مصطفى إبراهيم: الكتابة من غزة .. لا تغيّر الواقع، لكنها محاولة لصرخة في وجه الألم.

مصطفى إبراهيم – مصدر الإخبارية

الكتابة من غزة لا تغيّر الواقع، لكنها تمنع الغياب. لا توقف الطائرات ولا الدبابات، لكنها تترك أثراً في زمن الإبادة، وتجعل من الألم كلمة وشهادة.

حين بدأت الحرب، وجدت نفسي حائراً بين الصمت والبوح. كان يمكن أن أختار الانتظار حتى أتعافى، كما فعل بعض الكتّاب، لكنني شعرت أنني أخون دوري إذا اكتفيت بمتابعة الأخبار والتنقّل بين شاشات التواصل بلا أثر. أصدقائي شجعوني، فتغلبت على هواجسي، وأجبرت نفسي على الكتابة. صارت الكلمة فعل مقاومة شخصية، لا مجرد خيار.

على مدى عامين تقريباً، كتبت عن النزوح والتشرد، عن الخيام ومراكز الإيواء، عن حرب التجويع وفقدان الحقوق، عن الغضب والقهر والقلق الذي لا يهدأ. لكنني لم أكتب بما يكفي عن الشهداء الذين تحوّلوا إلى أرقام، ولا عن المدن المدمرة والذكريات التي ضاعت تحت الركام. ربما لأن الفقدان أكبر من قدرة الكلمات.

في كتاباتي، مثل كثيرين، حمّلت المسؤولية للمجتمع الدولي والعرب الصامتين. لكن الحقيقة أن المسؤولية لا تتوقف هنا. الاحتلال الإسرائيلي وحكومته اليمينية المتطرفة ماضيان في مشروع التهجير القسري والتطهير العرقي، هذا صحيح. غير أن الفصائل الفلسطينية، وفي مقدمتها حركة حماس والسلطة الفلسطينية، تتحمّل أيضًا نصيباً من المسؤولية.

حماس ما زالت أسيرة حالة إنكار، تراهن على أن تغيّر إسرائيل موقفها أو أن تقبل بصفقة جزئية قبل احتلال غزة. لكنها بهذا تراهن على الوهم وتترك شعبها وحيداً في مواجهة آلة الحرب. أما السلطة الفلسطينية، فقد غابت تماماً عن المشهد، متراجعة أمام مسؤوليتها الوطنية، وكأن ما يجري لا يعنيها. هذا الهروب من تحمّل الأعباء جعل المجتمع الفلسطيني عارياً أمام حرب الإبادة.

هنا يبرز السؤال: كيف يمكن أن نطالب بوقف الحرب، من دون أن نطالب كل الأطراف دوليًا وعربيًا وفلسطينيًا – بتحمّل المسؤولية؟

حافظت طوال الوقت على بصيص أمل في راوية من قلبي ودائماً، يبحث كثير من الكتّاب عن زوايا صغيرة تبعث الأمل. والناس يركضون خلف النصوص التي تمنحهم طمأنينة مؤقتة، حتى لو كانت كاذبة. لكن الواقع أكثر قسوة. الكتابة الصادقة، حتى حين تكون قاتمة، أشرف من صناعة أمل زائف. فهي شهادة للتاريخ، ومحاولة للتشبث بالحقيقة بدل الهروب منها.

الحرب لم تتوقف، والنزوح صار طويل الأمد، والتطهير العرقي مستمر. أمام هذا كله، لا تكفي الدعوات الأخلاقية لوقف الحرب من دون مواجهة الذات. والكتابة، وإن لم تغيّر الواقع، تبقى فعلاً ضرورياً لمقاومة الصمت، ولتذكير الجميع بما في ذلك حماس أن التنصل من المسؤولية لا يعني سوى ترك الشعب الفلسطيني وحيداً في مواجهة الإبادة، وإطالة أمد المأساة.