إرهاب مدني ينهش ويتمأسس داخل المجتمع العربي
حذّر الخبير والباحث في علم الاجتماع والتحوّلات المجتمعية، د. نهاد علي، من تفاقم العنف والجريمة في المجتمع العربي، مشيرا إلى أن ما يحدث في الأعوام الأخيرة هو إرهاب مدني ينهش ويتمأسس داخل المجتمع العربي.

تتواصل جرائم القتل في المجتمع العربي في البلاد، على نحو غير مسبوق، وسط تجاهل قد يرقى إلى التواطؤ المباشر من قبل السلطات الإسرائيلية.
يؤشر تكرار جرائم القتل وتحليل وقائعها وارتفاعها بهذه الوتيرة التصاعدية إلى وجود سياسة إسرائيلية تكرّس الإفلات من العقاب، وتشجع على اقتراف هذه الجرائم.
ويقف المجتمع العربي في حالة صمت وعجز إزاء تفاقم العنف والجريمة، في حين يُحتّمُ الوضع الراهن على الأطر والهيئات المختلفة تنفيذ نشاطات وفعاليات مهنية مدروسة لتكريس الوعي المجتمعي بأخطار جرائم القتل والعنف الداخلي وكافة مظاهر انتهاك الحق في الحياة.
ارتفع عدد ضحايا جرائم القتل في المجتمع العربي، منذ مطلع نيسان الجاري إلى 16 ضحية، ومنذ مطلع العام الجاري إلى 75 ضحية، 4 بينهم برصاص الشرطة، و3 نساء، وفتيان اثنان في عمر 18 عاما وما دون، والـ75 ضحية من 36 مدينة وقرية.
“عرب 48” حاور الخبير والباحث في علم الاجتماع والتحوّلات المجتمعية، د. نهاد علي، حول تفاقم العنف والجريمة في المجتمع العربي، والذي يرى أن هذه الظاهرة ليست نتاج فراغ، بل هي انعكاس لتغيّرات عميقة في المبنى الاجتماعي للمجتمع العربي، مع تراجع دور العائلة والمؤسسات التقليدية، وانهيار الثقة في أجهزة إنفاذ القانون.
“عرب 48”: نشهد تصاعدًا مقلقًا في حالات القتل والجريمة في البلدات العربية. برأيك، ما الأسباب لهذا الارتفاع المقلق والخطير؟
علي: إن الأحداث التي وقعت وتقع في السنوات الأخيرة تؤكد حقيقة التسمية والتصنيف الذي صنفته بأنه إرهاب مدني. وصلنا بشكل فعلي إلى الإرهاب وبما أن الإرهاب هدفه تغيير سياسات فعمليا ما يجري بين الإجرام المنظم والحكم المحلي في المجتمع العربي يؤكد أن التسمية في مكانها.
نعيش ارتفاعا يعود إلى الأسباب التقليدية، أي أسباب اقتصادية اجتماعية، ولكن في السنة الأخيرة نلاحظ ارتفاعا سببه الأول والأساس آليات إنفاذ القانون في المجتمع العربي، بمعنى أذرع السلطة (الشرطة، النيابة، المحاكم) لا تقوم بدورها بشكل كامل في مكافحة العنف، ولا توجد خطة حكومية لمعالجة العنف والجريمة في المجتمع العربي.
هذا وضع مريح، على ما يبدو، في سرايا الحكم في هذه الحكومة، وهذه الصورة تقرأها أيضا عصابات الإجرام المنظم، والمواطن العادي أيضا يرى أن نتائج حملات الشرطة شبه عبثية، العثور على أموال وأسلحة ثم يخرج المعتقلون من هذه الحملات خروج الفاتحين من المعتقلات، وهذا ما يعطي صورة سلبية للأمان المجتمعي، كما أن هذه الصورة تقدم نموذجا مشوقا للشباب ذوي ميول الجنوح، والقصد إمكانية ربح جيدة مع خطورة الدخول للسجن بنسب قليلة.
“عرب 48”: وفقا لإحصاءات “مبادرات إبراهيم”، نسبة الجرائم التي ارتُكبت في المجتمع العربي بلغت أكثر من 70% من مجمل جرائم القتل في البلاد عام 2023، على الرغم من أن العرب حوالي 21% من السكان، كيف تفسّر هذا التفاوت الصارخ؟
علي: بالتأكيد إن أحد الأسباب لهذه النسب هو أن فرص إنفاذ القانون في المجتمع العربي أقل بكثير، وباب آخر هو أن هناك مجموعات جديدة دخلت إلى دائرة العنف والجريمة، ودخول النساء إلى عالم العنف ظاهرة جديدة على مجتمعنا المحافظ نسبيا. هناك أكثر من مشهد لاحظنا فيه صبايا على دراجة نارية تطلق نار تجاه بيوت، ولدينا شابات معتقلات على هذه الخلفية.
“عرب 48”: في بعض البلدات العربية، نسبة البطالة بين الشباب تتجاوز 30%، خلف مصطلح “الخاملون”، كيف تنعكس هذه الأرقام على الواقع الأمني والاجتماعي؟
علي: هذه ظاهرة مقلقة جدا، ما يسمى “الخاملون” أي من لا شغل لهم نسبتهم عالية جدا بنسبة تصل إلى 38% من الشباب، وهذا مقلق للغاية. هذه المجموعات نهارها ليل وليلها نهار، ومفعولهم داخل المبنى الاجتماعي عالية جدا، وهم تربة خصبة لمنظمات الإجرام لاستثمارهم في عالم الجريمة، ونلاحظ أن هناك نجاحا كبيرا لعصابات الإجرام داخل هذه الفئة، وطبعا لا ننسى أن البطالة تسهم في زيادة العنف بشكل طبيعي في أي مجتمع.
“عرب 48”: كيف أصبح الابتزاز والعنف المنظم جزءًا من الحياة اليومية في بعض البلدات؟
علي: في المرة الأولى التي استخدمت فيها مصطلح الإرهاب المدني عام 2013، وهذا يقول إنني توقعت أن نصل لهذه الحالة، واليوم لدينا ظاهرة مقلقة، فكل بلدة تزدهر اقتصاديا ترتفع معها حالات الجريمة، وحتى هناك بلدات مع نسب أكاديميين مرتفعة تقابلها نسب إجرام مرتفعة، وللأسف فإن نسبة أكاديميين عالية لم تعد رافعة للتغيير الاجتماعي.
“عرب 48”: كيف تصف عمل الشرطة في مكافحة الجريمة بالمجتمع العربي؟
علي: للأسف، الحكومة لا يوجد لديها أي خارطة طريق وكذلك الشرطة لمكافحة الجريمة داخل المجتمع العربي، والجريمة تواصل الارتفاع. في الظروف المتوفرة احتمالات هناك ارتفاع في نسب الجريمة، فمنظمات الإجرام تزداد ذكاء وحنكة وتغلغلا في المبنى الاجتماعي، والمجتمع بدأ يتعامل مع ظاهرة الجريمة والعنف كحدث عادي وجزء من المجتمع، ولم يعد غريبا سماع إطلاق النار، وأصبحت المظاهر المقلقة أمرا عاديا وجزءا من حياتنا.
كما أصبح معروفا أن الشرطة لا تريد محاربة الجريمة، ونحن غير قادرين على فعل ذلك.
أسمع الانتقادات للقيادات وأعضاء الكنيست العرب واستهجن ذلك، لأن هؤلاء ليس من وظيفتهم مكافحة العنف وإنما التشريع، وهذا لا يتاح لهم أصلا، وإمكاناتهم قليلة وهذا في الحقيقة تبني لرواية الجلاد. للأسف، هذا يحدث لنا في كثير من القضايا، وهذا خطير جدا أن نتبنى طرح رواية الجلاد وترديدها، وهذا لا يقل عن الجريمة ذاتها.
خلافا لأعضاء الكنيست لدى رؤساء السلطات المحلية أدوات في باب محاربة الجريمة والعنف. يقتصر دور أعضاء الكنيست على ممارسة ضغط على السلطات واستجواب هنا وهناك، ولكن في حالة هذه الحكومة التي يعبّر فيها وزير الأمن الداخلي عن سعادته من قتل شرطي لمواطن عربي، أن سيكون الضغط أصلا، وماذا يتوقع من حكومة كهذه، وماذا يتوقع من مفتش شرطة خادم لهذا الوزير؟ هذه حكومة يمينية مطلقة، وهي سبب رئيسي في ارتفاع الجريمة بهذا الشكل لأن الشرطة أصلا تشعر بأنها غير محاسبة من قبل الوزير والحكومة عن تقصيرها في مكافحة الجريمة في المجتمع العربي، وكثيرا ما نسمع عن أشياء غريبة عن المنطقة مثل مزاعم أن المجتمع العربي “لا يعطيني كاميرات المراقبة” أو غيرها من المزاعم الواهية.
“عرب 48”: كيف يساهم غياب التخطيط العمراني ونقص الخدمات، خاصة البنية التحتية وعدم توسيع المخططات الإسكانية، في انتشار العنف، وهل ترى أن هناك علاقة بين التمييز المؤسساتي من قبل الدولة وبين ازدياد العنف في المجتمع العربي؟
علي: هذه الأسباب هي جزء من الأسباب التقليدية التي تسبب ظاهرة ارتفاع العنف. جل الضحايا في السنوات الأخيرة هم ضحايا إجرام منظم، ونسب ضحايا العنف المجتمعي (أسباب عائلية وخلافات بين جيران) منخفضة وتقدّر بنحو 10-13% فقط، بينما نسبة ضحايا العنف المنظم أكثر من 85%.
نعرف أن عالم الجريمة دخل إلى قضايا جديدة مثل صراعات الأزواج، وقضايا الطلاق، وأصبحت عصابات الإجرام أداة تنفيذ اجتماعية، مثل فض خلافات، وجباية شيكات راجعة، وجباية ديون، وتعويضات لقضايا طلاق، أي أننا أمام واقع أن الإجرام المنظم يتمأسس داخل المبنى الاجتماعي وهذا خطير جدا، ولا توجد بلدة محصنة، وحتى محاولة طرح فكرة أخذ 10 بلدات كنموذج لم تنجح، لأن بلدات أخرى سرعان ما دخلت إلى الجريمة وتتغير القوائم مع نسب الإجرام المرتفع بشكل مستمر، مع بقاء المدن المختلطة في الأماكن المرتفعة الأولى، وكان المثير للاهتمام بالنسبة لي قبل خمس سنوات عندما عرضتُ مؤشرا للأمن الشخصي والجماعي لماذا النقب هو مع نسب الجريمة الأقل؟ وبدأنا الحديث عن المبنى الاجتماعي.
“عرب 48”: كيف تؤثر التحولات في بنية العائلة العربية، إضعاف دور العائلة أو الحمولة والتغيير في القيم، مثل تحطم السلطة الأبوية والعائلية على هذا الواقع؟
علي: هذا حقيقي، وكلما تغيير المبنى الاجتماعي ارتفعت الجريمة وحتى في النقب اليوم هناك ارتفاع في مستوى الجريمة. نلاحظ أن التغييرات في النقب هي في البلدات المعترف بها وليس البلدات مسلوبة الاعتراف، على عكس ما يتوقع منها، وهذا يعود إلى أن البلدات مسلوبة الاعتراف لا زالت تنعم بالتماسك العائلي والعشائري، ولا زال هناك حفاظ على تقسيم الأدوار في المبنى الاجتماعي، ونلاحظ أن نسب الجريمة لديهم أقل بكثير من البلدات المعترف بها، وهذا يؤكد على الدور الكبير للتغيير في المبنى الاجتماعي على نسب الجريمة.
موقع عرب 48