منى أبو حدايد - مصدر الإخبارية
كنزي آدم المدهون، طفلة تبلغ من العمر خمس سنوات، كانت مفعمة بالحياة، تسبق سنّها ذكاءً وفطنة، تحفظ القرآن والشعر، وتعشق السباحة والجمباز، كل من عرفها كان يرى فيها طفلة مختلفة، مشرقة، تتقن الفرح كموهبة.
مع بداية حرب الإبادة في أكتوبر 2023، نزحت عائلتها من مخيم جباليا إلى النصيرات ثم إلى دير البلح، امتثالاً لتعليمات جيش الاحتلال الذي ادّعى أنّ الجنوب “منطقة آمنة”، إلا أن الأمان ظل بعيداً.
في 21 أكتوبر، بينما كانت كنزي تجلس في حضن جدّها في حديقة المنزل، استُهدف المنزل الملاصق لهم، فخطفَت شظية طائشة روح الجدّ الحنون من بين ذراعيها وسرقت يدها اليمنى في ذات اللحظة.
لم تقف المأساة عند البتر؛ فقد أصيبت كنزي بكسور في الجمجمة والساق والحوض، وانفجار في المثانة، إضافة إلى جروح عميقة في فروة الرأس استدعت الترقيع الجلدي.
تقول والدتها: "كنت مصابة أنا أيضاً، لكنني كأم لم أستسلم، حملت طفلتي وهرعت بها إلى المستشفى، كل من رآها ظن أنها في عِداد الموتى… لكن معجزة إلهية جعلت الصغيرة تتشبث بالحياة."
فقد الجد ورحلة العلاج الطويلة
كان جدّ كنزي، "أبو ياسر الخيري"، مصاباً بالسرطان وكان يتلقى علاجه في القدس كل ثلاثة أيام قبل حرب الإبادة، ورغم مرضه، كان يعود متشوقاً لحفيدته، يرافقها لدروس السباحة ويشجعها ويعلّمها، كان معلمها الأول وقدوتها وسندها، لكنه اختُطف في لحظة قصف غادرة وحُرمَت كنزي من أكثر إنسان أحبته و أحبّها.
بعد أيام في العناية المركزة، استفاقت كنزي لتسأل:
"أين يدي؟ لماذا هي مفقودة؟" فأخبرتها والدتها بالحقيقة المرة:
"يدك راحت عند ربنا… سبقتك مع جدو على الجنّة."
مكثت كنزي في قسم العناية المركزة بمستشفى شهداء الأقصى جنوبي قطاع غزة، ثم انتقلت مع والدها إلى مصر للعلاج، وتواصلت رحلتها إلى تركيا ولبنان، بينما مُنعت والدتها من مرافقتها بسبب تعقيدات الاحتلال وإغلاقه معبر رفح البري.
تقول الأم: "لم أرَ كنزي لمدة عام ونصف… عام ونصف دون أن أحتضن طفلتي المصابة، كان هذا أقسى ما مررت به."
خضعت كنزي لاثنتي عشرة عملية جراحية، منها زرع بلاتين في اليد، ترقيع فروة الرأس باستخدام جلد من القدم، عملية للمثانة بعد انفجارها، وتأهيل اليد لبداية تركيب طرف اصطناعي. رغم كل ذلك، ظل قلب الطفلة أقوى من الجراح.
رحلة التعافي والإرادة
بعد عام ونصف، عاد نبض الحياة عندما احتضنت الأم طفلتها لأول مرة بعد الإصابة ورحلة العلاج الطويلة المصحوبة بالغربة، تقول الأم : "تخيلي أن تكوني أماً، وطفلتك الجريحة تواجه كل هذا الألم وحدها… كان قلبي يعتصر من الحزن."
كانت كنزي تسأل باستمرار عن يدها المفقودة وما حدث لها. وذات يوم، سألتها أمها: "ماما، هل أنتِ حزينة على فقدان يدك؟"
فأجابت الصغيرة بإيمان يفوق عمرها: "ماما… أنا عندي يد ثانية بقدر آكل وألبس وأرسم فيها ، الحمد لله."
تلقت الأسرة دعماً في مجمع الإسماعيلية بمصر، ثم عبر برامج علاجية في تركيا، وتستفيد الآن من دعم مؤسسات في لبنان لاستكمال التأهيل البدني والنفسي للطفلة.
اليوم، كنزي تستطيع المشي وتصفيف شعرها بعد أن نمت خصلات جديدة على رأسها عقب عملية ترقيع فروة الرأس،تستطيع أن ترسم، تلعب، وتضحك.
عائلتها تقول: "كنزي الآن بخير… و محاطة بالرعاية و الحب، واجهت قدراً أكبر من عمرها، لكنها تمسكت بالحياة بقوة."

رسالة أمل من قلب صغير
تحلم كنزي بأن تصبح طبيبة أطفال، تداوي جراحهم بابتسامة أقوى من الألم.
تقول كنزي لأقرانها: "لا تخافوا… كل شيء رح يصير أحسن ، لأن الله معنا."
وتقول والدتها: "الصعوبة الأكبر كانت علينا نحن، أنا ووالدها، طبيعة إدركنا لكل التفاصيل المؤلمة… لكن ليس لنا إلا الصبر والسعي لمستقبل أفضل لأطفالنا، مستقبل فيه أمان وسلام."
قصة كنزي ليست حالة فردية، بل صفحة من كتابٍ أثقلته الحرب بوجع لا ينتهي، بحسب تقديرات منظمات دولية وتقارير حقوق الإنسان بعد عدوان 2023، خلّفت الحرب في قطاع غزة أكثر من عشرين ألف إنسان جديد من ذوي الإعاقة، بينهم آلاف الأطفال الذين فقدوا أطرافهم أو بصرهم أو قدرتهم على الحركة نتيجة القصف المباشر والدمار.
كنزي واحدة من هؤلاء الأطفال، لكن وجهها يروي ما لا تستطيع الأرقام قوله.
إنّ الطفولة في غزة تُختبر اليوم بين البتر والفقد والمعاناة، وأن كل طفل نجا يحمل في جسده وروحه شكلاً آخر من الحرب. وسط هذا الركام، تبقى أحلام الأطفال — ومن بينهم كنزي — شاهدة على أن الحياة رغم كل الفقد والألم لا تزال تنبضُ بالأمل وتنهض من تحت الركام، وما سرقته الحرب من أجسادهم لن يُطفئ نور عزيمتهم ولن يقتل فيهم الحياة.