شادية الغول: غزة في مواجهة الإبادة .. “الحاجة إلى لجان لحماية المساعدات”

في ظل الحرب المستمرة على قطاع غزة منذ أكتوبر 2023، يعيش الفلسطينيون واحدة من أعنف الأزمات الإنسانية في تاريخهم المعاصر. العدوان الإسرائيلي خلّف دمارًا هائلًا في البنية التحتية، وشرّد أكثر من مليون فلسطيني، وقطع سبل الوصول إلى الغذاء، الماء، والكهرباء، الأمر الذي دفع الأمم المتحدة ومجموعة منظمات الإغاثة لإطلاق برامج استجابة عاجلة، تُرسل من خلالها المساعدات الغذائية عبر المعابر القليلة المتبقية.
لكن وسط هذه الحالة، ومع غياب السيطرة الأمنية وانهيار المنظومة الإدارية بفعل القصف، بدأت تظهر ظاهرة مقلقة تهدد عدالة توزيع المساعدات: سرقة المساعدات الإنسانية، واحتكارها من قبل مجموعات محدودة، أو استغلالها للتربح الشخصي، أو مصادرتها من قِبل أفراد لا يحتكمون لأي سلطة قانونية. هذه الظاهرة تُفاقم المعاناة الإنسانية وتُعمّق الفجوة بين المحتاجين والموارد المتاحة، وتُشكل طعنة في صميم فكرة التضامن التي لطالما كانت حجر أساس في المجتمع الفلسطيني.
في الأزمات الكبرى، غالبًا ما تكون الغريزة الأولى للناس هي البحث عن النجاة. ومع تآكل النظام وانعدام الأمان، يندفع البعض إلى السطو على شاحنات الإغاثة، أو اقتحام المخازن، أو حتى فرض “إتاوات” على عمليات التوزيع في بعض المناطق. هذه الممارسات، وإن كانت مفهومة في سياق الغضب والجوع، فإنها تُسهم بشكل مباشر في خلق طبقية داخل المخيمات، وتُعطي الأفضلية لأصحاب القوة أو الارتباطات الفئوية، على حساب الأُسر الأشد فقرًا أو تلك التي لا تملك “واسطة”.
وبات واضحًا أن استمرار هذا الوضع يُقوّض فعالية الجهود الإنسانية الدولية، ويُضعف ثقة السكان في الجهات الموزعة، ويمنح الذريعة لبعض الأصوات الدولية التي تُشكك في قدرة الفلسطينيين على تنظيم أنفسهم تحت القصف.
أمام هذا المشهد، لم يعد من المجدي انتظار حلول من أعلى، بل باتت الحاجة ملحة إلى مبادرات مجتمعية نابعة من الناس أنفسهم، تحاكي تقاليد الحماية الذاتية التي طالما عرفها الفلسطينيون في فترات الاحتلال والحصار.
إن تشكيل لجان شعبية لحماية المساعدات الإنسانية ليس فقط مقترحًا تنظيميًا، بل هو واجب وطني وأخلاقي. فهذه اللجان، حين تُبنى على أساس المشاركة المجتمعية الشفافة، يمكن أن تلعب دورًا محوريًا في ضمان عدالة التوزيع، ومنع التعدي، ومرافقة المساعدات من لحظة دخولها حتى وصولها للمحتاج الحقيقي.
تجربة اللجان الشعبية ليست جديدة على الفلسطينيين. فقد عُرفت في الانتفاضة الأولى كلجان الحماية والحراسة، كما ظهرت في فترة الحصار على قطاع غزة في السنوات الماضية لتنظيم المخابز والمستشفيات والطرقات.
كما شهدت دول عربية عدة في فترات الانهيار المؤسسي مبادرات مشابهة. ففي لبنان أثناء الحرب الأهلية، تشكّلت لجان أحياء لحماية المدنيين وتنظيم توزيع المؤن. وفي السودان، خلال أزمة دارفور، ظهرت مبادرات أهلية لتأمين وصول الإغاثة إلى معسكرات النزوح.
وتعكس هذه التجارب قيمة أصيلة في الثقافة العربية والفلسطينية، تقوم على النخوة، الحماية الجماعية، والعدل في توزيع الموارد وقت الشدة.
آليات مقترحة لتشكيل اللجان الشعبية لحماية المساعدات
- لكي تكون هذه اللجان فاعلة ومؤثرة في حماية المساعدات وضمان وصولها بعدالة وكرامة إلى مستحقيها، لا بد من اعتماد آليات عملية قائمة على الثقة المجتمعية والتكامل المؤسسي، تشمل:
- تشكيل اللجان من وجوه مجتمعية موثوقة مثل المعلمين، الأطباء، الشخصيات الدينية، والنساء الناشطات، على أن يُراعى التوازن الجغرافي والتمثيل العادل للأحياء والمراكز الإيوائية.
- إشراك الشباب المتطوعين، وخاصة المنخرطين سابقًا في مبادرات الإغاثة أو العمل المجتمعي، لضمان الحيوية وسرعة الانتشار والاستجابة.
- تشكيل “مجلس العائلات” في كل منطقة، بحيث يضم ممثلين عن العائلات الكبرى والوجهاء المحليين، ويُناط به دور رقابي وتوجيهي، بما يُعزز القبول المجتمعي ويحد من النزاعات.
- التنسيق المنهجي مع المؤسسات المحلية والمنظمات الدولية، من خلال تبادل المعلومات حول كميات المساعدات، آليات التوزيع، وقوائم المستفيدين، بما يُعزز الشفافية والثقة ويمنع التكرار أو التلاعب.
- توثيق علني وشفاف لكل عمليات التوزيع، سواء عبر التصوير أو السجلات المكتوبة، ونشر ملخصات دورية للرأي العام لتثبيت مبادئ النزاهة والرقابة الشعبية.
- إصدار بطاقات اعتماد مؤقتة لأعضاء اللجان، من جهات محلية موثوقة، لتسهيل تحركاتهم وضمان عدم التعرض لهم من قِبل أي أطراف، وتحديد مهامهم بشكل واضح ومؤقت.
الشعب الفلسطيني الذي أنشأ المنظومات التعليمية والصحية في ظل الاحتلال، والذي صمد أمام الحصار والعدوان، قادر على تنظيم ذاته وتوفير الحماية لنفسه بطرق مدروسة وفاعلة. غير أن هذا يتطلب إرادة جماعية ورفضًا قاطعًا لثقافة الاستغلال والنهب.
العدوان لا يُبرر الفوضى، والجوع لا يُشرعن السرقة. المطلوب اليوم هو إعادة الثقة بالنفس المجتمعية، وتشكيل أدوات حماية محلية تنسجم مع القيم الفلسطينية الأصيلة القائمة على العدالة والتكافل.
إن تشكيل اللجان الشعبية ليس بديلاً عن الدولة، لكنه سدّ مؤقت في وجه الانهيار، وأداة لحماية الكرامة في زمن يُراد فيه تجريد الناس من أبسط مقومات البقاء.