مصطفى إبراهيم: صفقة وقف إطلاق النار .. بين الحسم والمعارضة

مصطفى إبراهيم – مصدر الإخبارية
تشهد مفاوضات وقف إطلاق النار وتبادل الأسرى بين دولة الاحتلال وحركة حماس لحظة بالغة الحساسية، في ظل تزايد الانقسامات السياسية داخل إسرائيل، واتساع الشرخ بين الاعتبارات الأمنية والاصطفافات الأيديولوجية. وبينما تسعى أطراف إقليمية ودولية، على رأسها قطر ومصر والولايات المتحدة، إلى دفع الصفقة قُدمًا، تبدو حكومة بنيامين نتنياهو غارقة في أزمات متعددة تهدد استمراريتها، وعلى رأسها المعارضة الشرسة من داخل الائتلاف اليميني المتطرف، وأزمة تشريع قانون تجنيد الحريديم، الذي قد يفجر الائتلاف الحكومي من الداخل.
يتزعم كل من إيتمار بن غفير وبتسلئيل سموتريتش جناحًا متشددًا يعارض أي اتفاق مع حركة حماس، معتبرين أن التفاهم مع الحركة هو بمثابة استسلام، وإضاعة لـ”فرصة تاريخية” للقضاء على وجودها، وفرض وقائع جديدة تشمل تهجير السكان الفلسطينيين من غزة وإقامة مستوطنات في القطاع.
تتحرك معارضة بن غفير وسموتريتش من منطلقات أيديولوجية عقائدية، وليست مجرد تكتيكات سياسية، ما يزيد من صعوبة إقناعهم بالصفقة حتى لو كانت تخدم أهداف الائتلاف وخططه في القطاع والإقليم واستعادة الأسرى المختطفين أو التهدئة.
في المقابل، يبدو بنيامين نتنياهو محاصرًا. من جهة، يتعرض لضغط من عائلات الرهائن والرأي العام الإسرائيلي، فضلًا عن شركاء دوليين يرغبون في وقف التصعيد. ومن جهة أخرى، يخشى من خسارة ائتلافه الحكومي الهش إذا مضى في الصفقة دون غطاء من اليمين الديني والقومي.
يتردد نتنياهو في الحسم، ويبدو أن موازنته بين هذه الضغوط أصبحت شبه مستحيلة، خصوصًا في ظل التطورات المتسارعة على جبهة غزة، والتعقيدات الإضافية في الداخل.
رغم وجود تأييد إسرائيلي كبير على ضرورة الإفراج عن الرهائن المحتجزين لدى حماس، فإن القضية تحوّلت إلى ورقة صراع سياسي داخل الحكومة. في حين عرض زعيم المعارضة يائير لابيد ما سماه “شبكة أمان برلمانية” لدعم الصفقة، مشيرًا إلى أن الكنيست يستطيع تمريرها رغم معارضة المتطرفين. لكن نتنياهو يرفض الاعتماد على دعم المعارضة خشية تفكك تحالفه، مما يعمّق مأزقه السياسي.
وبينما تحذر الأجهزة الأمنية الإسرائيلية من أن فشل المفاوضات قد يدفع الجيش إلى تنفيذ عملية عسكرية كبرى في مدينة غزة، تشمل إخلاء مناطق سكنية وتطويق المخيمات في المنطقة الوسطى (النصيرات، البريج، المغازي، دير البلح)، فإن العملية، وإن كانت قد تُضعف حماس، إلا أنها ستفاقم الكارثة الإنسانية.
في المقابل، تدرك حماس عمق الانقسام الإسرائيلي، وتراهن على أن الوقت قد يعمل لصالحها، سواء في تحسين شروط التفاوض أو في تعميق المأزق الإسرائيلي الداخلي.
بالتوازي مع الانقسام حول غزة، تواجه حكومة نتنياهو أزمة حادة بشأن قانون إعفاء الحريديم من الخدمة العسكرية. وبحسب صحيفة “معاريف”، فإن نتنياهو اتخذ قرارًا استراتيجيًا: إما تمرير القانون خلال الأسبوعين المتبقيين من الدورة البرلمانية، أو التوجه إلى انتخابات مبكرة.
الأحزاب الحريدية، التي تُعد شريكًا رئيسيًا في الحكومة، تعتبر تمرير القانون “خطًا أحمر” وهددت بتفجير الائتلاف في حال فشل تمريره. بينما داخل الليكود ذاته، هناك أصوات تعارض التنازل للحريديم، ما يعمق الانقسام داخل الحزب الحاكم.
الفشل في تمرير القانون قد يؤدي إلى حل الكنيست في نوفمبر أو ديسمبر المقبل، مع إمكانية إجراء انتخابات في فبراير أو مارس 2026، وهي مواعيد تُراعي اعتبارات دينية تخص جمهور الحريديم.
تُظهر هذه التطورات أن إسرائيل لا تواجه أزمة رهائن فقط، بل أزمة بنيوية في الحكم والائتلاف والهوية السياسية لدولة الاحتلال. اليمين المتطرف أصبح قوة تعطيل أكثر من كونه شريكًا في الحكم، والجيش وأجهزة الأمن تميل إلى التهدئة، فيما تغيب القيادة السياسية القادرة على اتخاذ قرارات حاسمة في لحظات مصيرية.
دولة الاحتلال مستمرة في حرب الإبادة ولم تتوقف، والأسابيع المقبلة ستكون حاسمة. إما أن يتجه نتنياهو نحو تسوية شاملة تشمل صفقة الأسرى وقانون التجنيد، أو أن تتدحرج إسرائيل نحو انتخابات مبكرة وسط استقطاب حاد وتهديد أمني متواصل. في كل الأحوال، تظل غزة في قلب الإبادة الجماعية، بينما تقف إسرائيل أمام لحظة تقرير مصير داخلي لا تقل خطورة عن المواجهة مع حماس.
وفي ظل ذلك، لا يزال موقف الرئيس الأميركي دونالد ترامب غامضًا، أو ربما متماهيًا مع موقف نتنياهو الداعي إلى استمرار الحرب والضغط على حماس. ثمة مؤشرات على أن ترامب قد منح نتنياهو ضوءًا أخضر غير معلن لمواصلة العمليات العسكرية، مستفيدًا من غياب ضغوط دولية جدّية، سواء من العواصم الغربية أو من العالم العربي، لفرض حل تفاوضي عاجل أو وقف الإبادة المستمرة في القطاع.
تدلّ التقارير الاستخباراتية والتسريبات الإسرائيلية على أن حكومة الاحتلال وضعت خططًا واضحة لاستكمال السيطرة على ما تبقى من قطاع غزة، من خلال الدفع باتجاه التهجير القسري لما تبقى من السكان نحو مدينة رفح، باستخدام القوة العسكرية. ووفقًا لتلك الخطط، تنوي إسرائيل إقامة معسكرات احتجاز ضخمة من الخيام، تضم مئات الآلاف من الفلسطينيين، تحت مسمى “مدينة إنسانية”؛ وهو اسم لا يخفي طبيعة الجريمة المتمثلة في التطهير العرقي الجماعي.
إنها لحظة مفصلية في تاريخ غزة، ليس فقط من حيث الواقع العسكري، بل في ما يتعلق بمستقبل الوجود الفلسطيني نفسه في القطاع. يتوقف الكثير على قدرة الفلسطينيين، سياسيًا ومجتمعيًا، على مواجهة سيناريو التهجير الجماعي، واستغلال تعقيدات المشهد الإسرائيلي لا لتمديد أمد المأساة، بل لتحقيق اختراق تفاوضي حقيقي يوقف الحرب ويحمي الفلسطينيين.