عامر حليحل.. حكايات وحكايات مع الخشبة!

بقلم-
بدأت حكاية الفنان عامر حليحل مع خشبة المسرح من قريته “الجش” في الجليل الفلسطيني المحتل العام 1948، حين اكتشف طفلاً في ثمانينيّات القرن الماضي، أن ثمة علاقة عشق ما بينه وبينها.
كان في الثامنة من عمره حين اعتلى “المسرح” في قريته، وتحديداً في المناسبات والأعياد، فقد كان من الحافظين للنكات، والقادرين على انتزاع الضحكات من سكّان مسقط رأسه، لتتوطد علاقته بالخشبة، وتصبح ضرورة لعامر الطفل، ومن ثمّ عامر المُراهق، الذي توّجه لدراسة المسرح في جامعة حيفا، متبوعاً بأحلام كانت تراوده، وهي ببساطة أنه يريد أن يقدّم مسرحاً في فلسطين يشبه ما كان يقدّمه، وقتذاك، النجم عادل إمام.
“ربّما لنجومية عادل إمام، ولكن لكونه فنّاناً قديراً، فأعماله الدراميّة، رغم أن الجمهور لا يوليها الكثير من الاهتمام كما الكوميديا التي يقّدم، وهو ما ينطبق على أفلامه، رائعة ومُلهمة”، مُضيفاً: ما بعد مسرحيتيّ “مدرسة المشاغبين” و”شاهد ما شافش حاجة”، كان النجم المتوّج على عرش المسرح، وهما المسرحيّتان اللتان ربّما لم يكن متاحاً للمشاهد العربي، وخاصة الفلسطيني، الاطلاع على غيرهما، في زمن ما قبل “الستلايت”.. عامر الطفل والمُراهق أحبّ في مرحلة ما المسرح لأجل أن يكون عادل إمام بنسخته الفلسطينية.
لكن الالتقاء مع المادة المسرحية العالمية في الجامعة، غيّرت الوجهة لديه.. “ليس تقليلاً من عادل إمام وتجربته المهمّة، لكن لكوني اكتشفتُ أن ثمّة مناطقَ وخاناتٍ أخرى في عالم المسرح، الذي هو إرث بشريّ عميق وكبير وواسع، شعرتُ سريعاً أنني جزء منه، خاصة أنه عالم مغناطيسي، ومحفّز للبحث والغوض في مساحات مختلفة ومتنوعة”، والأهم “أنني اكتشفتُ أن المادة الإنسانية الفلسطينية هي ما أريد أن أقدّمه إلى العالم، بغض النظر إن كنتُ سأحظى بنجوميّة عادل إمام، أم لا”.
غسّان كنفاني في جامعة حيفا
وكشف عامر حليحل لـ”منصة فلسطين الثقافية”، أنه، وفي خضم دراسة الأعمال الكلاسيكيّة العالمية، كطالب تمثيل في جامعة حيفا، قدّم ومجموعة من زميلاته وزملائه، وفي حالة غير مسبوقة وغير ملحوقة في الغالب، مسرحية “رجال في الشمس” عن رواية الروائي والأديب الشهيد غسّان كنفاني.. “لأول مرّة في جامعة إسرائيلية تُقدّم مادة مسرحيّة فلسطينية بطاقم أكمله من الفلسطينيّات والفلسطينيّين، وبالعربية، ما أحدث ضجّة كبيرة داخل الجامعة وخارجها، حتى أن رئيس قسم المسرح وغيره خسروا وظائفهم إثر العرض.. كان ذلك في نهاية تسعينيات القرن الماضي.. شكّل العرض حالة غريبة، بل غريبة جدّاً، خاصة مع ما حقّقته من نجاحاتٍ كبيرة، فلأول مرّة يشعر الطالب الفلسطيني، بغض النظر عن تخصّصه، أن ثمة ما يعبّر عنه داخل الجامعة، وسط تدفّق كبير لحضور العمل المسرحي الذي كان يُفترض أنه مشروع داخل القسم أو الكلية على أوسع تقدير”.
ولفت حليحل إلى أن النصّ كان من إعداد المرحوم رياض مصاروة، وإخراج منير بكري، وتمثيله بالإضافة إلى: أشرف برهوم، وإيهاب سلامة، وشادي فخر الدين، وآمال قيس، ولمى زريق، وميشيل سخنيني الذي رحل بحادث سير.
واعتبر حليحل مسرحية “رجال في الشمس” بنسخة الطلاب الفلسطينيين في قسم المسرح بجامعة حيفا، نقطة تحوّل بالنسبة له، خاصة أنه في خضم الانشغال بعالم المسرحي الكلاسيكي لم ينسَ ورفاقه الهدف الوجداني والمعنوي الذي يجب أن يقود مشاريعهم المسرحية خاصة، والفنيّة عامة، ما بعد المرحلة الجامعيّة، مدركاً أنه لابد من البحث عمّا يعبّر عنه وعنهم من موادٍ تخرج أعمالاً مسرحيّة على الخشبة.
ما بعد التخرّج
وكان حليحل ما بعد تخرّجه ضمن مجموعة ليس لها “أب ولا أم في المسرح”، فالخيارات بالنسبة لهم كفلسطينيين صَمد أجدادهم على أرضهم، كانت قليلة، فإمّا اللجوء إلى العمل في المسارح الإسرائيلية والانخراط فيها، وهو ما يرفضه، علاوة على كونه في حال كان رغم رفضه من حيث المبدأ، ليس إلا خياراً مؤقتاً لاعتبارات تتعلق بأن القائمين على هذه المسارح لا يعنيهم الفنان العربي، أما الخيار الثاني فكان انتظار العمل مع فرق مسرحية أو مسارح عربيّة جلها صغيرة ومحدودة الإمكانيّات، وبالتالي فإن فرص التطوّر إن حدثت بالأساس تبقى ضئيلة، أما الخيار الثالث فقام على المبادرة، وهو ما كان.
“شكراً”
وفي إطار الطريق الذي اختطه حليحل وبعض رفاقه لأنفسهم، كان عرض “شكراً”، وهو عبارة عن اسكتشات مسرحية كوميدية ناقدة ولاذعة، قدمه وخرّيجات وخرّيجون جدد مثله، وبات عرضاُ مركزيّاً، تدفق إليه الجمهور بشكل كبير، دون أن يكون مُؤطّراً ضمن فرقة أو مؤسسة يَخرج باسمها، وكان ذلك في العام 2005، و”شكّل بالنسبة لنا إشارة بأننا يمكن أن نقدّم وننجح ولو بجهودنا الشخصية، وبأن الجمهور سيلتف حولك إذا ما قدّمت عملك بإخلاص ومحبّة ومهنيّة، وبما يلامس نبض الجمهور”.
“ليس بالضرورة أن تبتعد عمّا يمسّ الجمهور لتكون فنّاناً، فثمة نقطة التقاء بينك وبين الجمهور يجب أن تواصل البحث عنها على الدوام، فأيّ عمل بلا جمهور لا يساوي شيئاً، ولكن دون البحث للاتكاء على الخانة المريحة، أو ما هو سائد في السوق، إن جاز التعبير، فمع البحث عن نقطة الالتقاء هذه، ثمة بحث عن طريقة تقديم المضمون الذي يعكس ذلك، بحيث يشعر المشاهد أن ثمة صلة بينه وبين ما نقدّم، وبأنّ هناك أيضاً مجهوداً وتفكيراً وراء ما نقدّم، فمن حق الجمهور الحصول على وجبة فنيّة يستحقها، وله مساحته فيها عبر التفاعل معها”.
“ذياب” و”المونودراما”
وشكّلت مونودراما “ذياب” التي كتبها علاء حليحل وأخرجها سليم ضو، محطة مهمة بالنسبة لحليحل لجهة التعمق أكثر في طبيعة العلاقة الفردية مع الخشبة ومع الجمهور في “المونودراما”، فحرّكته بحماسة لهذا العالم.
ولفت حليحل إلى أن هناك “من يلجأ إلى المونودراما باعتبارها أقلّ كلفة من ناحية إنتاجية، لكني أرى أنها لا تقل بأدواتها وأدائها عن أي عمل مسرحي متعدد الممثلين، وليس أي عمل يمكن أن يُقدم منفرداً، فثمة أعمال تتطلب أن تُنتج كمونودراما على عكس غيرها، فهي ليست شرطاً، خاصة أنها مسرحيّاً أكثر صعوبة، من حيث الحفاظ على الحدث، وتقديم حالة من التوازن ما بين السرد الذي هو محوريّ فيها، وما بين الأداء”.
“الهوتة” والتفوّق على الذات
ويتميّز حليحل بتجسيد السرد في أعماله المونودراميّة كافة، فلا ثرثرة، ولا وقوع في فخ الابتعاد عن الأداء المسرحي لجهة الإلقاء، أو القص بالطريقة الحكواتية، والتي يُطلق عليها، في كثير الحالات، توصيف “مونودراما”، وما هي بكذلك، فعمله الفردي “الهوتة”، الذي كتبه وجسّده وعرضه، مؤخراً، ضمن فعاليات مهرجان “وين ع رام الله” بنسخته الرابعة عشرة، ويتناول الحروب بمفهومها العام، والحروب الجوّانية أيضاً، يشكل، برأيي، نقلة نوعيّة على مستوى الموندراما، ليس في مشوار حليحل فحسب، بل فلسطينياً وعربياً وإقليمياً، بل ودون مجاملة أو تردد، يُنافس عالميّاً.
ويبدو أن حليحل منشغل على الدوام بتقديم ما يجعله يتفوّق على نفسه.. يقول: يؤرقني في كل عمل تقديم الجديد، فكلّ عمل أقدمه لابد أن أقدّم لنفسي أولاً ما هو مختلف عمّا قدمته في السابق، ليكون مُبرّراً لي قبل الآخرين تقديم عمل جديد بالأساس، وإلا فإنني أسكن المنطقة المريحة، ولا أريد ذلك، لأنها في النهاية منطقة قاتلة للفنّان، لذا أنا دائم البحث عن تجديد ذاتي.
وتابع لـ”منصة فلسطين الثقافية”: أؤمن بأنّ على الفنّان طوال الوقت التعرّف على حدوده، بل وتجاوزها.. على الفنان أن يحاول استفزاز نفسه، وإلا بقي يدور في ذات الدوائر، وهذا ما ينطبق، بالنسبة لي، تقنيّاً لجهة التمثيل الفردي في “المونودراما”، فبدأتْ تتسع مساحات الحوار على حساب السرد، بحيث تتناوب الشخصيّات التي أتقمصها في جسد واحد على الحديث دون إشارات أو فواصل واضحة إلى التنقّل ما بينها، وتظهر ضمناً بالتجسيد، وهي تقنية صعبة للغاية.
سير ذاتية على الخشبة
وقدّم حليحل في مشواره العديد من السير الذاتية بطرائق مسرحية عدّة، أحدثها مونودراما “طه”، ويعرضها أيضاً، مساء اليوم، في إطار مهرجان “وين ع رام الله” بنسخته الرابعة عشرة، وعلى خشبة المسرح البلدي، وكتبها من وحي سيرة الشاعر الفلسطيني طه محمد علي، وقبلها كان قدّم شخصية نجيب نصّار في مسرحية “صاحب الكرمل”، وقبلهما جسّد شخصية “الظاهر عمر الزيداني” في مسرحية “قناديل ملك الجليل” عن رائعة الروائي إبراهيم نصر الله، ومن إنتاج المسرح الوطني الفلسطيني (الحكواتي).
وعن ذلك قال حليحل: ما حدث إبّان النكبة جعلنا مشغولين فقط بنتائجها، ونسينا فنيّاً، أو مسرحيّاً، أنّنا كنّا بشراً بغض النظر عن الاحتلال وعن النكبة، وهو تاريخ لم يتم معالجته فنيّاً بالشكل المطلوب، بل لم يتم التطرق إليه، بحيث لم نُظهر بالشكل الكافي طبيعة ما كانت عليه فلسطين قبل عام 1948، فتاريخ فلسطين أكبر وأعرق وأقدم بكثير من النكبة على مأساويّتها ومأساوية تبعاتها المستمرة، وهو ما عمدتُ إلى التأكيد عليه من خلال تجسيدي لشخصيّات بعينها من حقب تاريخية متعددة، تعكس ذلك التاريخ، وإنسانيّة الفلسطيني وحضارته أيضاً، فالعودة إلى مثل هذه الشخصيّات مهم لأفهم نفسي، وحضوري في هذا العالم، كعامر وكفلسطيني.
محمود درويش
وثمّة علاقة خاصة يلحظها من يتابع مسيرة حليحل المسرحية والفنيّة عامة مع نصّ محمود درويش الشعري، وهو ما تجلّى مؤخراً، حين قاد رفقة مجموعة من الفنانين لوحة أدائية تحاكي قصيدة “مأساة النرجس ملهاة الفضة” بلازمتها الشهيرة “الأرض تورث كاللغة”، في حفل افتتاح النسخة الرابعة عشرة من مهرجان “وين ع رام الله”، وكذلك المشاركة الخاصة له في أداء نصوص درويشية في العرض الختامي الفلسطيني الأميركي لمهرجان رام الله للرقص المعاصر تحت عنوان “أرى لا أرى”، قبل أشهر قليلة.
“علاقة المسرح بالشعر لا انفصام فيها، فالمحطات التأسيسية للمسرح في العالم كان لها علاقة مباشرة مع الشعر، وعلاقة قصائد درويش مع الناس كانت واضحة خاصة في المراحل المتقدمة، فهو لا يكتب لنفسه، ورغم أنه لا يخطاب الجمهور مباشرة، لكن ثمة وعي في التوجه لديه بأن هناك جمهوراً يتلقى نصوصه هذه، وذلك لكونه كان شاعراً جماهيرياً ربّما، بحيث ارتبط بظهور كبير على المنصّات المختلفة أمام جمهور في ومن كل أنحاء العالم، وهذا انعكس برأيي على طبيعة ما يكتب، أي النفس المسرحي في قصائده أو الروح المسرحية، كما أن قصائده لطالما حملت أسئلة ذات بعد إنساني عميق وكوني، علاوة على حرفة الكلام لديه، التي هي من أعلى المستويات في الشعر العربي، فمَلكة الكلام لديه تختلف عمّن سواه، دون التقليل من الآخرين، لجهة تطوّر اللغة وتطويعها، ولجهة المواضيع التي يتناولها، والبعد الإنساني في قصائده، وبحثه الدائم عن الأسئلة ما يتقاطع مع كينونة المسرح، وكذلك حضور الفعل في نصوصه، والذي هو صديق الخشبة”.
حلم “ريتشارد الثالث”
وما بعد “الهوتة”، والنسخة الفرنسية التي بدأ عرضها على المسارح الباريسيّة وغيرها من مونودراما “طه”، كشف حليحل لـ”منصة فلسطين الثقافية” أنه يعدّ لعرض جديد مع فرقة سراج بعنوان “الجبل”، كتبه الروائي والكاتب علاء حليحل، وهو عبارة عن مغناة لا تخلو من حبكة دراميّة مختلفة وخاصّة، كما كشف أنه يعمل على تقديم مشروع لطالما تأجل لأكثر من مرّة، ويتعلق بتقديم “ريتشارد الثالث” إحدى روائع شكسبير، ولكن كعمل منفرد (مونودراما)، وبطريقته الخاصة، فهو “مغرم بتجسيد هذه الشخصية منذ كنتُ طالباً في الجامعة، باعتبارها شخصية مركبّة للغاية”، لافتا إلى أن “ريتشارد الثالث” هي المسرحية الأكثر إنتاجاً لشكسبير في العالم منذ كتبها، على عكس المتوقع والسائد الذي يشير إلى أن “هاملت” هي من تحمل هذا السَبَق.