بعد انتهاء الحرب في غزة، أصبح التركيز العالمي على إعادة الإعمار الشامل للقطاع، الذي شهد دمارًا هائلًا وصل إلى حوالي 70% من المباني، بينما نزح 90% من السكان عن مساكنهم، وفقدت البنية التحتية الأساسية وظائفها بالكامل. يُقدّر إجمالي تكلفة إعادة بناء غزة بأكثر من 70 مليار دولار، ما يجعلها واحدة من أكبر عمليات إعادة الإعمار في العالم منذ عقود. وفق تقرير لمجلة فورين بوليسي الأمريكية.
التحديات السياسية والأمنية
لا يمكن البدء بإعادة الإعمار إلا بعد معالجة العقبات السياسية والأمنية. حتى الآن، لم تُبدِ إسرائيل أو حماس التزامًا حقيقيًا بإعادة البناء أو تمكين ترتيبات الحكم الضرورية لدعم هذا المشروع. ويشير الخبراء إلى أن غياب رؤية مشتركة بين المجتمع الدولي والجهات الإقليمية قد يؤدي إلى فشل الجهود، بينما التنسيق المبكر والتخطيط الواقعي يمكن أن يجعل إعادة الإعمار عنصرًا أساسيًا لتحقيق استقرار دائم.
الضرر المادي والبنية التحتية
الحرب دمرت التراث الفلسطيني والمشهد الطبيعي لدرجة أن العديد من السكان قد لا يتعرفون على وطنهم بعد الآن. تشير دراسة أجرتها مؤسسة راند بالتعاون مع مخططين إسرائيليين وفلسطينيين وأمريكيين إلى أن إعادة بناء غزة ممكنة، وتشمل ستة قطاعات رئيسية:
-
النقل: إعادة تأهيل الطرق والموانئ وربط القطاع بالشبكات الإقليمية.
-
الطاقة: تأمين مصادر كهرباء مستقرة ومستدامة.
-
المياه والصرف الصحي: إصلاح شبكات المياه المتضررة بالكامل.
-
التصميم الحضري: إعادة تصور المدن لتصبح مستدامة وصديقة للبيئة.
-
الحوكمة: إنشاء هياكل إدارية قادرة على إدارة المشاريع الكبيرة.
-
البيئة: معالجة القمامة والأنقاض وإعادة تدوير المواد بشكل فعال.
ملكية الأراضي والنزاعات
تمثل ملكية الأراضي إحدى القضايا الأساسية. كثير من الأراضي في غزة مملوكة لأشخاص ولكن سجلات الملكية غير واضحة بسبب قوانين متداخلة (محلية، إسرائيلية، عثمانية، بريطانية، مصرية)، إضافة إلى مطالبات غير رسمية وسجلات مفقودة، ما يجعل حل النزاعات العقارية وإعادة التعويض أمراً حيوياً قبل إعادة البناء.
إزالة الأنقاض
تقدّر كمية الأنقاض بحوالي 68 مليون طن، أي أكبر بكثير من الموصل التي بلغت 7-8 ملايين طن بعد الحرب مع تنظيم الدولة الإسلامية. تشمل الأنقاض 7500 طن متري من الذخائر غير المنفجرة. تُشير تقديرات الأمم المتحدة إلى أن إزالة هذه الأنقاض قد تستغرق 20 عامًا إذا لم يتم الاستعانة بتقنيات متقدمة مثل الذكاء الاصطناعي لتحديد المخاطر وتسريع العمل. كما يمكن إعادة تدوير هذه المواد في بناء الطرق والموانئ، أو حتى المشاريع البحرية، ما يحوّل الكارثة إلى فرصة اقتصادية.
توفير السكن للنازحين
مع تدمير معظم المساكن، يعيش الفلسطينيون في ملاجئ مؤقتة ومدارس مهجورة وأطلال المنازل. يحتاج حوالي 1.5 مليون فلسطيني إلى سكن مؤقت. يوصي خبراء راند بإنشاء مخيمات مستقبلية التوجه، قابلة للتحول لاحقًا إلى أحياء سكنية دائمة، مع توفير الخدمات الأساسية مثل المياه والكهرباء والنقل. يشمل ذلك أيضًا إعادة تأهيل الأحياء الصالحة جزئيًا للسكن للسماح للعائلات بالبقاء أثناء عملية إعادة البناء التدريجية.
المواد والموارد
تعاني غزة من قيود صارمة على استخدام مواد البناء منذ سنوات، إذ تعتبرها إسرائيل مواد مزدوجة الاستخدام لأغراض عسكرية. من الضروري إعادة النظر في هذه السياسة، مع وضع آليات مراقبة لضمان استخدام المواد لأغراض إعادة الإعمار فقط، بما يضمن الأمن الإسرائيلي ويتيح الاستجابة لحاجة القطاع المتزايدة.
التمويل والإدارة
يتوقع تدفق مليارات الدولارات من التمويل الدولي والاستثمارات الخاصة، لكن المال وحده لا يكفي. يتطلب المشروع وجود حوكمة فعالة تضمن إدارة الموارد، مراقبة الفساد، تحديد أولويات المشاريع، والتنسيق بين الجهات المحلية والدولية. يجب إنشاء منصات موحدة لتنسيق جهود المانحين، كما تم تطبيقها في إعادة إعمار أوكرانيا، لضمان شفافية وفعالية العمل.
القوة العاملة
إعادة البناء تتطلب عددًا كبيرًا من المهندسين والعمال والفنيين. الحرب استنزفت العمالة الماهرة، كما أن مشاركة المرأة في سوق العمل منخفضة. ينبغي إنشاء برامج تدريب مهني لتأهيل الفلسطينيين، واستقدام عمالة دولية تُدار بعقود واضحة، مع توفير مساكن للعمال على الحدود المصرية.
البعد الاجتماعي والمؤسسي
إعادة الإعمار ليست مجرد بناء المساكن، بل تشمل إعادة التأهيل الاجتماعي، معالجة الصدمات النفسية، دعم ذوي الإعاقة، وتعزيز التماسك الاجتماعي بعد سنوات من الحرب. بدون أمن واستقرار سياسي مستدام، قد تنهار جهود إعادة الإعمار، وقد يتراجع دعم المانحين، ما يجعل التخطيط الاجتماعي والمؤسسي جزءًا لا يقل أهمية عن التخطيط العمراني.
خلاصة
يشدد الخبراء على أن نجاح إعادة إعمار غزة يعتمد على التفاصيل الدقيقة: من إدارة القوى العاملة، وتنظيم التمويل، وتنسيق الجهات الفاعلة، إلى وضع استراتيجيات للسكن المؤقت وإزالة الأنقاض وإعادة بناء البنية التحتية. التنفيذ الدقيق لهذه الخطوات قد يمنح الفلسطينيين فرصة للبقاء في وطنهم والعيش في قطاع مستقر ومزدهر بعد عقود من الصراع.