عن مجزرة تل الزعتر

أقلام – مصدر الإخبارية
نشر الكاتب والمخرج محمود صباغ على صفحته على فيس بوك ما كتبه يوسف عراقي عن مجزرة تل الزعتر في 12 أغسطس (آب) 1976.
في الصباح كنت أنوي الذهاب إلى المستشفى لإحضار بعض كتبي من هناك، وفجأة دوى قصف ليس ببعيد عنا. وجاء محمود وأحمد الممرضان ليخبراني أنهما جاءا من المستشفى ولم يستطيعا الوصول لأن الفاشيين قد طوقوه وقتلوا كل من كانوا هناك: الجرحى، والأهالي الذين كانوا يستعملون قسما منه كملجأ.
وكنا ما زلنا في دوامة الاتفاق، وطلقات الرصاص والقذائف تنطلق، إنها خدعة وليس اتفاقا. وتنشب معركة كبيرة عند مركز الطوارئ بين المقاتلين، والمركز يكتظ بالجرحى والنساء والأطفال الذين حضروا للاحتماء عندنا، ولكن.
وبينما كنا و (الدكتور) عبد العزيز (اللبدي) والممرضون نحاول ترتيب أمر نقل الجرحى من المركز إلى بناية مجاورة إذا بأعداد من مقاتلي الفاشيين كانوا قد وصلوا لنا من جهة الشمال من محاور الدكوانة. وطلبوا منا التقدم. سرنا ومعنا جرحانا نحملهم على ما توفر من حمالات وأبواب خشبية وتوجهنا, بعد أن أخبرونا أن الصليب الأحمر ينتظرنا. وكان خروجا إلى الموت.
كانت أعداد من الناس والأطفال بدأت تخرج، وكان الممر إجباريا. سرت والطبيب السويدي وزوجته وكان الممرضون يتبعونني, وهم يحملون الجرحى. أوقفنا اثنان من الفاشيين إلى الحائط بعد أن أمروا جميع الممرضين والأطباء أن يقفوا إلى الحائط، وشعرت أنها لحظاتنا الأخيرة. يريدون أن يطلقوا النار علينا. وفيما هم منشغلون في الحديث, دعوت الممرضين إلى التحرك بسرعة والاختفاء بين جموع الأهالي الخارجين. وأخبرت من كان حولي منهم بأن يقلع المريول الأبيض وشارة الهلال والصليب لأنني عرفت أمرا يدبر للطاقم الطبي. ولكنا لم نستطع تفادي الحواجز الكثيرة.
وبدأ الوضع يصبح أكثر خطورة كلما تقدمنا، والفاشيون يطلقون النار فوق رؤوسنا وبين أرجلنا. وكانوا يفتشون ويأخذون كل ما نحمل من ساعات ونقود حتى وصلنا طريقا إجباريا وكانت هناك أعداد من المسلحين الفاشيين. أوقفونا جميعا بعدما عرفوا أنني الطبيب وأن الممرضين معي. وحاولوا إطلاق النار علينا فورا جميعا. وفجأة أحد مقاتلي الفاشيين قد تقدم نحوي، ويناديني د. يوسف، يوسف.
لقد تعرف علي وأخذ يعرفني بنفسه. وأنا من هول ما أشاهد لم أستطع النطق. وذكرني بأنني أجريت له عملية جراحية وأنقذته بينما كان في حالة خطرة ذات يوم عندما أحضر إلى المستشفى قبل الحصار الأخير. حاول إنقاذي, ولكن الفاشي الآخر كان يريد إطلاق النار وجرت مشاجرة بينهما, وفجأة يبرز من الباب وجه مألوف إنه الملازم راجح. وهو من جيش التحرير الفلسطيني الذي كان داخل المخيم. هرع إلي وعانقني. وحسم الموقف وقدم نفسه على أنه ضابط سوري. حاولت جاهدا السعي لإنقاذ الممرضين والجرحى ولكن من دون جدوى.
قادوني إلى مدخل البنايات حيث أجلسوني ليمر أمامي الشريط، المجزرة. كنت أسمع أصوات الصيحات تنطلق من خلف البناية بعدها شاهدت الفاشيين وقد أوقفوا الممرضين طابورا، اثنين اثنين وأمروهم بالسير إلى الأمام حيث لم أستطع رؤيتهم. ولم أنس نظرات خالد ذلك الممرض المتطوع كانت عيناه تقول الكثير لي ولكنني لم أستطع عمل أي شيء. وأحضروا الأطباء السويديين إلى الداخل. بعد قليل خرج أحد الفاشيين يحمل بندقية كبيرة وسمعت صليات كثيفة وصراخا، وخيم بعدها الهدوء. وكان هناك ممدوح وخالد وصبحي وبقية الممرضين ويقينا أنهم أطلقوا عليهم النار جميعا.
مر شريط المجزرة أمامي رهيبا. كانوا يأخذون الأهالي جماعات ليطلقوا النار عليهم. وكان أحد الفاشيين ضخم الجثة. وقد تعتعه السكر. يحمل سكينة كبيرة ملطخة بالدماء. ويأتي كل بضع دقائق ليمسح السكينة الملطخة بدماء الأهالي بقميص من كان يجلس عند الباب منهم. لقد كان يذبح كما يذبحون الغنم. وبعدها يبدأ التفتيش في جيوب الضحايا عن أشياء. لقد كان منظرا رهيبا وقذرا في لحظة تتجمد فيها العاطفة. كانوا يأخذون من الناس كل شيء.
ونيس الجريح مصاب برجله. وكان خارجا على عكازتين ورجله في الجبس. انهالوا عليه ركلا بأقدامهم ثم رموه أرضا. ومن بنادقهم الخمس زرعوا جسمه بالرصاص. كنت في هذه اللحظة أفكر بالدكتور عبد العزيز وباقي الممرضين. فإني لا أعرف مصيره. بعد حوالي 45 دقيقة تقريبا. جاءنا مسؤول الأمن الفاشي مع أحد عناصره ليأخذنا أنا والطبيبين السويديين والضابط السوري. وكان خروجا رهيبا. ومشينا في الطريق المؤدية خارج المخيم. تبلغ حوالي 300 متر ولكن كانت أطول طريق في حياتي.
كانت جثث الأهالي الأبرياء متناثرة في ذلك الطريق، كانت هناك جثث الشيوخ، وجثث الأطفال. ورأيت جثة امرأة حامل وقد أطلقت عليها النار في بطنها. والدم ينزف منها. وتتوالي الجثث أمامي والطريق تطول وتطول. وفي نهاية الطريق كانت هناك آلياتهم والفاشيون يتلذذون بمنظر القتلى. أخذوني في سيارة إلى مقر القيادة، وهناك أدخلت إلى مكتب الشيخ أمين الجميل. نظر إلي هازئا وقال بعد أن قدمت إليه بأنني طبيب المخيم “أنظر تقولون إنني فاشي ويدي ملطخة بالدماء وها هي نظيفة”.
بعد أن سلموا علي غسلوا أيديهم بالكحول. كانوا ينظرون إلي كما لو أني قادم من كوكب آخر، لم يكونوا ليصدقوا أن هناك بشرا داخل المخيم. كانوا يظنون أنهم يقاتلون أشباحا، فالمخيم كان مدمرا كليا. أين الناس إذا؟ أين المقاتلون؟ كانوا يسألون أسئلة ساذجة. وهناك رأيت الصليب الأحمر الدولي. أخبرت مندوبهم أن الدكتور عبد العزيز -ومعه مجموعة ممرضين- كان يتبعني ولم أعد أعرف مصيره. وفورا اتصل بجهاز لاسلكي، وتحركت سيارة إلى منطقة الدكوانة لإنقاذ عبد العزيز والممرضين, كان هناك جمع من الصحفيين ومراسلي وكالات الأنباء ينتظرون، أجروا معنا لقاء بعد جهد جهيد لأن الفاشيين كانوا لا يريدون الإدلاء بأي تصريح، كانوا يريدون التكتم علينا حتى لا يعرف مصيرنا.
وبدؤوا معي التحقيق وحضر أحدهم:
– أنا الدكتور ريشا… مسؤول الإقليم الطبي.
– أهلا وسهلا.
– الدكتور يوسف أنت متهم بالتمييز في معاملتك بين الفلسطينيين واللبنانيين، والمسيحيين والمسلمين.. كنت لا تسعف اللبنانيين وتسحب منهم الدم حتى الموت لتعطيه للفلسطينيين. وضحكتُ لهذا الادعاء.. وكانت أعصابي في تلك اللحظة غير متوترة.. كنتُ أتكلم بهدوء.. كنت مسبقا قد حسمت قضية الحياة والموت، ولذلك قلت له:
– أنت تعرف ما هو سبب وجودي هنا.. لقد أنقذني أحدكم لأنني ذات يوم أجريت له عملية جراحية وأنقذته, وهذا دليل كاف على عدم تمييزي بين الناس.
– هناك شخص يعرفك وهو هنا في الغرفة المجاورة ويشهد بأنك كنت تميز ولم تسعف قريبه ذات يوم حتى مات. كنتُ واثقا من نفسي تماما، ولذلك شعرت أنهم يخوضون ضدي حربا نفسية خاسرة، وقلت له:
– أنا مستعد للمواجهة، ولكن عندي بعض الأمور سأواجهكم بها.
وسردتُ له مجموعة ممن يصفهم حسب الدين والجنسية.. فقاموسهم مليء بتلك المصطلحات. و(أبلغته) كيف أجريتُ لهم عمليات جراحية وكيف أنقذتُ حياتهم وأوصلتهم إلى ذويهم سالمين.. وواجهته بالأسماء.. سردتُ عليه قصة الجريح الذي أصيب في رأسه برصاصة اخترقت عينه وكادت أن تكون قاتلة، وكيف أجريت له العملية وكيف أن المقاتلين تبرعوا له بالدم.. كنتُ دائما أسألُ عن مصير الدكتور عبد العزيز، وأقاطع حديثهم لأسأل عنه, ويقولون: لا تخف, سيحضر.
وحوالي الساعة الثانية بعد الظهر, أحضروه.. ووجهوا له نفس الأسئلة التي كانت وجهت لي في غرفة أخرى. عرفتُ ذلك فيما بعد, وكانت تجول في خاطري في تلك اللحظة مصير الأخوات الممرضات.. لقد قتلوا مجموعة من الممرضين أمام ناظري، وقتلوا جميع من حملنا من جرحى.
كنتُ أفكر في مصير بهاء التي كانت بجانبي وكانوا يطاردونها.. وفريال وقد حملت لي الحقيبة.. وفاديا التي لم أرَها منذ خروجنا من مركز الطوارئ. وتمر أمامي الهواجس وأتخيلهم جميعا وقد قتلوا.. وكذلك الدكتور عبد العزيز.
كانت الساعة الثالثة بعد الظهر عندما شاهدت قوات الأمن العربية وكنا في انتظارهم منذ التاسعة صباحا.
ومن على شرفة الغرفة كنت أشاهد مظاهر الابتهاج ليس بالانتصار، بل بالنزعة السادية. يتلذذون بمنظر السحل والذبح والقتلى. ويحضر الدكتور حسن صبري الخولي ممثل الجامعة العربية ويتفاوض مدة طويلة مع أمين الجميل. لإخلاء سراحنا. وفي السادسة مساء استقللنا سيارة الدكتور حسن صبري الخولي. يقودها الشيخ أمين الجميل بنفسه. عبر المنطقة الشرقية حيث الحواجز الكثيرة التي بلغ عددها 12 حاجزا. من سلم من المجزرة على مداخل المخيم قتل وسحل على هذه الحواجز.
وصلنا منطقة المتحف وهي الخط الأخضر الفاصل بين طرفي بيروت. وهناك نزل أمين الجميل. كان منظرا رهيبا لتلك الحواجز وتلك الجثث. ولا أعرف ماذا حل بي لو لم يكن أمين الجميل معنا. علني كنت ضحية السكين التي طالت الكثيرين وجثثهم مترامية على جانبي الطرقات.
نتابع سيرنا إلى بيروت الغربية ونحن غير مصدقين أننا أفلتنا من قبضة الفاشيين. وكان مندوب الصليب الأحمر قد سبقنا ونزل من سيارته. ركض باتجاهنا, وكان بيني وبينه عناق طويل.
يوسف عراقي/ 12 آب 1976
(عن صفحة محمود صباغ على الفيس بوك)
اقرأ أيضاً: بيان للجبهة الديمقراطية في ذكرى مجزرة تل الزعتر