ناريمان ماجد: الهلال الاقتصادي الجديد .. من الهند إلى البحر المتوسط

تشهد منطقة الشرق الأوسط تحولًا تاريخيًا، حيث يعاد تشكيل ملامحها من خلال المعادلات الاقتصادية الجديدة والتكنولوجيا وتبدل التموضع الجيوسياسي، بدلاً من الاعتماد الكلي على الحروب والنزاعات التقليدية، فبعد أن كانت المنطقة تُعرف كمصدر للطاقة وساحة للصراعات، أصبحت الآن تتنافس على مكانتها في مستقبل الاقتصاد العالمي. لقد أظهر الانسحاب الأمريكي من أفغانستان عام 2021 إشارة واضحة لتقليص النفوذ العسكري الأمريكي، مقابل تصاعد نفوذ قوى مثل الصين وروسيا، وتمدد النفوذ الاقتصادي والتكنولوجي لقوى إقليمية كالسعودية والإمارات وتركيا
طريق التنمية: رؤية تركيا الاقتصادية
تسعى تركيا إلى تحويل إمكاناتها الجيوسياسية إلى ميزة اقتصادية من خلال مشروع “طريق التنمية” الذي يمتد من العراق إلى موانئ تركيا. وأكد الرئيس التركي رجب طيب أردوغان على الأهمية المتزايدة لممرات النقل الآمنة، لا سيما في ظل التوترات الإقليمية والغموض في مضيق هرمز والمجالات الجوية. وقد استثمرت الحكومات التركية ما يقارب 300 مليار دولار في البنية التحتية للنقل والاتصالات على مدى السنوات الـ 22 الماضية، منها 177 مليار دولار على الطرق السريعة و64 مليار دولار على السكك الحديدية. ومن المتوقع أن يتجاوز تأثير “طريق التنمية” على الإنتاج 50 مليار دولار خلال 10 سنوات، وأن يوفر 63 ألف فرصة عمل سنوياً في المتوسط، حيث يهدف هذا المشروع إلى تحويل الإمكانات الجيوسياسية إلى ميزة اقتصادية شاملة تعود بالنفع على المنطقة بأسرها
كما سلط أردوغان الضوء على “الممر الأوسط” للسكك الحديدية، الذي يربط أوروبا بآسيا عبر تركيا، متوقعًا أن يصل حجم التجارة فيه إلى 75 مليار دولار. يمتد هذا الممر من الصين إلى أوروبا ويربط 21 دولة بشبكة سكك حديدية، موفرًا إمكانية نقل أسرع بمرتين مقارنة بالطريق البحري وأكثر اقتصادية بأربع مرات تقريباً من الطريق الجوي. ويشكل هذا المشروع إحياءً لطريق الحرير التاريخي، حيث يشكل خط سكة حديد باكو-تبليسي-قارص عموده الفقري. وتسعى تركيا إلى مواءمة الممر الأوسط مع مبادرة الحزام والطريق الصينية. وقد شهدت تركيا أيضًا زيادة كبيرة في عدد المطارات من 26 إلى 58، وارتفع عدد الوجهات التي تطير إليها الخطوط الجوية التركية من 60 إلى 353 موقعًا حول العالم
الممر الاقتصادي بين الهند والشرق الأوسط وأوروبا (IMEC): بديل غربي لمبادرة الحزام والطريق
برز الممر الاقتصادي بين الهند والشرق الأوسط وأوروبا، كمبادرة منافسة أطلقتها الهند والولايات المتحدة والمملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتحدة والاتحاد الأوروبي وإيطاليا وفرنسا وألمانيا في سبتمبر 2023
يهدف هذا الممر إلى تعزيز التنمية الاقتصادية من خلال ربط آسيا والخليج العربي وأوروبا بشبكة من السكك الحديدية والسفن وطرق النقل البري. يبدأ المسار من مومباي بالهند بحراً إلى ميناء دبي بالإمارات، ومن هناك بالسكك الحديدية عبر السعودية والأردن، وصولاً إلى ميناء حيفا الإسرائيلي، ثم بحراً إلى ميناء بيرايوس اليوناني، ومنه براً إلى أوروبا. ومن المتوقع أن يختصر هذا المسار طريق التجارة بين الهند وأوروبا بنسبة 40 بالمائة
تعتبر الولايات المتحدة هذا الممر “صفقة كبيرة” واستثمارا يغير قواعد اللعبة”، وتسعى من خلاله إلى تقديم بديل لنفوذ الصين المتزايد في الشرق الأوسط، وتعزيز العلاقات بين الهند والغرب، وتشجيع تطبيع العلاقات بين السعودية وإسرائيل
يواجه مشروع الممر الاقتصادي الهندي–الشرق أوسطي–الأوروبي
تحديات كبيرة تعرقل تنفيذه وتحجّم قدرته على منافسة المبادرات الصينية. فعلى طول الطريق المقترح، تبرز ملامح النفوذ الصيني القائم مسبقاً، لا سيما من خلال امتلاك شركة “كوسكو” الصينية الحصة الأكبر في ميناء بيرايوس اليوناني. كما تشكّل العلاقات المالية العميقة بين الصين ودول الخليج عاملاً إضافيًا يقيّد استقلالية المشروع، إذ تملك بكين حصة بنسبة 20% في محطة “بوابة البحر الأحمر”، أكبر موانئ السعودية. وقد تلقّى المشروع ضربة قاسية بعد اندلاع العدوان الإسرائيلي على غزة في أكتوبر 2023، والذي أوقف عمليًا مسار التطبيع بين تل أبيب والرياض، وهو ما كان يُعتبر أحد أعمدة المسار السياسي للممر. ويُضاف إلى ذلك مخاوف أمنية ناجمة عن قرب ميناء حيفا من الحدود اللبنانية المتوترة، ما يجعل البنية التحتية عرضة لهجمات محتملة، ويُثني المستثمرين. علاوة على ذلك، يُثير الخبراء تساؤلات حول الجوانب اللوجستية للمشروع، بما في ذلك الحاجة إلى عمليات شحن وتفريغ متعددة، ما قد يُفقد الممر ميزة الكلفة مقارنةً بمسار قناة السويس التقليدي
مبادرة الحزام والطريق الصينية: استراتيجية عالمية
أطلقت الصين مبادرة الحزام والطريق، المعروفة أيضاً بطريق الحرير الجديد، في عام 2013 بهدف تعزيز الترابط الاقتصادي والتعاون العالمي من خلال شبكة واسعة من مشاريع البنية التحتية والاتفاقيات التجارية. تهدف المبادرة إلى تعزيز دور الصين العالمي في السياسات الدولية وزيادة تجارتها مع آسيا الوسطى وأوروبا والشرق الأوسط وأفريقيا. تشمل المبادرة الحزام الاقتصادي لطريق الحرير (جزء بري) وطريق الحرير البحري للقرن الحادي والعشرين (جزء بحري)، وتربط الصين بالعالم عبر أكثر من 2600 مشروع في أكثر من 100 دولة.
ترى الصين أن هذه المبادرة تهدف إلى تحقيق التنمية المشتركة وتعزيز النفوذ الاقتصادي والجيوسياسي عالمياً. وتعتبر إيران شريكًا حيويًا للصين في هذه المبادرة نظراً لموقعها الجغرافي ومواردها الهائلة من الطاقة. ترى إيران في مبادرة الحزام والطريق فرصة لكسر عزلتها الاقتصادية المفروضة عليها بسبب العقوبات الدولية، وتعزيز تجارتها واستثماراتها مع الصين
تعتبر الولايات المتحدة مبادرة الحزام والطريق تهديدًا لهيمنتها، وتصفها بأنها محاولة صينية لإعادة تشكيل النظام العالمي لصالح بكين. وقد سعت الإدارة الأمريكية، خاصة في عهد ترامب، لتقويض علاقات إيران المتعمقة مع الصين من خلال فرض عقوبات شديدة. في المقابل، طوّرت الصين طرقًا لاستيراد النفط الإيراني وتلقي المدفوعات عبر بنوك صينية أصغر، متجنبة الشبكات المالية وخدمات الشحن الغربية، مما يضعف فعالية العقوبات الأمريكية
موقف إيران من الممرات الاقتصادية
توصلت دراسات إلى أن الممر الاقتصادي بين الهند والشرق الأوسط وأوروبا
يشكل تهديداً استراتيجياً أكبر لإيران، نظراً لاستبعادها التام من حركة التجارة واعتماده على شركاء إقليميين تعتبرهم إيران خصوماً سياسيين، لا سيما إسرائيل. في المقابل، يُنظر إلى مشروع “طريق التنمية” العراقي بقلق مختلف، حيث يرتبط بموقع العراق الجغرافي والاقتصادي الذي تعتبره طهران مجالاً حيوياً تقليدياً لهاـ ومع ذلك يمكن لإيران أن تنخرط فيه أو تستفيد منه عبر الشراكة مع العراق وتركيا
التنافس الجيوسياسي وتأثير الصراعات
تعتبر المضائق والممرات البحرية في الشرق الأوسط، مثل مضيق هرمز وباب المندب وقناة السويس ومضيق البوسفور، شرايين حيوية للاقتصاد العالمي، حيث تمر عبرها النسبة الأكبر من الطاقة والسلع المختلفة. هذه الممرات ليست مجرد نقاط عبور، بل هي مفاصل استراتيجية للسياسات المتعلقة بالدول المطلة عليها، ومساحات للتنافس والاهتمام الدولي، ونقاط تقاطع للعديد من التحديات الجيوسياسية والمخاوف الأمنية.
لقد أثرت التوترات الإقليمية والصراعات العسكرية بشكل كبير على الملاحة البحرية، فمثلاً، أدت هجمات جماعة الحوثي في اليمن على الملاحة في البحر الأحمر إلى تراجع إيرادات قناة السويس بنسبة 17% في النصف الأول من عام 2024، واضطراب سلاسل الإمداد العالمية. كما تستخدم إيران مضيق هرمز كوسيلة ضغط في صراعها مع إسرائيل والولايات المتحدة الأمريكية، مهددة بإغلاقه. وتنعكس هذه التوترات العالمية والطموحات الجيوسياسية على الممرات، مما يزيد من حدة التنافس عليها.
يعكس وجود قواعد عسكرية لأهم القوى العالمية في دول مثل جيبوتي، التي تستضيف تسع قواعد عسكرية أجنبية، صورة أكبر للصراع الجيوسياسي على مستوى المنطقة وأهمية هذه الممرات في استقرار الشرق الأوسط. كما تجري روسيا والصين وإيران مناورات بحرية مشتركة في خليج عمان، في إطار مساعيها لتعزيز نفوذها وتأمين مصالحها في هذه الممرات الحيوية.
الخاتمة
إن الشرق الأوسط اليوم يقف أمام مشهد جديد تُعيد فيه المشاريع الاقتصادية العملاقة والممرات التجارية تعريف القوة والنفوذ، متحولة من الجغرافيا التي تحكمها الصراعات العسكرية إلى جغرافيا ترسمها المصالح الاقتصادية والتنافس على سلاسل التوريد والطاقة
وعلى الرغم من الفرص الهائلة التي تقدمها هذه المبادرات لتحقيق النمو والازدهار، فإن استمرار التحديات الجيوسياسية والصراعات الإقليمية يهدد استقرارها ويعقد مسارها المستقبلي
حيث ستقاس القوة بحجم البيانات المتداولة، وقدرة الموانئ، وعدد الشركات الناشئة، ومؤشرات الابتكار، وحجم رؤوس الأموال العابرة للحدود
بينما من يظل أسير لغة الماضي سيصبح متفرجا فالدول التي تفهم هذه اللغة الجديدة وتستثمر بذكاء فيها ستجد لها مكاناً في هذا المستقبل، وقد يطرد من الجغرافيا وحتى التاريخ.
شبكة رؤية