باسل جعرور: إسرائيل بين سردية المظلومية والعزلة الدولية

في لحظة فارقة من تاريخ الصراع، تقف إسرائيل وباعتراف مباشر من رئيس وزراءها بنيامين نتنياهو، أمام عزلة دولية غير مسبوقة، لا بفعل تحولات مفاجئة؛ بل نتيجة تراكم سياسات التوسع والإنكار التي بلغت ذروتها في حرب غزة الأخيرة. وبينما تتصاعد الانتقادات، لا تُظهر إسرائيل ميلاً للتراجع، بل تُعيد تفعيل سردية المظلومية، لا كخطاب دفاعي، بل كأداة هجومية لإعادة إنتاج شرعيتها الأخلاقية والسياسية.
منذ تأسيسها، أتقنت إسرائيل فن صناعة اللحظة وتوظيفها، وما حدث في 7 أكتوبر شكل نقطة تحول تُستثمر كمرجعية دائمة، وتُستدعى كلما واجهت دولة الابرتهايد انتقادات أو عزلة. لكن هذه المرة، لا تكتفي إسرائيل بما حدث، بل ما يُستجد يكمن في إعادة بناء سردية محدثة تُصورها كضحية لحرب إعلامية عالمية، تُدار من غرف مظلمة، وتُغذيها منصات رقمية تُعيد تعمل على شيطنتها بتنبني “ادعاءات كاذبة مصدرها الإرهاب”.
ومع تجلي العزلة التي تواجهها دولة الاحتلال الإسرائيلي في ثلاثة مستويات: دبلوماسي، حيث بدأت دول أوروبية تتخذ مواقف أكثر جرأة. واقتصادي، مع تصاعد حملات المقاطعة وتجميد التعاون. وقانوني، مع تزايد الدعوات لمحاسبة قادتها أمام المحكمة الجنائية الدولية. إلا أن ردود الفعل الإسرائيلية تخبرنا بأنها اختارت الهجوم كاستراتيجية على حساب التبرير.
وعلى ما يبدو، فنحن مقدمون على فصل جديد من إعادة إنتاج متقنة لسردية المظلومية اليهودية، ولكن هذه المرة ليست في سياق الهروب من الاضطهاد، بل في سياق تبرير الهيمنة والرد على العزلة الدولية المتزايدة، فاعتراف نتنياهو بأن إسرائيل باتت على حافة عزلة دولية ليس مجرد توصيف لحالة سياسية؛ بل هو تمهيد سردي لإعادة تدوير خطاب المظلومية الذي لطالما استخدمته إسرائيل كدرع أخلاقي في وجه الانتقادات الدولية.
وما يميز هذه الموجة الجديدة هو أنها لا تنطلق من أحداث تاريخية بعيدة مثل الهولوكوست، بل من أحداث راهنة مثل هجمات 7 أكتوبر وردود الفعل العالمية على حرب غزة، وهذه السردية لا تُبنى على الخوف من الإبادة، بل على الادعاء بأن العالم يتواطئ في “شيطنة” إسرائيل، ويمنح الشرعية لأعدائها.
وفي هذا السياق، تتحول سردية المظلومية الإسرائيلية من كونها أداة دفاعية إلى أداة هجومية، فهي تبرر الانعزال، وتشرعن الردود العسكرية، وتُستخدم لتقويض أي محاولة دولية لمساءلة إسرائيل عن أفعالها. إنها مظلومية هجومية، لا تبكي على الأطلال، بل تبني عليها جدراناً من الإنكار والتبرير.
هذا التحول في منطلقات سردية المظلومية اليهودية، تطلَّب من البروباغندا الإسرائيلية إعادة تشكيل قوالبها لتتلاءم مع السياق الجيوسياسي الجديد، بالقفز عن عتبة الاضطهاد التاريخي، والارتقاء على سلم صورة الضحية لعملية شيطنة ممنهجة في الفضاء السيبراني، تقوم عليها قوى معادية للسامية وراعية “للإرهاب”.
لكن عامل الحسم في سردية المظلومية الإسرائيلية المطوَّرة، يرتكز على التلويح بازدواجية المعايير من المجتمع الدولي، حيث تدعي إسرائيل أنها تُدان على أفعال تمارسها دول أخرى دون مساءلة، تماماً كما استشهد نتنياهو بتصفية الولايات المتحدة لبن لادن داخل حدود دولة باكستان، وكان رد العالم وقتها “التصفيق” للبطولة الأمريكية في القضاء على “الإرهابي الأشهر” دون أن يقول أحد وقتها أن سيادة باكستان قد انتهكت.
وبالموازنة بين تصفية صاحب أحداث 11 سبتمبر، وبين القصف الإسرائيلي لقطر وانتهاك سيادتها، خلق نتنياهو معادلته بذكاء، فبحسب طرحه جاءت العملية لتصفية القيادة المباشرة “لمجزرة السابع من أكتوبر الإرهابية”، وعليه، يجب أن تحظى إسرائيل بتصفيق العالم على هذه “البطولة في محاربة الإرهاب”، لا موجات الإدانة والاستنكار واتهامات انتهاك السيادة.
والحقيقة أن نتنياهو يعلم قواعد اللعبة السياسية جيداً، ويلعب على مناطق حساسة في جسد المجتمع الدولي المغلف بالديمقراطية البراقة وصون الحقوق، بينما يزخر تاريخه وحاضره بمواضع وسقطات كافية ليقوم هو بتحصين نفسه وإسرائيل من الإدانة بتصوير الفعل الإسرائيلي كنهج موروث من هذه الدول والحضارة الغربية للمستعمر الأبيض.
وبالتوازي مع هذه المسارات، وفي ظل تنامي العزلة السياسية والاقتصادية والأكاديمية، وإن لم تكن بالمستوى الذي يتخيله البعض ويحاول تسويقه، فالسياسة بالأساس لعبة تحكمها المصالح لا الأخلاق، تلجأ إسرائيل إلى صورة “القلعة المحاصرة” التي هي في حالة دائمة من الدفاع عن النفس، بينما يتآمر عليها الجميع، وهذه المرة، تعيد إسرائيل تدوير هذه السردية بربطها بأحداث 7 أكتوبر، لتُستخدم كمرجعية عاطفية تُبرر كل ما تلاها من تصعيد.
هذه المسارات الثلاثة هدفها إعادة بناء شرعية الدولة في نظر مواطنيها، في ظل تآكل الدعم الخارجي. وتشكل فيما يينها سردية هجينة، تمزج بين التاريخ والراهن، وبين العاطفة والمواجهة المباشرة مع الدول الغربية والتلويح بأحداث من الماضي القريب، لتصنع درعاً نفسياً وسياسياً في وجه العزلة المتنامية.
وبعيداً عن أحلام اليقظة للبعض الذي يرى أن هذه الموجة من العزلة الدولية المدعاة قد تنجح في فرض واقع مغاير لما ترغب به إسرائيل وتهندسه على مدار عقود، والتي استثمرت أحداث السابع من أكتوبر لتعطيه دفعة من طاقة نيتروجينية يكسر بها حواجز السرعة والزمن وإشارات المرور من المجتمع الدولي، تبقى العلاقة الإسرائيلية الغربية محكومة بشبكة مصالح استراتيجية معقدة سترجح كفتها أمام إعادة التموضع الأخلاقي في ميزان السياسة الدولية.
والواقع يقول، إذا نجحت سردية المظلومية الإسرائيلية الجديدة في اختراق الوعي الدولي وإعادة تبييض صورة إسرائيل، فإن النتائج ستكون عميقة ومقلقة على عدة مستويات، خاصة فيما يتعلق بمستقبل الصراع الفلسطيني الإسرائيلي. وتوفير الغطاء اللازم لتبرير استمرار الاحتلال، وتوسيع الاستيطان، ورفض أي حلول عادلة للصراع.
وبعبارة أخرى، نجاح هذه السردية لا يعني فقط انتصاراً دعائياً لإسرائيل، بل يعني إعادة هندسة الوعي العالمي تجاه الصراع، وتكريس واقع سياسي يُقصي العدالة، ويُعيد إنتاج الاحتلال كأمر طبيعي، لا كجريمة يجب إنهاؤها، وبالتالي تقويض مكتسبات موجة الوعي العالمي، الشعبي والرسمي، والتي ارتسمت بالصور البشعة للإبادة الوحشية التي يتعرض لها الفلسطينيين في الضفة وغزة.
وفي مواجهة المناورات الإسرائيلية على مختلف الأصعدة، فإننا كعرب وفلسطينيين أمام لحظة مصيرية تتطلب شجاعية سياسية، وذكاء استراتيجي لتحرك متعدد الأبعاد، لا ينحصر في الانجرار خلف إسرائيل في مسارات تتحكم بها، بل من خلال خطوات سياسية سريعة توفر لقطع الطريق وتوفير مساحة وعوامل قوة للمناورة بما يخدم مصلحة تثبيت الوجود الفلسطيني على أرضه بأي ثمن، وتحويل أولوية الاهتمام للغاية والهدف، وليس تقديس الأداة والوسيلة.