أحمد عبد الرحمن.. هندسة الجوع في قطاع غزة.. من المسؤول؟

خلال التسعة عشر شهراً الماضية من عمر الحرب الإسرائيلية المجنونة على قطاع غزة، استخدمت “دولة” الاحتلال الفاشية كلّ ما في جعبتها من أسلحة منها الجوع، لإلحاق هزيمة مُنكرة بالمقاومة الفلسطينية وبشعبها الصامد والبطل، ولم تألُ هذه “الدولة” المارقة التي تتمتّع بحماية وحصانة من كبرى القوى العالمية وعلى رأسها الولايات المتحدة الأميركية، وباقي حلف الشر في العالم، أي جهد يُذكر للتضييق على هذا الشعب، والضغط عليه بشتّى السبل والوسائل، وممارسة كلّ أنواع القتل والإجرام بحقّه في مخالفة واضحة للقوانين الدولية، وفي تجاوز فاضح لكلّ الأعراف والمواثيق التي تدعو إلى احترام حقوق الإنسان، وحماية المدنيين في أوقات الحروب والنزاعات المسلّحة.
إلّا أنّ ما يحدث خلال الشهرين الأخيرين من عدوان قد فاق كلّ التصوّرات، وخرج عن حدود المألوف، بل يمكن وصفه بأنه تعدّى مرحلة ارتكاب جرائم الحرب بحقّ المدنيين العزّل، إلى مستوى آخر من أشكال الإبادة الجماعية، تُستخدم فيها إلى جانب القوة العسكرية المفرطة، التي تُجيّر كلّ ما توصّلت إليه التكنولوجيا العسكرية الحديثة من إمكانيات وقدرات، أدوات أخرى ربما تبدو بالنسبة للبعض بأنها أقلّ ضرراً، وأخفّ وطأة، إلا أنها في حقيقة الأمر تتجاوز من حيث القدرة على التأثير طويل المدى نظيراتها من وسائل القتل الأخرى حتى العسكرية منها.
في هذه المرحلة لجأ الاحتلال إلى استخدام سلاح التجويع كورقة ضغط أساسية في حربه ضدّ غزة، وهو بذلك يستهدف كلّ شرائح المجتمع الفلسطيني من دون استثناء، ويحاول من خلال ذلك إخضاع هذا الشعب، وكسر إرادته، بل ودفعه لممارسة ضغط عكسي على المقاومة في غزة لإعلان استسلامها، وقبولها بالشروط المجحفة التي يحاول الاحتلال فرضها عليها، وإلزامها بها.
في هذه المرحلة التي نراها أشدّ مراحل العدوان ضراوة، وأكثرها فتكاً بحياة مئات الآلاف من المواطنين الفلسطينيين في قطاع غزة المنكوب، يكاد هذا السلاح المحرّم دولياً، والممنوع وفق القوانين الإنسانية، أن يفتك بأجساد المواطنين ولا سيّما من فئة الأطفال والنساء والشيوخ، ويكاد تأثيره يتجاوز مرحلة الجوع الشديد إلى الموت الأكيد، إلى جانب ما يتركه من تأثيرات طويلة المدى بحسب المؤسسات الصحية على شريحة المواليد الجدد بشكل خاص، والذين يُتوقّع أن يعاني الكثيرون منهم من أمراض مزمنة في المستقبل نتيجة سوء التغذية سواء أثناء مرحلة الحمل، أو بعد الولادة.
ومع أنّ العدو الصهيوني يتحمّل المسؤولية الرئيسية عمّا يجري من عمليات تجويع ممنهجة، إلّا أنّ هناك مسؤوليات أخرى تقع على عاتق جهات متعدّدة وإن بشكل نسبي، وهي أي هذه الجهات تساهم سواء من حيث تدري أو لا تدري في إطباق الحصار على المدنيين في غزة، وتساعد الاحتلال بصورة أو بأخرى في مخطّطه الإجرامي، بل ويشارك بعضها عن سابق إصرار وتعمّد في هذه الجريمة الموصوفة، والتي يقف العالم الظالم أمامها عاجزاً، وربما متواطئاً ومشاركاً.
يمكن لنا أن نشير فيما يلي إلى خمس جهات نعتقد ومعنا معظم أبناء شعبنا بأنها تقف وراء ما يمكن تسميته بـ “هندسة” الجوع في غزة المحاصرة، مع التنويه إلى أنّ مشاركة بعضها تتمّ بصورة غير مباشرة، أو نتاج سياسات خاطئة وفاشلة قامت باعتمادها كونها ذات علاقة مباشرة بمجريات الأوضاع في قطاع غزة.
على رأس تلك الجهات يقف العدو الصهيوني، والذي يتحمّل المسؤولية الرئيسية عمّا يجري في القطاع من عمليات تجويع، وهذا الأمر لا يحتاج إلى إثباتات كثيرة، إذ إنّ الاحتلال نفسه وعلى لسان بعض وزرائه المتطرّفين أمثال بن غفير وسموتريتش، وحتى رئيس الحكومة بنيامين نتنياهو يفاخرون بذلك، ويعلنون على الملأ بأنهم يستخدمون سلاح التجويع لإرغام الشعب الفلسطيني على الاستسلام أولاً، ومن ثمّ دفع السكان للهجرة القسرية من أرضهم ووطنهم.
فإلى جانب إغلاق المعابر منذ أكثر من شهرين ونصف الشهر، ومنع إدخال أيّ مواد غذائية أو صحية إلى القطاع، قام الاحتلال بتجريف مساحات واسعة من الأراضي الزراعية ولا سيّما جنوب شرق خان يونس، وشمال غرب بيت لاهيا، وهذه المناطق تُعتبر المزوّد الأساسي لكلّ سكّان القطاع من الخضروات، بالإضافة إلى إعلان هاتين المنطقتين تحديداً مناطق عازلة، ما ترتّب عليه نزوح مئات آلاف المواطنين عنها.
ليس هذا فحسب، بل لجأت قوات الاحتلال إلى قصف وتدمير معظم المخازن التي كان يوجد فيها بعض المعونات أو المساعدات، بالإضافة إلى استهداف الأسواق و”تكيّات” الطعام، إلى جانب اغتيال العشرات إن لم يكن المئات من “المبادرين” الذين ينفّذون مشاريع إغاثيّة بدعم من متبرّعين من الخارج.
ثاني الجهات هي المؤسسات الدولية، والتي وإن كانت تُعتبر شريان الحياة الرئيس لكلّ سكّان القطاع خلال فترة الحرب، إلا أنها لا تمارس الدور المنوط بها بالشكل المطلوب، بل ونجدها أحيانا تتساوق مع مخطّطات الاحتلال سواء عن قصد أو من دون قصد.
مما يُؤخذ على المنظمات الدولية التي يتبع معظمها للأمم المتحدة، والبعض الآخر لدول بعينها مثل بريطانيا وفرنسا وغيرهما، أنها لا تمارس الضغط المطلوب من خلال مرجعيّاتها السياسية على “دولة” الاحتلال، ولم نشاهد في كثير من الأحيان تلك الحماسة التي تبديها هذه المؤسسات في مناطق أخرى حول العالم، كما أنها تحاول قدر الإمكان عدم تحميل الاحتلال المسؤولية الكاملة عن كلّ ما يجري من عمليات حصار وتجويع، ولا سيّما أثناء حديث مسؤوليها أمام وسائل الإعلام، أو خلال مشاركاتهم في جلسات مجلس الأمن، أو الجمعية العامّة للأمم المتحدة.
جهة ثالثة تشارك في تجويع أهالي القطاع وهي الأنظمة والشعوب العربية والإسلامية، والتي نعتقد أنها خذلت من دون أدنى شكّ هذا الشعب المظلوم والمذبوح، وساهمت في تشديد الحصار عليه حتى ضاقت به السبل، وانحسرت أمامه الخيارات.
فيما يخصّ الأنظمة، فهي وقفت وما زالت عاجزة إن لم تكن متواطئة أمام جريمة تجويع الناس في غزة، ولم تمارس ما عليها من واجب وطني وأخلاقي وديني لوقف هذه الجريمة، أو الحد من آثارها على أقلّ تقدير، فهي كما جرت العادة ورغم عقدها الكثير من الاجتماعات، وإصدار العديد من الدعوات والمناشدات، إلّا أنها على أرض الواقع لم تقم بأيّ فعل حقيقي ومؤثّر يمكن أن يُجبر “دولة” الاحتلال على فكّ حصارها عن غزة ولو بشكل جزئي.
كان بمقدور هذه الأنظمة أو بعضها ولا سيّما النظام في الجارة مصر بما له من خصوصية أن يفعل الكثير، خصوصاً إذا ما عرفنا أنّ معبر رفح البرّي يقع بين قطاع غزة ومصر وليس “إسرائيل”، وكان باستطاعة الدولة المصرية في حال رغبت في ذلك أن تفتحه رغماً عن أنف الاحتلال.
على مستوى الشعوب، فهي وإن كانت تُبدي الكثير من التعاطف مع الشعب الفلسطيني المظلوم، وتملأ صفحات وسائل التواصل الاجتماعي برسائل الدعم والتأييد، إلا أنها على أرض الواقع أبدت الكثير من السلبية واللامبالاة، بل أنّ بعضها لم يخرج للتظاهر تضامناً مع غزة منذ بداية العدوان وحتى الآن.
على سبيل المثال لو خرجت الجماهير العربية والإسلامية بمئات الآلاف، وحاصرت سفارات وقنصليات الكيان الصهيوني، بالإضافة إلى سفارات الولايات المتحدة الأميركية وبريطانيا وغيرهما من داعميه، وفرضت عليها إغلاقاً شاملاً، ومنعت وصول كلّ أشكال الدعم إليها حتى المأكل والمشرب لاختلفت الصورة، ولوجدنا هذا الكيان المجرم يستجدي لوقف هذا الحراك، ولاضُطرّ رغماً عن أنفه لإيقاف مجزرته في غزة، أو بالحد الأدنى رفع الحصار الظالم عنها.
السلطة الفلسطينية في رام الله لم تكن بعيدة عن المساهمة في تشديد الحصار على غزة وتجويع أهلها، وهي تفعل ذلك انطلاقاً من عدائها المزمن مع حركة حماس، وتعتقد أنها بهذا الفعل تنتقم من الحركة التي طردتها من غزة في العام 2007، وتنسى أو تتناسى عمداً أنّ الذي يعاني هم عموم سكّان القطاع وليس حركة حماس فقط.
فالسلطة التي يطالب رئيسها بتسليم المقاومة سلاحها، والذي يغضّ النظر عن كلّ ما تقوم به قوات الاحتلال في مدن الضفة الغربية المحتلة من عمليات قتل وتهجير وهدم أمام بصر وسمع قواته الأمنية العتيدة، لم تقم منذ بداية الحرب بأيّ مبادرة لتخفيف الحصار عن غزة، بل قامت بالمساهمة في تشديد هذا الحصار من خلال إغلاق البنوك، والتي جعلت أهالي القطاع ولا سيما طبقة الموظفين، أو الذين يستقبلون بعض المساعدات المالية من الخارج من أقربائهم وذويهم عرضة للابتزاز من قِبل مكاتب الصرافة وبعض السماسرة وتجّار الحروب، حيث وصلت نسبة العمولة التي تتقاضاها هذه المكاتب نتيجة إغلاق البنوك نحو 40%، وفي بعض الأحيان أكثر من ذلك، بل إنّ السلطة ومن خلال مؤسساتها المختلفة مثل الشؤون المدنية وديوان الموظفين وحتى وزارة الأوقاف تمارس كلّ أشكال التمييز مع أهالي غزة، وتتعامل مع احتياجاتهم وطلباتهم في كثير من الأحيان بصورة لا تمّت للإنسانية بصلة.
الجهة الخامسة التي تتحمّل مسؤولية كبيرة أيضاً فيما وصلت إليه الأمور المعيشية في غزة هي لجنة العمل الحكومي التابعة لحركة حماس، فهي وإن كان قادتها ومسؤولوها يتعرّضون لحملة ممنهجة من عمليات القتل والاستهداف من قِبل العدو الصهيوني، والتي أدّت إلى استشهاد العشرات منهم كان على رأسهم رئيس اللجنة الشهيد “أبو معاذ الدعاليس” وإخوانه، إلا أنها ارتكبت العديد من الأخطاء، وشاب عملها الكثير من الخلل.
أولى الأخطاء كان عدم وجود خطة طوارئ موضوعة مسبقاً لمواجهة ما نتج عن تفجير معركة “طوفان الأقصى”، إذ إنه كان من المفترض وجود مثل هذه الخطة لدى حركة حماس ولجنتها الحكومية تحديداً، ولا سيّما أنها هي التي خطّطت ونفّذت هذه المعركة بمفردها قبل أن يلتحق بها الآخرون، وكان من الأهمية بمكان أن تحسب بدقة كلّ ما سينتج عنها من ردود أفعال من طرف العدو، وفي المقدّمة منها ما يتعلّق بحياة المواطنين واحتياجاتهم.
خطأ آخر يتعلّق بفقدان السيطرة على حركة الأسواق، وما نتج عنه من ارتفاع هائل وغير مسبوق في أسعار السلع والمنتجات، وهذا الأمر تحديداً ترك آثاراً كارثية على عموم سكّان القطاع، ولا سيّما الطبقتين المتوسطة والفقيرة منهم، والذين وجدوا أنفسهم محاصرين بين جشع التجار، وسوء إدارة الجهات الحاكمة في غزة.
توزيع المساعدات الإنسانية قبل أن يتوقّف هو الآخر عانى من خلل كبير، وخصوصاً الجزء الذي كانت تشرف عليه وزارة التنمية الاجتماعية التابعة لحكومة غزة، حيث بلغت سوء إدارة هذا الملف مبلغها في العديد من الفترات، وصلت في بعضها إلى فساد منظّم من بعض العاملين فيه، والذين استغلّوا وجودهم في أماكن مهمة داخل هذه المنظومة للحصول على مكاسب شخصية بغير وجه حقّ.
على كلّ حال، وبعيداً عن كلّ ما أشرنا إليه أعلاه من جهات شاركت بصورة أو بأخرى في تعميق الأزمة الإنسانية في قطاع غزة، فإنه من المهم أن نذكّر مجدّداً بأنّ الأوضاع الإنسانية في قطاع غزة كارثية بكلّ ما للكلمة من معنى، وأنّ عامل الوقت ليس في صالح المطحونين والمُحاصَرين في غزة المنكوبة، وأنّ استمرار الحال على ما هو عليه يُنذر بالأسوأ، وقد يؤدّي لا سمح الله إلى تطوّرات لا تُحمد عقباها.