الاحتلال لم ينتصر وجنين لم تنكسر

كتب رئيس التحرير
انفض غبار معركة مخيم جنين قبل منتصف ليل الثلاثاء الأربعاء، وغادرت آليات الاحتلال الإسرائيلي العسكرية أطراف المخيم.
ظاهرياً حققت إسرائيل أهدافها: قتلت 12 فلسطينياً، من بينهم ثلاثة أطفال، وجرحت نحو 125 أخرين، من بينهم 25 في حال خطرة وحرجة، وحرثت شوارع المخيم وطرقاته بأسنان جرافاتها وآلياتها.
هل قضت على المقاومة؟ هل اقتلعت الثورة من جذورها المتشعبة الممتدة في كل شارع وزقاق في المخيم؟
الاجابة ببساطة لا.
على العكس، انتهت هذه المعركة أو الجولة لصالح مخيم صغير للاجئين معذبين منذ 75 عاما، تتراوح مساحته بين نصف كيلو متر وكيلو متراً واحداً فقط.
صحيح أن شباناً صغاراً يحملون بنادق أميركية أو روسية الصنع، ومزودين بعبوات ناسفة بدائية الصنع، لا يمكن أن ينتصروا عسكرياً على إسرائيل النووية.
لكن صحيحا أيضاً أن إسرائيل المدججة بأعتى الأسلحة، لم تستطع كسر جنين المدينة والمخيم والمقاومة.
إن المقاومة الموحدة في جنين ومخيمها أبلت، وفق معظم المحللين والمراقبين، بمن فيهم إسرائيليون، بلاءً حسناً.
قاوم الشبان بضراوة، وأظهروا، على رغم صغر سنهم، وتجاربهم العسكرية المعدومة تقريباً، إلا من بعض التدريبات المحدودة، قدرةً لافتة على التكتيك والمناورة.
استعدوا جيداً لمثل هذا اليوم وتلك المعركة، حفروا أنفاقاً، وضعوا خططاً للمناورة والهجوم والمباغتة والانسحاب.
نصبوا الكمائن، وأسفر أحدها عن مقتل جندي إسرائيلي واحد على الأقل، وجرح عدد أخر.
وبذلك، تكون كتيبة جنين الموحدة، أو غرفة العمليات المشتركة، التي تضم عناصر من كل الفصائل المسلحة العاملة في جنين، حققت انجازاً جديداً.
انجاز معنوي كبير، وانجاز عسكري معقول، وفق ميزان القوى المختل دوما لصالح الاحتلال.
الاحتلال أعلن أن هدف العملية القضاء على 19 مسلحاً لجأوا إلى المخيم، وضرب البنى المسلحة فيه.
حشد جيش الاحتلال نحو ألف جندي وعشرات الآيات العسكرية على الأرض، وعشرات الطائرات في السماء.
فبأي منطق عسكري يحتاج أحد أكبر وأقوى الجيوش في المنطقة إلى حشد كل هذه القوات للقضاء على 19 مسلحاً؟
طبعاً لا يوجد أي منطق سوى منطق القوة، وغطرسة القوة، وفائض القوة.
فإسرائيل النووية لديها قناعة راسخة، قد لا تتغير مطلقاً، بأن ما لا تسطيع القوة انجازه، يستطيع مزيد من القوة انجازه.
ومن المفارقة الواضحة والمحزنة في آن معاً، أن تستخدم إسرائيل فائض القوة لديها في مخيم مساحته ألف متر مربع وعدد سكانه 15 ألفاً.
وليس مستغرباً أن يخرس العالم أمام هذه الجريمة، وأن يكتفي بإصدار بيانات وترديد العبارات نفسها، والتعبير عن القلق ذاته منذ 75 عاماً.
وطبعا الولايات المتحدة لن تخجل من نفسها وهي تدعم العملية العسكرية الضخمة في جنين، والأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيرش لن يندى جبينه وهو يكرر عبارات التعبير عن قلقه، على غرار كل الأمناء العامين السابقين.
وقادة ودول الاتحاد الأوروبي ستواصل امتهان سياسة التنديد والتمويل بـ”القطّارة”، وسيبدأ ممثلوه في فلسطين بترتيب زيارة لجنين خلال الأيام المقبلة.
زيارة هدفها، مثل كل زيارة سابقة لغزة، أو غيرها من المناطق التي ترتكب فيها إسرائيل جرائم حرب، الاطلاع على ما دمرته قوات الاحتلال، وما تركت في نفوس البشر.
سيرحب بالسفراء بعض الفلسطينيين، وبعض أخر ربما يشتمهم، أو ينتقدهم على صمتهم.
في الحالتين سيحافظ السفراء ومرافقوهم على هدوئهم المعهود، وسيبذلون جهداً كبيراً كي تظل وجوهم خالية من أي تعبيرات أو لغة عيون او جسد، مثل وجوه تماثيل الشمع في “متحف مدام توسو” في لندن.
وسيعود السفراء إلى مكاتبهم، وفي اليوم نفسه، أو في اليوم التالي، سيرسلون تقارير سرية لحكوماتهم.
سيقرأ رؤساء الحكومات ووزراء الخارجية وكبار الموظفين والدبلوماسيين التقارير، قد يغضبوا، وقد يشتمون إسرائيل في دواخلهم بكلمات بذيئة، لكنهم سينامون ليلهم الطويل، بضمير مرتاح، على وسائدهم الوثيرة.
وسيعود الشبان في جنين ومخيمها، ومناطق أخرى، إلى سابق عهدهم من الاستعداد لجولة مقبلة قد تكون بعد أيام أو أسابيع قليلة.
وسيعود السفراء لزيارة المنطقة بعد كل عدوان، وسيكتبون التقارير نفسها، وينامون على الوسائد ذاتها، كما فعلوا منذ 75 عاماً.
وستظل السلطة الفلسطينية عاجزة عن فعل أي شيء، وتندد وتستنكر، وتتعهد بإعادة بناء ما دمره الاحتلال في جنين وغيرها.
وستظل مخيمات فلسطين ومدنها عصية على الكسر وتقاوم الموت بالموت.