“توجيهي” يخوض معركة “البقاء”.. عامان و(39) ألف حُلُمٍ معلقٍ!

وائل إبراهيم بعلوشة – مصدر الإخبارية

يُعدّ الصف الثالث الثانوي، أو ما يُعرف بـ”التوجيهي”، مرحلة مفصلية في حياة الطالب الفلسطيني. فهو ليس مجرد امتحان نهائي تُختتم به سنوات المدرسة، بل هو البوابة التي تعبر منها أحلام الشباب نحو الجامعات والتخصصات التي يطمحون إليها، ومن ثم إلى المستقبل المهني الذي يخططون له.

في الظروف الطبيعية، يمثل هذا الامتحان تحديًا كبيرًا يتطلب التحضير الذهني والنفسي والمادي على مدار عامٍ كامل. لكن في قطاع غزة، للعامين الدراسيين2024-2025، اكتسى التوجيهي بطابع استثنائي قاسٍ، إذ جاء في ظل واحدة من أكثر الفترات دموية ودمارًا في تاريخ القطاع، حيث يعيش أكثر من مليوني إنسان، بينهم عشرات الآلاف من الطلبة، تحت نيران حرب إبادة وتهجير قسري منذ أكتوبر 2023م.

تشير الاحصائيات إلى حرمان نحو (39) ألف طالب وطالبة من قطاع غزة من التقدم لامتحانات الثانوية العامة “التوجيهي” خلال العامين الماضيين، وأكثر من (4000) منهم استشهدوا نتيجة القصف والدمار خلال استعدادهم للامتحان، في حين سقط (914)شهيدًا من الكوادر التعليمية من المعلمين والإداريين، الذين حملوا على عواتقهم رسالة التعليم رغم قساوة الواقع.

التعليم تحت القصف: مشهد من الميدان

منذ اللحظات الأولى للعدوان، لم تكن المدارس والجامعات في مأمن. على العكس، استُهدفت المؤسسات التعليمية بشكل مباشر فدُمّرت مئات المدارس بشكل كلي أو جزئي، وتحولت عشرات المباني المدرسية التابعة لوكالة غوث وتشغيل اللاجئين (أونروا) أو وزارة التربية والتعليم، إلى مراكز إيواء مؤقتة للنازحين.لم تعد الفصول الدراسية مقاعد وسبورات، بل فُرُشًا وأغطية لأسر فقدت منازلها، وأطفال ينامون في زوايا الصفوف بدلًا من تلقي الدروس.

هذا الواقع القاسي قطع الطريق على انتظام العملية التعليمية. طلبة التوجيهي وجدوا أنفسهم فجأة خارج مدارسهم لأشهر متتالية، بلا دروس منتظمة أو مراجعات جماعية.

حاول بعضهم متابعة التعليم عن بُعد عبر الهواتف أو أجهزة بسيطة، لكن انقطاع الكهرباء لساعات طويلة، وضعف الإنترنت، وغياب المواد التعليمية الأساسية، جعل هذه المحاولات أقرب إلى التمسك بخيط رفيع وسط عاصفة عاتية.

الأصعب من ذلك، أن بعض الطلبة اضطروا إلى التنقل أكثر من مرة بين المحافظات الجنوبية والشمالية بحثًا عن مكان آمن، ليجدوا أنفسهم في كل مرة مضطرين للبدء من جديد في بيئة مختلفة، أو حتى من دون أي أدوات تعليمية.

حلم التوجيهي بين الحياة والموت

لطالما كانت امتحانات التوجيهي حدثًا وطنيًا يحتفى به في كل بيت فلسطيني، حيث تُعلَّق الآمال الكبيرة على أبنائه، وتُبذل الجهود لتأمين بيئة هادئة، وتهيئة الطالب نفسيًا وعلميًا. لكن هذا العام، تغيرت الأولويات بشكل مأساوي.

لم يعد الطالب يطمح إلى معدل الامتياز أو الالتحاق بكلية الطب أو الهندسة، بل أصبح همه الأول هو النجاة بحياته، وتأمين وجبة طعام ومصدر ماء نظيف لعائلته.

ومع ذلك، ورغم كل هذا الدمار، يصرّ طلبة غزة على التشبث بحقهم في التعليم، باعتبارهوسيلة للمقاومة والصمود، ورسالة واضحة بأن الاحتلال لن يستطيع انتزاع مستقبلهم كما انتزع بيوتهم وأحلامهم. لقد أثبتوا في حروب سابقة أنهم قادرون على اجتياز الامتحانات رغم كل الظروف، لكن ما يشهده القطاع اليوم يفوق قدرة أي إنسان على الاحتمال، ويجعل من استمرار العملية التعليمية بالشكل التقليدي شبه مستحيل.

أهمية إجراء امتحانات التوجيهي هذا العام

في ظل هذا الوضع، تبرز أهمية توفير صيغة استثنائية لإجراء امتحانات التوجيهي في غزة. فالامتحان ليس مجرد إجراء أكاديمي، بل هو ضمانة أساسية لحق الطلبة في استكمال مسارهم التعليمي والالتحاق بالجامعات داخل فلسطين وخارجها. تأجيل أو إلغاء الامتحانات قد يعني ضياع عام كامل من حياة الطلبة، وربما خسارة فرص تعليمية لا يمكن تعويضها بسهولة.

لكن إجراء الامتحانات في ظل العدوان والحصار يتطلب ترتيبات إنسانية وأمنية خاصة، تكفل حماية الطلبة وتضمن نزاهة الامتحان وشفافية نتائجه.

مقترح لتشكيل فريق وطني ودولي

لتحقيق هذا الهدف، يمكن تقديم مقترحٍ لتشكيل فريق مشترك يضم:
1. وزارة التربية والتعليم الفلسطينيةبصفتها الجهة المسؤولة عن تنظيم وإدارة امتحانات الثانوية العامة، خصوصًا الإدارة العامة للقياس والتقويم.
2. المؤسسات الدولية المعنية بالتعليم:
o اليونسكو (UNESCO): لدورها في حماية التعليم خلال النزاعات.
o اليونيسف (UNICEF): لدعم تعليم الأطفال في حالات الطوارئ.
o الأونروا (UNRWA): بحكم خبرتها في تعليم اللاجئين الفلسطينيين وبنيتها التحتية الواسعة في غزة.
o مكتب الأمم المتحدة لتنسيق الشؤون الإنسانية (OCHA): لتأمين الدعم اللوجستي.
o اللجنة الدولية للصليب الأحمر (ICRC): لضمان الجانب الأمني والإنساني أثناء الامتحانات.

3. المجتمع المدني: الذي يبرز دوره كعامل حاسم في تمكين طلبة الثانوية العامة من أداء امتحاناتهم. حيث يمكن للمؤسسات والجمعيات المحلية أن توفر الدعم اللوجستي عبر تجهيز أماكن بديلة وآمنة لعقد الامتحانات، وتوزيع المستلزمات المدرسية على الطلبة المتضررين. كما يمكنها المساهمة في إنشاء منصات تعليمية بديلة، سواء ورقية أو إلكترونية، لتعويض الانقطاع عن الدراسة، إضافة إلى تنظيم حملات توعية لدعم الصحة النفسية للطلبة، بما يخفف من ضغط الحرب عليهم. وللمجتمع المدني كذلك دور في التنسيق مع المؤسسات الدولية للضغط على الأطراف المعنية لتأمين مراكز الامتحان، وضمان إشراف محايد وشفاف على العملية. إن هذه الجهود المشتركة تمثل جسرًا يربط الطلبة بحقهم في التعليم، وتحافظ على الأمل بأن مستقبلهم ما زال ممكنًا رغم

قسوة الحاضر خارطة طريق عملية

يمكن لهذا الفريق أن يتبنى خطة عمل متكاملة تشمل:
• تقييم الوضع التعليمي ميدانيًا، وتحديد أماكن تواجد الطلبة، والمدارس الصالحة للاستخدام، والاحتياجات اللوجستية.
• تأمين مراكز الامتحاناتبالتنسيق مع المؤسسات الدولية لضمان عدم استهدافها، وفرض رقابة دولية علنية.
• إنشاء مراكز امتحان مرنة وآمنةباستخدام مدارس الأونروا أو مواقع تابعة للمنظمات الدولية.
• إشراف دولي مباشرلمراقبة سير الامتحانات وتوثيق أي انتهاكات.
• نقل أوراق الإجابات بأمانإلى الضفة الغربية للتصحيح تحت إشراف الأمم المتحدة لضمان الشفافية.
• آلية للمراجعة والشكاوىإلكترونيًا وبإشراف دولي، لضمان إنصاف الطلبة.
اللامركزية كعامل مساعد

يُعدّ نهج العمل اللامركزي أحد الأساليب الفعّالة للتعامل مع الظروف الطارئة، خاصة في البيئة القهريةالتي يمر بها قطاع غزة. يقوم هذا النهج على تفويض صلاحيات أوسع للمكاتب التعليمية المحلية والمجالس المجتمعية، بما يتيح لها اتخاذ قرارات عاجلة تتعلق بتحديد مراكز الامتحان، وتوزيع اللجان، وتكييف الجدول الزمني بما يتناسب مع الواقع الميداني لكل منطقة.

اللامركزية تمكّن من استثمار الموارد المتاحة في الميدان بسرعة، وتسهيل التعاون مع مؤسسات المجتمع المدني والمنظمات الدولية لتأمين أماكن آمنة ومهيأة للامتحانات، ولتحقيق ذلك، يتطلب الأمر من السلطة المركزية إصدار قرارات واضحة تمنح الصلاحيات الإدارية والفنية للمستويات المحلية، وتحدد معايير موحدة لضمان النزاهة وتكافؤ الفرص بين جميع الطلبة، مع الإبقاء على دورها الرقابي والإشرافي لضمان وحدة المعايير وسلامة العملية الامتحانية على المستوى الوطني.

البعد الإنساني والحقوقي

طلبة التوجيهي في غزة ليسوا مجرد أرقام في نشرات الأخبار. هم أبناء وأحفاد، وأحلام لم تكتمل بعد، وأصوات تصر على الحياة رغم أن الموت يحوم حولهم في كل لحظة. منعهم من أداء امتحاناتهم هو شكل من أشكال العقاب الجماعي، وحرمانهم من حق أساسي كفله القانون الدولي لحقوق الإنسان، وهو الحق في التعليم.

التعليم في زمن الحرب ليس رفاهية، بل طوق نجاة يربط الأجيال بمستقبل أفضل، ويمنع الانزلاق نحو الجهل والفراغ. في غزة، يمثل التوجيهي هذا العام اختبارًا ليس للطلبة فقط، بل للإنسانية جمعاء: هل سنسمح بأن يُحرم آلاف الشباب من حقهم في الحلم، لمجرد أنهم ولدوا في منطقة محاصرة تتعرض لعدوان مستمر؟

ختامًا: من حقهم أن يحلموا

إن إنقاذ حق طلبة غزة في تقديم امتحان التوجيهي هذا العام تحت إشراف دولي، هو واجب وطني وأخلاقي وإنساني. إنه رسالة للعالم بأننا نتمسك بالعلم سلاحًا في وجه الجهل والدمار، وأننا نؤمن بأن المستقبل يُكتب بالحبر لا بالدم.
على المجتمع الدولي أن يتحرك فورًا، وألا يترك هؤلاء الطلبة ضحايا للنسيان. فكل ورقة امتحان في غزة اليوم هي شهادة صمود، وكل علامة نجاح هي انتصار صغير على آلة الحرب. فلنمنحهم هذه الفرصة، لأنهم يستحقون الحياة.. ويستحقون أن يحلموا.

 

وائل إبراهيم بعلوشة، فلسطيني من قطاع غزة، يعمل في الائتلاف من أجل النزاهة والمساءلة _ امان، حاصل على درجة الماجستير في الدراسات الإقليمية، بكالوريوس العلوم السياسية.

اقرأ/ي أيضًا: 1500 طالب في غزة يتقدمون إلكترونيًا لامتحانات التوجيهي ضمن الدورة الاستكمالية الثالثة