فتى الرواية السورية الجميل.. بقلم: راسم المدهون

أقلام – مصدر الإخبارية 

منتصف التسعينيات، تعرفت على خالد خليفة الكاتب الشاب في تلك الأيام، وصاحب رواية أولى “حارس الخديعة”. كان لافتًا ومهمًا عندي ما قاله لي الروائي الراحل هاني الراهب الذي عرّفني على خليفة: انتبه لخالد.. إنه أمل الرواية السورية القادم بقوة. لاحقًا صرت وخالد خليفة صديقين، وأذكر أن عمق لقاءاتنا وأهمية صداقتنا كانت بعد نشر مقالتي عن روايته الجميلة، والتي أطلقت اسمه بقوة في عالم الرواية، وأعني “دفاتر القرباط”، وهي المقالة التي أشارت للجماليات الفنية والبناء الروائي المتماسك والمشحون بالدراما، والتي لا أزال أعتقد أنها تحتل مكانتها الخاصة بين رواياته جميعًا.

خالد خليفة الصديق والكاتب هو عندي صورة حلب، وهو بمعنى ما ابن العشق الحلبي الفائق للحياة، والذي اعتدنا أن نلمسه في تراث حلب الفني، تمامًا كما عرفناه من عشق أهلها للفنون جميعًا، وبالذات الموسيقى والغناء، ولعل ملامح المدينة التاريخية العريقة قد وجدت طريقها إلى حضور خالد خليفة الشخصي وعشقه العميق للحياة بكل أبعادها، بل حتى في تماهيه مع أصدقائه الكثر، واعتبارهم جزءًا حميمًا من حياته.

في آخر لقاء لي مع خالد، أذكر أننا التقينا فجأة، على ناصية شارع في دمشق، فدعاني لأتناول معه “ساندويشتي” فلافل ساخنة، كنا خلال التهامهما نتحدث عن شيء واحد: كم أننا في تلك اللحظة كنا نتصرف كأننا من “القرباط”، أولئك الذين استدرجتهم مخيلة خالد خليفة إلى صفحات روايته “دفاتر القرباط”.

يغيب، وأغيب، وحين نلتقي بعد ذلك نحس أننا لم نغب، فهو قرأ جيدًا كل ما كتبت، وأنا “التهمت” ما حقق من روايات، وكان ولم يزل لافتًا بعد قراءة كل رواية له أن أقف مع جمالياتها الفنية ومعمارها الروائي الراقي، باعتباره حدثًا “عاديًا”، أي أنه لم يفاجئني أبدًا، وكأنني كنت أمشي خلال ذلك على المقولة الأولى التي كانت مفتتح تعرفي على خالد خليفة، والتي قالها لي الراحل الكبير هاني الراهب: خالد هو أمل الرواية السورية القادم بقوة.

هو، أيضًا، أحد أبرز من كتبوا الرواية، ليس في بلاده سورية وحسب، ولكن أيضًا على المستوى العربي، فذاكرتي تضعه في صورة مستمرة مع كوكبة من الأسماء الروائية العربية البارزة والمرموقة، والتي يقف فيها إلى جانبه من كتاب سورية الروائي الصديق خليل صويلح، أطال الله عمره، وكلاهما من جيل الرواية السورية الجديد الذين يؤكد وجودهم وتألق رواياتهم تجاوز الرواية السورية مكانتها الأولى إلى مقام أعلى وأرفع في الثقافة العربية عمومًا.

لعلّ أهم ما قدمته تجربة خالد خليفة الروائية هو الحفر العميق في “طبقات” المجتمع السوري، وما تحمله من تطورات تاريخية، ومن أحداث ووقائع لا تستقيم قراءتها إلا لكاتب روائي عميق الرؤية وبالغ الصبر يستغرق أعوامًا طويلة لكتابة تلك الحفريات الاجتماعية رواية كما فعل مع روايته “مديح الكراهية”. وأعتقد أنه في تلك الرواية كان الكاتب الذي يتوغل وراء الأحداث والبنى الاجتماعية، ويذهب نحو استنطاق الشخصيات بما هي دلالات كبرى، واضحة ومؤثرة على ظواهر اجتماعية ووجودية. ولم أستغرب أبدًا أن الراحل حين كتب أعمالًا درامية قد نجح أن تكون أعماله منتمية تمامًا، فنيًا وسردًا، إلى ما أسميه عادة “الرواية التلفزيونية”، كما فعل هو بالذات في مسلسله الشهير “سيرة آل الجلالي”، التي برعت في تشريح طبقة التجار وعوالمهم في مدينة حلب، وهي ميزة أعتقد أنه تفرَد بها بين زملائه من كتاب الدراما السوريين، ولفتت الانتباه إلى أعماله، باعتبارها مزجًا للأدب والدراما التلفزيونية على نحو فني جميل. وأهمية هذا يمكن الوقوف عليها من خلال تأمل المكانة الفنية للدراما خلال العقود الأخيرة، وبالذات في مرحلة نهوضها الكبير، وتبوئها مكانة عليا بين الدرامات العربية التي أصبحت حاضرة ومؤثرة في كل البيوت العربية.

الحديث عن الروائي الراحل خالد خليفة لا يستقيم من دون الحديث عن رحلته مع جوائز الرواية، خصوصًا “الجائزة العالمية للرواية العربية البوكر”، التي بدأت مع الدورة الأولى للجائزة، حيث وصل إلى القائمة القصيرة، وفاز يومها الروائي المصري بهاء طاهر بالجائزة، على أن جائزته الأهم في تقديري كانت في اختيار روايته “مديح الكراهية” ضمن قائمة “أهم 100 رواية في العالم في كل العصور”، وهو اختيار نادر لم يشاركه فيه من الروائيين العرب سوى نجيب محفوظ، وإلياس خوري، وإبراهيم عبد المجيد، وهو اختيار لم يكن ليتحقق إلا بعد ترجمة روايته لعدد كبير من اللغات العالمية، ومنها بالطبع اللغات الأوروبية الأبرز، الإنكليزية والفرنسية والإسبانية، ووصولها إلى أوسع دائرة من القراء.

خالد خليفة جاء إلى الأدب والكتابة في “زمن الرواية” وما شهدته الساحة الأدبية من منشورات روائية لا تحصى خلال العقود الثلاثة الماضية، لكنه نجح في تحقيق بصمته الكبرى التي لا تنسى على هذا الجنس الأدبي الجميل والصعب، والذي ظل دائمًا صنوًا ملازمًا للتاريخ والسياسة وعلم النفس كما لعلم الاجتماع، بالنظر لما يحمله الفن الروائي من توغل عميق في تلك الأقانيم كلها بحثًا عن وجوده وأدواته، بل وموضوعاته السردية، كما لا يحدث مع أي جنس أدبي آخر، فاختار أن يحقق تميزه، وأن يقدم براعته ورؤاه العميقة.

رحل خالد خليفة عن عالمنا قبل أن تطأ قدماه الستين من عمره، بعد أزمة قلبية مفاجئة، وقد رحل في ذروة عطائه وتألقه الفني هو المسكون بالأدب والكتابة، وبالرغبة في التعبير عن الحياة بكل أشكالها وتفاصيلها، لأنه خلال حياته الواقعية والروائية، على السواء، ظل ابن الحياة والناطق باسمها.

اقرأ/ي أيضاً: حكومة التطرف الأخطر والأكثر عنصرية