شادية الغول: غزة .. الحق والجدوى في معادلة المقاومة

في ظل الهجوم الهمجي الذي شنته القوات الإسرائيلية على قطاع غزة في 7 أكتوبر 2023، شهدنا كيف تصطدم معادلة الحق والجدوى في أقسى صورها. الحق الفلسطيني في المقاومة وتقرير المصير ثابت ومؤكد في العديد من المواثيق والقرارات الدولية، وأبرزها القرار 194 الذي يضمن للفلسطينيين حق العودة إلى أراضيهم، وكذلك المبدأ الذي أكده القانون الدولي بخصوص حق الشعب في المقاومة ضد الاحتلال. لكن السؤال الذي يطرح نفسه هو: هل جدوى المقاومة في ظل واقع كهذا تحقّق أهدافها، أم تغرق الفلسطينيين في دائرة من العنف المستمر الذي يسبب مزيدًا من الدمار؟
الحق في مقاومة الاحتلال هو حق مشروع، وهو جزء من حق الفلسطينيين في تقرير المصير. هذا الحق تضمنته مواثيق الأمم المتحدة، وكذلك القانون الدولي، الذي يتيح للشعوب تحت الاحتلال حق الدفاع عن أنفسهم. كما أكدت تقارير حقوق الإنسان على أن الاحتلال الإسرائيلي يعامل الفلسطينيين في غزة بشكل غير إنساني، حيث تم فرض حصار خانق للقطاع لأكثر من 17 عامًا. ولكن في 7 أكتوبر 2023، جاءت الضربة الإسرائيلية القوية التي أسفرت عن مقتل الآلاف من المدنيين الفلسطينيين وتدمير البنية التحتية، بما في ذلك المستشفيات والمدارس. هذه الفاجعة جعلت الفلسطينيين يواجهون التحدي الأكبر: هل المقاومة تضمن لهم العودة إلى ديارهم وتحقيق الحق في تقرير المصير، أم أن هذه المقاومة تؤدي إلى المزيد من الإبادة والتدمير؟
الجدوى هنا لا تتعلق فقط بالقدرة على الانتصار العسكري أو تحصيل الأرض، بل أيضًا بتأثيرات هذه المقاومة على الناس العاديين الذين يعانون من الفقر، المجاعة، والخوف اليومي. وفقًا لتقرير البنك الدولي لعام 2023، فإن “الاقتصاد في غزة يواجه انهيارًا شبه كامل”، وهذا الوضع يجعل أي انتصار عسكري بعيد المنال إذا لم يُراعَ في النضال الفلسطيني الجانب الإنساني والجدوى الاجتماعية والسياسية. كما ذكر ألبير كامو: “الثوار الذين يسعون للعدالة قد ينجحون في مقاومة الظلم، ولكن إذا لم تكن لديهم خطة لما بعد الانتصار، فسيغرقون في القهر الذي كانوا يقاومونه“.
في إطار الجدوى، مقاومة غزة رغم أهميتها، تواجه تحديات كبيرة. كما أن المقاومة الفلسطينية غير قادرة بمفردها على تحقيق العدالة دون وجود تغيرات جذرية في التحولات الإقليمية والدولية التي تُمكن الفلسطينيين من فرض إرادتهم السياسية على طاولة المفاوضات. بالتالي، لا يُعتبر النجاح العسكري دائمًا مؤشرًا على تحقيق العدالة أو تقرير المصير. كما قال فرانز فانون: “الثوار لا ينتصرون فقط بالقتال، بل يحتاجون أيضًا إلى خطة لتحقيق التحول الاجتماعي بعد التحرير“.
أما في غزة، حيث الحياة أصبحت لا تُطاق، فإن الجدوى من استمرار المقاومة تتداخل مع الحقوق الإنسانية للفلسطينيين الذين يعانون من فقدان منازلهم، فقدان أحبائهم، والنقص الشديد في الاحتياجات الأساسية. في مثل هذه الظروف، يصبح الحديث عن الحق والجدوى متشابكًا. من حق الفلسطينيين الدفاع عن أنفسهم والمطالبة بالعدالة، لكن مع كل خطوة نحو المقاومة تتضاعف الآلام في ظل وجود قيود اقتصادية وإنسانية تجعل من الجدوى من أي مقاومة متحققة أملًا ضائعًا في ضوء المستجدات.
لكن في هذا السياق، المقاومة يجب أن تبدأ من الإنسان أولًا. الهدف ليس فقط الدفاع عن الأرض أو مواجهة الاحتلال، بل بناء الإنسان الفلسطيني بعد الدمار. إن المقاومة الإنسانية هي الأساس، من خلال توفير التعليم، الصحة، الاستقرار النفسي والاجتماعي، وتعزيز الهوية الفلسطينية. لا يمكن أن تقتصر المقاومة على المعركة العسكرية أو السياسية فقط، بل يجب أن تشمل إعادة بناء الإنسان في غزة والضفة الغربية ليكون قادرًا على مواجهة التحديات المستمرة. هذه المقاومة الفكرية والاجتماعية تخلق جيلًا قادرًا على مواجهة الظروف الصعبة وتدعيم الأسس التي تُسهم في تحقيق العدالة وتقرير المصير، بعيدًا عن الدمار المستمر الذي يؤدي إلى فقدان الهوية والوجود.
الجدوى إذًا تكمن في التخطيط الاستراتيجي الذي يوازن بين حق المقاومة وحقوق الناس في الحياة الكريمة. كما يجب على الفلسطينيين أن يستفيدوا من الدعم الدولي ليس فقط في المجال العسكري، بل في المجال السياسي والاجتماعي، للوصول إلى حلول مستدامة تضمن لهم الحق في تقرير المصير. وكما قال مالك بن نبي: “الحق لا يُؤخذ بالصوت العالي فقط، بل بالقيمة التي يُمنحها أصحابه في عقول الآخرين”. يجب أن تكون المقاومة الفلسطينية ليس فقط في شكل مواجهة عسكرية، بل أيضًا في البحث عن حلول من خلال الحوار الدولي والتعاون الإقليمي.
في الختام، يتضح أن معادلة الحق والجدوى هي معادلة معقدة، وأحداث 7 أكتوبر 2023 أظهرت بوضوح كيفية تداخل هذين العاملين في الواقع الفلسطيني. فإن لم يكن هناك جدوى في المقاومة بمفهومها العسكري فقط، يجب أن تتسع الرؤية لتشمل بناء مقاومة فكرية، استراتيجية، ودبلوماسية، تجعل من الحق الفلسطيني واقعًا قابلًا للتحقيق، بعيدًا عن دائرة العنف المفرغة التي تُدمّر غزة في كل مرة.