الطفل علي ميمة.. نجا من تحت الأنقاض وحيدًا وظل عالقًا بالفقد

خاص- مصدر الإخبارية

لم يجد الطفل علي ميمة (6 سنوات) أي إجابات شافية لأسئلته عن عائلته التي استشهدت في قصف لمنزلهم شمال قطاع غزة، وكل ما كان يجده هو المراوغة في الجواب، دفعه ذلك وكل ما مر به اللجوء للعنف فقد صار عنيفاً ومؤذياً لنفسه، يبكي بـ “هستيرية” وتصيبه “نوبات غضب”، ويصر على البقاء وحيداً إذا رأى أحداً من أقارب أهله أو أصدقائهم، هكذا وصفت ميمة حال ابن شقيقتها سلام.

كعادتها كما في كل حرب تشن على قطاع غزة، عاشت الصحفية سلام ميمة (30 عامًا) أيامها الأخيرة، في تاريخ 10/10/2023 تحديدًا الساعة الثانية فجرًا كانت هي الخبر، وتم استهداف البيت المجاور لبيتها مما أدى تدمير منزلها التى تقطن فيه في منطقة الفالوجا (الاتصالات) شمال القطاع.

ولم تتمكن عائلة سلام من معرفة كل هذا إلا في ساعات الفجر الأولى بسبب انقطاع التيار الكهربائي والإنترنت، فذهبت عائلتها إلى منزلها لتتأكد من الخبر حيث كان القصف في كل مكان.

تقول هند ميمة شقيقة سلام لـ”شبكة مصدر الإخبارية“: ” لم نشعر كيف وصلنا لمنزل سلام ولكن الحقيقة كانت أقوى من أي شيئ فما سمعناه كان أقل مما شاهدته حيث منزلها المكون من 4 طوابق مدمر ومن شدة القصف وجدنا زوج أختي سلام محمد المصري ملقي بجانب البيت جثة هامدة، أيقنت لحظتها بأن سلام وأولادها الثلاثة هادي ذو ٨ سنوات وعلي 6 سنوات وشام إذا الـ3 سنوات بأن مصيرهم مجهول تحت الأنقاض”.

لحظات الأمل والنجاة بعد 35 ساعةً

تضيف هند أنّ بدأت رحلة معاناتنا في محاولة انتشال شقيقتي وأطفالها من تحت الأنقاض، وأرسلنا عدة مناشدات للدفاع المدني ولكن دون جدوى بسبب كثرة الاستهدافات في شمال القطاع لم تتمكن سيارات الدفاع المدني من الحضور، الأمر الذي دفع جميع أفراد العائلة بالعمل بأقل الإمكانات والأدوات المتوفرة بالحفر تحت الانقاض، وهكذا مر اليوم الأول لها تحت الركام نجهل ما حل بها.

وتتابع أن “وفي اليوم التالي وبالرغم من القصف الكثيف في شمال غزة إلا أن أبي وأخوتي وبعض الأقارب أصروا للعودة لمنزل سلام لمحاولة فعل شيء ما، فجأة وأثناء التنقيب سمعوا صوتاً من تحت الركام كان صوت سلفة أختي قالت بلهفة الذي يتشبث بالحياة (أنا عايدة أنا عايشة ) بدأ الجميع بالتهليل وأن هناك أمل ان يكون الجميع بخير، بذلوا جهدهم لإخراجها من تحت الركام حية بعد أكثر من 24 ساعة وهنا تجدد الأمل في إيجاد سلام لربما حية”.

وتردف ميمة أنه “بعدما أخبرتهم بأنها سمعت صوت أنين فاستمروا بالحفر حتى اليوم التالي هو 12/10 إصرار أفراد العائلة وأملهم بإخراج الجميع من تحت الركام كان تحدي للصوت القصف والطائرات في سماء شمال غزة، وبالفعل بدأ الأمل يتحقق حيث كنت واقفة أراقب ربما تتحقق أمنيتي بسلامة سلام وأولادها الثلاثة، استمر الحفر وفي حوالي الساعة 11 صباحًا تم انتشال علي ابن أختي سلام الأصغر في حالٍ يرثى لها”.

وتكمل قولها: “دون أن أشعر ركبت معه سيارة الاسعاف فقد مكث تحت الأنقاض أكثر من 35 ساعة متعب وحيد خائف وجائع حيث تم نقلنا إلى مستشفى الأندونيسي ومن هناك تم تحويله إلى مستشفى الشفاء إلى قسم العناية المركزة نظراً لخطورة حالته وتدهورها وعندما أنظر إليه الآن لا أصدق أنه نجا من كل ما مر به على الأقل جسدياً فقد مكث في العناية المركزة 3 أيام ومنع من الطعام والشراب؛ نظراً لوجوب إجراءه عدة عمليات ولكن لم يكن الموضوع سهل أبداً نظراً لعدم توفر الأسرة والإزدحام الشديد بسبب كثرة الإصابات أثر الاستهدافات الوحشية للاحتلال”.

كان المصابين ملقون بين الممرات وكانت الطواقم الطبية تعمل بكل ما واتوا من إمكانات شاهدت الكثير من المصابين أيقنت أن ما يحدث لغزة هو قتل مع سبق الإصرار وإبادة بالمعني الحقيقي كل لحظة كان يصل المئات من المصابين والقتلي ومعظمهم أطفال ونساء، وفق تعبيرها.

وقرر الأطباء إجراء 3 عمليات لعلي فقد كان يعاني من قطع في أوتار اليد وخلع بالكتف ومشكلة أخرى في الرأس وتكللت بالنجاح.

“وين أمي وأبي وأخي … كيف سنخبروه”؟

ومن هنا بدأت معاناة جديدة مع علي فقد وجدَ نفسه صفر اليدين وتدمرت أحلامه وفقد ماضيه ومستقبله وعائلته وكل ما كان يملك دون أن يدري كيف سرق منه الموت أعز ما يملك كان لديه الكثير من التساؤلات “وين أمي وأبوي واخواتي؟ ..طيب دارنا؟ وألعابي؟”، لم أملك القدرة على إخباره الحقيقة طمأنته أنهم بخير وينتظرون خروجه، وفق قول هند ميمة.

وتقول ميمة: “في تاريخ 16/10 تقرر خروجنا من المستشفى وتوجهنا إلى دير البلح حيث نزحت عائلتي قبل يومين بناءً على تعليمات جيش الاحتلال الإسرائيلي الذي أمر سكان شمال قطاع غزة بالتوجه إلى جنوب الوادي، أما بالنسبة لسلام أختي وطفليها هادي وشام فقد تم انتشالهم أموات من تحت الركام بتاريخ 13/10″.

وتضيف بحسرة أنّه بدأت معاناة علي تتفاقم فقد استقبله الجميع بالبكاء وبين كل الوجوه لم يجد أثراً لأفراد عائلته فكانت صدمته كصفعة مدوية جعلته يربط الأحداث ويدرك ما يخشى حدوثه، لقد علم أنه فقد كل شيء ولكنه كان ينكر، لم يشأ أن يصدق.

وتكمل ل”مصدر الإخبارية”: “سمعناه يحدث أصدقائه دار جيرانا وقعت على دارنا وصارت زي البسكوتة وشكلوا أهلي راحوا فيها، وازداد إلحاحه يوماً بعد يوم ليرى عائلته أو يحدثهم وكنا نختلق الأعذار فتارةً نخبره أنّه لا يوجد شبكة اتصال وتارةً نخبره أن الطريق مغلقة ولم يمتلك أي منا الشجاعة الكافية لمواجهته بالحقيقة المؤلمة”.

ووصفت علي بأنّه كان قبل الحرب كثير الحركة والابتسامة اجتماعي كل العائلة تحبه، كان هو وأخيه هادي كأنهم توأم لا يفارق أحدهم الآخر حتى عندما كانت سلام تشتري لهم الملابس فتكون متطابقة، مردفًة: “الكلام كثير عنهم ولكن في القلب غصه عندما تنتاب علي حالة الغضب، لا يمكن أن أصف الحالة النفسية التى يمر بها فهي صعبة جدًا وفي تدهور مستمر”.

وأصبح كثير التعلق بجده “والد والدته”، ويذهب معه إلى كل مكان كظله فهو يخاف إن أفلت يده مرة أن لا يعود أبداً كما فعل أهله.

وتتابع هند “في مرة من المرات بينما كان علي يرافق جده-كعادته- وانا معهم شاهد طفلة في عمر أخته شام تلعب لفتتني نظراته لها كانت غريبة ومُحملة بالوجع وأول مرة ينطق اسم اخته شام فقال (زي عروسة شام) وبعد عودتنا إلى البيت بدأ بالصراخ والبكاء الهستيري دون أن ينطق بكلمة واحدة وأصر على البقاء وحيداً في الغرفة واستمر في نوبة حزنه ٣ أيام يرفض الطعام أو الحديث مع أي شخص غير جده”.

عن الأم سلام وأحلامها الموؤدة

وتقف هند وعائلتها حائرين كيف سيخبرون علي الحقيقة التي يرفضنا عقله وأنهم على يقين بأنه يعرف انه لا يمكن أن يرى هادي وشام ووالدته ووالده مرة ثانية فقد سرق الموت عائلته وتركه وحيدًا يصارع مستقبله المجهول.

وتشير إلى أنّ علي مثال حي لمعاناة أطفال غزة الذين فقدوا كل شيء، وسرقت الحرب منهم أهلهم وذويهم و أحلامهم ومستقبلهم وماضيهم ولا يعلمون هل سينالون فرصة البدأ من جديد.

“اسمحوا لي أن أقتطع من الزمن لحظات لأخبركم عن فقيدة قلبي سلام كانت حقاً رائعة بتفاؤلها وحيويتها وأحلامها فقد كانت كباقي الأمهات تحلم أن ترى فلذات أكبادها يكبرون أمام أعينها وهي تحفهم بالحب والاهتمام”، هكذا وصفت هند شقيقتها سلام.

وتقول: “كانت تتمنى سلام أن يكون طفلها هادي طبيباً فلطالما تحدثت لي عن حلمها ذاك (نفسي أشوفه دكتور يا هند) وما زالتُ لا أصدق كيف سرقها الموت مبكراً قبل أن تتمكن من تحقيق ما كانت تحلم به حالها حال الكثيرين من نساء غزة.

وتطالب ميمة أما آن لهذا العالم أن يتحرك ويكسر صمته أمام الإبادة الجماعية لسكان غزة ويرحم هؤلاء الأطفال.