شادية الغول: غزة تحاكم نوبل

د. شادية الغول – مصدر الإخبارية
في لحظة فارقة من التاريخ السياسي المعاصر، يطفو على السطح مشهد متناقض بامتياز يعكس تآكل المعايير الأخلاقية في النظام الدولي، إذ يسعى الرئيس الأمريكي الحالي دونالد ترامب، بدعم سياسي مباشر من رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، إلى ترشيح مشترك لنيل جائزة نوبل للسلام، في الوقت ذاته الذي تواجه فيه إسرائيل قرارًا صادرًا عن المحكمة الجنائية الدولية يتهمها بارتكاب إبادة جماعية ممنهجة ضد سكان قطاع غزة. هذا السعي، في توقيته ودلالاته، لا يجسد فقط ازدواجية صارخة في المعايير، بل يعري حقيقة استخدام الرموز الإنسانية، كجائزة نوبل، لتلميع مشاريع سياسية تقوم على الدم والدمار.
في مايو 2024، أعلن المدّعي العام للمحكمة الجنائية الدولية بشكل واضح أن هناك “أسسًا معقولة للاعتقاد” بأن نتنياهو ووزير دفاعه يوآف غالانت ارتكبا جرائم إبادة جماعية وجرائم ضد الإنسانية وجرائم حرب، من خلال استخدام التجويع كسلاح، والاستهداف المنهجي للبنية التحتية المدنية، وعرقلة المساعدات الإنسانية. ورغم أن الولايات المتحدة وإسرائيل لا تعترفان باختصاص المحكمة، فإن ثقل القرار القانوني والسياسي لا يمكن تجاهله، خصوصًا مع تسارع وتيرة الجرائم ووضوح النية الجنائية في تنفيذها.
الرد الأمريكي لم يتوقف عند التنصل من القرار، بل مضى أبعد من ذلك بفرض عقوبات مباشرة على المحكمة الجنائية الدولية وعلى المقررة الخاصة للأمم المتحدة، فرانشيسكا ألبانيز، التي لم تفعل أكثر من توصيف ما يجري في غزة بأنه “إبادة جماعية”. هذه العقوبات لم تكن دفاعًا عن السيادة أو العدالة، بل جاءت لحماية الجناة، وتكميم أفواه من يجرؤون على قول الحقيقة القانونية. المفارقة هنا أن من يسعى لنوبل للسلام، هو ذاته من يعاقب القضاء الدولي وممثلي الضمير الأممي.
على الأرض، تواصل إسرائيل حربها المفتوحة على الحياة في غزة، حيث تشير إحصاءات وزارة الصحة الفلسطينية إلى مقتل أكثر من 58,400 إنسان، بينهم نحو 17,000 طفل وأكثر من 6,000 امرأة، إلى جانب أكثر من 10,000 مفقود، معظمهم تحت الأنقاض. وقد تم توثيق أكثر من 512 هجومًا على مرافق صحية، أسفرت عن تدمير 24 مستشفى بالكامل، ومقتل 759 من الطواقم الطبية، في انتهاك مباشر لأبسط قواعد القانون الدولي الإنساني. أما المجاعة، فليست نتيجة حتمية للحرب، بل جزء من استراتيجيتها؛ إذ ارتفعت معدلات سوء التغذية الحاد بين الأطفال دون الخامسة إلى 10.2% في يونيو 2024، في حين يواجه أكثر من 500,000 شخص مستويات حادة من الجوع، ويعيش 96% من السكان تحت خط العجز الغذائي الكامل. المياه شبه معدومة، وتوزيعها يتم تحت النار، كما حدث في مخيم النصيرات حين قُتل ستة أطفال أثناء انتظارهم دورهم في طابور الماء.
في مثل هذا الواقع، تتحول جائزة نوبل من رمزٍ للسلام إلى أداة رمزية تُستخدم للتغطية على الجرائم وتبييض صورة مرتكبيها، في استعادة لسيناريوهات مأساوية عرفها التاريخ الحديث. ففي تسعينيات القرن الماضي، وقعت مجزرة سريبرينيتشا التي اعتُبرت لاحقًا إبادة جماعية في البوسنة والهرسك، رغم محاولات زعيم صرب البوسنة، رادوفان كاراديتش، تقديم نفسه كوسيط سلام. ورغم أن العدالة تأخرت، إلا أن محكمة لاهاي حاسبته في النهاية وحكمت عليه بالسجن المؤبد. كذلك في رواندا عام 1994، حين أُبيد أكثر من 800 ألف إنسان خلال 100 يوم فقط وسط صمت دولي مخزٍ، قبل أن تستيقظ المؤسسات القضائية وتبدأ في محاسبة المتورطين.
اليوم، يواجه الشعب الفلسطيني اختبارًا شبيهًا، لكنه أكثر تعقيدًا، في ظل تواطؤ مباشر من القوة العظمى التي يفترض أن تحمي النظام الدولي لا أن تعرقله. لذا، فإن مسؤولية السلطة الوطنية الفلسطينية ومنظمة التحرير، باعتبارهما الممثل الشرعي للشعب الفلسطيني، تتجاوز الإدانة الأخلاقية إلى واجب التحرك الممنهج قانونيًا ودبلوماسيًا. يجب تفعيل كل أدوات المساءلة أمام المحكمة الجنائية الدولية، من خلال توثيق النية المبيتة للإبادة، وتقديم الشهادات المهنية من الطواقم الطبية، الحقوقية، والضحايا، بالتعاون مع فرق قانونية دولية ذات كفاءة.
كذلك، فإن المعركة يجب أن تمتد إلى الفضاء السياسي الدولي، عبر تفعيل آليات الجمعية العامة للأمم المتحدة، بما في ذلك آلية “الاتحاد من أجل السلام”، وقيادة تحالف دولي واسع من دول الجنوب للضغط على إسرائيل دبلوماسيًا واقتصاديًا، بما يشمل السعي إلى مذكرات توقيف دولية، ومقاطعة الدول والمؤسسات التي تحاول تبييض سجل الجرائم الإسرائيلي. وفي ذات الوقت، يجب رفض أي ترشيح لنتنياهو أو ترامب لنوبل من خلال اعتراض رسمي موثق قانونيًا وأخلاقيًا، يستند إلى القرارات القضائية القائمة، لا الخطابات السياسية.
الخطاب الفلسطيني يجب أن يُعاد تشكيله ليعكس الحقيقة القانونية والإنسانية، وليس أن يستمر في الانجرار إلى لغات الغموض السياسي. ما يجري في فلسطين ليس “نزاعًا” بل احتلال استيطاني إحلالي مدعوم بآلة إبادة، يجب أن يُسمى كذلك في كل محفل. أما داخليًا، فإن إنهاء الانقسام هو الخطوة الأولى لحماية السردية الوطنية، وتوحيد الجهود التوثيقية والإعلامية والقانونية، وحماية نشطاء حقوق الإنسان، وتأمين قنوات آمنة لعرض الأدلة دوليًا.
إن مشهد من يرتكب الجريمة ثم يُكافأ على “السلام”، هو فضيحة أخلاقية تمس جوهر النظام الدولي. وما لم تتم مساءلة من يقود الإبادة، فإن القيم التي بُنيت عليها العدالة الإنسانية ستتحول إلى غطاء سياسي للجريمة. وغزة، بكل دمائها وركامها، تقف اليوم كمعيار أخلاقي للعالم: إما عدالة لا تخاف، أو نظام يكافئ المجرم ويعاقب القاضي.