د.شادية الغول: غزة… نعمة أم نقمة؟

د. شادية الغول – مصدر الإخبارية
غزة… نعمة أم نقمة؟ سؤال لم يعد حبيس الأدبيات السياسية أو لغة الخطابة، بل بات حاضرًا بقوة في النقاشات الدولية، حيث تحولت غزة إلى نقطة مركزية في اختبار مصداقية القيم الإنسانية والنظام العالمي القائم. فهي من جهة مصدر إلهام لشعوب تبحث عن الحرية والكرامة، ومن جهة أخرى فضيحة أخلاقية تكشف عجز المجتمع الدولي وتواطؤ القوى الكبرى.
لقد أظهرت غزة أنها ليست مجرد جغرافيا محاصرة، بل رمز للصمود. فمنذ أكثر من ثمانية عشر عامًا وهي تعيش حصارًا خانقًا شمل الغذاء والدواء والوقود، ومع ذلك ما زالت تفرض حضورها على الأجندة العالمية. خلال العدوان الأخير مثلًا، ورغم آلاف الغارات الجوية التي دمّرت أحياء كاملة كالنصيرات وخان يونس والشجاعية، ظل الأهالي يخرجون في مسيرات ترفع شعار البقاء، وصار الأطفال يحفظون أسماء الشهداء كما يحفظون أسماء الحروف. هذا الصمود جعل من غزة أيقونة إنسانية تتجاوز حدودها الضيقة.
لكن في المقابل، كانت غزة نقمة على المنظومة الدولية. فقد كشفت زيف المؤسسات الكبرى مثل مجلس الأمن، الذي عجز عن إصدار قرار ملزم لوقف إطلاق النار رغم مقتل عشرات الآلاف، معظمهم من النساء والأطفال. وأظهرت الأحداث الأخيرة ازدواجية المعايير؛ إذ تحركت الأمم المتحدة سريعًا في أزمات أخرى مثل أوكرانيا، بينما اكتفت بالبيانات الضعيفة أمام مأساة غزة. حتى المحكمة الجنائية الدولية وجدت نفسها أمام ضغط سياسي هائل حال دون المساءلة الجادة.
أثر غزة امتد ليحرج العواصم الغربية. في بريطانيا على سبيل المثال، شهدت لندن أكبر مظاهرات تضامنية منذ حرب العراق عام 2003، ما دفع برلمانيين للضغط على الحكومة لتغيير موقفها. وفي الولايات المتحدة، تزايدت الخلافات داخل الحزب الديمقراطي، حيث عبّر جناح “التقدميين” عن غضبهم من الدعم غير المشروط لإسرائيل. وعلى المستوى الشعبي، تحولت منصات التواصل الاجتماعي إلى مساحة فضحت بالصور الحية الجرائم، حتى بات اسم غزة من أكثر الوسوم تداولًا عالميًا لشهور متواصلة.
اقتصاديًا وسياسيًا، لم تتوقف تداعيات غزة عند حدودها. فقد تأثر الأمن البحري في البحر الأحمر نتيجة الهجمات المتصلة بالصراع، ما جعل شركات الشحن العالمية تغيّر مساراتها وتتحمل خسائر بمليارات الدولارات. هذه الانعكاسات دفعت قوى إقليمية ودولية إلى إعادة تقييم مواقفها، ليس بدافع التضامن مع المدنيين، بل من منطلق حسابات المصالح.
كل هذه الأمثلة توضح أن غزة تقف على الحد الفاصل بين النعمة والنقمة. فهي نعمة لأنها جسّدت معنى المقاومة والقدرة على فرض قضية شعب صغير على جدول أعمال العالم، وألهمت شعوبًا أخرى في نضالها ضد الاحتلال والاستبداد. وهي نقمة لأنها عرّت عجز العالم وأربكت تحالفاته، وفضحت التناقض بين خطاب حقوق الإنسان والممارسة الفعلية على الأرض.
إن غزة اليوم ليست مجرد مدينة محاصرة، بل مرآة تعكس حقيقة النظام الدولي. إنها النعمة التي تذكّر البشرية بأن الكرامة لا تُقهر، والنقمة التي تكشف عجز الدول عن الوفاء بشعاراتها. وما يحدث فيها ليس مجرد مأساة محلية، بل مفصل تاريخي سيبقى مؤثرًا في السياسات والمعادلات العالمية لسنوات طويلة.