أحمد مصطفى جابر.. عذراً مروان عبد العال

أقلام- مصدر الإخبارية

كتب ثائر أبو عياش: يقول الفيلسوف الألماني إيمانويل كانط: “ما يسمى الموت لا يمكن أن يقطع عملي لأن عملي ينبغي أن يُنجز لأنني يتعين عليً أن أقوم بمهمتي، فليس هناك حد لحياتي؛ أنني خالد”.

تلك الكلمات لم تكن بعيده عن أحمد جابر، حيث لم يكن الموت الذي يؤرقه ككاتب ومثقف يمنعه عن الاستمرار في عمله الأدبي والثقافي، وعلى الرغم أن الموت جاء كعادته مباغتاً من زاوية مختلفة وفي لحظات ليست متوقعة، تلك حقيقته الأزلية، ولكن سيبقى “أحمد جابر” خالداً بكتاباته ومواقفه الوطنية، داخل كل من عاش معه، وأكثر كل من سيقرأ له.

إن الكتابة عن إنسان تعرفه من خلال كلماته، وأكثر من خلال ثقافته، بل ومن خلال مقالاته هو أمر متعب جداً؛ تبدأ بالقراءة له وتنساب في التحليل لتستطيع أن تفهم عن ماذا كان يبحث؟ وهنا أستطيع القول أن “جابر” كان بارعاً في اقتحام كل الدهاليز الخطرة والمعتمة، حيث كان خارج الصندوق دوماً، ولقد كان جريئاً في الطرح والنقد، والتحليل، والتنبؤ، وأكثر كان شجاعاً في قول الحقيقة، وهذا شيء ليس مستغرب فهو على رأس هرم بوابة الهدف التي أطلقها غسان كنفاني تحت شعار “الحقيقة كل الحقيقة للجماهير”.

من خلال تجربتي المتواضعة في الكتابة وجدت أن لكل كاتب “كاريزما” تخصه، وأكثر هناك رسالة يبحث عن إيصالها الكاتب من خلال نشاطه المستمر، وبطبيعة الحال كان “جابر” من هؤلاء الكُتَّاب الذين يبثون رسالة “وعي وطني”، والأهم أن “جابر” ولست هنا مثالي في الطرح، ولكنه كان يترجم ثقافته كفعل مقاوم كما كان يفعل “غسان كنفاني” على الأرض، “وجابر” هو القائل: “إذا كانت الكتابة فعل مقاومة، فإن القراءة لا تقل أهمية عن هذا الفعل، خصوصاً عندما يسعى القارئ إلى الفهم، والاندماج في وقائع ما يقرأ والقيم التي يقدمها الكاتب”.

يقول غسان كنفاني: “قد لا يكون الموت بتوقف النبض فقط، فالانتظار موت، والملل موت، واليأس موت، وانتظار مستقبل مجهول موت”، وهذا بالفعل ما حدث مع “جابر”، حيث توقُف النبض لم يكن إلا حرية أحمد جابر من الانتظار الذي كان يكتب عنه، وأكثر كان حرية “جابر” من انتظار العودة إلى فلسطين، حيث كان “جابر” يكتب من أجل مقاومة الانتظار، حيث الانتظار دون قراءة ودون كتابة، ودون مقاومة سيبقى انتظار خائن، “وجابر” لم يكن هنا سوى باحثٍ عن “جريمته” الخاصة بقتل الانتظار.

كان أحمد جابر يكتب من أجل الجميع، وجاء الموت من أجل أن يكتب عنه الجميع، حيث في مقال له بعنوان: “أحمد مصطفى جابر: الرصيدُ الهائلُ السائرُ بنا نحو الهدف” يقول د. وسام الفقعاوي رئيس تحرير مجلة الهدف: “فهو لا يريد لنا سوى أن نعيد اكتشاف ذاتنا الصحيحة باستمرار، كي لا نتوه كما “تاه” ساسة الحل السلمي؛ فغدوا صنوانًا للأنانيّة والانتهازيّة التي لا تستقيم معها الوطنيّة”.

عندما قرأت هذه الكلمات توقفت عن قراءة المقال، حيث اكتشفت أنني الصبي التائه، وأكثر قامت تلك الكلمات باستفزازي وهذا ما جعلني أمسك القلم وأبدأ بالكتابة بعد فترة وجيزة؛ شعرت فيها أنني تائِه في صحراء الحلول، وأكثر أنني أفقد البوصلة، ولذلك بدأت الكتابة عن “جابر”؛ لأن كلمات “أحمد” هي الخارطة التي تجعلنا نستعيد من خلالها الطريق الصحيح بعد سنوات من فقدان التمييز بين “الخطأ والصواب” كما كان يقول الراحل بدران جابر، وأكثر كانت كلمات أحمد جابر هي البوصلة نحو الصواب، حيث كانت هذه الكلمات تقول لنا أن اللون الأسود واضح فهو الخيانة، والتطبيع، والاستسلام…، وأن الأبيض فهو المقاومة، والشهادة، والسجون…، وحيث الحياد هو الرماد؛ فاحذروه.

نحتاً لما كتبه الروائي المصري يوسف إدريس مقدمًا لأعمال غسان كنفاني وعنه -إذا جاز لنا هذا – لنقرأ “أحمد جابر مرتين، مرة لندرك أننا موتى بلا قبور، ومرة أخرى لندرك أننا نجهز قبورنا بأيدينا، قبور الثقافة بلا ثورة، والثورة بلا ثقافة”، وهذه الحقيقة التي قاتل “أحمد” لأجلها طوال تلك السنوات، حيث كان يرفض قبر المنفى دون ثقافة، وأكثر كان يرفض الثورة دون ثقافة ووعي، حيث ترجم ما قاله الراحل جورج حبش : “إن المقاتل غير الواعي سياسياً كأنما يوجه فوهة البندقية إلى صدره”.

في الحال الفلسطيني لا يمكن أن يعيش مثقف ومفكر مثل “جابر”، دون أن يسعى إلى تغيير هذا الحال، وأكثر دون الدفع نحو الوعي المطلوب في خضم هذا الصراع، حيث الصراع ليس فقط بالبنادق، لأن الاحتلال يعمل دوما على شطب الجبهة الثقافية، هذه الجبهة التي وقف أحمد جابر على ناصيتها طوال مسيرته الثقافية؛ ممسكاً بكلمات جورج حبش القائل فيها: “لا يجوز أن نخسر الجبهة الثقافية التي تتناول حقنا في الوجود والحرية والحياة، والتي تتناول حضارتنا وتاريخنا وتراثنا ومستقبل أجيالنا”.

يقول الروائي الفلسطيني مروان عبد العال في مقاله عن “جابر” عبر بوابة الهدف: “لقبّه الرفاق تحبباً “إدوارد الصغير”، لأن “جابر” كان مفكراً، ومثقفاً، وناقداً يسعى للإجابة عن السؤال الجوهري في فكره “ما معنى الحرية؟”.

إلى اللقاء “جابر”، وهنا أعتذر لصديق غسان كنفاني، وبل صديق أحمد مصطفى جابر، الروائي الفلسطيني مروان عبد العال، حيث سوف أستخدم خاتمته في مقاله الذي حمل عنوان “لمن تركت “قلعة الحارثي” يا رفيق؟” كخاتمه لهذا النص، حيث قال عبد العال:

لقد استبق محمود درويش رحيلك منذ زمن وأنشد لك:

“يا أحمد السريّ مثل النار والغابات، أشهرْ وجهك الشعبيّ فينا، واقرأ وصيّتك الأخيرة”.

اقرأ/ي أيضًا: إسرائيل والسودان ومصالح الديكتاتوريات.. بقلم مصطفى إبراهيم