يحيى صبيح.. رحل قبل أن يسمي طفلته
في لحظة غادرة، استهدفت طائرات الاحتلال المطعم، فقُصف المكان، وسقط يحيى شهيدًا، إلى جانب زوج شقيقته.

لم تمنح الحرب في غزة الصحفي يحيى صبيح فرصة كافية ليعيش لحظات الأبوة الأولى، فما هي إلا ساعات قليلة بعد ولادة طفلته – التي لم يسمها بعد – حتى ارتقى شهيدًا، ضحية جديدة في مسلسل الاستهداف الإسرائيلي للمدنيين، ومفجّرًا بموته حكاية حزينة من الحب، والواجب، والفقد.
بفرح كبير، نشر يحيى صورة مولودته عبر حسابه على “إنستغرام”، معلنًا قدوم النور إلى حياته وسط العتمة. حملها بين يديه، وابتسم كما لم يبتسم من قبل. ثم أعاد حمل كاميرته، كما اعتاد، وخرج لتوثيق جرائم الاحتلال الإسرائيلي في قطاع غزة. أراد أن تكون أولى هداياه لابنته قطعة حلوى يوزعها على أحبته، فذهب إلى مطعم “التايلندي” لجلب بعض الحلوى لم يكن يعلم أن تلك اللحظة ستكون آخر محطاته.
في لحظة غادرة، استهدفت طائرات الاحتلال المطعم، فقُصف المكان، وسقط يحيى شهيدًا، إلى جانب زوج شقيقته.
رحل قبل أن يسمي ابنته، تاركًا خلفه زوجة مكلومة تحمل عبء الحياة وحدها، وطفلة لن تعرف صوت والدها إلا عبر تسجيلاته المصورة، وأخوين صغيرين، براء وكنان، ما زالا ينتظران عودة أبيهما.
قُتل يحيى في مجزرة جماعية ارتكبتها الطائرات الإسرائيلية بحق عدد من المواطنين الذين تجمعوا في المكان ذاته: أجساد هزيلة تبحث عن لقمة، أطفال يبيعون القهوة في الزوايا الضيقة، آباء وأمهات يمسكون بأيدي أطفالهم العائدين من رياض الأطفال، وشباب وفتيات يتناولون وجبات خفيفة من البيتزا أو أكواب الشاي كان المكان يعج بالحياة، حتى ملأته الطائرات بالنار والدم.
قبل أيام قليلة، وفي اليوم العالمي للصحافة، قال يحيى في تصريح لـ”فلسطين بوست”، حيث يعمل مراسلًا:
“لا تطلبوا منا أن نكون محايدين بين الضحية والجلاد”،
قالها وهو يعرف جيدًا كلفة انحيازه للحق.
وفي لحظة الفاجعة، روى شقيقه المكلوم: “اتصلت في يحيى قبل ساعتين فقط لأبارك له بطفلته قال لي إنه ذاهب ليجلب حلوى ويوزعها بمناسبة قدومها، وكان ينتظرني للذهاب إلى المستشفى قصفوا المكان قبل أن أصل إليه… ما لحق يفرح فيها.”
أما والدته، التي لم تفقد الأمل في نجاته حتى اللحظة الأخيرة، قالت وهي تغالب دموعها: “ابني ما كان حامل كاميرته، راح على المطعم ليسد جوعه، ما كان حامل سلاح هو بس أب وراجل بسيط كنت دايمًا أخاف عليه لما يطلع يصور، بس ما كنت أتوقع يروح وهو قاعد بمكان مفروض يكون آمن.”
خمس ساعات فقط من الحياة المشتركة بين يحيى وابنته، هي كل ما حظيت به الطفلة الصغيرة، لم يحضر والدها الطعام والحليب لزوجته، ولم يتمكن من مناجاتها باسم اختاره بنفسه. خطف الصاروخ الإسرائيلي تلك اللحظة، وسرق من هذه العائلة فرحتها الأولى.
ورغم التعب والجوع، لم يستسلم يحيى يومًا. ظل يحمل الكاميرا، ويجوب المناطق المستهدفة لينقل الحقيقة كما هي. كان يصور الجرحى، النازحين، الأطفال الجائعين، والبيوت المدمرة.
لم يطلب شيئًا لنفسه، بل نادى: “أنقذوا الأطفال من الموت جوعًا.”
كانت آخر لقطاته توثق نساء يصنعن خبزًا بديلًا عن الدقيق، في رسالة مؤلمة إلى العالم الغافل.
ترك يحيى وراءه أرشيفًا إعلاميًا حافلًا بالشهادات الحية، والقصص البصرية التي توثق فصولًا دامية من تاريخ غزة. لم يكن مجرد ناقل للخبر، بل كان هو الخبر ذاته.
لم يكن استشهاد يحيى صبيح الأول من نوعه، ففي العام الماضي استشهد المصور الصحفي أيمن، أيضًا أثناء انتظار قدوم مولوده الأول قصف الاحتلال سيارته مع خمسة من زملائه، ولم يمنحه فرصة لقاء ابنه.
يحيى، كغيره من الصحفيين الفلسطينيين، لم يحمل سلاحًا سوى الكاميرا، ولم يطلب سوى إيصال الحقيقة، لكن الحقيقة وحدها كانت كفيلة بجعل اسمه على قائمة الأهداف.
في غزة، يُولد الأطفال في ظلال القصف، وتُختم الحكايات بصرخة ويحيى… كان أحد شهودها، قبل أن يصبح هو الحكاية.