رب ضارة نافعة.. بقلم| غانية ملحيس

أقلام _ مصدر الإخبارية
بقلم| غانية ملحيس
“رب ضارة نافعة” يصح هذا المثل خصوصا على الصراع الداخلي المحتدم حاليا في الساحة الإسرائيلية. رغم أن الشعب الفلسطيني في كامل فلسطين الانتدابية هو الأكثر تضررا من تداعياته . إلا أن هذا الصراع يشكل فرصة تاريخية غير مسبوقة لنمو الوعي المعرفي لكل من الفلسطينيين وخاصة الطبقة السياسية، ولغالبية اليهود، أيضا، وخصوصا يهود إسرائيل – من تحمس منهم ومن تم توريطه بالإسهام في تحقيق المشروع الاستعماري الاستيطاني الصهيوني العنصري – ، بالبدء بإدراك مخاطره الحقيقية التي تمتد إليهم، ولا تقتصر فقط على الشعب الفلسطيني والمنطقة العربية والإقليم، وفقا للقاعدة التاريخية الثابتة ( أكلت يوم أكل الثور الأبيض).
فالمجرم القوي الذي يفلت من العقاب – إنسانا أم تنظيما أم دولة، وخصوصا إذا كان مأفونا بعقيدة التفوق العنصري/العرقي أو الإثني أو الديني أو اللون أو النوع الاجتماعي/ يتحول إلى خطر داهم يطال كل من يختلف معه سواء في الفكر أو المنهج أو الأسلوب. ما يتعذر معه مهادنته والتعايش معه. إذ يرى فيهم جميعا أيا كانوا ، عائقا أمام تحقيق أهدافه، ما يتوجب معه إخضاعهم ، وإن استعصىوا فبالقوة .
مشكلة غالبية اليهود، ويهود إسرائيل خصوصا، أنهم ظنوا، وما يزالون، أن بإمكانهم مواصلة المواءمة بين حرب الإبادة التي يخوضونها ضد الشعب الفلسطيني للعقد الثامن على التوالي لاقتلاعه من الجغرافيا والديموغرافيا والتاريخ. وبين العيش الآمن المستقر المزدهر فوق أنقاضه.
ولا يتعظون من دروس التاريخ وعبره، وأهمها: أن لا مستقبل للمشاريع الاستعمارية الاستيطانية الأجنبية العنصرية في منطقة مأهولة بسكانها الأصليين (الفلسطينين الذين يشكلون جزءا أصيلا من شعوب المنطقة العربية – الإسلامية الممتدة، المتنوعة الأعراق والاثنيات والعقائد والأديان والطوائف والألوان، والتي تعايشت سويا على مدى قرون طويلة، وأسهمت في إثراء الحضارة الإنسانية) المصممين على بلوغ حقوقهم الوطنية والتاريخية والإنسانية المشروعة في الحياة والحرية وعودة اللاجئيين وتقرير المصير في وطنهم، مهما طال الزمن وعظمت التضحيات.
ومشكلة يهود إسرائيل الأشكناز “العلمانيين” رغم ان ارتكاز المشروع الاستعماري الاستيطاني الصهيوني على الدين اليهودي فقط يتنافى مع مفهوم العلمانية)، وعموم اليسار والوسط الإسرائيلي. أنهم ما يزالون يعتقدون بأن المشكلة المحتدمة في إسرائيل حاليا، تكمن في الصهيونية الدينية وجناحها اليميني الاستيطاني الأكثر تطرفا. رغم أنها ترتكز على الإرث الغربي الكهاني وداعميه ومموليه الإنجيليين الامريكيين خصوصا والغربيين عموما ، والذي بات يسيطر على الحكم ويقود الانقلاب القضائي. إلا أنهم يلقون بالمسؤولية على الجاليات الشرقية / السفارديم والمزراحيين /، ويرون في تزايد وزنهم الديموغرافي وتنامي نفوذهم السياسي والاقتصادي والاجتماعي تهديدا لسلطة الأشكناز الغربيين وطريقة عيشهم.
ويتجاهلون جذر المشكلة الكامن في جوهر المشروع الاستعماري الاستيطاني الصهيوني ذاته، وارتكازه على الدين اليهودي. ويتغافلون عن حقيقة أن الصهيونية الدينية نمت وترعرعت خلال العقود الثمانية الماضية في البيئة الاستعمارية الاستيطانية العنصرية للصهيونية”العلمانية”.التي سعت بعد استكمال احتلال فلسطين في عدوان عام 1967، لتوظيفهم في استكمال المشروع الاستعماري الاستيطاني الصهيوني ذاته، باستبدال كامل فلسطين الانتدابية بإسرائيل، واستبدال شعبها العربي الفلسطيني بالمستوطنين اليهود. فشجعت تمددهم الاستيطاني في كامل الأراضي الفلسطينية المحتلة منذ العام 1967، وعززت حكومات إسرائيل الأشكنازية المتعاقبة المنتخبة قوتهم العسكرية.ورعت جميعها جرائم المستوطنين اليهود ضد السكان الفلسطينين الأصليين، ووفرت لهم الدعم الاقتصادي والمالي، ومنحتهم محكمة العدل العليا الحماية القانونية. وبددت كافة القوى السياسية الإسرائيلية/ اليسار والوسط واليمين/ كل فرص التسوية السياسية.
وما يزالون يغفلون أن ما تشهده إسرائيل حاليا من صراعات داخلية، ليست سوى تمرد الإبن الفتي على أبيه العجوز، الذي يراه عاجزا عن استكمال المشروع الأساس الذي بدأه الصهاينة “العلمانيين” بالسرعة المطلوبة. ويعتقد أن الأوان قد آن لأخذ زمام المبادرة للحسم، بتوظيف فائض القوة المكتسبة للتخلص من الديموغرافيا الفلسطينية، واستكمال السيطرة اليهودية على كامل فلسطين .
ما يقلق الصهيونية العلمانية/ الأشكناز/ من ضم الأراضي الفلسطينية لإسرائيل، هوية الدولة اليهودية عند تعذر التخلص من السكان الفلسطينين الأصليين، الذين يتساوى عددهم مع عدد المستعمرين المستوطنين اليهود. وما يخيفهم من سيطرة الصهيونية الدينية على الحكم تقويض نفوذهم ونمط عيشهم الغربي ، وفقدان الحصانة التي ما يزال يتيحها لهم النظام الدولي لاستثنائهم من نفاذ القانون الدولي والإنساني .
والمقال المرفق المعنون “الصهيونية الدينية: سنكمل ما فوتناه عام 1948.. سنطردهم من “بلادنا” ليئير غولان في صحيفة معاريف بتاريخ 25/8/2023 والمنشور في صحيفة القدس اللندنية، نموذج لما يفكر به اليهود “العلمانيين” -القلقون فقط على مستقبلهم ونمط عيشهم- وليس استكمال حرب الإبادة والاقتلاع والتطهير العرقي ضد الشعب الفلسطيني كما قد يوحي عنوان المقال.
وما يزالون يعتمدون في مواقفهم السياسية على الوعي الحسي، بمعنى عدم القدرة على تحسس المخاطر إلا عند اقترابها منهم . وما يزالون يعجزون عن تلمس السبل الصحيحة لدرئها بمعالجة جذورها. حيث الخطر الحقيقي الذي يتربص بهم يكمن في عقيدتهم الاستعمارية الاستيطانية الصهيونية العنصرية وعقدة التفوق اليهودي على الأغيار .
“الصهيونية الدينية”: سنكمل ما فوتناه عام 1948.. سنطردهم من “بلادنا”
في العام 1995 دُعيت مع عقيلتي للقاء أصدقاء من “الصهيونية الدينية” عقد في بيت أحدهم في القدس. كان معظم الحاضرين من القدس ومن مستوطنات الضفة القديمة، هم أكبر منا سناً بقليل، أناس ميسورون وأيديولوجيون. كنت في ذاك الوقت ضابط شعبة العمليات في فرقة “المناطق” [الضفة الغربية] وبعد فترات عمل ناجحة جداً بصفتي قائد كتيبة في جبهتي نابلس والخليل. في واقع الأمر، دافعت مع كثيرين آخرين عن هؤلاء الناس.
تحملت زوجتي عبء تربية الأولاد دون زوج في البيت، في عزلة كبيرة وقلق عميق. كانت الأيام أيام أوسلو، والعمليات تقع بين الحين والآخر، وجرى نقل المسؤولية عن المدن الفلسطينية كما كان مقرراً، وفي أرجاء “يهودا والسامرة” بدأ انتشار شبكات طرق وفرت على المستوطنين والمارة العبور في المدن الفلسطينية.
توقعنا، زوجتي وأنا، نوعاً ما من الامتنان أو على الأقل من الموقف الودي، لكن ما لاقيناه في ذاك المساء كان موقفاً متعالياً، وقحاً ومستهتراً. وكان الحديث غير الصريح “أنتم العلمانيون عربة فارغة، تعليمكم عليل، قيمكم عليلة، لا تصلون لمستوى المستوطنين في “يهودا والسامرة” ومستوى الجمهور الصهيوني الديني”. لقد سبق لي أن تعرفت على هذا النوع من الموقف، أما عقيلتي فخرجت مصدومة.
ما بدا كصدمة شخصية قبل 28 سنة، هو اليوم واقع سلطوي. حتى 1967 كانت “الصهيونية الدينية” بمثابة “سائق فرعي” في المشروع الصهيوني – حركة صغيرة مع وعي طليعي، لكن بلا مشروع يناسب الحماسة الدينية – المسيحانية التي أفعمتها. جاءت حرب الأيام الستة، فحررت طاقات هائلة للتصدر، كانت هذه الطاقات مغرية جداً، كانت فرصة لدرجة أنها نسيت قوانين الدولة، جنودها، شرطتها، قيمها ومبادئها، وثمة رجال ونساء طبيعيون أصبحوا عصبة مخلة بالقانون، تقدس الدولة وتستهتر بها في آن معاً.
نمت منها تنظيمات سرية يهودية، إرهابيين يهود، فتيان تلال ومناطق. باتت دولة إسرائيل تعتبرها جهة معادية. سيكون من الخطأ الجسيم ترسيم هذه الظواهر كـ “أعشاب ضارة” أو كنباتات برية نمت في بستان أخضر ومثمر. “الصهيونية الدينية” لم تخرج قط على رؤوس الأشهاد ضد عناصرها الأعنف، ولم تتنكر لهم قط، اكتفت بين الحين والآخر بشجب هزيل أو بتجاهل جارف، ورأت في العنصر الراديكالي عاملاً حيوياً، غمزة متفقاً عليها، جزءاً لا يتجزأ من مشروع ريادة رؤية الصهيونية الدينية.
ضم أم انفصال؟
طالما كانت قيادة “الصهيونية الدينية” السياسية معتدلة (نسبياً) في معظمها، كان يخيل أنها فرع يمكنه الاستمرار إلى الأبد. الحرس الإيماني المتقدم سيفعل فعله، والحكومة العلمانية في أساسها ستتعاون طوعاً أو تحت ضغط لا هوادة فيه ومرغوب فيه بطرق لطيفة.
لكن من اللحظة التي انهارت فيها فكرة الاستيطان في القلوب في عهد فك الارتباط في 2005 انتقلت “الصهيونية الدينية” إلى مرحلة السيطرة – لاحتلال مراكز القوة السياسية والمؤسساتية، على طريق فرض غير ديمقراطي لرؤية مسيحانية على عموم مواطني إسرائيل.
نحن ملزمون بفهم هذه الرؤية. رؤية “الصهيونية الدينية” هي رؤية حرب يأجوج ومأجوج. حرب نستكمل فيها ما فوت في حينه في 1948 – طرد كامل لكل الفلسطينيين من نطاق بلاد إسرائيل. ليس في هذه الرؤيا فهم لاضطرارات سياسية، إقليمية، أمنية واقتصادية. لا يوجد في هذه الرؤية أي وعي سياسي أو اجتماعي أو أخلاقي إنساني أساسي. كل ما فيها هو فكر مسيحاني منقطع عن أواصر هذا العالم.
هذا فكر عنصري، عنيف ومتشائم في جوهره، ينسجم مع الرؤى الإفنجيلية في ظل خلق شراكة غريبة يكون فيها العلماني هو حمار يسوع المسيح. لا حاجة لبحوث أكاديمية معقدة. يكفي قراءة “خطة الحسم” لبتسلئيل سموتريتش في 2017 أو مراجعة قيمة “كهانية” في الـ “ويكيبيديا” كي نفهم من يقتاد اليوم دولة إسرائيل من أنفها.
تحتاج “الصهيونية الدينية” لانقلاب نظامي أكثر من كل جمهور آخر في البلاد. فاسدو درعي يعرفون كيف يعيشون حتى بلا إصلاح. أناس الليكود، باستثناء نتنياهو، سيتدبرون أمورهم بلا تغييرات تشريعية. وحتى الحريديون يعرفون أنه لا أحد سيأتي بآلاف الحريديم الشبان صباح غد إلى قسم التجنيد حتى بلا قانون إعفاء من التجنيد. أما “الصهيونية الدينية”، فتستوجب الانقلاب النظامي، لأنه شرط لفرض ضم ملايين الفلسطينيين وطردهم، على الأغلبية المعتدلة التي ترى في الضم مصيبة ستجلب تصفية لدولة إسرائيل.
في الجمهور الصهيوني الديني أصوات ليبرالية، إنسانية ومعتدلة. ولهذه الأصوات وجوه وأسماء، وبعضهم يسكن في المستوطنات. إذا أردنا منع صدام واسع يمزق شعب إسرائيل في البلاد والشتات، فإن هذا الجمهور ملزم أن يسمع صوته بشكل واضح وقاطع، وأن ينتظم سياسياً على عجل.
إسرائيل تقف أمام خيار حياتها – ضم أو انفصال. إذا اخترنا الضم فستندثر دولة إسرائيل في واقع عنيف يجلب عليها خرابها من الداخل والخارج. وإذا اخترنا الانفصال فعندها يكون هناك احتمال لإنقاذ المشروع الصهيوني – حتى لو كانت العملية مركبة وصعبة وطويلة.
تدخل إسرائيل في عصر القرارات الحاسمة في كل المواضيع التي لم تحل منذ قيامها أو منذ 1967. القرارات الحاسمة ليست حلولاً وسطاً. بانتظارنا أيام تحدٍ، نأمل أن تؤدي زعامة جديدة إلى العصر التالي. أمامنا فرصة لبناء صهيونية إنسانية، يهودية ليبرالية وتسامح مدني. لكن التعابير الجميلة هذه ستحتاج عناداً وتصميماً غير عاديين.