شادية الغول: “مأزق البندقية .. حين تفشل المقاومة في إدارة النصر”

د. شاديه الغول – مصدر الإخبارية
في أعقاب السابع من أكتوبر 2023، وجدت حركة حماس نفسها على مفترق تاريخي لم تشهده منذ تأسيسها، لحظة فريدة قلبت فيها موازين الصراع مع الاحتلال الإسرائيلي، وأربكت الحسابات الإقليمية والدولية. العملية التي قادتها كتائب القسام، ووصفت بأنها الأعنف والأعمق من حيث الاختراق الأمني منذ تأسيس دولة الاحتلال، شكّلت في ظاهرها إنجازًا عسكريًا استثنائيًا، لكنها سرعان ما تحوّلت إلى كارثة إنسانية غير مسبوقة في قطاع غزة، وجعلت من المشهد الفلسطيني بأسره ساحة مراجعة إجبارية لسؤال ظلّ معلقًا منذ سنوات: هل تمتلك حماس رؤية سياسية تفاوضية قادرة على تحويل الإنجاز العسكري إلى مكسب سياسي دائم؟ وما حجم إخفاقها في إدارة الملفات التفاوضية التي تراكمت منذ سيطرتها على غزة في 2007 وحتى اليوم؟
إن تتبع أداء حماس في ملف التفاوض منذ أكثر من عقد ونصف يُظهر نمطًا ثابتًا من التفاوض غير المباشر، تديره الحركة عبر وسطاء إقليميين ودوليين، دون أن تضع رؤية تفاوضية متكاملة أو مشروعًا سياسيًا واضحًا، بل اكتفت بإدارة الأزمات الإنسانية والمعيشية التي فرضها الحصار. كانت تهدئة تجرّ تهدئة، وصفقة أسرى تفتح بابًا لإغلاقات أشد، وتفاهمات محدودة تُستنزف سريعًا دون أن تُراكم على نفسها إنجازًا سياسيًا واضح المعالم. ومع أن الحركة امتلكت أوراق قوة متعددة، منها الدعم الشعبي، والقدرة العسكرية، والمكانة الإقليمية، إلا أن غياب القيادة التفاوضية الموحدة داخلها، وتضارب القرار بين الجناحين السياسي والعسكري، أضعف قدرتها على التحول من فاعل ميداني إلى فاعل سياسي يفاوض بثقة.
وتجلّى هذا الفشل بأوضح صوره بعد السابع من أكتوبر، حين تحوّلت الضربة الأمنية الهائلة إلى نقطة بداية لحرب إبادة جماعية مفتوحة على غزة، قتلت وشرّدت ودمرت دون أي قدرة مقابِلة على توجيه المسار نحو أفق سياسي، أو حتى تأمين شروط تفاوض إنساني عادلة. فبينما سارعت إسرائيل لاستثمار العملية لبناء تحالف دولي داعم لحربها المفتوحة، وقامت بتأطير المعركة ضمن سردية “محاربة الإرهاب”، غابت الرواية الفلسطينية السياسية، وخلت الساحة من خطاب موحد، واكتفت حماس بإعادة إنتاج خطاب الصمود والمقاومة دون تقديم رواية سياسية موازية تشرح للعالم ما بعد السابع من أكتوبر كفرصة لإعادة ترتيب الصراع سياسيًا. لقد كانت اللحظة مثالية للانتقال من منطق البندقية إلى منطق الطاولة، لكن لم يتم استثمارها، لا من حماس، ولا من أي إطار وطني جامع.
وفي هذا السياق، لا يمكن تجاهل الدور المحوري لملف الأسرى، الذي تحوّل من ورقة تفاوضية قوية كانت تملكها حماس إلى عبء استراتيجي استُخدم ضدها في المحافل الدولية. فمنذ 2014، تحتفظ حماس بأسرى إسرائيليين دون أن تتمكن من إنجاز صفقة تبادل رغم الوساطات العديدة. وبعد 7 أكتوبر، ومع دخول مئات الأسرى الجدد من الجنود والمستوطنين الإسرائيليين، كان يمكن للحركة أن تفاوض من موقع قوة، وتربط الإفراج عنهم بشروط إنسانية وسياسية تضمن إنهاء الحصار وبدء مسار تفاوضي أكثر عمقًا. لكن الواقع أظهر عجزًا واضحًا في إدارة الملف، وفشلًا في انتزاع شروط متوازنة، باستثناء هدنة مؤقتة أُنجزت نهاية 2023 تم الإفراج خلالها عن عدد محدود من الأسرى مقابل معتقلين فلسطينيين، قبل أن تنهار مجددًا دون أفق.
الأزمة لم تكن في حماس وحدها، بل في غياب البنية الوطنية الجامعة القادرة على التفاوض باسم الشعب الفلسطيني. فالانقسام المستمر منذ أكثر من 15 عامًا جعل من كل فصيل يتحدث بلغة منفصلة، ويملك رواية موازية، مما أضعف أي فرصة لبناء موقف تفاوضي فلسطيني موحد. وهو ما استغلته إسرائيل على الدوام لتقويض أي فرصة لحوار حقيقي، وتحويل الصراع من قضية تحرر إلى أزمة إنسانية يُدار فيها القطاع كمنطقة منكوبة دون أي التزام سياسي تجاه الحل.
وفي ضوء هذا المشهد، يصبح من المفيد النظر إلى تجارب أخرى استطاعت فيها حركات مقاومة الجمع بين البندقية والطاولة، وتحقيق مكاسب سياسية تاريخية عبر التفاوض الذكي. في جنوب إفريقيا، لم يكن مانديلا بطلًا في الزنزانة فقط، بل مفاوضًا استراتيجيًا يعرف متى يُراكم الضغط، ومتى يُقدّم التنازلات، وكيف يُخرج بلاده من الفصل العنصري إلى مشروع دولة للجميع. في أيرلندا الشمالية، توصلت حركة الشين فين، الجناح السياسي للجيش الجمهوري الأيرلندي، إلى اتفاقية الجمعة العظيمة بعد عقود من القتال، واستطاعت بفضل وضوح الرؤية والانخراط الحقيقي في التفاوض أن تُنهي الحرب وتُشارك في الحكم. وفي كولومبيا، استطاعت القوات المسلحة الثورية (فارك) أن تنتقل من حركة تمرد إلى حزب سياسي، بعد توقيع اتفاق سلام بوساطة دولية تضمن اعترافًا سياسيًا متبادلًا وإجراءات عدالة انتقالية.
كل تلك التجارب لم تتخلَ عن كرامة مقاومتها، لكنها عرفت أن النصر لا يُستكمل بالبندقية وحدها، وأن التفاوض ليس تنازلًا، بل أداة استراتيجية إذا ما أُحسن استخدامها. وهو ما ينقص الحالة الفلسطينية اليوم: ليس الشجاعة في القتال، بل البصيرة في إدارة نتائجه. فحتى أكثر العمليات دقة، وأكثر المواقف صلابة، لا تُثمر شيئًا ما لم تُترجم إلى مكاسب سياسية واضحة تحقّق مصالح الشعب وتحفظ وحدته.
إن حماس، رغم كل ما راكمته من حضور شعبي وميداني، تحتاج اليوم إلى مراجعة شاملة لنهجها في إدارة الملفات السياسية. ليس المطلوب منها التخلي عن مشروع المقاومة، بل بالعكس، أن تحمي هذا المشروع عبر تأطيره السياسي، وفتح الباب أمام شراكة وطنية حقيقية تُعيد بناء النظام السياسي الفلسطيني على أسس المشاركة والمحاسبة والتخطيط الاستراتيجي. من العبث أن تُخاض معارك كبرى لا تؤدي إلى تغيير قواعد اللعبة، ومن الخطر أن تُختزل تضحيات غزة الكبرى في بيانات صمود أو تصريحات إعلامية جوفاء.
إن الأزمة التي نعيشها اليوم ليست أزمة سلاح، بل أزمة قيادة، وأزمة مشروع، وأزمة تفاوض. وإن لم تُستثمر اللحظة الفارقة التي فرضها 7 أكتوبر لصالح إعادة بناء بيت فلسطيني تفاوضي موحد، فإننا نعيد إنتاج المأساة ذاتها بكل حلقة من التصعيد. وكما علّمتنا التجارب التاريخية، فإن حركات التحرر التي لا تملك طاولة سياسية، سرعان ما تفقد بندقيتها معناها.