما كرس موقف أغلبية دول العالم، للبقاء على موقف الحياد، وأبقى زيلنسكي كبيدق في يد الرئيس الأميركي.

ويبدو بأنه ليس مستقبل زيلنسكي فقط، هو المعلق بمآل الحرب الروسية الأوكرانية، بل مستقبل بايدن، الذي اعتبرت تلك الحرب بمثابة أهم مراهناته السياسية خلال ولايته الأولى، والتي استهدفت تعزيز مكانة أميركا في النظام العالمي الحالي، وذلك بإعادة أوروبا إلى جيبها الداخلي، وتحطيم روسيا، وذلك قبل التفرغ للصين، لكن على ما يبدو فإن رياح الرجلين لا تجري وفق رغبة سفنهما، فليس فقط أن هجوم كييف المضاد لم يحقق ما كان مرجواً منه وحسب، بل إن التقارير تشير إلى أن سقوط زيلنسكي بات وشيكاً، بعد الخسائر البشرية الفادحة في أوساط الجيش الأوكراني، وبعد خسارته تلك الأراضي التي تشكل نحو ربع أو خمس مساحة أوكرانيا، وهذا ما قاله دوغلاس ماكجريجور المستشار السابق لوزارة الدفاع الأميركية، والذي كان قد كتب على صفحته على موقع “تويتر” مطلع الشهر الحالي بأنه لولا المساعدات الحربية الأميركية لما صمدت أوكرانيا يوماً واحداً.

وزيلنسكي كان قبل إلقائه كلمته في الجمعية العامة قد حضر اجتماعاً لمجلس الأمن، اعتبر فيه أن حق النقض الذي تتمتع به بعض الدول قد دفع الأمم المتحدة نحو طريق مسدود، وكان يقصد بالطبع روسيا، ولكن هذا ينطبق على الولايات المتحدة، فرنسا، بريطانيا والصين أيضاً!

أما المهرّج الثاني فقد كان بنيامين نتنياهو رئيس حكومة التطرف اليميني الإسرائيلية، الذي لم تكن هذه أول مناسبة له أمام الجمعية العامة، كما كان حال زميله في التهريج السياسي فلاديمير زيلنسكي، لكن الرجل لم يُظهر أي بادرة خجل، وهو يلقي كلمته أمام العالم، كون قواته المحتلة لأرض وشعب دولة فلسطين، العضو في الأمم المتحدة، كانت ترتكب في تلك اللحظة جريمة حرب في جنين وعلى حدود غزة ، بل إنه استغبى العالم كله حين رفع صورة لخارطة “إسرائيل”عام 1948، وكانت هي خارطة فلسطين الانتدابية، بحدودها من البحر إلى النهر، لدرجة أثارت تهكم العديد من الإعلاميين الإسرائيليين أنفسهم، حيث معروف تماماً بأن “إسرائيل ما بين عامي 1948_1967 كانت تشمل نحو 80% من تلك المساحة، أي مساحة فلسطين الانتدابية لكن دون الضفة الفلسطينية وغزة، اللتين تشكلان ما يقارب 6 آلاف كم2، من إجمالي مساحة فلسطين الانتدابية وهي 27 ألف كم2.

ولم يتوقف تهريج نتنياهو عند تلك الحدود، بل هو روج لتطبيع وهمي مع العالم العربي، واعتبر أن التطبيع مع السعودية قد بات تحصيل حاصل، كما أنه واصل نفي الآخر، وعاد لاعتبار م ت ف الممثل الشرعي الوحيد للشعب الفلسطيني، الجهة التي وقعت اتفاقات أوسلو مع الحكومة الإسرائيلية عامي 1993_1994، عدواً، يجمعها مع إيران، ويتجاهل حل الدولتين، وقام بتحريف الحديث عن السلام، ما بين الفلسطينيين والإسرائيليين، إلى ما بين الإسرائيليين والعرب، ولم يُشر لا من بعيد ولا من قريب إلى أن حكومته تضم عنصريين وتستند على تأييد الإرهابيين المستوطنين، ولا إلى كون ادعاءاته ضد الغير لم تعد تقتصر على الفلسطينيين بكل مستوياتهم وأشكالهم، أي أن موقفه من فلسطين، حين قال إن الفلسطينيين لا يسعون عبر حل الدولتين إلى دولة إلى جوار إسرائيل، بل إلى دولة بدلاً عن إسرائيل؟!

لا يمكن للمهرّج نتنياهو أن يدعم ادعاءه هذا بأي سند، والدنيا كلها تعرف بأن الفلسطينيين بكلهم الوطني، يريدون دولة مستقلة على حدود العام 67، وهي حدود منقوصة أي أقل من حدود دولتهم المقرة من قبل الأمم المتحدة بقرارها رقم 181 للعام 1949، فيما هو أي نتنياهو وكل اليمين المتطرف، أي أركان حكومته هم الرافضون لإقامة الدولة الفلسطينية لأسباب ودوافع عنصرية بحتة، إلى جانب دولة إسرائيل.

ومن يستعرض مسيرة نتنياهو منذ 30 سنة يجد أنه أولاً هو من قاد مسيرة تدمير السلام الفلسطيني الإسرائيلي، وأنه هو وحزبه اللذان عارضا أوسلو، وحرضا على اسحق رابين حتى تم قتله، بعد توقيعه تلك الاتفاقية، وتحالف طوال تلك السنين، التي كان خلالها واحداً من أهم عوامل استمرار اليمين في الحكم، وبالتالي تعزيز اليمين في المجتمع الإسرائيلي وتبديد اليسار، عقوبة على شراكته في السلام مع فلسطين، وخلال تلك المسيرة، لم يتحالف نتنياهو باستثناء المتدينين المتشددين، شاس ويهوديت هتوراه، سوى مع أفيغدور ليبرمان، نفتالي بينت، وايتمار بن غفير وبتسلئيل سموترتيش، أما غير هؤلاء اليمينيين المتطرفين، فلم يكن صادقاً مع أحد، وقد سجل التاريخ كيف خدع بيني غانتس، حين شكل معه تحت ضغط الرئيس الأميركي السابق دونالد ترامب حكومة وحدة، في ظل كورونا ، ولمواجهة استعصاء متتابع داخلي لتشكيل الحكومة.

أقرأ أيضًا: صراع الشوارع الإسرائيلية.. بقلم رجب أبو سرية

جو بايدن وقلق الخروج من البيت الأبيض

مقال- رجب أبو سرية

منذ العام 1980، دخل البيت الأبيض الأميركي سبعة رؤساء، هم على التوالي: الجمهوريان رونالد ريغان وجورج بوش الأب، والديمقراطي بيل كلينتون، والجمهوري جورج بوش الابن، والديمقراطي باراك أوباما، والجمهوري دونالد ترامب، ثم الديمقراطي جو بايدن، ومنذ ذلك الوقت، وحتى دونالد ترامب، نجح الرؤساء الجمهوريون والديمقراطيون باستثناء جورج بوش الأب في انتخابات الولاية الثانية، حيث لم يخفق منذ الديمقراطي جيمي كارتر الذي مكث في البيت الأبيض رئيساً مدة ولاية واحدة ما بين عامي 1976 – 1980، سوى جورج بوش الأب، وربما كان السبب في ذلك، هو أن نجاحه في خلافة رونالد ريغان، بتوليه الرئاسة ما بين عامي 1988 – 1992، كان تجاوزاً للتقليد الثاني، وهو إضافة إلى نجاح الرؤساء في انتخابات الولاية الثانية، التداول ما بين الحزبين الكبيرين، بتولي كل منهما الرئاسة مدة ولايتين متتابعتين، ثم تولي الحزب الآخر الرئاسة تالياً.

يلاحظ ارتباطاً بتلك الفترة التي عرفت بذلك استقراراً وتداولاً عادلاً للسلطة ما بين الحزبين الأميركيين، أن عقد الثمانينيات، أي خلال حكم ريغان، شهد سباق التسلح ما بين الولايات المتحدة والاتحاد السوفياتي في ذلك الوقت أوجه، حيث أطلق الرئيس المحافظ ريغان الذي كان يمثل المحافظين الجدد ما سمي حرب النجوم، والتي كانت آخر فصل من فصول الحرب الباردة بين الدولتين العظميين، حيث شهد عهد جورج بوش الأب انتهاء الحرب الباردة بتفكك الاتحاد السوفياتي وانهيار منظومة الدول الشيوعية التي كان يقودها كقطب عالمي، وهكذا فإن العقود التالية قد شهدت استقرارا – كما أسلفنا – ذلك أن قيادة العالم قد سجلت للولايات المتحدة، خلال السنوات ما بين عامي 1990 – وحتى 2016 على وجه التقريب، أي العام الذي تولى فيه ترامب الحكم.

قبل ذلك شهدت ثلاثة عقود تداول السلطة ما بين كلينتون، جورج بوش الأب، وباراك أوباما، بواقع ولايتين لكل منهما، لكن ولاية ترامب بدأت بمحاولة منه لكسر شوكة كوريا الشمالية، لكنه سرعان ما حول بوصلته بتشجيع إسرائيلي إلى إيران، حيث تراجع عن الاتفاق الدولي الذي كان قد وقعه أوباما عام 2015، أي خلال العام قبل الأخير من وجوده في البيت الأبيض، مع مجموعة الدول التي سميت الخمس +1 مع إيران في إشارة إلى الدول الخمس دائمة العضوية في مجلس الأمن، وفي محاولة من ترامب لكسب التنافس الاقتصادي بين بلاده والصين، جاء إلى المنطقة العربية، حيث طالب بمئات مليارات الدولارات، كذلك رفع من قيمة الضرائب على البضائع مع حلفائه، بمن فيهم أوروبا وكندا، وجاءت جائحة كورونا لتثقل كاهل الاقتصاد الأميركي، وتجعل من قدرته على البقاء أولاً لعقود قادمة أمراً غير مؤكد.

المهم أن ترامب الذي لم يحقق نجاحاً يذكر، سعى إلى إنهاء الصراع في الشرق الأوسط، لضمان تصويت اليهود الأميركيين، الذي ظلوا ومنذ عهود طويلة، وعبر اللوبي الصهيوني، يؤثرون كثيراً في حظوظ مرشحي الرئاسة والكونغرس، فيما صارت إسرائيل تالياً هي من يتحكم إلى حدود كبيرة في مستقبل الطامحين لدخول البيت الأبيض، لذا قدم ترامب نفسه كأكثر الرؤساء الأميركيين انحيازاً لإسرائيل، وبعد أن شهد العام 1992 ضغطاً صريحاً أميركياً إبان عهد جورج بوش الأب، الذي بإجباره اليميني الإسرائيلي المتشدد في ذلك الوقت رئيس الحكومة إسحق شامير على المشاركة في مؤتمر مدريد رغم الوجود الفلسطيني ضمن الوفد الأردني/الفلسطيني المشترك، أظهر قوة أميركا كزعيم للعالم، شهدت الأعوام التالية «صموداً» إسرائيليا في مواجهة الرؤساء الأميركيين الأقوياء، خاصة كلينتون وأوباما، اللذين حاولا التوصل للحل النهائي ما بين الفلسطينيين والإسرائيليين، ففشلوا، في ظل حكومات إيهود باراك و بنيامين نتنياهو .

ورغم كل ما قدمه ترامب لإسرائيل، أولاً بنقل سفارة بلاده من تل أبيب إلى القدس ، متجاوزاً بذلك ما كان يقوم به الرؤساء الأميركيون منذ عقود، باستخدام حق الفيتو ضد قرار الكونغرس بالخصوص، ثم قبول القرار الإسرائيلي بضم الجولان، ثم سعيه المحموم لفرض صفقة العصر، وحين فشل عوضها باتفاقيات أبراهام، إلا أنه رغم ذلك فشل وهو الرئيس في الفوز بالولاية الثانية، وواضح أن ذلك يعود لأسباب داخلية، حيث لم يكف انحيازه لإسرائيل في إبقائه بالبيت الأبيض، ومثل هذا المصير يخشاه الرئيس الحالي جو بايدن وهو في سنته الثالثة من ولايته الأولى، لذا يسعى بشكل جدي ومحموم لدخول معترك الانتخابات وفي جعبته إنجاز ما، وذلك بعد أن أخفق في سياسته الخارجية، التي شهدت محطات بائسة، من سحبه القوات الأميركية بشكل مرتبك من أفغانستان، إلى إخفاقه بسبب الرفض الإسرائيلي في العودة لاتفاقية العام 2015 مع إيران، إلى إحراج إسرائيل له في كل ما تعهد به على الصعيد الفلسطيني، من إعادة فتح القنصلية بالقدس، إلى إعادة فتح مكتب م ت ف في واشنطن، إلى التسهيلات المعيشية وخفض العنف وصولاً لفتح الأفق السياسي.

ثم وقوعه في الورطة الكبرى الناجمة عن دعمه وانحيازه لأوكرانيا، بعد جر روسيا للحرب هناك، بهدف احتواء وإخضاع روسيا، للإبقاء على الصين وحيدة دولياً، ليتمكن منها لاحقاً، ذلك أنه بعد مرور عام ونصف العام على الحرب بين روسيا وأوكرانيا، صمدت روسيا، عسكرياً وداخلياً واقتصادياً، بل بدأت حتى بالتدخل في النيجر، في قلب أفريقيا بمنافسة الغرب مجدداً، على النفوذ الدولي، وليس أدل على ذلك من اللقاء الروسي الأفريقي الذي عقد الشهر الماضي في موسكو، على طريق قمة العشرين، وعشية قمة بريكس التي تضم روسيا والصين مع الهند والبرازيل وجنوب أفريقيا، وينظر إليها العالم على أنها منافس دولي للغرب.

ومع صعوبة نجاح جو بايدن حتى في التقدم للانتخابات التي ستُجرى في شهر تشرين الثاني من العام القادم 2024، والتي قد تكون «كلاكيت ثاني مرة» أي نسخة مكررة عن السابقة، أي بينه وبين ترامب، في توسيع ملف اتفاقيات أبراهام، بضم السعودية، فإن التوصل للاتفاق مع إيران، ليس حول برنامجها النووي، ولكن التوصل لمقايضة خمسة أميركيين محتجزين لدى طهران منذ سنوات، مقابل فك التجميد بحق عشرة مليارات من الدولارات الإيرانية، قد يفضي إلى ما يمكن اعتباره نجاح بايدن في الفكاك من الأسر الإسرائيلي، الذي كبل يديه وقدميه، خاصة فيما يخص الملف الإيراني، حيث تعتبر إسرائيل إيران حالياً عدوها الأول، وهي تجعل منها فزاعة لإقناع الدول العربية – الخليجية خاصة، بعقد اتفاق التطبيع معها، وتجاوز شرطها بانسحابها من الأرض الفلسطينية والعربية المحتلة، حيث نجحت نسبياً مع الإمارات والبحرين.

قد يبدو الاتفاق ما بين واشنطن وطهران صغيراً وغير مهم، لكنه في حقيقة الأمر يعتبر مؤشراً بالغ الأهمية، فهو يأتي أولاً بعد تطبيع العلاقات بين إيران وكل من السعودية والإمارات، كذلك هو يأتي كرفض أميركي لمحاولة إسرائيل زج الجميع، بمن فيهم الأميركيون في دائرة العداء ومن ثم الحرب مع إيران، وربما أيضاً كرد أميركي على عدم انضمام إسرائيل للحلف الذي شكلته أميركا من الغرب الأوروبي ضد روسيا على خلفية الحرب مع أوكرانيا، والأهم هو ما أعلنت عنه إسرائيل نفسها – ربما لتضخم الاتفاق الأميركي الإيراني – من أنه شمل اتفاقاً غير رسمي، على تخفيض التخصيب الإيراني لليورانيوم.

المؤكد بالطبع، هو أن الاتفاق، الذي جاء موازياً لاتفاق كان مرتقباً منذ دخل بايدن البيت الأبيض، أي الاتفاق حول البرنامج النووي الإيراني، سيعتبر إنجازاً لبايدن في محاولته البقاء في البيت الأبيض، كذلك سيعني انتعاشاً للاقتصاد الإيراني، وإعلاناً أميركياً في نفس الوقت عن التوقف عن المراهنة على العقوبات الاقتصادية لإسقاط النظام الإيراني، أو إخضاعه للسياسات الأميركية في الشرق الأوسط، وهو في نفس الوقت لطمة على وجه إسرائيل، ومظهر من مظاهر الافتراق ما بين واشنطن وتل أبيب، حيث على إسرائيل خاصة حين ينجح مرشح في الدخول للبيت الأبيض وهو مناهض لها، أن تبدأ منذ اليوم الاعتماد على نفسها، دون الحماية العسكرية والسياسية والاقتصادية الكاملة من النظام العالمي.

صراع الشوارع الإسرائيلية.. بقلم رجب أبو سرية

أقلام – مصدر الإخبارية

صراع الشوارع الإسرائيلية، بقلم الكاتب الفلسطيني رجب أبو سرية، وفيما يلي نص المقال كاملًا كما وصل موقعنا:

حيث يمكن لأغلبية عضو كنيست إسرائيلي واحد، أن يحدث انقلابا في نظام الحكم، لا يمكن اعتبار أن إسرائيل بذلك دولة ديمقراطية مستقرة، ويعود ذلك إلى كونها الدولة الوحيدة في العالم التي لم تعلن حدودها بعد، ولا كذلك طبيعتها أو جوهرها، فهي في الوقت الذي تدعي فيه أنها دولة ديمقراطية، تطالب الآخرين، وأولهم الفلسطينيون، بتعريفها كدولة يهودية، وهي الدولة الوحيدة ربما التي ليس لها دستور، ولو كانت كذلك فإن أي تعديل دستوري يحتاج أغلبية الثلثين وليس الأغلبية البسيطة، وما يزيد طين عدم الاستقرار الداخلي في إسرائيل بلة، هو أن الكنيست برلمان من غرفة واحدة، وليس كما هو حال كثير من برلمانات الدول الديمقراطية، البريطاني مثلا المكون من مجلسي العموم واللوردات، والأميركي، حيث يتكون الكونغرس من مجلسي الشيوخ والنواب.

حقيقة الأمر، أن استمرار احتلال إسرائيل لأرض دولة فلسطين، دفع شيئا فشيئا بالمستوطنين، وهم مواطنون إسرائيليون، خارجون على القانون الدولي، تربوا على اللصوصية وقطع الطريق وكراهية الآخر لدرجة قتله، لذا هم متطرفون بشكل عام، وهم ناخبو اليمين المتطرف، وحقيقة أنهم أوصلوا نفتالي بينيت وإيليت شاكيد، ومن ثم بتسلئيل سموتريتش، المقيم في واحدة من المستوطنات المغتصبة لأرض دولة فلسطين في الضفة الفلسطينية، إلى مقاعد الحكم والتحكم بالدولة، يعني بأن داخل إسرائيل باتت هناك دولتان، واحدة تأسست على قيم الغرب الليبرالي، منذ العام 1948، ومواطنوها يعيشون في المدن الكبرى الرئيسة، تل أبيب، حيفا، نتانيا، وكانوا قاعدة الحزبين الكبيرين متداولي السلطة، فيما الدولة الثانية، هي دولة الاحتلال، دولة المستوطنين، الذين باتوا يقبضون على رقبة إسرائيل، خاصة في ظل الحكومة الحالية.

لهذا ليس من غير معنى أو دلالة، أن تشهد إسرائيل أخطر محاولة لتغيير نظام الحكم في ظل أكثر حكوماتها تطرفا، أي هذه الحكومة التي يقودها إلى أقصى اليمين، شريك «الليكود» المتمثل بكل من «الصهيونية الدينية» والقوة اليهودية»، تلك المحاولة التي تنتقل بإسرائيل من ارثها كدولة وليدة نظام الغرب الليبرالي، إلى عالم الشرق الاستبدادي، أو استحضار تاريخ أسطوري خرافي، يشكل ثقافة المتطرفين من المستوطنين الذين أقاموا دولة الاحتلال، أي إسرائيل على ارض دولة فلسطين، وكانت إسرائيل الغربية الليبرالية قد أعلنت العام 1948 دون أن تدعي بأن لها حقا لا تاريخي ولا قانوني ولا ديني في أرض الضفة الغربية، وقد أعلنت كدولة بعاصمتها تل أبيب، ولو كان الأمر غير ذلك، لكان ديفيد بن غوريون، أجل إعلان دولة إسرائيل، أو أنه على الأقل أعلنها كدولة مؤقتة، خاصة أن إسرائيل الغربية أعلنت على الأرض التي منحت لها وفق قرار التقسيم الأممي، مضافا لها نصف أرض دولة فلسطين، التي احتلتها العصابات الصهيونية العام 1948.

إن الصراع داخل إسرائيل الذي يجري حاليا، هو صراع حقيقي، ولا يمكن حله وفق الصفقات السياسية، وهو صراع بين قوتين، الأولى هي القوة التقليدية، المشكلة من الأحزاب السياسية والقوى المجتمعية التقليدية، والتي تعبر عنها معظم الأحزاب ذات القاعدة الأشكنازية، كذلك مؤسسات الدولة التي أقيمت وفق مفهوم الدولة الغربية، التي نشأت في حضن العالم الغربي، والثانية هي إسرائيل الشرقية، أو إسرائيل الاحتلالية، بقاعدتها المشكلة من مغتصبي أرض دولة فلسطين، والمقيمين في المستوطنات أو المستعمرات أو حتى المغتصبات، وعاصمة هؤلاء هي القدس الغربية والمستوطنات التي تحيط بها، أي القدس الكبرى.

إسرائيل الغربية الليبرالية، ستضطر في نهاية المطاف أن تنفصل عن فلسطين، وفق منطق حل الدولتين بصرف النظر عن تفاصيل ذلك الحل، أما إسرائيل الشرقية الاحتلالية، فهي على العكس من ذلك تماما، تجر إسرائيل نحو الشرق، وتسعى إلى ضم أرض دولة فلسطين، وتحويل إسرائيل كلها إلى دولة شرقية مستبدة، إمبراطورية لاهوتية، لا حدود لها.

وهكذا فإن الصراع لا يبدو شكليا، وما دامت إسرائيل تحولت إلى هذه الدرجة من الهشاشة، طمعا في التوسع، أي لم يتم وضع دستور لها والاكتفاء بحدودها العام 1948، فإنها تدفع، اليوم، ثمنا باهظا لذلك، كذلك لا بد من الإشارة إلى أن «تجميع» البشر من كافة أنحاء الكرة الأرضية، له ثمن، غالبا ما كان يظهر على شكل عدم التجانس المجتمعي في إسرائيل، وهو تناقض داخلي مهم، كان يجري طمسه من خارج الحروب الخارجية، أو تحويل وجهته في الاتجاه العنصري، أي ضد العرب الفلسطينيين من مواطني الدولة.

ولا بد من الإشارة أيضا إلى أن اللحظة الفارقة التي وجدت إسرائيل نفسها أمامها هذه الأيام، لم تسقط عليها من السماء، ولا هي نتيجة مؤامرة خارجية مثلا، بل هي نتيجة لنحو أربع سنوات من عدم الاستقرار الداخلي، حيث عاشت إسرائيل منذ العام 2019، محكومة معظم الوقت بحكومات تسيير أعمال، بسبب الذهاب إلى انتخابات متتالية، بلغت أربع جولات خلال مدة ولاية كنيست واحدة!

وحتى هذه الفترة من عدم الاستقرار سبقها انتقال مجتمعي متواصل نحو اليمين، منذ مطلع الألفية الثالثة، أي خلال عشرين عاما من حكم اليمين، تلاشى خلالها اليسار الذي أقام دولة إسرائيل الليبرالية وفق نظام الغرب الديمقراطي، وقد ساعد على ذلك أمران: أحدهما كوني، له علاقة بانتهاء الحرب الباردة، حيث تربعت أميركا على زعامة العالم، وتبدد الكابح الاشتراكي الذي كان يخفف من توحش النظام الرأسمالي العالمي، فظهر الإسلام السياسي في الشرق الأوسط، بجماعاته الدينية، وتعمق اليمين في العالم الغربي نفسه، أما العامل الثاني، فهو تراجع حالة الصد العربي للسيطرة الإسرائيلية، ورغم توقيع إسرائيل اتفاقية أوسلو، إلا أنها لم تواجه لا ضغطا إقليميا ولا دوليا يدفعها لتتحرر من تبعات الاحتلال، وهي تحافظ على موقع اليمين والتطرف داخلها.

في الحقيقة، ما يجعلنا نذهب إلى هذا الحد، هو أن الصراع حول خطة إضعاف القضاء، التي يدور حولها الجدل داخل إسرائيل منذ مطلع العام الحالي، أي منذ تشكلت حكومة تحالف «الليكود» مع اليمين المتطرف، لم يكن صراعا سياسيا بين قطبي النظام السياسي فقط، أي الحكومة والمعارضة، والخطة ليست موجهة أصلا للمعارضة، بل إلى القضاء، ومنه المحكمة العليا، لقضم صلاحياته من قبل الحكومة، وذلك لتحرير رئيس الحكومة نفسه من ملاحقة القضاء له، على خلفية التهم الموجهة ضده بالفساد، وكذلك لإعادة آرييه درعي زعيم «شاس» الشريك الديني في الحكومة، إلى وزارة الداخلية، التي أقصاه منها القضاء.

والدليل على ذلك أن مؤسسات الدولة الرئيسة، بما في ذلك أهمها، وهو الجيش منخرط في رفض ومعارضة الخطة الحكومية، ومع مواصلة الشارع المعارض التظاهر للأسبوع التاسع والعشرين، ومع الرفض الأميركي والغربي للخطة، وفي ظل إصرار الحكومة على تمرير الخطة، التي طرحتها للتصويت بالقراءة الأولى فعلا، تواجه إسرائيل أسبوعا من نار، يسبق نهاية تموز الحالي، حيث يذهب الكنيست إلى العطلة الصيفية، وإذا كانت المعارضة السياسية والاحتجاجات الميدانية، كذلك اتساع رقعة رفض الاحتياط العسكري الخدمة، إذا كان كل ذلك لم يردع الحكومة، التي ردت على الشارع المعارض بشارع مؤيد، بما يقترب بإسرائيل من صراع أهلي مرير، هو شكل من أشكال الحرب الأهلية الباردة، فإن التحذير بالخطر الاقتصادي بعد الخطر الأمني، قد يجبر الحكومة المتطرفة على الاكتفاء بالخطوة الرمزية المتمثلة في عدم المعقولية، وقبول الحل الوسط الذي اقترحه «الهستدروت».

و»الهستدروت»، أي اتحاد نقابات عمال إسرائيل، أهم مؤسسة اقتصادية في إسرائيل، وهو المصنع التقليدي للحكم، بما يضمه من مئات آلاف المواطنين وبقدر تأثيره على عجلة الإنتاج، في حال دخل ميدان الصراع بين الطرفين، وأعلن الإضراب مثلا، وهكذا فحتى في حال ركب نتنياهو وشركاؤه المتطرفون رؤوسهم، واقروا بالقراءتين الثانية والثالثة، مشروع خطة عدم المعقولية، وحتى في حال امتنع غالانت عن التصويت، وحتى لو تبعه آخرون، فإن الصراع الداخلي لن يتوقف عند تلك الحدود، لأن له علاقة بطبيعة دولة إسرائيل وبكونها دولة احتلال أولا وقبل كل شيء.

أقرأ أيضًا: نتنياهو غير المرغوب به في واشنطن.. بقلم: رجب أبو سرية

الرئيس في جنين: فلسطين تقاوم الاحتلال

أقلام – مصدر الإخبارية

الرئيس في جنين: فلسطين تقاوم الاحتلال، بقلم الكاتب الفلسطيني رجب أبو سرية، وفيما يلي نص المقال كاملًا كما وصل موقعنا:

لم يستحق اجتماع الكابينت الإسرائيلي الذي انعقد يوم الأحد الماضي، رداً رسمياً فلسطينياً، وفقط ردت الحكومة بالقول بأن أموال السلطة هي حق لها، وعلى إسرائيل أن تدفعها دون أي شروط، مع ذلك فإن أبلغ رد ليس على اجتماع الكابينت، الذي كشف في حقيقة الأمر عن الحاجة الأمنية الإسرائيلية للسلطة، والتي دونها لا يمكنها أن تحلم بإدارة احتلالها بهدوء، ولكن أبلغ رد على اجتياح جنين وإقدام إسرائيل على التنكيل بالمدينة ومخيمها الصغير نسبياً، إنما جاء عبر زيارة الرئيس محمود عباس للمدينة ومخيمها، بعد أسبوع فقط من الاجتياح الإسرائيلي لها.
إن زيارة الرئيس عباس لجنين ومخيمها، في الوقت الذي تشد فيه على يد صمود المدينة الباسلة، فإنها تضمد جرحها إلى حد بعيد، كما أنها تقول بأن جنين ليست وحدها، ولا يمكن للاحتلال أن ينفرد بها ولا بأي مدينة فلسطينية تقاوم احتلاله البغيض، وهي _أي زيارة الرئيس_ تقول بكل وضوح وبساطة، بأن فلسطين كلها تقاوم الاحتلال، وليس هناك من أية فواصل بين السلطة، الفصائل والشعب، وكما جاء في كلمة الرئيس من تأكيد على الوحدة الوطنية الميدانية، فإن الكل الفلسطيني يقاوم الاحتلال، بأساليب وأدوات تتكامل ولا تتعارض.

وحيث إن الزيارة تضمنت بالطبع تقديم إكليل الغار لشهداء معركة «بأس جنين»، فإن ذلك أبلغ رد على المحاولة الإسرائيلية الدنيئة بمجرد التفكير بالإيقاع بين السلطة والشعب، لأن ذلك يعني تبني السلطة لشهداء جنين، وأسراها الذين اعتقلتهم إسرائيل، بما في ذلك إعالة عائلاتهم، والأهم من كل هذا بالطبع، إفشال الهدف السياسي من العملية العسكرية الإسرائيلية، والتي سعت إسرائيل للخروج بها، بعد أن تأكدت من عدم تحقيق أهدافها الأمنية، ونقصد تدمير المخيم بالذات، وتهجير سكانه، لاعتقاد إسرائيل بأن المخيم بالذات حاضنة متقدمة ونواة صلبة لمقاومة الاحتلال.
أي أن حرص الرئيس على متابعة إعادة إعمار المخيم والمدينة بشكل سريع للغاية، وبشكل شخصي، يؤكد بأن السلطة بالفعل وليس بالقول فقط، تقف في وجه الاحتلال الغاشم، وتقاوم جبروته من موقعها المسؤول، ولهذا فقد استقبل مخيم ومدينة جنين الرئيس بكل حفاوة وترحاب رغم آلامهما الناجمة عن حداثة الجرح.

لا بد من الانتباه أيضاً، إلى أن زيارة الرئيس عباس لمخيم ومدينة جنين أعقبت زيارة الوفد القيادي الفتحاوي، من جهة، ومن جهة ثانية عقب الظهور اللافت والمهم جداً لكتائب الأقصى من جنين وإعلانها عن إطلاق صاروخين باتجاه المستعمرات الإسرائيلية القريبة، بما يؤكد تماماً ودون أي شك على وحدة ميدان المقاومة فصائلياً وسياسياً، رسمياً وشعبياً، كما تأتي زيارة الرئيس الميدانية لجنين قبل أيام من اجتماع الأمناء العامين في القاهرة، والذي يعني الكثير بما يحمله من توقعات وآمال بأن يضع حداً لحالة الانقسام بين جناحي الوطن، خاصة وأن الأمناء العامين هم أعلى مستوى في الفصائل، حيث يمكنهم أن يتخذوا القرار اللازم لإنهاء الانقسام، وهم في قاعة الاجتماعات، أي دون الحاجة لمشورة مراجعهم التنظيمية، أو العودة لفصائلهم، وتأجيل البت في أمر إعادة الوحدة الوطنية لاجتماع آخر.

جنين إذاً توحد الكل الفلسطيني على طريق المقاومة متعددة الأشكال والأدوات والوسائل، ولعل هذا هو الدرس الكبير، وقد جرب الفلسطينيون هذا في غزة ، منذ أكثر من عامين، حيث أن إسرائيل في كل اعتداءاتها على غزة، في الفترة الأخيرة تستهدف قادة وكوادر ومواقع الجهاد الإسلامي وسرايا القدس الخاصة به، أي دون حماس وقسامها، ورغم ذلك فإن التوافق بين حماس والجهاد الإسلامي السياسي خاصة، لم يتأثر، بل إن الجهاد متفهم لما تبديه حماس من ضبط نفس، ومن مسؤولية للحفاظ على قطاع غزة من التدمير الشامل، وإن كان من ضمن ذلك الحفاظ على قادتها وكوادرها العسكريين خاصة، والجهاد وحماس في غزة يتبادلان الأدوار، على طريقة حزب الله والرئيس اللبناني، خاصة في عهد ميشال عون، ويبدو أن الأمر نفسه سيقع في الضفة الغربية، وإن كان ليس بصورة متطابقة، ذلك أن نظام الحكم في الضفة الغربية الفلسطيني ليس سلطة فقط، بل هناك السلطة الرسمية وهناك «فتح» وهناك كتائب الأقصى، والأهم أن الضفة الغربية والقدس كلها تقع تحت احتلال مباشر، لم يعد يستثني حتى مناطق أ المصنفة كمدن، مهمة الأمن فيها أو مسؤوليتها الأمنية تقع على عاتق السلطة وليس إسرائيل.

فأن ينخرطَ الرئيس شخصياً في الهم الشعبي، بهذا الشكل الميداني، يعني الكثير، ويقرب في حقيقة الأمر كثيراً من النجاح في المهمة القادمة في القاهرة، ومن يدري، فقد ينتهي الأمر بذهاب الأمناء العامين يتقدمهم الرئيس عباس إلى غزة، ليتم الإعلان ميدانياً ودون أية مواربة عن إنهاء نهائي وتام للانقسام، المهم أن لا تظل الفصائل تصر على الشكليات، بعد أن انتقلت كثيراً السلطة ومعها «فتح» من موقع المراهنة على التفاوض كمدخل يفضي للحل السياسي، بالإصرار على أن المقاومة المسلحة هي الشكل الوحيد لإنهاء الاحتلال، ولا بد للفصائل وخاصة «الجهاد» وحماس» من الإقرار بتعدد أدوات وأساليب المقاومة، كذلك أن تقتنع بتكامل الأدوار، وبأن «فتح» هي شقيقة «الجهاد» كما هي «حماس»، وإن تشبث الطرفين خلال أكثر من عقد ونصف، كل ببرنامجه، أي السلطة و فتح على خيار التفاوض أولا، ثم المقاومة الشعبية السلمية ثانياً، لم يفض لإنهاء الاحتلال، ولا حتى للتقدم على هذا الطريق، كما أن مراهنات حماس على كسر الحصار عبر الحلفاء الإسلاميين فقط، لم يحقق شيئا، كما أن طريق المقاومة، حتى المسلحة، يحتاج إلى وحدة ميدانية، والتفرد من قبل إسرائيل بأي فصيل، وليس فقط بكل مدينة أو مخيم، خاصة في الضفة والقدس، لو تم أو سُمح به من قبل الفلسطينيين، فإن ذلك يعني اندحار المقاومة لا قدر الله.

الجهاد أولاً وحماس ثانياً، وحتى تحقق المقاومة تقدماً، بل ومن أجل أن تصمد، وتنجح في الإبقاء على تآكل الرد العسكري الإسرائيلي، هما بحاجة إلى الوحدة الميدانية والسياسية مع فتح والسلطة. ومع تطرف الحكومة الإسرائيلية الحالية، ومع غرقها في مشاكلها الداخلية، بل ومع مواجهتها لتعدد الجبهات المعادية لها، هناك فرصة حقيقية، لأن تتحقق الوحدة الداخلية، دون أن يأخذ أحد، نعني لا الأميركيين ولا الأوروبيين على السلطة مأخذاً، وحتى تتحقق وحدة الميدان في القدس والضفة الغربية، وحتى يمكن تخفيف وفكفكة الحصار عن غزة، لا بد أن توافق حماس على فرد عباءة السلطة رسمياً على قطاع غزة، بمعابره ومداخله، خاصة وأن هناك أفقاً اقتصادياً وطنياً، يتمثل في إمكانية استخراج غاز غزة، ليكفي الجميع، نقصد جميع الفلسطينيين في غزة والقدس والضفة، سلطة وفصائل وشعباً، موظفي رام الله وموظفي غزة، دون حاجة للمانحين أولا بمن فيهم قطر، ويجرد إسرائيل نفسها من ورقة الضغط التي تواصل استخدامها ضد السلطة، نقصد بالطبع أموال المقاصة، وحيث أن اعتماد فلسطين على ذاتها اقتصادياً، سيفتح لها أبواب الاستقلال الوطني، أوله فتح أبواب غزة المغلقة على الخارج، وثانيها، إعمار كل ما يدمره الاحتلال وحتى ما يقوم بهدمه في الضفة من منازل، كذلك توفير المال اللازم لمواجهة حرب التهويد في القدس، وحتى الحرب على زراعة المناطق «ج» في عموم الضفة الفلسطينية.

إن السنين خففت كثيراً من الحدة ما بين برامج الفصائل الفلسطينية، خاصة ما بين برنامجي السلطة والمقاومة المسلحة، وميدانياً اقتربت الأطراف من بعضها، وتوحدت القلوب والسواعد في الدفاع عن الأقصى والقدس، كذلك توحدت القلوب والسواعد في الدفاع عن جنين ومخيمها، وعن نابلس ومحيطها، وعن كل المدن والقرى والمخيمات، وحتى كذلك عن غزة، وفي حقيقة الأمر، لم يعد هناك من يمكنه أن يفهم سر البقاء بعد كل هذه السنين، وبعد كل هذه الأحداث والوقائع على هذا الانقسام البغيض بين جناحي الوطن، غزة والضفة، أو بين سلطتي «حماس» و«فتح».

أقرأ أيضًا: نتنياهو غير المرغوب به في واشنطن.. بقلم: رجب أبو سرية

إسرائيل بين كابلان والاستيطان

أقلام – مصدر الإخبارية

إسرائيل بين كابلان والاستيطان، بقلم الكاتب الفلسطيني رجب أبو سرية، وفيما يلي نص المقال كاملًا كما وصل موقعنا:

صادقت اللجنة الوزارية الإسرائيلية للتشريع أول من أمس، على مشروع قانون يقضي بحل نقابة المحامين، وذلك بعد أسبوع فقط من إجراء النقابة انتخاباتها العامة التي فاز من خلالها مرشح المعارضة عميت بيخر بمنصب رئيس النقابة، متفوقا على مرشح الائتلاف الحكومي رئيس النقابة السابق ايفي نافيه، بنسبة 73% مقابل 19% فقط، حيث شاركت نسبة عالية من أعضاء النقابة في الانتخابات بنسبة بلغت ضعف ما كانت عليه انتخاباتها السابقة.

هذا الحدث يمكن أن يضاف إلى حدث آخر وقع قبل اقل من أسبوعين، حين نجحت المعارضة في انتخاب كارين الهرار الوزيرة السابقة في حكومة يائير لابيد، وعضو الكنيست الحالي عن حزب ياش عتيد، في لجنة تعيين القضاة، بعد أن صوت لها أربعة نواب من الائتلاف الحاكم، هذا في الوقت نفسه الذي اخفق فيه الائتلاف في انتخاب مرشحه لعضوية لجنة تعيين القضاة ذاتها، وذلك بسبب الخلافات داخل صفوفه.
هذان الحدثان عمليا يشعلان الوضع الداخلي في إسرائيل، ذلك أن معركة كسر العظم الداخلية تتمحور كما هو معروف على خطة الحكومة اليمينية المتطرفة الحالية، لاحتواء وإضعاف القضاء، وذلك لتمرير جملة من أهدافها الخاصة بقادة الائتلاف، أولها إعادة آرييه درعي زعيم شاس لعضوية الحكومة، بعد أن كان القضاء قد منع تعيينه عند تسمية بنيامين نتنياهو لأعضاء حكومته الحالية، والتي تضمنت درعي كوزير للداخلية، كذلك تحصين رئيس الحكومة نفسه ضد تهم الفساد التي تجري مناقشتها في المحاكم منذ بضع سنوات، ولأن لجنة القضاة تتكون من تسعة أعضاء، منهم وزير العدل، وعضوان واحد عن المعارضة والآخر عن الائتلاف الحاكم، كذلك رئيس نقابة المحامين، فإن انتخاب الهرار، وفوز المعارضة بمنصب نقيب المحامين، أي بعضو آخر في لجنة القضاة، كل هذا يعني بأن المعارضة، تعزز من موقفها الرافض لخطة الحكومة تجاه لجنة القضاة، وذلك بتحصين اللجنة من داخلها.

وقد وصل الخلاف داخل إسرائيل حول خطة وزير العدل، بتعديل وظيفة ودور لجنة القضاة، إلى حد لم تعرفه إسرائيل من قبل من حيث الصراع الداخلي، وفقط مبادرة رئيس الدولة التي قضت بإجراء حوار ما بين الائتلاف الحاكم والمعارضة في منزله، بعد إعلان رئيس الحكومة نتنياهو قبل أشهر عن تجميد العمل بالخطة، أي عدم عرضها للتصويت في الكنيست، هو فقط من خفف من حدة التوتر، لكن وحتى الحادي والثلاثين من شهر تموز القادم، موعد إجازة الكنيست، فإن التوتر سيعود بدرجة حادة بين الطرفين، ذلك أنه لا يوجد حل وسط هنا ما بين برنامجي المعسكرين.

وحقيقة الأمر، أن لدى الطرفين مصادر قوة، تجعل من انفجار الوضع داخل إسرائيل هو المرجح، وذلك في ظل عدم وجود حل وسط كما أشرنا، فإما إبقاء القضاء يقوم بدوره كما هو حاليا، وذلك كما تريد المعارضة، أو إحداث الانقلاب في دور ووظيفة القضاء كما يسعى الائتلاف الحاكم، والذي يستند على أغلبيته البرلمانية، حيث مجرد طرح خطة وزير العدل اليميني الليكودي ياريف ليفين، على الكنيست للتصويت، فإنها ستفوز بالقراءة الأولى، وهكذا لن يكون هناك سوى مجرد وقت دون نفاذها والعمل بها، أما المعارضة، فتستند ليس فقط إلى أحزابها وقوتها البرلمانية، ولكن أيضا إلى معارضة قطاعات واسعة من الشعب الإسرائيلي، والى معارضة معظم مؤسسات الدولة، بما في ذلك أوساط مهمة من الجيش، خاصة الاحتياط، وعمليا القوة الليبرالية، أي تراث الدولة بمؤسساتها، بما فيها الأمنية، إضافة للتكنوقراط، والأهم بالطبع إلى قوة الاحتجاج في الشارع.
وقد انعكس اتساع قوس المعارضة الإسرائيلية لخطة وزير العدل لإضعاف القضاء، على استطلاعات الرأي التي منحت الائتلاف حاليا مقاعد اقل بنحو عشرة مقاعد عما هو لديه الآن، كذلك دفعت بحزب معسكر الدولة الذي يتزعمه رجل المعارضة الثاني بيني غانتس إلى المقدمة، ليكون نداً لحزب الليكود، بل والى تجازوه أحياناً، وقد تواصلت الاحتجاجات كل يوم سبت منذ ستة أشهر مضت، أي منذ تشكيل حكومة نتنياهو السادسة الحالية، وحتى اليوم.

وقد وصلت الاحتجاجات أسبوعها الخامس والعشرين على التوالي، يوم السبت الماضي، وذلك استباقاً لقيام الائتلاف الحاكم بعقد جلسة للجنة الدستور والقانون والقضاء، يوم الأحد الماضي وذلك لإقرار تعديل في بند في القانون يحد من صلاحيات المحكمة العليا التي كانت قد تدخلت ورفضت تعيين درعي في الحكومة الحالية، وذلك بهدف تمهيد الطريق لعودة زعيم حزب شاس إلى الحكومة، وقد انطلقت التظاهرات من مدن الخضيرة، تل أبيب، حيفا، هرتسليا، نتانيا، رحوفوت، نهاريا وبئر السبع، وصولا إلى موقع الاحتجاج الرئيسي في شارع كابلان في تل أبيب. ولهذا أطلق منظمو الاحتجاجات اسم قوة كابلان على المجموعة التي أسسوها لقيادة الاحتجاجات، والتي ربما يكون لها شأن انتخابي فيما بعد، والتي ستقوم بتنظيم سلسلة من الاحتجاجات التي ستتواصل وتتابع حتى يوم 31 من تموز المقبل، ليبقوا بذلك الحكومة تحت الضغط المعارض لتمرير خطة إضعاف القضاء، أو حتى تعديل أحد بنودها.

وحقيقة الأمر أن الائتلاف الحاكم حاول أن يمضي قدما في خطته لدرجة أن نتنياهو قد أعلن إقالة وزير الدفاع الليكودي يوآف غالانت، من منصبه، قبل عدة أشهر، واضطر إلى تجميد فقط طرح الخطة، وذلك في محاولة لاحتواء المعارضة، بإلهاء الشارع بحوار الائتلاف مع المعارضة في منزل رئيس الدولة، لكن تواصل الاحتجاج في الشارع هو من أبقى على الضغط الكابح يمنع الائتلاف من طرح خطة وزير العدل على الكنيست للتصويت.

أمر آخر لا بد من الإشارة له وهو أن الائتلاف الحاكم بتطرفه السياسي المزدوج، العنصري تجاه الفلسطينيين، والمقوض للديمقراطية تجاه مؤسسات الدولة، أي الفاشي في الخارج، والديكتاتوري في الداخل، هرب من مأزقه الداخلي، وحتى يبقي على زخم قوته الانتخابية، حرك أولا مظاهرات مضادة، ضد احتجاجات المعارضة، لكنها فشلت، ثم واصل إطلاق إرهاب الدولة وإرهاب الاستيطان والمستوطنين ضد الشعب الفلسطيني في القدس والضفة الغربية، وذلك حتى يظهر قوته التي تتآكل داخليا وخارجيا بشكل واضح للعيان.

لا يمكن إذاً إغفال أن كل هذا الإرهاب والعنف المتوصل منذ ستة أشهر، وغير المسبوق، حيث يطلق ايتمار بن غفير وبتسئليل سموتريتش وبنيامين نتنياهو أيدي وأرجل وأسنان الإرهاب ويزجون بالمستوطنين الإرهابيين بحماية الجيش وكل مؤسسات الدولة، ليمارسوا قتل الفلسطينيين، ويقوموا بحرق منازلهم وسياراتهم ومزروعاتهم، ولا يكتفون بإطلاق مشاريع الاستيطان الإضافية، ومصادرة الأراضي، لكن ذلك أطلق أيضا رد فعل شعبي فلسطيني، على شكل مقاومة شعبية متعددة الوسائل والأدوات والأشكال، لدرجة أن كل ما قام به الجيش والمستوطنون من إرهاب، ومن استخدام لكل أدوات الفتك، بما في ذلك المروحيات والمسيرات والعربات المجنزرة، في مواجهة المدنيين، لم تنجح، بل يضطر الجيش الإسرائيلي إلى الزج بكتيبتين إضافيتين للعمل في الضفة الغربية، بما يعني بأن هناك حاليا نحو 30 كتيبة، بما يعادل نحو ربع أو خمس أفراد الجيش العاملين، للميدان في الضفة الفلسطينية.

وحال إسرائيل هذا، في الوقت الذي يطلق فيه قادتها تهديداتهم بشن حرب على إيران، وفي تنفيذ المناورات التي يواجهون فيها تعدد الجبهات، أي جبهة حزب الله، سورية، إيران، غزة والضفة الغربية، بما يؤكد تماما، بأن كل ما يقولونه ما هو إلا كلام فارغ، حيث كيف يمكن لإسرائيل العاجزة بجيشها ومستوطنيها وقوتها الاحتلالية عن إخضاع مدن جنين و نابلس والخليل والقدس، أن تخوض حربا إقليمية، كل جبهات الشمال والجنوب والشرق ستكون مشتعلة فيها، في وجهها.

أقرأ أيضًا: نتنياهو غير المرغوب به في واشنطن.. بقلم: رجب أبو سرية

الصين المنافس الأخلاقي لأميركا

أقلام – مصدر الإخبارية

الصين المنافس الأخلاقي لأميركا، بقلم الكاتب الفلسطيني رجب أبو سرية، وفيما يلي نص المقال كاملًا كما وصل موقعنا:

يعتبر استراتيجيو السياسة الأميركية أن الصين، وليس أي دولة أخرى، لا ألمانيا، روسيا، اليابان، ولا حتى الاتحاد الأوروبي مجتمعاً، هي المنافس الحقيقي للزعامة الأميركية على العالم، أي الدولة التي يمكنها أن تحسم الصراع الذي تقوده أميركا حالياً، من أجل الإبقاء على نظامها العالمي وحيد الأقطاب، ويدللون على ذلك بحجم الاقتصاد الصيني، الذي يأتي بعد الاقتصاد الأميركي مباشرة، وبفارق كبير عن الاقتصاد الياباني الثالث عالمياً، والذي بمعدل نموه الحالي والمستقر منذ سنوات، سيتجاوز الاقتصاد الأميركي خلال سنوات قليلة فقط، فإنه لا يمكن تصور وجود وهم لدى الصينيين أنفسهم، أو عدم اهتمام، بما هم عليه من أهمية عالمية، أي لا يمكن للصين أن تتواضع، أو أن لا تأخذ بعين الاعتبار أحقيتها في تبوّؤ المكانة التي تليق بها كقوة عظمى اقتصادياً، عسكرياً وسياسياً.

والحقيقة أن الصين التي كانت قبل الحرب العالمية الثانية، مجرد مستعمرة بريطانية، انطلقت أولاً على طريق التحرر من الاستعمار البريطاني والياباني، خلال الحرب العالمية الثانية وبعدها، بقيادة حزبها الشيوعي، وحققت ما أرادت من تحرر وطني، شمل معظم البر الصيني باستثناء جزأين صغيرين منها، هما من مخلفات الاستعمار، نعني كلاً من هونغ كونغ وتايوان، ثم بهدوء سارت الصين بعد ثورة التحرر الوطني، على طريق الثورة الثقافية، وانكفأت داخلياً، تطلق نموها الاقتصادي معتمدة على ذاتها فقط، وهي كل ما لديها نحو 8 ملايين كم مربع من الأرض، أي نحو ثلثي مساحة الوطن العربي فقط، ونحو مليار ونصف المليار إنسان، هم الثروة البشرية التي قام حزبها القائد بتوظيفها على أكمل وجه، والصين كما هو حال جارتيها اليابان وكوريا، ليس لديها ثروة نفطية أو غاز، كما هو حال دول الخليج العربي، أو حتى روسيا، وهكذا بنت اقتصادها على التصنيع بشكل أساسي.

واقتصاد يعتمد على إنتاج المواد المختلفة التي يعيش بها ومعها الإنسان، لا بد أن يتسم بقدرة تنافس الآخرين، خاصة أن الاقتصادات الكبرى قد سبقت الاقتصاد الصيني، نقصد ألمانيا، اليابان، كوريا وأميركا، ورغم ذلك فسرعان ما اجتاحت المنتجات الصينية كل الأسواق العالمية، بما في ذلك السوق الأميركي نفسه، وذلك لأنها قدمت سلعاً أرخص، بدرجة أساسية، نظراً لرخص الأيدي العاملة الصينية، أي أن الاقتصاد الصيني لا يعتمد على المواد الأولية، كما هو حال كثير من الاقتصادات العالمية القوية، التي تستند في قوتها للمواد الخام، مثل النفط والغاز، وحتى المواد الغذائية، لذا فإن قدرة الصين على المنافسة كقوة عظمى، تعتمد بدرجة كبيرة، بل وحاسمة على تصدير ما تنتجه هي من مواد مختلفة.

والحقيقة أن الصناعات الصينية التي أطلقت اقتصاد البلاد وجعلت منه ثاني أكبر اقتصاد عالمي، يضاف لقوتها العسكرية والبشرية، بحيث يجعل منها حالياً على الأقل، ثاني أهم دولة في العالم، ما كان لها أن تقف على قدميها، إلا لوجود عدة عوامل محلية، أولها بالطبع الثروة البشرية، التي تعني أيدي عاملة كثيرة ورخيصة، وفي نفس الوقت قوة شرائية، فما أن تكتفي الصين ذاتياً، حتى يعني ذلك إنتاجاً ضخماً، وثانيها مهارة الإدارة والقيادة، فالصين ورغم أنها كانت ومنذ ما بعد الحرب العالمية الثانية، بلداً فقيراً، ومن ثم حكمه حزب شمولي، هو الحزب الشيوعي، إلا أن الصين تفردت عن كل الدول التي حكمتها الأحزاب الشيوعية، إن كانت قبل الحرب العالمية الثانية (روسيا ومن ثم الاتحاد السوفييتي) أو تلك التي حكمت دولاً بعد الحرب العالمية الثانية (دول شرق أوروبا، كوبا، فيتنام، وغيرها كثير من الدول)، سقط معظمها، إن لم نقل كلها، فيما بقي نظام الحكم الشيوعي في الصين وكوريا الشمالية، وإلى حد ما في كوبا.

والصين حتى في ظل الحرب الباردة، ورغم أنها كانت محكومة من قبل حزب شيوعي، إلا أنها لم تكن ضمن منظومة الأممية الشيوعية التي كان يقودها الاتحاد السوفييتي.

لم يسقط الحزب الشيوعي الصيني، مطلع تسعينيات القرن الماضي، وفي الوقت الذي كان فيه العالم منشغلاً قبل سقوط جدار برلين، بما يحدث من غلاسنوست وبيروسترويكا في الاتحاد السوفييتي، أي من محاولة لتدارك انهيار النظام الشمولي، كانت الصين بهدوء تحدث توازناً أو جمعاً بن الاقتصاد الحر واقتصاد الدولة، عبر تجربة فريدة هي سياسة الإصلاح والانفتاح، التي قادها زعيم الحزب الذي خلف عظيمه ماو تسي تونغ، نقصد دينغ شياو بينغ، والتي بدأها العام 1978، أي مع ثورة الخميني في إيران، ومع العقد الأخير في عمر الشيوعية الأوروبية.

وقد حققت الصين نمواً اقتصادياً بلغ في المتوسط 10% سنوياً، وارتفع معه معدل دخل الفرد من 186 دولاراً العام 1978، إلى ما يقارب الـ 10 آلاف دولار العام 2020، وهكذا بعد التحقق الذاتي الداخلي، من الطبيعي أن تنتقل الصين لتصدير إنتاجها السلعي إلى الخارج، ومن ثم من الطبيعي أيضاً أن تواكب التصدير حماية خطوط النقل البري والبحري والجوي، ثم أن يبدأ التفكير في فتح خطوط نقل جديدة عابرة للقارات، وهكذا فإن الصين بدأت جدياً في إنشاء طريق حرير عصري يصل إلى أوروبا عبر الشرق الأوسط، وخط الحرير واحد من الطرق التي ظهرت عبر التاريخ لتصل بين الشرق والغرب، تربط شرق آسيا بأوروبا مروراً بالشرق الأدنى، وكانت سبباً في انتقال البضائع والثقافات والحضارات بين الشرق والغرب.

أي أن الصين من الطبيعي لها أن تنسج علاقاتها مع مختلف دول العالم، على قاعدة التبادل التجاري، وحقيقة الأمر أن معظم دول العالم، تقيم علاقات تجارية مع الصين، حيث تعتبر العلاقة مع الصين سلسة ومحترمة، فهي تخلو من الجشع الاستعماري الذي يسم علاقات الدول مع الولايات المتحدة، التي لا تحترم حتى أصدقاءها، فهي تبتزهم دائماً مالياً، وتتبع معهم سياسة أنانية، حتى أنها في أحد الجوانب، في الشرق الأوسط على سبيل المثال، تتبع سياسة التمييز بين حلفائها، تحديداً بين إسرائيل والآخرين، حيث تصر على الإبقاء على التفوق العسكري الإسرائيلي على دول الشرق الأوسط مجتمعة، وذلك يعني باختصار، أن أميركا غير قادرة على الاستمرار في منافسة الصين، لا اقتصادياً ولا سياسياً.

اقتصادياً استناداً إلى معدل نمو الاقتصاد الصيني مقارنة مع معدل نمو الاقتصاد الأميركي، كذلك بناء على أن الاقتصاد الأميركي يعتمد على ابتزاز استعماري للآخرين، لا يمكن أن يستمر طويلاً، واعتماداً على أن حجم الاقتصاد الأميركي مبني على مكانة أميركا كدولة تقود العالم، وتربط الاقتصاد العالمي بعملتها المحلية أي الدولار الأميركي، كذلك اعتماد الاقتصاد الأميركي بدرجة أولى حالياً على البرمجيات، فالصادرات الأميركية من السلع للخارج، لا تقارن بحجم الصادرات الصينية، وأميركا تصدر سلعاً بعينها، تنتجها شركات ضخمة أو عملاقة، ذلك أن أميركا تعتمد على الاقتصاد الحر تماماً، أو اقتصاد السوق، فيما الصين – كما أشرنا – تعتمد على الاقتصاد المختلط، أي الاقتصاد الحر، مع إدارة الدولة المحكومة بحزب كبير يعد بين صفوفه نحو مئة مليون إنسان، وهو حزب وطني، ليس براغماتياً، أي حزباً يهدف للوصول للحكم بكل الوسائل المشروعة وغير المشروعة.

لدى الصين إذاً أخلاق سياسية، لا تتوفر لدى الأميركيين، وإنه لأمر ذو دلالة بالغة، وذكية، تتوافق مع ما يتسم به الصينيون، من مثابرة وهدوء وصبر، وذكاء، أن تدخل الصين إلى الشرق الأوسط عبر الرياض، حيث زارها الرئيس الصيني أواخر العام الماضي، فيما تأتي فلسطين بعد السعودية من حيث الاهتمام الصيني، نظراً لما تتمتع به فلسطين من مكانة أخلاقة لدى شعوب العالم بأسره، وإذا كانت الصين – على عكس أميركا وإسرائيل – قدمت للمنطقة، للعرب والمسلمين هدية عظيمة هي المصالحة التاريخية بين طهران والرياض، فإن الصين مع زيارة الرئيس محمود عباس بناء على دعوة منها، تسعى لتقديم هدية مماثلة للشعب الفلسطيني، متمثلة بالمصالحة الداخلية وإنهاء الانقسام.

أقرأ أيضًا: نتنياهو غير المرغوب به في واشنطن.. بقلم: رجب أبو سرية

تركيا الحائرة بين الشرق والغرب

أقلام – مصدر الإخبارية

تركيا الحائرة بين الشرق والغرب، بقلم الكاتب الفلسطيني رجب أبو سرية، وفيما يلي نص المقال كاملًا كما وصل موقعنا:

تعيدنا مناسبة الانتخابات الرئاسية والبرلمانية التركية للسؤال حول علاقة السياسة بالجغرافيا، ذلك أن واحدة من أهم سمات تركيا، الدولة الجارة الأكثر قرباً للعرب، هي كونها تقع ما بين الشرق والغرب، حيث ظلت تركيا، ربما كما هو حال روسيا، إلى حد ما، ضائعة أو تراوح ما بين الشرق والغرب، الغرب المسيحي، والشرق الإسلامي، والغرب الديمقراطي والشرق المستبد. وفي حقيقة الأمر، أن ما يرجح ذهاب تركيا إلى الشرق أو الغرب، هو مصالحها، فإن وجدت في الشرق ضالتها اقتربت منه لدرجة أن تندمج فيه، وإن وجدت في الغرب مصلحة لها، سارعت إليه، وهكذا يمكن القول: إن تركيا قد حققت من موقعها الجغرافي الوسط ما هو إيجابي متمثلاً بالتنوع، لكن ما هو سلبي في نفس الوقت، من اضطراب ما، يذهب بها مرة بعيداً عن الشرق، ومرة أخرى بعيداً عن الغرب.
وبعد حروب طاحنة مع بيزنطة، دولة الغرب الشرقية في العصور الوسطى، على طريق تحقيق الطورانية التركية، أقامت تركيا دولتها القومية، التي بقيت في حالة عداء أو صراع مع الغرب المسيحي، كما هو حال روسيا، التي ظلت تدين بالأرثوذكسية مقابل كاثوليكية وبروتستانتية الغرب الأوروبي، فيما تركيا أكثر ابتعاداً عن الغرب الأوروبي من حيث اختلافها في الدين وليس في المذهب وحسب، ولهذا وجدت نفسها تذهب إلى الشرق حيث تحقق لها الطموح الإمبراطوري على حساب العرب، حين احتلت كل دولهم الحالية، فيما ظهر بعد ذلك على شكل الدولة العثمانية التي كانت تضم إلى جانب تركيا (الأناضول) العرب وبلغاريا فقط.
وظلت الدولة العثمانية أهم دولة في تاريخ تركيا، من حيث اتساعها وقوتها التي أظهرتها كدولة عالمية، تعززت خلالها ملامحها الدينية الإسلامية التي تجمعها مع الشرق العربي/الإسلامي، وإن كان ذلك لم يكن كافياً لتجد توافقاً ما مع إيران الدولة المسلمة الجارة، لكن التي تفترق عنها في المذهب، وربما لهذا السبب، أي كون إيران تدين بالمذهب الشيعي وهو مذهب الأقلية العربية، مقابل المذهب السني الذي تدين به تركيا وتدين به الأغلبية العربية، هو الذي جعل تركيا أقرب للعرب، من إيران، وجعلهم يقبلون استعمارها لهم لمدة أربعة قرون متواصلة.
لكن الحال تغير بعد الحرب العالمية الأولى، فتركيا التي كانت متحالفة مع ألمانيا، خسرت تلك الحرب، وخسرت معها كل مستعمراتها العربية، وهكذا انكمشت من إمبراطورية عظمى إلى مجرد دولة شرق أوسطية عادية، وكان لهذه النقلة تبعاتها، التي دفعت بتركيا نحو الغرب، حيث انضمت إلى حلف شمال الأطلسي (الناتو)، واعترفت بإسرائيل كأول دولة مسلمة تفعل ذلك، وبقيت الوحيدة طوال عقود، وترافق ذلك مع نقلة نوعية داخلية، رفعت من شأن الطورانية أو القومية التركية، حيث قام مصطفى كمال أتاتورك، أي أبو الأتراك، بتتريك الثقافة التركية، فشطب الحرف العربي، واستبدله بالحرف اللاتيني، وأعلن فصل الدين عن الدولة، وأقام دولة عسكرية، بعد أن أعلن حل الخلافة.
وقد ظلت تركيا أسيرة لأرث أتاتورك حتى ستينيات القرن الماضي، حتى ظهر عدنان مندريس الذي قاد معارضة سياسية لحزب أتاتورك الذي حكم تركيا بشكل منفرد، إلى أن نجح مندريس في تولي رئاسة الحكومة، مطلع خمسينيات القرن الماضي إلى أن أطاح به بانقلاب عسكري وأعدم على أثره في مطلع ستينيات القرن الماضي، حيث أعاد الجيش فرض هيمنته على الحكم، مع ملاحظة أن النظام السياسي التركي كان برلمانياً، لا يتمتع به رئيس الدولة بالصلاحيات التي يتمتع بها رئيس الحكومة.
وخلال عقدَي سبعينيات وثمانينيات القرن الماضي تداول الحكم، في ظل حكم الجيش الفعلي، كل من سليمان ديميريل، قائد حزب العدالة وزعيم حزب الطريق القويم، أي المحافظ أو اليمين السياسي، مع بولنت أجاويد زعيم حزب الشعب الجمهوري، أو اليسار السياسي.
طبعاً لا بد من ملاحظة تأثر تركيا مثل كل دول العالم، بحقبة حركات التحرر خلال خمسينيات وستينيات القرن الماضي، ثم انتهاء الحرب الباردة، منذ مطلع تسعينيات القرن الماضي، حيث ظهر الإسلام السياسي، لا ليحل مكان اليمين السياسي في مواجهة اليسار الذي بقي يمثله حزب الشعب الجمهوري، وحسب، ولكن ليواجه دولة الجيش العميقة، لكن بحذر أكثر مما أبداه الإخوان العرب، في مصر على سبيل المثال، حيث رفع حزب الرفاه الذي تزعمه نجم الدين أربكان، شعار الحكم الإسلامي في ظل الدولة العلمانية، حيث نجح أربكان في تولي رئاسة الحكومة عام 1996، كأول حكومة ذات توجهات إسلامية.
ورغم أن الجيش الحاكم الفعلي في تركيا، قام بإسقاط أربكان بعد عام، إلا أن إسلاميي تركيا غيروا من جلودهم أكثر من مرة، وظلوا في الحكم خلال أكثر من عقدين من الزمان، وذلك في ظل حكم برلماني، كما أشرنا، يحكمون أحياناً عبر واجهة غير صريحة في انتمائها الديني، إلى أن تقدم رجب طيب أردوغان، الذي كان زعيم الحزب الإسلامي، لكنه جلس في الكواليس مقدماً عبد الله جول تلميذ أربكان، وعضو حزب الرفاه، الذي رغم ذلك كان يختلف قليلاً مع أربكان، حيث قام مع أردوغان بقيادة حركة تجديدية داخل التيار الإسلامي، ومن ثم التنافس مع حزب الفضيلة عام 2000، وصولاً إلى إعلان حزب العدالة والتنمية عام 2001.
هكذا يمكن القول: إن جول وأردوغان، رغم أنهما اختلفا مع أربكان، إلا أنهما ورثا عنه قيادة الإسلاميين على طريق الحكم، وكان ذلك منذ العام 2002، وكان لأردوغان الدور الرئيس حيث كان رئيساً لبلدية إسطنبول المدينة الأهم في تركيا، حيث تولى رئاسة الحكومة أولاً جول، ومن ثم أردوغان الذي يصف نفسه بأنه ديمقراطي محافظ، من العام 2003 إلى العام 2014، سعى خلال ذلك العقد من الزمان الذي تولى فيه رئاسة الحكومة إلى أن ينتقل بتركيا لنظام رئاسي أكثر مركزية، وفعلاً تولى في ذلك العام رئاسة الدولة.
هكذا يمكن القول: إنه بعد أتاتورك، يبدو أردوغان، لسببَين، أهم شخصية سياسية في تاريخ تركيا الحديث، والسبب الأول أنه أكثر من جلس على المقعد الأول لأكثر من عشرين سنة، نصفها كرئيس حكومة والنصف الثاني كرئيس دولة بصلاحيات واسعة، بعد أن قام بالتحالف عام 2017 مع حزب الحركة القومية اليميني في استفتاء دستوري لنقل نظام الحكم من برلماني إلى رئاسي تنفيذي، وهكذا حكم أردوغان خلال ولايته الثانية كرئيس دولة بصلاحيات مركزية ما بين عامَي 2018 – 2023، بعد أن كان رئيساً للدولة بصلاحيات شكلية ما بين عامَي 2014 – 2018.
في هذه الانتخابات التي جرت منتصف هذا الشهر، ورغم أن أردوغان وحزبه قد فازا بانتخابات الرئاسة والبرلمان، إلا أنهما واجها ليس منافسة قوية من المعارضة وحسب، ولكنهما، اضطرا فيما يخص انتخابات الرئاسة أن يخوضا جولة ثانية، (وذلك يحدث للمرة الأولى في تاريخ تركيا) فازا بها بشق الأنفس، وفي الانتخابات البرلمانية فازا بـ 321 مقعداً شاركهم فيها حزب الحركة القومية المعارض الذي تحالفوا معه ليشكلوا قائمة “تحالف الجمهور” ويشكلان معاً يمين الوسط السياسي، مقابل 213 للمعارضة.
أي أن تركيا تبدو منقسمة سياسياً، خاصة حول قضايا اللاجئين والسياسة الخارجية، وبعد تضخم بلغ 50%، وبعد زلازل وقعت هذا العام وأودت بحياة 50 ألف شخص مع التسبب بدمار هائل، والحقيقة أن تحدي حكم الإسلاميين المتواصل منذ عقدين، قد بدأ بشكل جدي وصاخب، منذ أربعة أعوام، أي منذ نجح أكرم أوغلي في الفوز برئاسة بلدية إسطنبول، التي تعتبر مهمة جداً، لتحديد وجهة تركيا السياسية المقبلة، رغم فوزهم بمعظم البلديات ومنها بلدية العاصمة، وقد يعود ذلك إلى أن تولي أردوغان نفسه رئاسة بلدية إسطنبول، قبل ثلاثة عقود، مهد له الطريق لتولي رئاسة تركيا، والآن هناك خمس سنوات أمام أردوغان وحزبه، عليهما خلالها أن يساهما في إرساء تداول حقيقي للسلطة وإلا سيجري إقصاؤهما من الحكم.

أقرأ أيضًا: إسرائيل بعد رمضان.. بقلم الكاتب رجب أبو سرية

الاحتلال يُبقي النكبة مستمرة

أقلام – مصدر الإخبارية

الاحتلال يُبقي النكبة مستمرة، بقلم الكاتب الفلسطيني رجب أبو سرية، وفيما يلي نص المقال كاملًا كما وصل موقعنا:

رغم أن ديفيد بن غوريون أعلن قيام «دولة إسرائيل» عشية إعلان بريطانيا العظمى رسمياً إنهاء انتدابها على فلسطين، والذي كان قد بدأ بعد انتصارها وحلفائها في الحرب العالمية الثانية، وذلك يوم الخامس عشر من أيار من العام 1948، إلا أن إسرائيل لا تحتفل بذكرى ذلك اليوم باعتباره «يوم استقلالها» في الخامس عشر من أيار من كل عام، بل تحتفل به وفق تقويمها العبري، في الخامس من أيار، وحتى إذا صادف أن وقع ذلك الخامس من أيار يوم جمعة أو سبت، تحتفل به يوم الخميس الذي يسبقه، ولهذا فإن احتفال إسرائيل بما تسميه يوم استقلالها لا يترافق مع ما يقوم به الشعب الفلسطيني من إحياء لذكرى النكبة، التي حلت به في نفس اليوم الذي أعلن فيه بن غوريون قيام دولة إسرائيل، منذ خمس وسبعين سنة بالتمام والكمال.

والحقيقة أن إسرائيل لا تختلف مع كل العالم في التقويم فقط، بل في الكثير من الأشياء، بما في ذلك مفهوم الاستقلال نفسه، فكل دول العالم، خاصة الدول التي كانت مستعمرة قبل وخلال وبعد الحربين العالميتين الأولى والثانية، كانت شعوبها وأراضيها بكاملها تحت نير الاستعمار، فيما لم تكن إسرائيل كذلك، بل هي لم تكن أصلاً دولة ولا وطناً بهذا المسمّى لا قبل الانتداب البريطاني، ولا خلاله، وقد بدأ الأمر بوعد استعماري كما يعلم الجميع، أهداه وزير خارجية استعماري اسمه آرثر جيمس بلفور، لليهود الأوروبيين، أي ليس ليهود فلسطين ولا ليهود الشرق الأوسط، الذين كانوا يشكلون مشكلة تاريخية لأوروبا، لسنا هنا بصدد استعراض تفاصيلها، ولا بصدد إثبات الدوافع الاستعمارية التي دفعت بلفور لمنح ذلك الوعد لقادة الصهيونية العالمية العام 1917.

أكثر من ذلك، لم يكن هناك شعب إسرائيلي في فلسطين لا خلال الولاية العثمانية التي امتدت أربعة قرون على فلسطين، ولا حين احتلها الاستعمار البريطاني، لذا اضطر الانتداب نفسه إلى فتح أبواب هجرة اليهود من كل أرجاء العالم إلى فلسطين، لإقامة تلك الدولة التي سميت إسرائيل، أي أن مقاومة إسرائيلية للاحتلال البريطاني لم تكن، بل إن شعباً إسرائيلياً لم يكن موجوداً حين بدأ الانتداب، وهكذا فإن مجرد محاولة الإسرائيليين اعتبار يوم الخامس عشر من أيار يوماً للاستقلال ما هي إلا محاولة مغلوطة، وما هي إلا محاولة لتزييف الواقعة التاريخية، وهم يمكنهم أن يحتفلوا بذكرى إعلان أو حتى إقامة دولة إسرائيل، لكنه ليس صحيحاً أن يقولوا إنها ذكرى استقلال.

الأمر الآخر الذي يعتبر غير معتاد في العالم، هو تلك المفارقة، التي يترافق فيها احتفال طرف مقابل إحياء الطرف الآخر بالذكرى الأليمة، أي أن الفرح الإسرائيلي يقابله حزن فلسطيني، فإذا كان الإسرائيليون يتذكرون إعلان قيام دولتهم، حيث لم تكن لهم دولة، فإن الفلسطينيين يستذكرون ما فعله الإسرائيليون بهم في تلك الفترة، من قتل وتشريد، وهذه المفارقة في حقيقة الأمر تجعل من السلام أمراً صعب المنال، أي ما لم يعترف الإسرائيليون بأنهم قد ارتكبوا بحق الشعب الفلسطيني الفظائع، وبأنهم قد تسببوا له بالألم البالغ والمستمر طوال كل تلك العقود.
وإسرائيل تختلف مع كل العالم على الحل، فالعالم ممثلاً بمنظمة الأمم المتحدة، قد رأى ومنذ العام 1947 وحتى اليوم، ضرورة وجود دولتين، الأولى قائمة منذ ذلك الوقت، والثانية ما زالت تنتظر قيامها، بسبب الرفض الإسرائيلي، وبسبب ليس فقط تجاوز إسرائيل لحدودها وفق قرار التقسيم، بل واحتلال كل أرض دولة فلسطين، إن كانت تلك المعروفة وفق قرار التقسيم، أو تلك التي احتلتها بعد إعلان قيامها، أي أن إسرائيل التي تدعي اليوم بحقها في القدس ، والتي ترفض الاعتراف بأن ما احتلته العام 1967 هو أرض فلسطينية محتلة، أعلنت قيامها العام 1948 دون القدس ودون الضفة الغربية و غزة ، ودون حتى أن يتضمن إعلان بن غوريون أن تلك الأراضي هي «أرض إسرائيلية» تحتلها الأردن ومصر.
بل ادعت إسرائيل طوال الوقت، أنها تضطر لخوض حروب الدفاع عن النفس، خاصة حرب 1967، وأن حروبها دفاعية رغم أنها في كل حرب تحتل أرض الغير، وليس العكس، وهي احتلت أراضي مصرية ولبنانية وسورية، ولم تخرج من أي منها بإرادتها، لهذا فإن إسرائيل لا تشبه دول العالم الأخرى، لا في طبيعتها ولا في علاقاتها مع الدول الأخرى، خاصة الجيران، القريبين منها والبعيدين، وهي إن لم تكن في حالة حرب مع الآخرين، في كل الشرق الأوسط، فهي في حالة حرب منذ إعلان قيامها وحتى اليوم مع بعض دوله، وهي أيضاً في الوقت الذي تكون فيه في إطار علاقة طبيعية مع دولة من دول الجوار أو مع دول الشرق الأوسط عموماً، فإن علاقتها تقتصر على نظام الحكم في تلك الدول، ولا تمتد إلى شعوبها، وإسرائيل حالياً هي أكثر دولة في العالم اتخذت بحقها قرارات إدانة دولية، وأكثر دولة في العالم تتظاهر ضدها الشعوب منددة بجرائمها وباحتلالها لأرض وشعب دولة فلسطين.

أما اليوم فبعد خمسة وسبعين عاماً، تغير العالم، وإسرائيل التي أنشئت وفق حسابات الحروب العالمية، بما فيها آخر تلك الحروب، أي الحرب الباردة، ما زالت قائمة، لكن بالمقابل أيضاً ما زالت القضية الفلسطينية حاضرة، تضغط عليها، وتجعل منها دولة غير مستقرة، لا داخلياً ولا خارجياً، أي أن إعلان قيام دولة إسرائيل لم يكن ذلك الحل المثالي للمسألة اليهودية كما ادعى بلفور، ولو كان قيام دولة إسرائيل استقلالاً كما تدعي، لهدأ بها الحال، ولعاش شعبها في هدوء وسلام، لكن ما زالت إسرائيل تحاول أن تحقق المستحيل، فهي لم تكتفِ بدولة صغيرة تعيش بسلام، بل تفضل عليها دولة عظمى إقليمية، لهذا هي في حالة حروب متتابعة، بما يؤكد الهدف الاستعماري من إنشائها، وليس ذلك الهدف الإنساني كما يدعون دائماً، وهو إنشاء وطن قومي ليهود العالم بعد أن تعرضوا للاضطهاد والقهر في العديد من أماكن العالم.
والحقيقة أن بقاء إسرائيل على قيد الحياة، لا يعني أن إقامتها كانت أمراً شرعياً، لأنه بالمقابل لم يتوقف مسار النكبة في الجانب الفلسطيني، أي استمرار فعل التشرد والقتل اليومي، ومنعه من تحقيق طموحه وحقه في إقامة دولته المستقلة هو الآخر، ومن لا يعترف بحق الآخرين في المساواة بحق الحياة أولاً، لا يستحق ما لا يقره لغيره، أي أن إسرائيل تبقى دولة ناقصة الأهلية إلى أن تنهي احتلالها لأرض وشعب دولة فلسطين، وتعترف بحق الشعب الفلسطيني في إقامة دولته المستقلة، ليس ذلك وحسب، بل وحيث إن واقع النكبة يظل قائماً، فحتى بعد إنهاء الاحتلال، وإحلال السلام والتوقف عن ممارسة القتل اليومي للفلسطينيين، لا بد أن تعترف إسرائيل رسمياً بالنكبة التي حلت بالشعب الفلسطيني العام 1948، والتي كانت هي السبب الرئيس فيها، بل وكان إعلان قيامها بالتحديد أحد أشكال تلك النكبة التي توازي الكارثة التي حلت بيهود العالم إبان الحرب العالمية الثانية.

واعتراف إسرائيل بالنكبة الفلسطينية، متضمناً اعتذارها الرسمي، لا بد أن يترافق مع تنفيذ حق عودة اللاجئين الذين طردتم من ديارهم، وبحق أحفادهم بإعادة بناء أكثر من 500 قرية دمرها التطهير العرقي الصهيوني على طريق إعلان قيام دولة إسرائيل!
ولأنه لا يمكن للشرق الأوسط أن يعرف الهدوء والاستقرار، بسبب الخلل الواقع منذ 75 عاماً، والمتمثل في قيام دولة دون الأخرى من طرفي الصراع الذي وقع داخل فلسطين منذ بدء الانتداب البريطاني، لذا لا يمكن النظر إلى إعلان بن غوريون في الخامس عشر من أيار 1948، إلا على أنه كان إطلاقاً لصراع ما زال قائماً وألا يتوقف إلا بإعلان قيام دولة فلسطين، حيث حينها يمكن لشعبَي الدولتين أن يحتفلا بالسلام وباستقلالهما معاً، ولعل إحياء الأمم المتحدة هذه السنة لذكرى النكبة الفلسطينية دليل على أن فلسطين تحقق النصر بالنقاط، فذلك أمر حتى بالمعنى السياسي يضيف إلى المطالبة بإنهاء الاحتلال وبحل الدولتين، المطالبة بحق اللاجئين في العودة والتعويض وهو حق منصوص عليه دولياً وصدر به القرار 194 وذلك يوم الحادي عشر من شهر كانون الأول من العام 1948، أي بعد قيام إسرائيل بنحو ستة شهور.

أقرأ أيضًا: إسرائيل بعد رمضان.. بقلم الكاتب رجب أبو سرية

أميركا دولة لا تعرف حدودها

أقلام – مصدر الإخبارية

أميركا دولة لا تعرف حدودها، بقلم الكاتب الفلسطيني رجب أبو سرية، وفيما يلي نص المقال كاملًا كما وصل موقعنا:

ثلاث دول نووية، اثنتان منها دولتان عظميان، ليس استناداً إلى مكانتهما الاقتصادية والعسكرية وحسب، ولكن يدل على ذلك بشكل قاطع كونهما عضوين من أصل خمسة أعضاء في مجلس الأمن الدولي، الذي يضم الدول الخمس العظمى في العالم، أما الدول الثلاث التي نقصدها، فهي كل من كوريا الشمالية، الصين وروسيا. وغير خافٍ على أحد، بأن حالة الجفاء والتوتر القائمة بين الولايات المتحدة والدول الآسيوية الثلاث، مستمرة، تشهد حالياً المواقف المتضادة في الأمم المتحدة، وتصريحات المسؤولين على الجانبين، كذلك مجمل السياسات المتخذة من قبل طرف يضم الدول الثلاث من جهة وأميركا من جهة أخرى، وذلك رغم أن أميركا تقع في قارة هي أميركا الشمالية، وكل من شمال كوريا والصين تقعان في قارة آسيا، أما روسيا والتي تعتبر أكبر دولة في العالم من حيث المساحة، فإن معظم مساحتها تقع في آسيا، فيما جزء مهم منها يقع في قارة أوروبا.

كذلك لا بد من الإشارة أولاً، إلى أن أميركا مقابل ما تكنّه من عداء للدول الثلاث المذكورة، فإنها تقيم علاقات التحالف الوطيدة مع جيرانهم، أي كل من كوريا الجنوبية، تايوان، وأوكرانيا، لدرجة أن تجعل أراضي تلك الدول بمثابة قواعد عسكرية لها، وهذا يعني بكل وضوح، بأن أميركا هي التي تذهب “لجر شكل” الدول الأخرى، فيما تلك الدول لم تفعل الأمر مثله بالمقابل، والسؤال الذي لا بد منه هنا هو: لماذا تذهب أميركا بعيداً عن حدود دولتها الجغرافية، وتقبع كما هي عادة الوحوش المفترسة، التي تجلس على مقربة من الفريسة، تراقب اللحظة المناسبة حتى تنقض عليها، وأكثر من ذلك أنها تدفع غيرها، تحديداً كلا من الصين وكوريا الشمالية وحتى روسيا، بشكل إجباري لتحديها وكراهيتها، ذلك أن أميركا ما زالت ومنذ سبعة عقود على الحرب الكورية، تحافظ على انقسام شبه الجزيرة الكورية، رغم مشاعر ومصالح الشعب الكوري في الوحدة، ورغم أن الحرب الكورية التي أدت إلى انقسام كوريا، بين جنوبية وشمالية، كان أحد نتائج الحرب الباردة، كما حدث مع ألمانيا واليمن، لكن انتهت الحرب الباردة منذ أكثر من ثلاثة عقود، وما زالت أميركا تحافظ على انقسام كوريا.

بالطبع ذلك يعود إلى كون كوريا الشمالية اختارت نظام العدالة الاجتماعية ورفض الهيمنة الامبريالية الأميركية، وعززت قدرتها على التحدي بامتلاك السلاح النووي، كما أن أميركا تحمي تايوان الجزيرة الصينية، متجاهلة مشاعر الشعب الصيني، والذي هو أكثر شعوب العالم عدداً وتعداداً، والدنيا كلها تعرف بأن تايوان ما هي إلا جزء من البر الصيني، وقطعة من الدولة الصينية، وأن إعادتها للصين هدف قومي صيني، لذا فإن أميركا بحمايتها انفصال تايوان، إنما تتطاول على الحق الوطني للشعب الصيني، كما أن أميركا أيضاً، دخلت إلى “عب روسيا”، عبر ولوجها كل مسامات وتفاصيل أوكرانيا، بإقامة مراكز التجسس العسكرية الخاصة بها، على الحدود مع روسيا، وبعد أن لفظت روسيا ضعفها، بعد تفكك الاتحاد السوفياتي، وأخرجت إلى حد بعيد خيوط العنكبوت الأميركي التي كانت متوغلة في الجسد الروسي، من خلال علاقات أميركا مع المافيات الروسية، ودفعت أميركا نظام زيلينسكي العميل لها، لجر روسيا بشكل إجباري إلى الحرب، بهدف استنزاف روسيا وإعادة احتوائها من قبل أميركا.

تفعل أميركا ما تفعله إسرائيل في الشرق الأوسط، بما يثير التساؤل حول رد فعل تلك الدولة العظمى، لو أن الآخرين عاملوها بالمثل، أو فكروا _على الأقل القيام بنفس الفعل الذي تقوم به_ فماذا لو أن الروس ذهبوا إلى كوبا ونصبوا صواريخ حاملة للرؤوس النووية، أو أنهم دفعوا كوبا أو المكسيك مثلاً للدخول في حلف مضاد للناتو، كما كان حلف وارسو إبان الحرب الباردة، ألم ينشأ التوتر في ستينيات القرن الماضي خلال ولاية جون كنيدي للرئاسة الأميركية، ونيكيتا خروشوف رئاسة الاتحاد السوفياتي، بما عرف بالتوتر حول خليج الخنازير الكوبي، والذي كاد يؤدي إلى حرب عالمية نووية في ذلك الوقت؟!

إنه منطق غطرسة القوة أولاً، ومنطق الاستعمار الذي ما زال يطل برأسه في واشنطن، ومثلها في تل أبيب، التي بدورها، تحاول أن تحرق الدنيا حول إيران، لمجرد احتمال أن تحصل على القنبلة النووية، مع أنها هي أي إسرائيل لديها عشرات القنابل النووية، وإسرائيل هي “الدولة” الأكثر عداء لغيرها من الدول في الشرق الأوسط، وهي الدولة الوحيدة في العالم التي ما زالت استعمارية، تحتل أراضي الغير، بل تحتل كامل أرض دولة فلسطين العضو في الأمم المتحدة.

تبيح أميركا، كما إسرائيل لنفسها ما تحرمه على غيرها، وهذا منطق عنصري، نازي تماماً، والذي دائماً يستند إلى “التفوق العرقي”، والتمييز القومي، ضد منطق العصر الإنساني، الذي يقول بالمساواة بين شعوب الأرض كافة، والعدالة الاجتماعية والسياسية بين كل بني البشر.
الغريب أن أميركا التي كانت في مطلع تسعينيات القرن الماضي، تقيم وزناً ما للمنظمة الدولية، بحيث كانت تحرض على التسلح بقرار أممي لشن حروبها بإعادة السيطرة على بعض الجيوب التي كانت خارجة عن طوعها، وفعلت هذا عام 1990 حين شنت الحرب الثلاثينية على العراق، وفعلت الشيء نفسه _تقريباً، حين شنت الحرب على أفغانتسان عام 2001، لكنها قبل ذلك كانت شاركت بجيشها في الحرب ضد صربيا، دون مسوغ دولي، المهم، أنها ت فتح أبواب الحروب الاقتصادية، وتحرض دول جوار الصين وروسيا وكوريا الشمالية، أي كلاً من تايوان، أوكرانيا وكوريا الجنوبية على محاربة جيرانهم، بل أشقاءهم، بالنيابة عنها، وهي تشارك بجيشها مباشرة حين تتطلب الضرورة ذلك، كما فعلت في فيتنام خلال القرن الماضي، حيث كانت شقت فيتنام، إبان الحرب الباردة لدولتين شمال شيوعي وجنوب عميل لها، حاربت مع عملائها إلى أن سقط النظام العميل، وطُردت هي من فيتنام.

ويبدو أن السبب يعود إلى مخزون وعي في الذاكرة، حين كانت أميركا تجد رادعاً إبان الحرب الباردة، لذا كانت تلجأ للأمم المتحدة، حين يمكنها ذلك، أما بعد عقود من انتهاء الحرب الباردة، حيث اعتادت أميركا على التفرد بقيادة العالم، فباتت مثل الحاكم الفرد المستبد، تتصرف دون استشارة أحد، ووفق دوافع الذات والأنا الخاصة، ولكن لكل هذا نهاية، خاصة في عالم يسير بشكل حثيث ومتواصل نحو التجانس البشري.
مختصر القول بأن أميركا على الصعيد الكوني، وإسرائيل على الصعيد الإقليمي، تمارسان سياسة ذاتية أنانية، عنصرية نعم، كونها تخرج عن إطار منطق المساواة في الحقوق والواجبات بين الشعوب والدول، وهذا المنطق لا بد أن يتم تعميمه في الكفاح ضدهما، وألف باء ذلك الكفاح، هو أن تسأل أميركا، حول إمكانية أن تقبل بأن تذهب الصين وروسيا وحتى كوريا إلى كوبا، كندا، أو المكسيك، بل إلى كاليفورنيا لتدعم انفصالها أو عداءها للولايات المتحدة، هل كانت تقبل بأن تقيم روسيا قواعد نووية لها في نيكاراغوا مثلاً؟، أو أن تعقد الصين اتفاقاً عسكرياً مع فنزويلا يتضمن الدفاع النووي عنها، كما فعلت مؤخراً مع كوريا الجنوبية؟!

أما إسرائيل، فلا بد أن يسألها العالم بأسره عن سلاحها النووي، قبل أن تتفوه بأي كلمة تجاه الجهد النووي الإيراني، كذلك الأهم هو أن تُسأل إسرائيل عن رد الفعل على مقتل اليهودي الإسرائيلي بنفس الدرجة من رد الفعل على مقتل العربي الفلسطيني، لأن إسرائيل التي تبيح لنفسها ارتكاب المجازر بحق الآخرين، في حالة مقتل أحد مواطنيها، ما هي إلا دولة تمييز عنصري، لأنها فقط لا ترى بأن حياة الفلسطيني تساوي اليهودي الإسرائيلي، أو أن للفلسطيني أصلاً الحقَّ في الحياة كما كل بني البشر.

أقرأ أيضًا: إسرائيل بعد رمضان.. بقلم الكاتب رجب أبو سرية

إسرائيل بعد رمضان.. بقلم الكاتب رجب أبو سرية

أقلام – مصدر الإخبارية

إسرائيل بعد رمضان، بقلم الكاتب الفلسطيني رجب أبو سرية، وفيما يلي نص المقال كاملًا كما وصل موقعنا:

مر شهر رمضان هذا العام دون وقوع ما هو أسوأ بين الفلسطينيين والإسرائيليين ميدانياً، وذلك رغم الاحتكاك، وحرب عض الأصابع التي استعرت مع منتصف الشهر الفضيل، أي حين حل موعد عيد الفصح اليهودي، ورغم اندلاع اشتباك مسلح على أكثر من جبهة، إلا أن مواجهة حادة أو حارقة، كما كان يمكن أي يحدث، لم تقع، خاصة خلال الأيام العشرة الأخيرة من رمضان التي تشهد عادة اعتكافاً متواصلاً من قبل المرابطين في الحرم من المؤمنين، وحقيقة الأمر أن السبب في ذلك يعود إلى أنه تم ردع الإسرائيليين، الذين كانوا هذه المرة أكثر تطرفاً وعدوانية عن أي وقت مضى. وردعهم لم يتم بكل صراحة لا بسبب اجتماع العقبة ولا شرم الشيخ، رغم أن مواقف العديد من الدول، مثل الأردن ومصر وحتى أميركا، كذلك ما يمثله المسجد الأقصى لدى جميع المسلمين من مكانة، تعتبر عوامل مساعدة، أو إضافية، لكن الردع الحقيقي كان في الميدان، حيث أبدى الشعب الفلسطيني عدم خوفه من مواجهة التطرف الإسرائيلي، وأبدى استعداداً عالياً لمواجهة أيّاً كانت وتيرتها من أجل الدفاع عن الأقصى.

ثم كان رد كل الجبهات المحيطة بإسرائيل سلاحاً فتاكاً، ثبّط عزيمة إسرائيل المعتادة على الاستفراد بواحد من أعدائها، وسحق جبهة وحيدة دون الجبهات الأخرى، أي أن جاهزية المقاومة الفلسطينية بشكل رئيس على مواجهة إسرائيل ميدانياً وسياسياً في كل الجبهات أرعب إسرائيل وفرض عليها التراجع، وهكذا مرت أيام رمضان بدرس، لعل وعسى أن تكون إسرائيل قد حفظته جيداً، وهو استحالة أن يجيء اليوم الذي تنجح فيه بهدم المسجد الأقصى وإقامة هيكل داود المزعوم مكانه، حتى لو أن جماعة الهيكل هي من كانت تجلس على كراسي الحكومة الإسرائيلية، وليس من ينوب عنها من أمثال إيتمار بن غفير وبتسلئيل سموتريتش، وخير دليل على ذلك هو تدفق المصلين الفلسطينيين من كل أنحاء الضفة الغربية ومن داخل الخط الأخضر لأداء الصلوات في الحرم، حتى بلغ عددهم في بعض أيام الجمع ما يزيد على ربع مليون مصلٍّ، وبإجمالي أعلنه مدير الأوقاف الإسلامية في القدس الشيخ عزام الخطيب بلغ أربعة ملايين، بما يعادل نحو سكان دولة فلسطين في الضفة و غزة والقدس، وهذا رغم العراقيل التي تضعها إسرائيل أمام وصولهم لمسجدهم، فيما اقتحمه بضع مئات من متطرفي اليهود، في ظل حماية الجيش والشرطة الإسرائيلية.

وإسرائيل التي تواجه أصعب مأزق داخلي كما يصفه قادتها، بمن فيهم رئيس الدولة إسحق هرتسوغ، تحاول أن تضع حداً لما تواجهه الحكومة من معارضة سياسية وميدانية متواصلة منذ تشكيلها، وما زالت حيث تنطلق التظاهرات كل يوم سبت من كل أسبوع في المدن الرئيسة، حيفا وتل أبيب وبئر السبع وغيرها، من الطبيعي أن تفكر في فتح معركة خارجية تضع حداً لمشكلتها الداخلية، وهي حاولت ذلك في رمضان، حيث ظنت أن المعركة في القدس، يمكن أن تنتهي بخروج الحكومة من مأزقها حتى لو أدى ذلك إلى شن حرب على غزة، كما اعتادت خلال سنين طويلة مضت، لكن وحيث كان ما كان، وما زالت حكومة نتنياهو تواجه نفس المأزق، فإنها ومنذ اليوم الأول لانتهاء شهر رمضان، بدأت تفكر بصوت مسموع، عمّا يمكن أن تفعله ضد أعدائها في الخارج، والذين باتوا كثراً، كما تعلن إسرائيل نفسها، بل وحيث تعددت الجبهات في الخارج، فإن إسرائيل التي يبدو أنها يئست من قدرتها على جر أميركا لحرب مع إيران، رغم أنها نجحت في قطع الطريق على إدارة جو بايدن من العودة للاتفاق مع إيران حول برنامجها النووي، وذلك لأكثر من سبب، بتقديرنا، منها أن إيران دولة قوية عسكرياً، وإذا كانت إسرائيل تتفوق في سلاح الجو، فإن إيران لديها قوة صاروخية باليستية، كذلك سلاح المسيّرات المتميز عالمياً، كذلك لدى إيران أهم سلاح، ربما لا تمتلكه غيرها من دول المنطقة، وهو سلاح الحلفاء الميدانيين من منظمات وتنظيمات متواجدة في العراق، سورية، اليمن، لبنان، وفلسطين.

أي أن إسرائيل دون أميركا أجبن من أن تفتح حرباً شاملة مع إيران، لذا فهي حائرة حالياً، بتقديرنا، بعد أن أدركت أن الجبهة الفلسطينية ليست الحلقة الأضعف، ومع استطلاعات الرأي الإسرائيلية التي تشير إلى أن نصف الإسرائيليين قلقون على مستقبلهم، نقلت القناة «12» أن إسرائيل باتت أكثر قلقاً بعد لقاء وزيرَي خارجية إيران والأردن، طبعاً بعد تطبيع العلاقات ما بين إيران وكل من الإمارات والسعودية، وبعد العودة المرتقبة الشهر القادم لسورية لجامعة الدول العربية، وحضور القمة التي ستعقد في الرياض، ومع تهدئة جبهة اليمن، بعد سورية، وبعد تجنيب غزة ردود فعلها، بإطلاق المقاومة في الضفة الغربية، فإن إسرائيل ما زالت تعتبر مواجهة « حماس » بشكل خاص، أسهل عليها، لأن الحركة ومعها حتى الجهاد الإسلامي، تنتمي لفلسطين، التي هي في حالة حرب مع إسرائيل، و»حماس» رغم صداقتها مع إيران، إلا أنها ليست فصيلاً شيعياً، وفعلاً سبق لإسرائيل أن شنت أكثر من حرب على غزة، دون أن تتسبب حروبها تلك في حرب إقليمية شاملة.

ربما لكل هذا بدأت إسرائيل ترفع من وتيرة التحضير ضد «حماس» على نحو خاص، وبعد أن حمّلتها مسؤولية إطلاق الصواريخ من لبنان خلال شهر رمضان، عادت هذه الأيام لتحمل الشيخ صالح العاروري شخصياً مسؤولية إطلاق 38 صاروخاً، شكلت سابقة، من حيث أن إطلاق الصواريخ على إسرائيل؛ رداً على عربدتها في القدس، لم يأت من غزة، بل فتح عليها جبهة أخرى، وبذكاء منعها من أن ترد بقصف بيروت، وبالطبع هي أجبن من أن تواجه «حزب الله»، لذا ردت بشكل سخيف بقصف مخيم الفلسطينيين في صور.

كذلك أشارت إلى خطاب مسؤول «حماس» بغزة يحيى السنوار الذي قال فيه: إن وحدة الساحات لم تعد مجرد شعار، بما فهم منه أن ذلك يتضمن فلسطينيي الخط الأخضر، ولهذا رد منصور عباس، الوزير في الحكومة الإسرائيلية السابقة، بتحذير «حماس» وحتى السلطة الفلسطينية مما سمّاه التدخل في الشؤون الإسرائيلية الداخلية، والاتصال بالفلسطينيين من مواطني الدولة، لكن أهم ما يفضح نوايا إسرائيل هو مطالبة بن غفير بالعودة لسياسة الاغتيالات، وربما هذا أيضاً ما يفكر فيه نتنياهو، لكنه يريد التنفيذ دون الإعلان، كما كانت تفعل إسرائيل منذ عقود، وهكذا يمكن التوقع بأن إسرائيل تفكر في استهداف حياة صالح العاروري ويحيى السنوار.

لكن يبدو أن إسرائيل التي تثير المخاوف من توتر محتمل، في أكثر من وجهة واتجاه، تفكر في البدء باستخراج الغاز من حصتها التي تحددت وفق الاتفاق مع لبنان، الذي وقّع عليه الطرفان في آخر عهد حكومة يائير لابيد البديلة، ذلك الاتفاق الذي أعلن بنيامين نتنياهو رفضه له، بحيث أن إسرائيل تفكر في أن تستخرج الغاز من جانبها، وتحاول في نفس الوقت أن تمنع لبنان من فعل الشيء ذاته، وفق الاتفاق، وهذا لو حدث بالطبع قد يتسبب في اندلاع حرب بين إسرائيل و»حزب الله»، لذا فإن الجيش الإسرائيلي أعلن، أول من أمس، عن تنفيذ أربع سفن من طراز ساعر 6 مهمات بحرية لحماية منصات الغاز الإسرائيلية.

ولأن الخسارات تتتابع في الجانب الإسرائيلي، ولم يقتصر الأمر على المواجهة الميدانية، فحسب، فإن النجاحات التي تحققها إيران تباعاً مع الدول العربية، جعلت من اتفاقيات التطبيع، وهي أهم منجز سياسي إسرائيلي منذ ثلاثين أو حتى أربعين عاماً، أمراً بلا معنى، وكشفت عورة اتفاقيات أبراهام، لجهة أنها لم تعد مقدمة لتحالف أمني إسرائيلي – عربي خليجي ضد إيران، كما أنها لم تدفع إسرائيل للتقدم على طريق الحل السياسي للقضية الفلسطينية، بل على العكس من ذلك دفعتها للتشدد، وحتى أن الرد على فتح السفارة الإسرائيلية في تركمانستان على بعد بضعة كيلومترات من إيران، جاء سريعاً بلقاء وزيرَي خارجية الأردن وإيران، وهكذا فإنه مقابل أن اقتربت إسرائيل من حدود إيران في الخليج العربي وآسيا الوسطى، فإن إيران وضعت قدمها الثانية على مقربة من أطول حدود برية مع إسرائيل.

أقرأ أيضًا: التصويت في إسرائيل مع الحرب على الضفة.. بقلم: رجب أبو سرية

Exit mobile version