ترجمة خاصة – مصدر الإخبارية
إيلان بارون – إيلاي سالتزمان
عند إنشاء إسرائيل في مايو/أيار 1948، تصور مؤسسوها دولة تحددها القيم الإنسانية وتحترم القانون الدولي. وأصر إعلان الاستقلال، الوثيقة التأسيسية لإسرائيل، على أن الدولة “ستضمن المساواة الكاملة في الحقوق الاجتماعية والسياسية لجميع سكانها بغض النظر عن الدين أو العرق أو الجنس” وأنها “ستكون وفية لمبادئ ميثاق الأمم المتحدة”. ولكن منذ البداية، لم تتحقق هذه الرؤية قط ــ فبعد ما يقرب من عقدين من الزمان منذ توقيع الإعلان، عاش الفلسطينيون في إسرائيل تحت الأحكام العرفية. ولم يتمكن المجتمع الإسرائيلي قط من حل التناقض بين الجاذبية العالمية لمُثُل الإعلان والإلحاح الضيق لتأسيس إسرائيل كدولة يهودية لحماية الشعب اليهودي.
وعلى مدى العقود من الزمان، برز هذا التناقض الجوهري مراراً وتكراراً، مما أدى إلى اضطرابات سياسية شكلت وأعادت تشكيل المجتمع والسياسة في إسرائيل ــ دون حل هذا التناقض على الإطلاق. ولكن الآن، بعد الحرب في غزة والأزمة القضائية التي سبقتها، أصبح من الصعب أكثر من أي وقت مضى الاستمرار على هذا النحو، الأمر الذي دفع إسرائيل إلى نقطة الانهيار.
إن إسرائيل تسير على مسار متزايد اللاليبرالية والعنف والتدمير. وما لم تغير مسارها، فإن المثل الإنسانية التي قامت عليها سوف تختفي تماما مع انزلاق إسرائيل نحو مستقبل أكثر قتامة، حيث تحدد القيم اللاليبرالية الدولة والمجتمع. إن إسرائيل في طريقها إلى أن تصبح أكثر استبدادا في تعاملها ليس فقط مع الفلسطينيين بل وأيضا مع مواطنيها. وقد تخسر بسرعة العديد من الأصدقاء الذين ما زالوا لديها وتصبح منبوذة. ومع عزلتها عن العالم، قد تستهلكها الاضطرابات في الداخل مع اتساع الشقوق التي تهدد بتفكك البلاد نفسها. إن الوضع الخطير الذي تعيشه إسرائيل يجعل هذه المستقبلات ليست غريبة على الإطلاق ــ ولكنها ليست حتمية أيضا. ولا تزال إسرائيل تتمتع بالقدرة على انتشال نفسها من حافة الهاوية. وقد تكون تكلفة عدم القيام بذلك باهظة للغاية بحيث لا يمكن تحملها.
نهاية الصهيونية
لقد ضرب هجوم حماس الدموي في السابع من أكتوبر/تشرين الأول إسرائيل في وقت كانت تواجه فيه بالفعل حالة من عدم الاستقرار الداخلي الهائل. فقد سمح النظام الانتخابي في البلاد، الذي يعتمد على التمثيل النسبي، في العقود الأخيرة بدخول المزيد والمزيد من الأحزاب السياسية المتطرفة إلى الكنيست، البرلمان الإسرائيلي. ومنذ عام 1996، كانت هناك 11 حكومة مختلفة، بمعدل حكومة جديدة كل عامين ونصف العام – ستة منها بقيادة رئيس الوزراء الحالي بنيامين نتنياهو. وفي الفترة ما بين عامي 2019 و2022، اضطرت إسرائيل إلى إجراء خمس انتخابات عامة. ولعبت الأحزاب السياسية الصغيرة أدوارًا رئيسية في تشكيل الحكومات وإسقاطها، حيث مارست نفوذًا غير متناسب. وبعد الانتخابات الأخيرة، في نوفمبر/تشرين الثاني 2022، شكل نتنياهو حكومة بدعم من الأحزاب السياسية وقادة من أقصى اليمين، مما أدى إلى وصول قوى في السياسة الإسرائيلية كانت كامنة لفترة طويلة على الهامش إلى السلطة.
في عام 2023، دفع نتنياهو وحلفاؤه من اليمين المتطرف نحو مشروع قانون للإصلاح القضائي يهدف إلى الحد بشكل كبير من إشراف المحكمة العليا على الحكومة. وكان نتنياهو يأمل أن يحميه الإصلاح المقترح من قضية جنائية جارية ضده. أراد حلفاؤه المتشددون أن يمنع الإصلاح تجنيد الآلاف من طلاب المدارس الدينية، الذين تم إعفاؤهم منذ فترة طويلة من الخدمة العسكرية. وصمم الصهاينة المتدينون الإصلاح لمنع قدرة المحكمة العليا على الحد من بناء المستوطنات.
لقد أثار الإصلاح القضائي المقترح احتجاجات ضخمة في جميع أنحاء البلاد، وكشف عن مجتمع منقسم بعمق بين أولئك الذين يريدون أن تظل إسرائيل دولة ديمقراطية ذات قضاء مستقل وأولئك الذين يريدون حكومة يمكنها أن تفعل ما يحلو لها تقريبًا. أدى المتظاهرون إلى توقف المدن، وهدد جنود الاحتياط بعدم الخدمة إذا تم تمرير مشروع القانون، وألمح المستثمرون إلى أنهم سيسحبون أموالهم من البلاد. ومع ذلك، تم تمرير نسخة من مشروع القانون في الكنيست في يوليو 2023 ولكن تم إلغاؤها من قبل المحكمة العليا في بداية هذا العام. في الوقت الحاضر، يحاول الائتلاف الحاكم إحياء بعض عناصر الإصلاح القضائي حتى مع استمرار الحرب في غزة.
لا شك أن الاحتجاج على الإصلاح القضائي كشف عن مخاوف داخل إسرائيل بشأن طبيعة الديمقراطية في البلاد، ولكنه لم يثر أي تساؤلات حول مسؤولية إسرائيل تجاه الفلسطينيين الذين يعيشون تحت الاحتلال. والواقع أن العديد من الإسرائيليين يرون أن معاملة بلادهم للفلسطينيين منفصلة عن عملها كديمقراطية. فقد تسامح الإسرائيليون لفترة طويلة مع العنف الذي يمارسه المستوطنون اليهود ضد الفلسطينيين، إن لم يكن يقرونه. وفي انتهاك للقانون الدولي، تفرض إسرائيل على الفلسطينيين الذين يعيشون تحت حكمها في الضفة الغربية والقدس الشرقية ما يشبه الأحكام العرفية. وأشرفت الحكومات الإسرائيلية المتعاقبة على توسيع المستوطنات اليهودية في الضفة الغربية، الأمر الذي يعرض للخطر إنشاء دولة فلسطينية ذات سيادة في المستقبل. والواقع أن الحرب في غزة، حيث قتلت القوات الإسرائيلية نحو أربعين ألف شخص، وفقاً لتقديرات متحفظة، كشفت عن دولة تبدو عاجزة أو غير راغبة في دعم الرؤية الطموحة التي تضمنتها إعلان الاستقلال.
وكما اعترف العديد من التقدميين داخل إسرائيل منذ فترة طويلة، فإن وحشية الاحتلال العسكري وضرورات كون إسرائيل قوة عسكرية محتلة لها تأثير مفسد على المجتمع الإسرائيلي بأكمله. وقد لاحظ يشعياهو ليبوفيتز، العالم والفيلسوف الإسرائيلي، “الفخر الوطني والنشوة” التي أعقبت حرب الأيام الستة في عام 1967، ورأى منعطفاً أكثر قتامة في المستقبل. وحذر في عام 1968 من أن هذا الاحتفال بالوطن لن يؤدي إلا إلى “نقلنا من القومية الفخورة الصاعدة إلى القومية المتطرفة المسيانية”. وزعم ليبوفيتز أن مثل هذه المشاعر المتطرفة من شأنها أن تؤدي إلى تراجع المشروع الإسرائيلي، مما يؤدي إلى “الوحشية” وفي نهاية المطاف “نهاية الصهيونية”. والآن أصبحت هذه النهاية أقرب مما يعترف به العديد من الإسرائيليين.
سبارتا مع القلنسوة اليهودية
إن إسرائيل، في مسارها الحالي، تنحرف في اتجاه غير ليبرالي إلى حد كبير. ذلك أن التحول اليميني المتطرف الذي تشهده إسرائيل حالياً، والذي يدفعه الساسة فضلاً عن العديد من ناخبيهم، قد يؤدي إلى تحول إسرائيل إلى نوع من الدولة الدينية القومية العرقية، التي يديرها مجلس قضائي وتشريعي يهودي ومتطرفون دينيون من اليمين، وهي ليست أقل من نسخة يهودية من الدولة الدينية الإيرانية. والواقع أن التغيرات الديموغرافية والاجتماعية السياسية التي شهدتها إسرائيل، بما في ذلك الزيادة السريعة في عدد السكان المتدينين المتطرفين، وميل الشباب اليهود الإسرائيليين نحو اليمين، وانحدار عدد اليهود الإسرائيليين الذين يعتبرون أنفسهم علمانيين، أدت إلى ظهور هيئة سياسية أكثر تديناً تنظر إلى استمرار وجود إسرائيل باعتباره جزءاً من صراع لا يمكن التوفيق بين اليهودية والإسلام.
ومن بين السياسيين القوميين المتشددين الذين يدعون صراحة إلى دولة يلعب فيها الدين دورًا أكثر تحديدًا بتسلئيل سموتريتش وإيتمار بن غفير وأفي ماعوز – وهم جميعًا لاعبون رئيسيون في حكومة نتنياهو الائتلافية. وهم يمثلون شريحة جديدة نسبيًا ولكنها متزايدة النفوذ من الحركة الصهيونية الدينية المعروفة باسم الحردال (ملاحظة المترجم: الحردال: فرع نخبوي في الصهيونية المتدينة بتنى عادات يهودية متشددة)، والتي تعتقد أن الله وعد اليهود بأرض إسرائيل التوراتية بأكملها، وترفض الثقافة والقيم الغربية، وتعارض بشكل أساسي المعايير المقبولة لليبرالية الإسرائيلية، مثل حقوق المثليين جنسياً، وبعض الفصل بين الكنيس والدولة، والمساواة بين الجنسين. يشغل الشخصيات المرتبطة بالحردال حاليًا مناصب وزراء في الحكومة الإسرائيلية، ويشغلون مناصب قوية في الكنيست، وهم قادة بارزون للمدارس الدينية والأكاديميات التحضيرية العسكرية المعروفة باسم ميشينوت. تشير الاتجاهات السياسية والديموغرافية إلى أن أقصى اليمين في إسرائيل سيظل مؤثرًا انتخابيًا، بل ومهيمنًا، في المستقبل المنظور.
ولكن العديد من الإسرائيليين الذين لا يتسمون بالدين بدأوا أيضاً في الانخراط في هذه الأيديولوجية القومية العرقية المتطرفة على نحو متزايد. ومنذ هجمات السابع من أكتوبر/تشرين الأول، أصبح اليمين الإسرائيلي أكثر تطرفاً. وبالنسبة لهم، وللعديد من الآخرين في إسرائيل، أثبتت مذبحة حماس أنه لا يمكن التوصل إلى تسوية مع الفلسطينيين أو أنصارهم. ويرى هؤلاء المحافظون أن إسرائيل تعيش في حالة حرب أبدية، وأن السلام أمر لا يمكن تصوره ـ دولة أشبه بـ “سبارتا مع قبعة يهودية”.
إن هذا الموقف قد يتصلب ويتحول إلى إجماع واسع النطاق بين اليهود الإسرائيليين وينتج إسرائيل غير ليبرالية بالكامل، حيث تؤدي الحرب في غزة إلى التآكل الكامل للمعايير والمؤسسات الديمقراطية التي أضعفها نتنياهو وحلفاؤه. لقد وفرت الحرب بالفعل للحكومة ذريعة لتقييد الحريات المدنية؛ على سبيل المثال، روجت لجنة الأمن القومي في الكنيست مؤخراً لتشريع سمح للشرطة بإجراء عمليات تفتيش دون أوامر قضائية. كما شهدنا زيادة في العنف الذي ترعاه الدولة ضد الفلسطينيين في الضفة الغربية، وينظر إلى نشطاء السلام الإسرائيليين على نحو متزايد باعتبارهم خونة. إن إسرائيل التي يهيمن عليها اليمين المتطرف سوف تصبح أكثر استبداداً، مع تقييد الحريات المدنية، وخاصة حقوق النوع الاجتماعي. وسوف تمارس الدولة نفوذاً ضاراً على التعليم العام، مع استبدال الفهم المدني الشامل للديمقراطية الإسرائيلية بفهم أكثر قومية وتطرفاً.
إن إسرائيل غير الليبرالية سوف تصبح دولة منبوذة أيضاً. لقد أصبحت إسرائيل بالفعل معزولة على نحو متزايد على المستوى الدولي، وتسعى العديد من المنظمات الدولية إلى اتخاذ تدابير قانونية ودبلوماسية عقابية ضدها. لقد وجهت قضية الإبادة الجماعية في محكمة العدل الدولية ورأيها الأخير بشأن عدم شرعية الاحتلال، ومذكرات الاعتقال التي أصدرتها المحكمة الجنائية الدولية بحق نتنياهو ووزير الدفاع يوآف غالانت، والعديد من المزاعم ذات المصداقية بارتكاب جرائم حرب وانتهاكات لحقوق الإنسان، ضربة قوية لمكانة إسرائيل العالمية. وحتى مع دعم الحلفاء الرئيسيين، فإن التأثير التراكمي للرأي العام السلبي، والتحديات القانونية، والتوبيخ الدبلوماسي من شأنه أن يعمل على تهميش إسرائيل بشكل متزايد على الساحة العالمية.
إن إسرائيل غير الليبرالية سوف تظل تتلقى الدعم الاقتصادي من عدد قليل من البلدان، بما في ذلك الولايات المتحدة، ولكنها سوف تكون معزولة سياسياً ودبلوماسياً عن معظم بقية المجتمع العالمي، بما في ذلك أغلب بلدان مجموعة الدول السبع. وسوف تتوقف هذه البلدان عن التنسيق مع إسرائيل في المسائل الأمنية، وتحافظ على اتفاقيات تجارية مع إسرائيل، وتشتري أسلحة إسرائيلية الصنع. ومن المرجح أن ينتهي الأمر بإسرائيل إلى الاعتماد كلياً على الولايات المتحدة وتصبح عُرضة للتحولات في المشهد السياسي الأميركي في وقت حيث يتساءل عدد متزايد من الأميركيين عن دعم بلادهم غير المشروط للدولة اليهودية.
إن العقد الاجتماعي بين الدولة والمجتمع في إسرائيل معلق حاليا في الميزان. وإذا ما تمكن نتنياهو وحلفاؤه من تحقيق أهدافهم، فإن الديمقراطية الإسرائيلية سوف تصبح جوفاء وإجرائية، مع تآكل الضوابط والتوازنات الليبرالية التقليدية بسرعة. وهذا من شأنه أن يضع البلاد على مسار غير مستدام من المرجح أن يؤدي إلى هروب رأس المال وهجرة الأدمغة ــ وتعميق التوترات الداخلية.
إسرائيل المنقسمة
ولكن مع تزايد الاستبداد في إسرائيل، فإن هذا التحول غير الليبرالي لن يخفي الانقسامات المتنامية داخل المجتمع الإسرائيلي. وسوف تفقد الدولة بشكل متزايد احتكارها للاستخدام المشروع للقوة، وقد تشتعل الانقسامات إلى حد الحرب الأهلية. والواقع أن المواجهة العنيفة الأخيرة في مركز احتجاز سدي تيمان، حيث اقتيد الجنود المشتبه في اعتدائهم على أحد الإرهابيين من حماس للاستجواب، قد تنبئ بما ينتظرنا في المستقبل. فقد هاجم جنود احتياطيون ومدنيون، بل وحتى نائب برلماني من أقصى اليمين، الشرطة العسكرية داخل القاعدة، غاضبين من احتجاز أفراد عسكريين بسبب إساءة معاملتهم لسجين فلسطيني. وفي المستقبل، قد تصبح مثل هذه الحوادث أكثر شيوعاً. ومن بين العلامات الأخرى للتشرذم الجاري بالفعل داخل جهاز الأمن الإسرائيلي نمو ميليشيات المستوطنين ـ وهي الجماعات التي لم تكن الدولة راغبة في قمعها على الرغم من هجماتها العنيفة على الفلسطينيين ـ وحقيقة مفادها أن الجنود أبلغوا حراس الأمن بوقف تسليم المساعدات الإنسانية إلى غزة بشكل غير قانوني.
إن سيادة القانون في إسرائيل قد تنهار. وسوف تظل إسرائيل دولة اقتصادية فعّالة إلى حد ما. وسوف تحمي الملكية الخاصة. وسوف تظل هناك جامعات ومستشفيات ونظام تعليمي عام من نوع ما. وسوف يظل الاقتصاد المتطور ــ الذي يشكل جوهر ادعاء إسرائيل بأنها “دولة ناشئة” ــ قادراً على العمل لفترة من الوقت. ولكن الدولة سوف تعمل من دون سيادة القانون، بما يتماشى مع الديمقراطية الجوفاء التي يفضلها اليمين المتطرف. وسوف يتحول الأمن إلى نظام مجزأ بلا إشراف ولا قيادة موحدة، مع تآكل احتكار الاستخدام المشروع للقوة. وسوف تزعم مجموعات مختلفة الحق في ممارسة العنف، بما في ذلك ميليشيات المستوطنين المسلحين، والمدنيين الذين يتحالفون مع اليمين المتطرف، وقوات الأمن القائمة.
إن هذا المستقبل ليس من اختصاص الخيال العلمي المتشائم. فقد أدى الصراع في غزة إلى تكثيف الانقسامات السياسية داخل البلاد، وخاصة بين الجماعات اليمينية التي تدعو إلى اتخاذ تدابير عسكرية وأمنية متطرفة تتجاهل القانون الإنساني الدولي تماماً، وبين الجماعات الأخرى التي تدعو إلى اتباع نهج أكثر تصالحية تجاه الفلسطينيين. كما أدت الحرب إلى تعميق الانقسامات بين اليهود العلمانيين والمتدينين. وقد أدى الجدل الرئيسي داخل إسرائيل بشأن ما إذا كان ينبغي إجبار اليهود المتشددين على الخدمة في الجيش ــ كما هو الحال مع جميع الإسرائيليين الآخرين ــ إلى تأجيج هذه التوترات. فقد قضت المحكمة العليا الإسرائيلية مؤخراً بأن الحكومة لا تستطيع تجنب تجنيد اليهود المتشددين، ويجب عليها الامتناع عن تمويل المدارس الدينية التي لا يلتحق طلابها بها وفقاً لما تقتضيه القوانين القائمة ــ وهو القرار الذي حفز محاولات إحياء تشريعات الإصلاح القضائي.
إن إضعاف السلطة المركزية للدولة من شأنه أن ينذر بتفكك أكثر إثارة للصدمة. فإلى جانب إدارة الاقتصاد، لن تتمكن الحكومة (بل ولن تكون راغبة) في الوفاء بأي من مسؤولياتها السياسية التقليدية الأخرى، بما في ذلك توفير الأمن ونظام تشريعي مستقر للحكم يضمن المساءلة. ومن شأن وجود مجموعات أمنية متنافسة وإشراف برلماني متراخٍ أن يضعف الردع الأمني الشامل لإسرائيل ويقوض أي نظام متماسك للحكم في المؤسسة الأمنية الإسرائيلية. وإسرائيل في مثل هذه الحالة قد تكون على خلاف مع نفسها. فقد تتحول إلى نوع من الكيان المقسم إلى أجزاء حيث تعمل العناصر اليمينية الدينية والقومية على بناء دولتها الفعلية، على الأرجح في مستوطنات الضفة الغربية. أو قد تشهد تمرداً للمتطرفين الدينيين والقوميين المتطرفين من شأنه أن يقسم إسرائيل في حرب أهلية عنيفة بين جناح اليمين الديني المسلح وأجهزة الدولة القائمة. وفي غياب الحرب الأهلية، فإن هذا الوضع سوف يظل غير مستقر، وسوف ينهار الاقتصاد، فتصبح إسرائيل دولة فاشلة.
طريق بعيدًا عن الفوضى
إن ثقل الأحداث والقوى السياسية السائدة يدفع إسرائيل في هذه الاتجاهات الخطيرة. فهي تتحول إلى دولة لم يعترف بها مؤسسوها. ولكنها لا تحتاج إلى السير في هذا الطريق. ولتجنب هذه النتائج، يتعين على إسرائيل أن تستعيد الاستقرار السياسي في البلاد من خلال دعم أسسها الدستورية، وتعزيز سيادة القانون، والسعي إلى التوصل إلى تسوية دائمة للصراع مع الفلسطينيين، وتعزيز مكانتها في المنطقة.
إن إسرائيل لابد وأن تنشئ لجنة دستورية مستقلة لمعالجة حالة عدم الاستقرار السياسي في البلاد وتوفير الأساس المتين لمستقبل الديمقراطية الإسرائيلية. وسوف تحتاج اللجنة إلى صياغة دستور لا يسهل تغييره مثل القوانين الأساسية ـ القوانين الأربعة عشر التي تشكل في مجموعها أقرب ما يمكن أن يكون إلى الدستور في إسرائيل ـ وسوف يتعين عليها أن تلتزم بالقيم الإنسانية الأصلية التي قامت عليها الدولة. ولقد تم تشكيل مثل هذه اللجنة في الماضي، وسوف يتطلب إحياؤها تعاوناً كبيراً بين ما تبقى من الوسط السياسي، واليسار السياسي، والأحزاب السياسية العربية الإسرائيلية. ومن المثير للاهتمام أن يوآف جالانت، وزير الدفاع الإسرائيلي الحالي، دعا إلى أن يكون إعلان استقلال إسرائيل هو النص الأول في مثل هذه الوثيقة الدستورية.
كما يتعين على إسرائيل أن تعمل على فرض سيادة القانون بشكل أفضل سواء داخل إسرائيل أو في الضفة الغربية، وهذا يعني أن الدولة لم تعد قادرة على التسامح مع العنف الذي يمارسه المستوطنون ضد الفلسطينيين. فضلاً عن ذلك، لابد من إنهاء الاحتلال العسكري للفلسطينيين، ولابد من الشروع في عملية سلام ملزمة تتضمن مفاوضين محايدين من أطراف ثالثة. وعلى أقل تقدير، يتعين على إسرائيل أن تلتزم بمعالجة الرأي الأخير الصادر عن محكمة العدل الدولية بشأن احتلال إسرائيل للأراضي الفلسطينية.
ولضمان الاستقرار الداخلي بشكل أفضل، تحتاج إسرائيل إلى إضفاء الشرعية على مكانتها في الشرق الأوسط، والبناء على المكاسب التي تحققت في اتفاقيات إبراهيم وتعزيز العلاقات مع المملكة العربية السعودية وغيرها من الأنظمة في المنطقة. ولحماية علاقاتها مع دول مجموعة السبع والمجتمع الدولي الأوسع، يتعين على إسرائيل أن تؤكد التزامها بالقانون الدولي، بما في ذلك من خلال جعل العمليات العسكرية أكثر شفافية، وضمان المساءلة عن أي انتهاكات للقانون الدولي، والتصديق على نظام روما، الذي أنشأ المحكمة الجنائية الدولية في عام 2002.
إن الخطوات الموصوفة أعلاه قد تواجه معارضة لا يمكن التغلب عليها في إسرائيل، ولكن هذه المعارضة لن تؤدي إلا إلى تأكيد مخاوفنا بشأن مستقبل إسرائيل. لا شك أن إسرائيل تواجه أعداء حقيقيين وخطرين، مثل حماس، مذنبين بانتهاكات حقوق الإنسان. ولكن المسار الذي تسلكه إسرائيل ليس مساراً رابحاً. ففي مسارها الحالي، قد تتحول الدولة إلى شيء من شأنه أن يدمر الرؤية اليهودية الإنسانية التي ألهمت العديد من مؤسسيها وأنصارها في مختلف أنحاء العالم. ولم يفت الأوان بعد لكي تنقذ إسرائيل نفسها من هلاكها وتجد طريقاً آخر للمضي قدماً.