مصطفى إبراهيم: بين النقد والإنكار .. مسؤولية القرار في غزة

مصطفى إبراهيم – مصدر الإخبارية

مع استمرار الحرب وتصميم الحكومة الإسرائيلية على احتلال مدينة غزة، وغياب أي أفق سياسي لوقفها، تتزايد الحاجة إلى قرارات فلسطينية جريئة توقف النزيف الإنساني بأي ثمن. فالوضع القائم لم يعد مجرد أزمة عابرة، بل مأساة ممتدة تهدد حياة الناس وبقاءهم، في ظل انهيار متسارع للبنية الاجتماعية والاقتصادية والإنسانية.

لكن المعضلة تكمن في أن حركة حماس والفصائل الأخرى لا تزال أسيرة خطاب المراوحة والإنكار، غير قادرة على التعامل مع النقد الداخلي باعتباره رافعة للتصحيح. بل على العكس، يُنظر إلى الأصوات المختلفة على أنها مثبّطة أو خاضعة لأجندات خارجية. هذا السلوك السياسي يعمّق الفجوة بين القيادة والجمهور، ويضعف الثقة في لحظة مصيرية.

في أوقات الكوارث، يصبح النقد جزءاً من المصلحة الوطنية، لا تهديداً لها. فالأصوات التي تطالب بالشفافية والمصارحة تعكس معاناة الناس اليومية، وتعبّر عن حاجة ملحة إلى مصارحة الرأي العام بالحقائق كما هي، بعيدًا عن الخطاب الدعائي أو الشعارات العامة. التعامل مع هذه الأصوات كأداة للتخوين لا يؤدي سوى إلى مزيد من الانفصال بين القيادة والناس، ويُفقد الحركة السياسية أهم مقومات قوتها: الثقة الشعبية.

إحدى أخطر الظواهر الراهنة هي غياب الشفافية في إدارة الأزمة. فالتصريحات المتناقضة، والمبالغة في تصوير الإنجازات، وتجاهل الحقائق الميدانية، كلها عوامل تضعف قدرة الناس على فهم ما يجري. وفي ظل غياب رواية دقيقة ومسؤولة، يجد المواطن نفسه أسير الشائعات والاجتهادات الفردية، وهو ما يزيد من شعوره بالعزلة وفقدان الأمل.

التجربة الفلسطينية الممتدة لعقود تؤكد أن المشكلة الأساسية لا تكمن فقط في شراسة التحديات، بل في أسلوب إدارتها. تكرار الأخطاء نفسها، والانغلاق على النقد، وغياب المراجعة الداخلية، كلها جعلت الأزمات تتراكم دون حلول جذرية. ما يجري اليوم في غزة يثبت أننا لم ننجح بعد في تحويل التجارب السابقة إلى دروس عملية في إدارة الأزمات واتخاذ القرار.

المطلوب اليوم ليس مزيدًا من الخطابات، بل مقاربة جديدة في التفكير السياسي: مقاربة تعترف بحجم الكارثة الإنسانية، وتضع حماية الناس في الأولوية المطلقة، وتفتح المجال أمام النقد باعتباره مدخلًا للتصحيح. فالقوة السياسية لا تُقاس بقدرتها على الصمود وحده، بل بمرونتها في الاستماع، وقدرتها على بناء الثقة من جديد.

غزة اليوم تقف أمام لحظة وجودية. استمرار الحرب بمعادلاتها الحالية سيقود إلى مزيد من الانهيار، بينما يبقى الناس وحيدين في مواجهة المجاعة والدمار والتهجير. لذلك، فإن مسؤولية حماس والفصائل لا تحتمل التأجيل: إما قرارات جريئة توقف الحرب وتفتح أفقًا مختلفًا، أو استمرار في دائرة الإنكار والمكابرة التي لم تجلب إلا المزيد من الكوارث.