سعيد أبو رحمة: تحولات في الخطاب الغزي

 د. سعيد محمد أبو رحمة – مصدر الإخبارية

لم تكن غزة بعد السابع من أكتوبر كما كانت قبله. فمع اشتداد العدوان وتراكم الأزمات، لم تتغير فقط ملامح الحياة اليومية، بل تغيّر أيضًا الخطاب العام.

إذ لم يعد خطاب المقاومة يحتكر المشهد، بل تشكلت خطابات جديدة فرضتها المعاناة، ومثّلتها أصوات الناس في الشارع، في البيوت، وفي ساحات الانتظار على أبواب المساعدات.

جسد الأزمات لغةً جديدة: في ظل الجوع والتشرد وانهيار البنية التحتية والخدمات، بدأت تظهر خطابات بديلة تعكس واقعًا أكثر قربًا من الناس. خطاب المرأة بات يعكس فقدان الخصوصية والكرامة في أماكن الإيواء. خطاب الجوع تطوّر إلى “خطاب الطحين”، شعار أصبح رمزًا لمطلب الكفاف، لا للرفاه.

أما خطاب انهيار القطاع الصحي والتعليمي، فأصبح جزءًا من سردية يومية يعبّر فيها الناس عن غضبهم ويأسهم وانكسارهم. لقد ظهرت مصطلحات مثل “خطاب الحرامية” و”خطاب الطحين” و”خطاب الموت البطيء”، كترجمة شعبية لحالة فقدان الثقة بالمنظومة الحاكمة، أو من يزعم تمثيلهم.

إنها خطابات لا تصدر عن نخب، بل من أعماق الناس، الذين أصبحوا لا يرون خطابات إلا إذا تكلمت لغتهم، وتحدثت عن أولادهم الجوعى، وكرامتهم المهدورة. إن تحوّل الخطاب الغزي من شعارات الصمود إلى صرخات البقاء، ليس انسلاخًا عن الوعي الوطني، بل بحثًا عن معنى أكثر صدقًا للكرامة والحرية. فالناس لم ترفض المقاومة، لكنها تطالب بخطاب يشبههم، يُنصت لهم لا يتحدث فوق رؤوسهم. الخطاب اليوم سنامته رغيف، ودواء، وخصوصية، وعدالة… ومن لا يفهم هذه المعادلة يعيش في كهف عاجي.

تلك واحدة من أبرز الظواهر أن الخطابات الجديدة كشفت الفجوة بين الطبقات داخل المجتمع الغزي نفسه. من خطاب “الصامدين” إلى خطاب “المهجرين”، من خطاب “الناطقين باسم غزة” إلى خطاب “من لا يملك منبراً إلا في طابور المساعدات”. هذه الفجوة تترجم إلى غضب شعبي لم يعد يخجل من التعبير عنه.

إن الطحين لم يعد مجرد مادة غذائية، بل رمز للكرامة المهدورة. الصراع على كيس دقيق أصبح عنواناً لخطاب كامل، يتحدث عن الجوع، وعن توزيع غير عادل للمساعدات، وعن غياب إدارة الأزمات. الخطاب هنا لم يولد في الإعلام أو المنصات، بل في مشهد الاشتباك على بوابة مركز توزيع، أو في دمعة أم عادت بخفي حنين.

ففي ظل تراجع الإعلام الرسمي أو تغييبه للخطابات المهمشة، لجأ الناس إلى وسائل التواصل الاجتماعي لإنتاج روايتهم. باتت فيديوهات الجوع، وأصوات الناس الغاضبة، جزءًا من المشهد الخطابي البديل، أو على الأقل المكمل.

إن تحولات الخطاب الغزي تعكس صراعاً أعمق: بين الرواية الكبرى والرواية اليومية، بين ما يُقال في المحافل وما يُسمع في الشارع. فمن أراد أن يبقى ممثلاً حقيقياً للناس، فعله أن ينصت لهذه الخطابات الجديدة، لأنها تعبّر عن الشعب، لا عن الانقسام. فالمعركة اليوم ليست فقط مع الاحتلال، بل مع معنى العيش بكرامة وسط الركام.