شادية الغول: من يمثل من؟؟؟

د. شادية الغول – مصدر الإخبارية
في واحدة من أكثر اللحظات مأساوية في التاريخ الفلسطيني الحديث، يعيش قطاع غزة اليوم تحت وطأة حرب إبادة حقيقية، حيث تتقاطع المجازر اليومية مع الجوع، وتنهار الحياة أمام أعين سكان مدنيين تُركوا لمصيرهم. وسط هذا الدمار الكامل، لا يبدو أن الفصائل الفلسطينية المنضوية في منظمة التحرير، أو تلك التي اعتادت التحدث باسم “الشارع الوطني”، تقوم بأي دور فعلي يتناسب مع حجم هذه النكبة، أو حتى يُحدث أثرًا رمزيًا يطمئن الناس بأن هناك من لا يزال يقف معهم.
ما نشهده اليوم ليس فقط غيابًا سياسيًا، بل خيانة لأبسط قواعد الالتزام الوطني والأخلاقي. فالفصائل التي لطالما أعلنت عن نفسها بوصفها ممثلة لطموحات الشعب، لم تعد تُرى إلا في البيانات الخشبية أو عبر مواقع التواصل الاجتماعي. لم نرَ قياديًا يبحث عن الخبز أو الطحين، أو يصطف في طابور المساعدات، أو يحاول تهدئة الفلتان الأمني، أو يواجه احتكار التجار ومهربي البضائع. بل إن الغالبية الساحقة من هذه القيادات تقيم خارج غزة، في منازل آمنة ومكيفة، أو في فنادق ممولة من مؤسسات سياسية، فيما يتم تهريب أبنائهم إلى الخارج عبر تنسيقات أمنية أو دفع مبالغ طائلة، في مفارقة لا تخفى على أبناء القطاع الذين يعرفون تفاصيل بعضهم بعضًا بدقة.
هذه الفصائل استنزفت على مدار سنوات طويلة من عمر القضية الفلسطينية جزءًا كبيرًا من موازنات منظمة التحرير، تحت عناوين “النضال” و”العمل الوطني”، فتم صرف رواتب شهرية، وتأمين مقار ومكاتب، ومواكب وسيارات، وميزانيات لأنشطة حزبية واحتفالات داخلية لا تُجدي شيئًا. والمؤلم أن هذه الأموال – وهي في الأصل أموال عامة – لم تترجم إلى أي فعل أو حماية أو حتى صوت سياسي واضح في هذه الحرب. لم يعد الناس يعرفون ما هو دور هذه الفصائل: أهي للمقاومة؟ أم للتمثيل الشعبي؟ أم تحولت إلى مجرد أسماء على ورق، تتقاسم امتيازات السلطة وتدير مصالحها في ظل غياب المساءلة؟
في تجارب كثيرة حول العالم، لم تتردد الشعوب في محاسبة القوى السياسية التي تخلت عن مسؤولياتها. في الأرجنتين بعد الأزمة الاقتصادية عام 2001، خرج الشعب غاضبًا في موجة احتجاجات أطاحت بالأحزاب الحاكمة ودفعت بالرئيس إلى الاستقالة. في رومانيا عام 1989، انتهى حكم تشاوشيسكو بعد عقود من الاستبداد والخذلان الشعبي. وفي العراق، واجهت أحزاب السلطة احتجاجات قاسية منذ 2019 حين شعر الناس أن النخب السياسية فقدت صلتها بالواقع، وتحوّلت إلى أدوات للفساد والتبعية الخارجية. هذه الشعوب لم تكتفِ بالغضب، بل طالبت بإسقاط الأحزاب، وتجميد ميزانياتها، وتوجيه الأموال لصالح الناس.
في الحالة الفلسطينية، ورغم خصوصية الاحتلال، فإن بقاء هذه الفصائل بلا مساءلة، وبلا إعادة تعريف لدورها، لم يعد مقبولًا. الشعب الفلسطيني في غزة لا يحتاج إلى خطابات، بل إلى مواقف عملية، وإلى من يشاركه الجوع والخطر، لا من يكتفي بالتضامن من على بعد آلاف الكيلومترات. لم يعد مقبولًا أن تتحول الفصائل إلى كيانات مستهلكة للمال العام بلا مردود، وأن تُقسم وفق الولاء السياسي: هذا تابع للسلطة وراتبه من رام الله، وذاك تابع لحماس وامتداد لمحور المقاومة، وآخرون شهود زور تابعون لتحالفات ظرفية.
إن ما هو مطلوب اليوم لا يقل عن ثورة وعي ومراجعة شاملة. على الشعب أن يتحرك تجاه محاسبة هذه الفصائل، لا بالشتائم، بل برفض إعطائها أي شرعية أو تفويض شعبي. وعلى السلطة الفلسطينية أن تعيد النظر جذريًا في مخصصات هذه الفصائل من صندوق منظمة التحرير، وتجميد كل الرواتب والامتيازات الممنوحة لها، وتوجيه تلك الأموال بشكل عاجل نحو رعاية أسر الشهداء، والجرحى، والنازحين، والفقراء، والنساء المعيلات.
كما يجب تشكيل لجنة وطنية مستقلة لمراجعة أداء الفصائل وقياس مدى التزامها بمبادئها المعلنة، وتقديم تقرير شفاف للرأي العام. ويجب أن تُشجّع قوى جديدة، نابعة من الحراك الشعبي، على تولي زمام المبادرة، بدلًا من ترك الساحة للاحتكار السياسي الذي أثبت عجزه وفشله.
إن اللحظة الراهنة لا تحتمل المجاملة أو التسويف. إذا لم تستفق هذه الفصائل الآن، وتتحمل مسؤوليتها، فإن الشعب الفلسطيني – الذي صمد في وجه أعتى آلة حربية في العصر الحديث – لن يعجز عن محاسبتها. فكما يُحاسَب الاحتلال على جرائمه، فإن التخاذل الداخلي جريمة لا تقل خطرًا حين يُسهم في استمرار معاناة الناس بصمت ولامبالاة.